صفحات سوريةعمر قدور

في مرحلة “هذا ما يريده حسن نصر الله”

عمر قدور

ليست مصادفة كلامية أن يقول أحد من مشيّعي الشاب هاشم سلمان أن هذا ما يريده حسن نصرالله، بعد ما يقارب السنة من إطلاق ميشال سماحة لجملته الشهيرة: “بشار بدو هيك”. فالجملتان، وإن أتتا من موقعين مختلفين تماماً، تعكسان التطورات التي شهدتها الساحة الإقليمية، واللبنانية خصوصاً، خلال عشرة أشهر. تطورات تنبئ بتقدم حزب الله ليتحمل مسؤولياته مباشرة في ترهيب اللبنانيين، بعد فشل الحلفاء في إبعاده عن مقدمة الصورة، وبعد أن صار عدوانه على سوريا أمراً ينبغي فرضه على اللبنانيين. فالحزب الذي يدّعي، من ضمن ما يدعيه، أنه يقاتل في سوريا لحماية خطوط إمداده العسكرية لم يعد مستبعداً منه اللجوء إلى قمع الداخل، بذريعة حماية جبهته الخلفية في لبنان، ومن خصومه اللبنانيين هذه المرة، الذين طالما اتهمهم بالارتهان لأعدائه.

في الصور القليلة التي تسربت عن الاعتداء الذي قام به أنصار الحزب على المعتصمين أمام السفارة الإيرانية يظهر التماثل جلياً مع الصور الذي كان يسربها الناشطون السوريون عن القمع الذي تعرضت له تظاهراتهم الأولى، فسحنات المهاجمين تكاد تكون نفسها، والعصي التي ينهالون بها على المتظاهرين السلميين كأنها مقطوعة من الجذر ذاته، وكذلك إطلاق النار بقصد القتل لتربية من تسوّل له نفسه إعادة الكرّة. لكن أصحاب القمصان السود، وهو زيّ يذكّر بالفاشية في أكثر من مكان حول العالم، حرقوا بعض المراحل هنا، فهم منعوا آل القتيل من دفن ضحيتهم في مقبرة البلدة، الأمر الذي تأخر شبيحة سوريا في تطبيقه مع اتفاق الطرفين على التضييق على مظاهر التشييع ومن ثم الحداد والعزاء؛ أي على مطاردة الضحية حتى بعد مقتلها.

بمنع ذويه من دفنه في مقبرة عدلون ينضم الشهيد هاشم سلمان إلى الشهيدين مهدي عامل وحسين مروة، الأول دُفن في إحدى المدافن السنية في لبنان، والثاني دُفن في مدافن السيدة زينب في دمشق، وفي الحالات هذه جميعاً حُرم الشهداء من حقوقهم كموتى بعد أن حرموا من حقهم في الحياة وفي التعبير الحر عن آرائهم. أما دعاية حزب الله قبل أشهر عن حماية المقامات الشيعية، وشعارات “لبيك يا زينب”، فهي تصمت تماماً عن الاضطرار لدفن حسين مروة في جوار السيدة، وعن قتلته في لبنان، ولا ندري إن كان هؤلاء القتلة قد نبشوا قبره بعد احتلالهم للمنطقة تأكيداً منهم على ملاحقة الضحايا أينما حلّ مثواهم الأخير، أو بالأحرى تأكيداً منهم لعدم أحقية مناوئيهم بالحصول حتى على مثوى أخير.

يرى بعض السوريين أن هاشم سلمان أول شهيد لبناني في الثورة السورية، لكن تعميم هذه الصفة يبدو خاطئاً لأنه بالدرجة الأولى شهيد حرية الرأي في لبنان، وهو على الأرجح أول شهيد لبناني في المرحلة التي افتتحها حزب الله مع عدوانه على سوريا. وأن يكون هاشم سلمان شيعياً فهذا لا يقلل من شأن لبنانيته، أو يدفع بحادثة مقتله لتكون شأناً طائفياً داخلياً، فمثل هذه الرؤية تعزز من سيطرة الحزب على الطائفة، وتجعل مناوئيه الشيعة بلا سند عام. أيضاً على هذا الصعيد يبرز التماثل، وحتى التطابق، بين السلوك الطائفي للحزب والسلوك الطائفي للنظام السوري من حيث هيمنة الاثنين على طائفتيهما، وتحويلهما إلى “بلوك” يصعب على الآخرين اقتحامه ويصعب على أبناء الطائفة الخروج منه.

بالرشاوى الصغيرة، ومن ثم بالترهيب أحكم النظام السوري سيطرته على الطائفة العلوية، وقام تدريجياً بعزلها عن الفضاء الوطني العام من أجل استخدامها والتضحية بها عندما يستلزم ذلك بقاؤه. استغل النظام المشاعر القائمة على الإقصاء والتهميش وعززها، بدلاً من دفع أصحابها إلى مزيد من التفاعل الوطني؛ هذا ما فعله حزب الله أيضاً باستمرار العزف على وتر المظلومية الشيعية مستغلاً بعض المشاعر المحقة إزاء الإهمال والتهميش اللذين عانى منهما اللبنانيون في الأطراف. في الحالتين سنرى ما يؤدي إليه احتكار الطائفة من إفقار لها، ووضعها في عداء مستحكم مع الفضاء العام، وتعزيز الفصل الطائفي بحيث لا يرى أبناء الطائفة فكاكاً منه، ولا يرون اعتباراً لهم إلا عبر ديكتاتورية الطائفة التي تسحقهم.

ليس التطابق على أكثر من صعيد محض مصادفة، فالنظام السوري الحالي سعى طوال عقود إلى إلغاء فكرة الدولة، وحزب الله حاول منذ إحكام سيطرته على الطائفة الشيعية تعطيل مسار الدولة اللبنانية تحت ذرائع مختلفة أهمها “سلاح المقاومة”. هو بالأحرى السلاح في الحالتين، إذ بواسطة القوة الفظة قام النظام والحزب بفرض سطوتهما على سوريا ولبنان، ولم يكن من المصادفة أيضاً أن تقوم قوات الحزب بالتعويض عن قوات النظام بعد انسحابها من لبنان، مثلما لا يُعدّ عدوان الحزب على السوريين في مناطقهم انتهاكاً للسيادة السورية وحسب، لأنه بالدرجة الأولى ينتهك السيادة اللبنانية، ولن يكون من باب الاستعجال أن يذكر مسؤول في الحزب اللبنانيين بأن معطيات التأليف الوزاري تغيرت لصالح حزبه بعد سقوط القصير!

هكذا، في عدوانه على سوريا، يكون الحزب قد مرر مواربة عدوانه على الدولة والسيادة اللبنانيتين، ومن مقتضيات هذا العدوان كمّ أفواه اللبنانيين، وبالدرجة الأولى كمّ أفواه أبناء الطائفة الشيعية لأنهم الأقدر على فضح مزاعمه الطائفية. لذا يأتي مقتل هاشم سلمان بمثابة رسالة متعددة الأوجه، أولها تحريم الاقتراب ولو رمزياً من السفارة الإيرانية، وثانيها الحكم بالقتل على أي شيعي يرفض وصاية الولي الفقيه متمثلة بالسفارة هذه المرة، أما ثالثها فهو استباحة الدولة اللبنانية علناً وجهاراً في الداخل بعد استباحة حدودها بواسطة مقاتلي الحزب.

من خلال صور الشبيحة الذين انقضوا على المعتصمين يستطيع السوريون تخمين ما يمكن أن تصل إليه الأمور في لبنان، ولعل بعض أولئك الشبيحة قد انقض على متظاهرين سوريين من قبل، المسألة بلا تزويق هي في استعداد الحزب والنظام لتكرار السيناريو السوري لأن هذا من طبيعتهما. لم تعد الساحة اللبنانية ممراً لإيصال رسائل دولية على نحو ما كان ترمي إليه المتفجرات التي أوكلت لميشال سماحة، لم يعد الأمر يتلخص في جملة الأخير “بشار بدو هيك”؛ المرحلة الحالية هي ما عبّر عنها أحد مشيّعي هاشم سلمان بأن هذا ما يريده حسن نصر الله، وهذه ليست بالنقلة اللفظية فقط. هي نقلة تُنذر اللبنانيين بأن إرادة “السيد” المستمدة من إرادة الولي الفقيه لها الأولوية المطلقة حتى على دمائهم، وأي اعتراض على هذه الإرادة سيُجابه بالحديد والنار على نحو ما يُجابه به سعي السوريين إلى الحرية.

من خلال الخبرة السورية أيضاً؛ يُرجح ألا يكون مقتل هاشم سلمان عرضياً، ففي هذه الحالة يكون من الضروري للقاتل أن يثبت قدرته على المضي إلى أقصى الاحتمالات، بمثل هذا الإنذار يستعرض قوته ونواياه جهاراً، أما منعه وسائل الإعلام من تغطية الحدث فلا يدخل في باب التستر على الجريمة، بل يدخل أيضاً في باب الاعتداء على حرية التعبير، أي يكون استكمالاً للجريمة الأولى لا خوفاً من إشهارها. أما خبرة السوريين في مواجهة القتلة وفضحهم فقد صارت معروفة أيضاً، ولا شك في أن للّبنانيين مخزونهم وإرثهم الخاص؛ الرصاصات التي أطلقت على هاشم سلمان كانت على الأرجح تستهدف ذلك الإرث تحديداً.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى