صفحات الرأي

في مستقبل العلاقة الملتبسة بين العرب وأميركا/ وائل مرزا

 

 

قد لاتفوقُ كثرةَ التحليلات العربية المتعلقة بالتدخل العسكري التركي في شمال سورية إلا التناقضات الكامنة بينها، وفيها. ما من أحدٍ من «المحللين» العرب الكُثر توقعَ، أصلاً، حدوث التدخل، في ما نعلم، قبل إعلانه، بخاصة حين كان التنافس على أشده في ما يتعلق بتفسير السياسات التركية قبل ذلك. فما بين التفنن في وصفها بـ «الاستدارة» و»الانعطافة»، والتأكيد على دخولها الحتمي في إطار الرؤية الروسية، وربما الإيرانية، لأحوال المنطقة، والحال السورية تحديداً، كان التدخل المذكور آخر سيناريو يمكن التفكير فيه في أجواء تلك التحليلات.

لا مفر من التفكير في القرار التركي، وأسبابه وتبعاته، على وجه التأكيد، عربياً. لكن ثمة «دروساً» يفرض الواقع الجديد التفكير فيها، تهم العرب، وتتعلق بالموضوع، ولو في شكلٍ غير مباشر. فبغض النظر عن مقولات حصول التدخل بناءً على موافقة الولايات المتحدة، أو رغماً عن إرادتها، يبدو مغرياً سحب القضية إلى الساحة العربية، من حيث صناعة السياسة فيها وسط ملابسات العلاقة مع الغرب، وأميركا على وجه الخصوص.

هنا، كقاعدةٍ عامة، لا تبدو الثقافة السياسية السائدة لدى كثير من العرب في وارد التصديق بإمكانية أن يمكن لهم يوماً الدفع بجديةٍ لتحقيق مصالحهم، ولو تناقضت في جوانب معينة، مع إرادات الدول الغربية، وأميركا تحديداً.

لا يقبل معظم العقل العربي السياسي، الشعبي منه والرسمي، غير منطق الثنائيات الحادة والمتقابلة في شكلٍ ضدي. فإما أن تكون السياسة تبعيةً كاملةً لأميركا، أو تصبح مواجهةً غوغائية ومباشرةً وعنيفةً معها. لا فسحة لدى هذا العقل خارج هذين الخيارين ولا مهرب من حصارهما. فعلى هذه القاعدة فقط، يجري تفسير الأحداث السابقة والراهنة، ووفق مقتضياتها يجب أن تكون السياسات المستقبلية.

«الإرادة الدولية»، والأميركية منها حصراً، أشبه بحتميةٍ قَدَريةٍ في الأرض، لامردﱠ لها، وفق تلك الرؤية.

بالمقابل، تدرك مراكز القرار الدولية أن ما يجري على الأرض في هذه المنطقة من العالم يوصف بأوصاف كثيرة، لكنها تُدرك يقيناً أن بالإمكان وصفه، في نهاية المطاف، على أنه مهزلة.

وإذ تدرك تلك المراكز أن المهزلة المذكورة تضع كثيراً من دول المنطقة، بخاصة العربية، أمام تحدٍ وجودي، لكنها تمضي فيها في شكلٍ يحمل في طياته معنى «المناورة» وأحياناً «المقامرة». فتلك المراكز تُدرك تماماً مصالحها الاستراتيجية مع القوى ذات العلاقة في المنطقة، لكنها تمارس ما يشبه لعبة «البوكر» سياسياً حين تحاول الضغط عليها من خلال «الإيحاء» المتكرر، وبصيغ عدة، بإمكانية القطع معها، وأحياناً نهائياً.

هل من سياقٍ للتعامل مع هذه الممارسة؟ لا مفر من ذلك في حقيقة الأمر بالنسبة إلى العرب، على الأقل لأن التهديد بالنسبة إليهم بات وجودياً بمعنى الكلمة. ولمُجانبة الوهم في هذه المسألة، فالتهديد ذاك يتعلق بالأنظمة والحكومات كما يتعلق بالشعوب. أما السياق فيكمن في مسارعة القوى العربية القادرة على إظهار جدﱢيةٍ عملية في الدفاع عن مصالحها، وبعيداً عن أي تردد، حفاظاً أولاً على حدٍ أدنى من «هيبةٍ» لا يمكن التفريط بها والتقليلُ من أهميتها البالغة في جملة الحسابات السياسية، ثم تأكيداً لجاهزيتها العملية في التعامل مع سياسات «كسر العظم» و «حافة الهاوية» التي يتم إرعابُها بها مراراً وتكراراً.

وليس مستحيلاً أبداً، في مثل هذه الحالة فقط، أن تعود مراكز القرار المذكورة للاعتراف، ليس فقط بالمصالح الاستراتيجية الحقيقية للعرب في المنطقة، بل بضرورة العمل بمقتضيات مصالحها المشتركة مع دولها، بعيداً من منطق المناورات. ليس مهماً في هذا الإطار أن تكون تلك المناورات ناجمةً عن حسابات مقصودة أو نتيجة غباءٍ في الرؤية دفعت المنطقة، ومعها العالم، ثمنه أكثر من مرة في العقود الأخيرة، فالنتيجة واحدة في نهاية المطاف، ولا يمكن للدول صاحبة العلاقة أن تقف أمامها موقف المُتفرج.

في الإطار العام للموضوع، تَفوتُ العربَ القراءةُ الاستراتيجية لمُقتضيات الواقع العالمي المعاصر، وما يفرضه من حدود وحسابات وتوازنات ومعادلات حسّاسة، على الجميع، ومن دون استثناء.

نعترف، ابتداءً، بحقيقة وجود المصالح والاحتياجات والأدوار المتبادلة في عالم العلاقات الدولية. لكن هذا لا يغير، في منطق التاريخ والجغرافيا/السياسية، حقيقة أن «العالمية»، مهما كانت، إنما هي في النهاية بَوتقة ووعاء إنساني لمجموعةٍ ضخمة ومتنوعة من الخصوصيات المحلّية التي تُشكِّلُها، وأنّ من قوانين العلاقات الدولية الأساسية، أن يكون لكلٍ من تلك الخصوصيات وزن ودور وتأثير يجب أن يؤخذ في الاعتبار. فالخصوصيات المحلية، الثقافية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، ترسم أحياناً، وبعد استنفاد كلّ ما فيها من مرونة، سقفاً لا يُمكن تجاوزه لا من جانب اللاعبين المحلّيين، ولا من اللاعبين الدوليين. والتعاملُ بواقعية مع هذه الحقيقة، بحدّ ذاتها، هو الذي يحفظ كثيراً من التوازنات والمعادلات التي أشرنا إليها قبل قليل. ما يجدر ذكره أن استعمال مصطلح «الخصوصية» هنا لا يستبطن المعنى التقليدي الذي يُوظَفُ من جماعات وسُلُطات لترسيخ القوقعة عن العالم والتمايز عن الآخر ورفض ثقافة العصر وحداثته، وإنما يشير إلى ذلك الواقع العياني للمحلة، والذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار في معرض أي حساب يريد تجنب الانفجارات، محلياً وإقليمياً ودولياً.

من هنا، باستطاعة ما تبقى من النظام السياسي العربي الفاعل، ومن خلال ملفّ العلاقات الدولية المفتوح بقوة الآن، استحضارُ المنطق أعلاه بجدّية، بحيث يتمُّ «التعاون»، فعلياً، للحفاظ على الحدّ الأدنى من ملامح الاستقرار والسلام والأمن العالمي المطلوبة من جانب الجميع. بعيداً من الكلام النظري المُنمق عن ذلك التعاون، وبالتالي، عن الاستقرار والأمن والسلام.

منذ عقود، قال ونستون تشرشل: «من الممكن اختصار تاريخ العالم بالحقيقة التالية: عندما تكونُ الأمم قوية، لا تكون دائماً عادلة. وعندما ترغبُ في ممارسة العدالة لا تعودُ قوية». قد تنطبق هذه القاعدة على علاقة العرب بالولايات المتحدة كدولةٍ قوية اليوم، فانتظار العدالة منها في ما يتعلق بقضاياهم أشبه بانتظار غودو الذي لا يأتي أبداً، على رغم كل «التفكير الرغائبي» السائد بخصوص قدومه.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى