صفحات الرأيموريس عايق

في معاني «اليسار» الغربي والعربي اليوم/ موريس عايق

 

بعد نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية طُرحت أسئلة حول دور اليسار وقدرته على الحشد والتأثير، أو بالأحرى عدم قدرته. لم يقتصر التساؤل على الولايات المتحدة، إنما تعداه إلى الدول الأوروبية، بخاصة أنها تشهد صعوداً لافتاً لليمين الشعبوي وإن بدرجات متفاوتة. ففي ألمانيا مثلاً يهيمن اليسار على الوسط الطلابي في الجامعات الألمانية، غير أن الطلبة أنفسهم لا يرتبطون بالأحزاب السياسية التقليدية، ومنقطعو الصلة بالشرائح الدنيا في مجتمعهم، وهي الشرائح التي يستقطبها اليوم اليمين الشعبوي. محاولات تفسير انقطاع الصلة بين اليسار والطبقات الدنيا والمهمشة أشارت إلى تحول مهم حصل لليسار في الدول الغربية خلال العقود الأخيرة، حيث ارتبط بشدة بالجامعات مما جعله يستحق وصف «اليسار الأكاديمي». التحول الأهم الذي طرأ على الاستراتيجية السياسية لليسار كان تحولها باتجاه تبني سياسات الهوية، بصيغها المختلفة من هوية جنسية أو جنسانية أو إثنية أو دينية، أي تحول اهتمام اليسار إلى الأقليات.

في المقابل، انحسر بشدة البعد الطبقي من خطاب اليسار واستراتيجياته السياسية. لا يعني هذا زوال التحليل الطبقي، فما زال هناك الكثير من المختصين الممتازين في الاقتصاد السياسي، لكنه لم يعد مركز الثقل في استراتيجيات اليسار كما في الحركات الاجتماعية.

التحول باتجاه سياسات الهوية جعل من تواصل اليسار مع القسم الأعظم من الشرائح الدنيا، والعمال منهم في شكل خاص، أمراً متعسراً، فهؤلاء ليسوا أقلية بالمعنى الذي تفترضه سياسات الهوية، بل هم الأغلبية، الأنكلوسكسون البروتستانت في أميركا مثلاً. هؤلاء يقفون خارج خطاب حقوق الأقلية. هؤلاء كانوا الأكثر تضرراً من العولمة، والذين أصبحوا مهددين بفقدان وظائفهم، إن لم يفقدوها فعلاً، مع انتقال المعامل إلى الصين والهند حيث العمالة الأرخص. لم يقتصر هذا التحول على العمالة القليلة المهارة، بل امتد إلى شرائح من الطبقة الوسطى الغربية. فالطبقة الوسطى توسعت في الصين والهند والبرازيل، وازداد عدد المؤهلين الذين أصبحوا قادرين على القيام بالكثير من الوظائف التي اقتصرت قبلا على الغرب.

الشرائح الدنيا، وهي التي تنتمي إلى الأغلبية بمعنى الهوية، والمشكّلة أساساً من العمال ومتوسطي المهارة، وجدت نفسها خاسرة من العولمة التي قامت على خطاب التنوع والتعددية والاحتفاء بها. كذلك فإنها باتت مهملة من اليسار الذي تحول أساساً إلى سياسات الهوية، متجاهلاً الصراع الطبقي. لكنها وجدت نفسها، وللدقة مخاوفها، في خطاب الشعبويين الذين تبنوا سياسات الهوية وخطابها، كما اليسار، لكنهم تحدثوا إلى الأغلبية وليس إلى أقليات.

طبعاً، يمكن تفسير التحول اليساري باستدعاء الماركسية، وتفسيرها المستند إلى دراسة التحولات التي طرأت على وسائل الإنتاج والبيئة الاجتماعية الخاصة باليسار الأكاديمي. فاليسار الأكاديمي موجود تحديداً في البيئة التي استفادت أيما استفادة من العولمة، فهي ذات تأهيل عال، تتحدث لغات متعددة وتقطن مدناً كوزموبوليتية. قدمت العولمة لها فرصة ممتازة للانفتاح على العالم بأكلمه. هذه الشريحة ليست طبقة بالمعنى القديم للكلمة، فهي لا تعرّف نفسها بنمط إنتاجها، فيكفي جهاز كومبيوتر يعمل المرء خلفه. خبرة المعمل والعمل المشترك لم يعودا حاسمين للهوية كما للعمال الصناعيين في المعامل. في المقابل، أصبح نمط الحياة المحددة عبر الهوايات والأصدقاء أهم في تعريف هؤلاء لأنفسهم.

كذلك فإن الثقافة، أو التقاليد التي يحتفون بها، تعني لدى هذه الشرائح الكوزموبوليتية شيئاً مغايراً عما تعنيه لدى دعاة الهوية. فقد أشار عالم الاجتماع الألماني أندرياس ريكفيتس إلى أن هؤلاء ينظرون إلى التقاليد الثقافية باعتبارها سلعاً مفتوحة للاستهلاك والاستمتاع في سوق معولمة، يمكن لك أن تتعشى في مطعم ياباني، وتتعلم رقصة لاتينية، وتشاهد فيلماً هندياً، وتستمتع بمهرجان صيني. على عكس الشعبويين المنادين بالتقاليد، فهؤلاء يأخذون الثقافات على محمل الجد باعتبارها نظاماً قيمياً يحكم الحياة وينظمها ولا يمكن للمرء أن يقفز من أحدها إلى الآخر. التقاليد ليست سلعاً، بل خط الدفاع الأخير في مواجهة الأخطار.

يبدو أن هناك شيئاً يشبه هذا التحول إن نظر المرء إلى استراتيجيات اليسار العربي. هنا أيضاً نشهد انقطاعاً بين اليسار والشرائح الدنيا أو الوسطى الدنيا من المجتمعات العربية، وهو انقطاع يمكن ربطه بالتحول باتجاه سياسات الهوية والتخلي عن الاستراتيجيات الطبقية. غير أن التحول إلى سياسات الهوية في الحالة العربية لم يكن على أساس احتفاء وترحيب بالتعددية أو محاولة للدفاع عن هويات مضطهدة، بل تعبير عن خشية وعداء تجاه هوية الأغلبية في المجتمعات العربية. هذا التباين يحيل إلى فارق أساسي بين استدعاء سياسات الهوية بين اليسارين الغربي والعربي، فاليسار الغربي ينحاز إلى أقليات مهمشة في ظل مجتمع ليبرالي، فيما ينحاز اليسار العربي ضد الكتلة الأساسية في مجتمع يحكمه الاستبداد.

سياسات الهوية، وبمعزل عن الإعجاب بها أو عدمه، ذات مضمون تحرري في حالة اليسار الغربي، لكنها ذات مضمون معادٍ للحرية ومناصر للاستبداد في حالة اليسار العربي. يتمحور اليسار العربي اليوم حول العداء للإسلاميين، وغالباً ما يصبح عداءً للإسلام ولو لم يتم التصريح بهذا. فهو يعبر عن مخاوف بيئة ذات نمط حياة أقلوي وهواجسها، بخاصة أن نمط الحياة «الغربي»، الذي يتبناه مناصرو اليسار، هو نمط حياة أقلية في العالم العربي أمام إفقار وترييف المدن الكبير والحاصل لدينا منذ عقود.

سندرك مقدار هذا التحول في استراتيجيات اليسار العربي إن قارناه مع التجربة التاريخية لليسار قبل عقود. حينها لم يكتفِ اليسار، الشيوعيون، بتبني هوية طبقية، بل انخرطوا فعلياً في النضالات العمالية والفلاحية، وحضروا في شكل كبير في النقابات العمالية، إن لم يكونوا عمادها. وقتها لم تعن المسألة الدينية الكثير لهم، بل يمكن القول إن سلوكهم تجاهها قام على ما يشبه التجاهل التام لها، على رغم تبني اليسار وقتها أيديولوجيا مادية متصلبة من جهة، وعداء التيارات الدينية له والتحريض على إلحاده. انحدر العديد من مناضلي الحزب الشيوعي العراقي والسوري وقتها من أسر الأشراف وعائلات دينية عريقة، حتى أن الحزب الشيوعي العراقي تمتع بسطوة حقيقية في مدينة النجف الأشرف.

تقدم المسيرة الثقافية للراحل جورج طرابيشي صورةً للتحول الذي طرأ على الاستراتيجيات السياسية والاهتمامات الثقافية لليسار. ففي شبابه أصدر طرابيشي كتابه «الاستراتيجية الطبقية للثورة»، وهو كتاب ممتاز في موضوعه، وكما يشير العنوان يناقش الكتاب السياسات الطبقية للثورة وتحالفاتها. اليوم، لا يمكن أن يُكتب أو حتى أن يُناقش مثل هذا الكتاب تقريباً في أي سياق يساري. في المقابل، فإن طرابيشي تحول لاحقاً باتجاه التراث والأسئلة الثقافية، التي أصبحت هوية ومحور سجال اليسار العربي المعاصر.

لم يعد اليسار حاضراً في النقابات أو الإضرابات العمالية وليست له صلة بالشرائح الدنيا، واقتصر حضوره على المدن الكبرى وانعدم وجوده في الريف. اليسار صار معبراً عن أقلية في نمط عيشها، أقلية منقطعة الصلة بالطبقات الدنيا والشرائح الأضعف في مجتمعاتها، وتحكمها هواجس الخوف والتوجس من الغالبية المفقرة والمهمشة.

لا شيء يجمع اليسار العربي الحالي باليسار العربي القديم، حتى لو توسلا اللغة نفسها، ولكنها لم تعد تعني الشيء ذاته. فقادة الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية ليسوا إلا صوراً مشوهة عن فرحات حشاد وفهد وفرج الله الحلو.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى