صفحات الرأي

في مفهوم الثورات العربية

عمر كوش
أصبح مفهوم “الثورات العربية” متداولاً ليس في الكتابات العربية الجديدة، بل وفي كتابات العديد من الفلاسفة والمفكرين والكتاب في العالم، وخصوصاً في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وسائر البلدان الأخرى.
ويتلاقى في عبارة “الثورات العربية” مفهومان، هما: مفهوم الثورة ومفهوم العرب، حيث تحمل الثورة معنى جديداً ومركبات جديدة، تنهض أقلمته على حراك احتجاجي اجتماعي، سلمي ومدني، يهدف إلى تغيير النظم السياسية، التي قامت على التسلّط والاستبداد، ويشارك فيها قطاعات واسعة من الشعب، وتتمحور أهدافها على مقولة ثلاثية، تجمع بين الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. أما مفهوم العرب فيحمل معنى جديداً ومركبات جديدة أيضاً، حيث العرب الثائرون، اليوم، غير عرب الجاهلية، ولا عرب الأسلاف والغلبة، ولا عرب الخنوع والذل، وليسوا عرباً كارهين للآخر، بل أظهروا تلاحماً وتضامناً اجتماعياً لافتاً في الثورة السورية، والثورة التونسية، والثورة المصرية وسواها، وقدموا صوراً مختلفة عن صور العرب، التي حاولت الأنظمة العربية تسويقها، أو تلك التي حاول أصحاب المقولات والمقاربات الاستشراقية والأنثروبولوجية والعنصرية تروجيها.
وينشأ من تلاقي مفهومي الثورة والعرب مفهوماً جديداً، يرتبط تعريفه بتعريف المفهومين اللذين يشكلانه، ليغدو بشكل أدق في صيغة ثورات الشعوب العربية، التي لا تتنمذج في قالب معين، بل تتعدد أقلماتها في ثورة الشعب السوري، وثورة الشعب التونسي، وثورة الشعب المصري، وثورة الشعب الليبي، وثورة الشعب اليمني. وعلى الأغلب، ستطول القائمة لتطاول الصيغة ثورات أخرى في البلدان العربية. لكن المهم في الأمر هو أنه، وللمرة الأولى، تأخذ الثورة صفة عربية، بعد أن كانت تحمل صفات عديدة، لم تقترب منها الصبغة العربية منذ عقود عديدة، بل ومنذ قرون عديدة، حيث لم تحدث ثورة عربية، قادها شعب عربي في تاريخنا الحديث. وكنا نقرأ ونسمع عن الثورات، كالثورة الفرنسية، والثورة الأميركية، والإنكليزية، والروسية، وحتى الإيرانية، وعايشنا وقع الثورات في بلدان أوروبا الشرقية، فيما غاب مفهوم الثورة طويلاً عن أقلمته وعن تحققه في التربة العربية.
وقد قُصفت عقولنا بثورات وهمية في هذا البلد العربي أو ذاك. هي ليست بثورات قط، إنما حركات انقلابية قادها العسكر، من أمثال العقيد القذافي وأترابه. وحاولت النظم التي حكمت بلداننا بالقوة والقمع، منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين المنصرم، تسويق حركاتها الانقلابية على أنها ثورات شعبية، وأجبرت الشعوب على أن تكون خانعة وخاضعة للسلطة الحاكمة، وأن تكون ذليلة، فاقدة الحراك والكرامة، ولا تنعم سوى بنعم “الإنجازات” التي أنجزتها النظم التسلطية والقمعية، مع أن تلك الإنجازات لا ترتقي إلى مصاف إنجازات مهمة، علمية أو تقنية أو صناعية، كونها لم تتعدى حدود تأمين بعض أساسيات الناس وضرورات عيشهم من إيصال الكهرباء والماء وتعبيد الطرق وبناء بعض المشافي والمدارس.
وأمام خوف الشعوب وصمتها، نظراً لشدة سطوة وتسلط الأجهزة الأمنية للنظم الحاكمة وقمعها أي حراك اجتماعي أو سياسي يخالف توجهاتها أو يحتج على ممارساتها، أو يطالب بالحريات والعدالة الاجتماعية، فإن العديد من المفكرين والباحثين والدارسين، في البلدان الغربية والعربية، حاولوا تسويق أطروحات ونظريات تفسر حالات الخوف والانهيار والتردي وانسداد الأفق في البلدان العربية، واستسهلوا البناء على عوامل الثقافة والدين والعادات والتقاليد، بل ونسبوا للدين الإسلامي دوراً شمولياً وتأثيراً كلياً على حياة الإنسان العربي، فراحوا يتحدثون عن خصوصية عربية، وعن “الاستثناء العربي” والاستعصاء العربي حيال الحداثة وحيال الديموقراطية وسواهما. ووصل الأمر بأوساط فكرية وثقافية غربية بإشاعة أفكار عن وجود خصائص معينة وثابتة، تتحكم بالشعوب والمجتمعات العربية، ورددت ما قالته بعض الأوساط الفكرية والثقافية العربية، وأسالت حبراً مديداً حول وجود قوانين تغير وتطور خاصة بالإنسان العربي، يفترق بها عن سواه من الناس في بقاع أخرى من الأرض.
غير أن الثورات العربية ضربت عرض الحائط بجميع المقولات الثقافوية والماهوية والجوهرانية، التي نهضت على تلك الخصوصيات الدينية والثقافية، وأثبتت أن صورة العربي لا تتماهى مع صورة الكائن الديني، ولا مع جميع صورهم المتخيلة عن العرب، وفنّدت كل كلام عن الاستعصاء العربي حيال الديموقراطية والحرية وممانعة الحداثة، وعن الخنوع والذل، بل والرضا العربي بالاستبداد والمستبدين، والاستئناس بالظلم والظالمين.
وحملت الثورات العربية مركبات جديدة، قدمت من خلالها، للعالم، أمثلة جديدة للنضال الشعبي ضد الاستبداد والتسلط، في سبيل الخلاص والانعتاق والتوق إلى الديموقراطية والعيش الكريم، لذلك تفاجأ أصحاب المقاربات الثقافوية والماهوية واندهشوا مما حدث، وباتوا مستائين من سقوط معتقداته وأفكاره، بالرغم من عدم افتقارهم للمنهجية اللازمة، لكن النظرة الثقافوية والعنصرية كانت هي الغالبة، وكانت تحجب مفاعيل ومسببات الحراك العربي خلال عقود عديدة، الأمر الذي كشف عن مشكلات إيديولوجية، تحجب إمكانية معرفة القوى التي كانت ترفض التغيير والإصلاح، وتحاول الالتفاف على المطالب الشعبية مع كل أزمة وعاصفة تغيير.
اليوم، بات بالإمكان تماماً الكتابة والحديث عن مفهوم جديد للثورة، تشكل الشعوب العربية مركباته ومقامات تشييده في مختلف بلدانها، وتسطر معه فصلاً جديداً من حياة الإنسان في فضاء البلاد العربية وجغرافيتها البشرية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى