صفحات الرأيمعتز حيسو

في مقدمات ثقافة العنف/ معتز حيسو

 

 

 

تشكل الثقافة أسلوب حياة وإرثاً مشتركاً من الذكريات والعادات. ويشكّل العنف في هذا المستوى أحد تجليات الوعي القائم على التعدّي على الآخر أو إنكاره وتجاهله. وكل ممارسة مادية أو معنوية تهدف إلى كبح حرية التعبير، والنيل من قيمة الفرد والحط من شأنه أو مصادرة حريته السياسية والمدنية، تصنف على أنها عمل عنفي. أما أنماط العنف فتُمثّل أشكال السيطرة المرئية وغير المرئية، التي يتم الإفصاح عنها في إطار المعتقدات والمواقف الثقافية، والممارسة الاجتماعية الناتجة من سوء التكيف.وتتشكل أنماط العنف من نسيج خطاب ثقافي يتأثر ويؤثر في المعتقدات والمؤسسات والخطاب الرمزي في سياق السيطرة الهرمية المنعكسة على وعي الفرد وأشكال علاقته بالآخر. ويُوظَّف مفهوم العنف الفطري الذي يعتبره كثير من الزعماء والمفكرين بأنه أحد أشكال التطور الاجتماعي القائم على صراع الوجود للسيطرة السياسية التي تقونن العنف السلطوي وتبرره اجتماعياً.

والعنف في تجلياته الفردية تعبير عن العلاقات المسيطرة في البنية الاجتماعية والوعي الاجتماعي السائد. وعليه تُشكّل الثقافة الفردية بعضاً من تجليات الثقافة الاجتماعية العامة، التي يتحدد بناءً عليها مستوى وشكل ثقافة الفرد وأشكال ممارسته الملموسة، من دون أن يعني ذلك إلغاء التمايزات الفردية ضمن البنية الاجتماعية. لذا فإن البحث في أسباب تنامي ظاهرة العنف يستوجب تحديد ودراسة العوامل المساهمة في تشكّلها وتفعيلها. فالبنية الاجتماعية تتجلى في سياق نمط ثقافي مهيمن بأشكال ثقافية متعددة، وذلك يعود إلى ترابط وتداخل وتشارط سيرورة العلاقات الاجتماعية الإنتاجية وغير الإنتاجية. أمّا التكوين الثقافي للبنية الاجتماعية فيتحدَّد في سياق تطور موضوعي يميل إلى الانفتاح. وهذا ينبئ بإمكانية انكماش الهويات الثقافية المحلية أمام تشكّل هوية ثقافية كونية يكون فيها للقوى المهيمنة الدور المحدِّد.

لكنّ الأيديولوجيات الكبرى في سياق هيمنتها على السلطة مارست آليات من التهميش والقمع والإقصاء بحق الأقليات السياسية، الإثنية والمذهبية والطوائف، وكان ذلك يتم في سياق الترابط بين منظومة عقائدية أحادية وبين سلطات سياسية شمولية اشتغلت على فرض مفاهيم أيديولوجية مطلقة، وعلى قوننة وشرعنة العنف السلطوي بكونه بالنسبة إلى تلك السلطات يُعتبر مدخلاً للمحافظة على «الاستقرار الاجتماعي».

ونجم عن ذلك كثير من ظواهر الانغلاق على الذات وتضخم الشعور بالمظلومية، والتمسك بالانتماءات دون الوطنية.

من جانب آخر، تزامن تفاقم دور العقائد الأحادية المدّعية امتلاك الحقيقة المطلقة، والرافضة للتباين والاختلاف على مستوى الاجتماعي العام، وضمن ذات المنظومة، مع تغييب دور المؤسسات الثقافية العلمانية الديموقراطية، ومن البداهة بمكان أن يؤدي ذلك إلى انتشار مفاهيم التكفير والتخوين، وأشكال من التماهي مع ممارسات السلطة القهرية، وممارسة العنف الفكري والجسدي لإزالة الآخر معرفياً ووجودياً، ما أدى إلى زيادة الانقسامات الاجتماعية العمودية والأفقية، وشكّل مدخلاً إلى تصدع وتفكك المكونات الاجتماعية، وتحوَّل التنوع الاجتماعي من مصدر للغنى والإبداع إلى أسباب الصراع الذي يهدد السلم الاجتماعي.

لقد شكّل اقتران الوعي الأحادي بسلطات سياسية أحادية شمولية، مدخلاً إلى إعادة إنتاج الوعي السائد والموروث وتحويله إلى أدوات وظيفية لتبرير ممارساتها التسلطية. وهذا أدى بدوره إلى انتشار مظاهر التسليم والخضوع والتقيّة والمداهنة والمراوغة والفساد. وجميعها تُعبِّر عن أشكال من التكيف السلبي مع سلطة قهرية. وقد ساهم تبرير العنف السلطوي وأدلجته في انتشار أشكال كثيرة من ثقافة العنف، وجميعها إضافة إلى العنف الديني تعمل على إخضاع الآخر وتكويره واستغراقه في بنية أيديولوجية أحادية.

ومن أسباب خطورة تلك التحولات أنها باتت تُشكِّل بعضاً من الذاكرة الجمعية. فكان غياب الوعي الديموقراطي من تعبيرات الوعي السائد المقترن بهيمنة سلطة أحادية وأيديولوجيات شمولية. وفي سياق هيمنة السلطة على المناخ المعرفي والثقافي والسياسي، كان يتم الاشتغال على توظيف بعض من رموز الفكر الديني في الدفاع عن السلطة السائدة وآليات اشتغالها. وكان ذلك من أسباب تنامي تأثير المنظومات المعرفية العقائدية والأصولية السلفية، وفي نشوء أشكال ثقافية وسياسية متماهية مع ثقافة السلطة المسيطرة التي تعود جذورها إلى الأبوية السلطانية.

أمّا تجدد ظواهر التطرف السلفي الجهادي، فمن أسبابه اشتغال مراكز أبحاث مرتبطة وظيفياً بمراكز صناعة القرار العالمي، على إبعاد التناقض والاستقطاب الاجتماعي عن جذره السياسي والاقتصادي، وتقديمه بكونه تناقضاً حضارياً. لذلك فتحديد الأسباب الكامنة وراء انتشار العنف المحمول على الحركات المتطرفة، إضافة إلى ما تم التركيز عليه، يحتاج إلى تحديد وضبط أشكال العلاقات الإنتاجية القائمة على تغريب العامل عن وسائل الإنتاج وعن إنتاجه، والتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ومن الواضح أن القوى المهيمنة تشارك من خلال تعميق علاقة التبعية والارتهان في زيادة حدة التناقضات الاجتماعية، ومعدلات الاستقطاب والإفقار والتخلف. في ذات السياق، فإن اشتغال رأسماليات المركز على تصدير أزماتها إلى البلدان الطرفية وربطها بحركة الاقتصاد الرأسمالي المأزوم كان من أسباب إعاقة التطور وإغلاق آفاقه. وقد ساهم تغييب المناخ الديموقراطي وتجفيف منابع ثقافة الحوار والفكر النقدي وحقوق المواطنة والحريات المدنية والسياسية، إضافة إلى ازدياد منسوب التناقض الاجتماعي، في انتشار ثقافة الخوف والتكيّف السلبي، وأشكال من التطرف المنفتح على العنف، ولا ينفصل ذلك عن الدعم الدولي للعنف المحمول على قوى التطرف، وتغييب الأسباب الموضوعية لتنامي ظواهر التطرف. وهذا يدلل على أن محاربة القوى الدولية للإرهاب يخفي تناقضات وأهدافاً تخالف أهدافها وسياساتها المعلنة.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى