صفحات الثقافة

في منزل النقد/ سايمون جيكاندي

 

 

مهمة النقد ومتع المنفى

كان أحد أهم التطورات في الدراسات الأدبية في الأعوام الأخيرة الالتفات إلى مسائل حقوق الإنسان. وكان هذا التطور مهماً لأنه حين تأثّر العالم بانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في أمكنة مثل سربرينيتشا ورواندا في الثمانينيات والتسعينيات، كان النقاد والمنظّرون منشغلين بالجدل حول العلاقة بين المدلولات والدوال، وبين التزامنية والتعاقبية، وبين الاستعارة والكناية، وكانوا متناسين، كما تكشّف، لما يحصل خارج النص. وبدا كما لو أن الشفرات الألسنية جاءت كي تقدّم جدارَ حمايةٍ سيميائياً للنقاد، حتى حين تبيّن أن اللغة متورطة في ما يمكن أن يدعوه المرء الإبادة الجماعية ما بعد الحداثية. ذلك أن رادوفان كاراديتش، الذي عُدَّ أحد مهندسي مذبحة المسلمين البوسنيين في سربرينيتشا في تموز\يوليو 1995، كان شاعراً، وصدرتْ له ست مجموعات شعرية. وأثناء الإبادة الجماعية الرواندية في 1994، لم يكن العاملون في أجهزة دعاية سلطة الهوتو، وراديو وتلفزيون “ليبري دو ميل كولين”، ومجلة “كانغورا” عاديين، بل كانوا بعض الأشخاص الأكثر تعلّماً في البلاد. فالمذيع فردناند ناهيمانا، مثلاً، الذي أدانتْه المحكمة الجنائية الدولية لرواندا بتهمة التحريض على الإبادة الجماعية، يحمل شهادة دكتوراه من جامعة فرنسية مهمة. إزاء هذا الدور البارز للمفكرين في الإبادة الجماعية ما بعد الحداثية، وخاصّة الذين يحملون شهادات في العلوم الإنسانية، كان من المفاجئ شبه غياب الباحثين الأدبيين، في المجادلات حول دور اللغة والشعريّة في الأحداث المؤسفة التي عرّفتْ نهاية القرن العشرين.1

كان شبه الغياب هذا مفاجئاً لأنه افتُرض على الدوام، وفي كثير من التراثات الفكرية، أن إحدى وظائف الخيال هي إبداع أفعال غير قابلة للوصف وتقديمها في إطار التجربة البشرية. وكان مفاجئاً أيضاً لأنه، من بين جميع المشاريع الفكرية المعنية بما هو إنساني، كان النقد الأدبي (أو النظرية الأدبية) يُعدُّ معادلاً للأنثروبولوجيا في اهتمامه بحيوات الآخرين، الخاضعين والمُبْعدين على نحو خاص.  ويمكن القول إن النقد الأدبي المرتبط غالباً برفض تراث الإنسيّة، بالرغم من أنه يتموضع في مؤسساتها، وُلدَ من الاقتلاع والمنفى. وكشكلٍ من أشكال المعرفة والتأمل، وُلِد النقدُ ممّا دعاه ميشيل دي سيرتو “العلاقة بين الرحيل ودَيْن”.

من ماركس وفرويد إلى ثيودور أدورنو وإيريك أويرباخ وحنا آرنت، ومن إدوارد سعيد إلى آسيا جبّار، كان النقاد العظام للقرن العشرين الطويل منفيين. وقد قوّى عملهم موقعهم داخل وخارج الحداثة ومؤسساتها الخاصة بإنتاج المعرفة. ولم يكن النقد الأدبي الذي سيتجوّل (إذا ما استخدمنا عبارة إدوارد سعيد) هو الموجود في أمكنة آمنة (كمبردج إف. آر. ليفيس أو جنوب كلينث بروكس) بل النقد الذي أنتجه منفيون على هوامش الخطابات المهيمنة (سعيد، “النظرية المتجولة”). ففي أعمال منفيي القرن العشرين يستطيع المرء أن يرى أن النقد الأدبي يعمل كمشروع للذات الإنسانية خارج الأمة، وخارج القوة المطلقة للإنسيّة، في مكان الآخر، وفي لغة الآخر. وحين واجهتْهم الهاوية الناجمة عن الاستعباد والإبادة الجماعية أو عنف الإمبراطورية، نشد الكتاب والنقاد ملاذاً في منزل النقد. وقوّى التعليق والأنواع الأخرى من الكتابة النقدية ما دعاه الكاتب الكاريبي جورج لامنغ بكفاءة متع المنفى: “أن تكون منفياً يعني أنك حي”.

لكن ما يزال من غير الواضح ما هي متعُ المنفى، إذا افترضنا أن اللغة القومية مَأْسَستْ النقد، كما فعلت مع الكتابة الإبداعية. وربما نظر الكتاب المنفيون إلى تشردهم كمضاد للأمم واللغات التي رفضتْهم، لكن لم يكن من الواضح أبداً إن كان التفسير سينسى (إذا استخدمنا عبارة سيرتو المهمة) “المصيبة التي تقفز منها ضرورته”. وخلف التبجّح الذي عبّر به المفكرون المنفيون عن قدرتهم على تجاوز السرد الكهنوتي للأمة، كمنَ اشتباهٌ بأنه احتُفيَ بالتشرد بسبب الكآبة الناجمة عن فقدان المكان. وحفّزتْ تأملات أدورنو في كتابه الأخلاق الدنيا الرغبة بالعثور على مكان خارج كلٍّ من “المجال الخاص الأكثر ضيقاً” والإنتاج الضخم. لكن ما من قارئ لأقوال أدورنو المأثورة ومحاولته المروّى فيها كي يبعد نفسه عن “الشكل الاغترابي للحياة الحديثة” يستطيع إغفال التوق غير المعلن إلى حالة جمالية كتعويض. وفي الحقيقة، إن مخاوف منفيين مثل أدورنو على الحياة الحديثة ركزت على الطريقة التي فعلتْ بها هذا الدول التي أقصتْهم من ثقافاتهم، عبْر تجريد الجمالي من قدرته على التعبير عن الذات الإنسانية، وعدم قدرة النقد على تقديم ما يدعوه توماس دوشيرتي “عزاء وطمأنينة السرّ”. وبدا منزل النقد عالقاً بين رغبتين: رغبة الهرب من القومية والمشروع الجمالي للدولة، ورغبة التمسك باللغة القومية والمثل الفيلولوجية المتضمنة فيها. يطرح دوشيرتي هذه النقطة بقوة في كتاب النقد والحداثة:

يعتمد النقد، كما نعرفه في الحداثة، على موقف هو، ضمنياً على الأقل، قوميٌّ في حقيقته وأصله: ففي صلب الحداثة ثمة علاقة محددة بين النقد الجمالي وتشكّل الدولة ـ الأمة البازغة، خاصة ضمن ما صار معروفاً باسم أوربا. ذلك أن القومية السياسية المعنية هنا متحالفة عميقاً مع تلك النظرية الجمالية، أو الثقافية، التي تعد المأساة صياغة محدِّدة لها، وخاصة ذلك الشكل من المأساة الذي يُحَدَّد عادة في المفهوم الأرسطي الجديد للإرهاب. إن العاقبة في الحداثة بالنسبة للنقد (والنظرية)، إذا ما تجاهلنا موقعه الطبوغرافي الخاص، وديونه الخاصة لوعي مأساوي، هي تسخير موضوع النقد لخدمة مصالح إنتاج ما هو جوهرياً (ولو بصمت) هوية قومية لذات، الناقد أو الناقدة.

كان تحدي النقد في القرن العشرين هو كيف نناقش الخط الهش بين طبوغرافيا مميزة (للغة وأمة) ووعي النقاد بكونهم متوضعين في النقطة الباهتة للمكتبة التي مكّنت مشاريعهم.كان هذا هو الموقف الذي وجد فيه أويرباخ نفسه حين أنهى تأليف كتابه المحاكاة، أعظم ما ألّفه حول نظريات التمثيل في التراث الغربي.  ففي اسطنبول، المكان الذي نُفيَ إليه، شكا أويرباخ من حقيقة أنه كان ملزماً بتأليف العمل التمهيدي للتمثيل في الثقافة الغربية في هوامش أوربا، بعيداً عن المكتبة المتخصصة، لكنه كان سريعاً في الإشارة إلى أن كتابه مدين بوجوده “إلى هذا الافتقار لمكتبة غنية ومتخصصة”. ذلك أن الاقتلاع من المكتبة والأرشيف في أوربا مكّنه من رؤية كلية لنظريات وأساليب التمثيل مند هوميروس إلى فرجينيا وولف. وفي المنفى جُمعتْ معاً أنماط تمثيل كنائية جوهرياً في جهاز استعاري جعل أوربا تبدو فريدة.2 وفي الحقيقة، إن قلة من قراء كتاب أويرباخ فحسب يمكن ألا ينتبهوا إلى مفارقتين كانتا شرط وجود الكتاب: المفارقة الأولى هي إن ما جعل كتاب المحاكاة ممكناً هو اقتلاع المؤلف من أوربا، ولكن بتأسيسه لسرد فردي للتمثيل عبر تراثات وثقافات متنوعة تخيّل الكتاب وأوجد هوية أوربية مشتركة حتى داخل القومية التي سببت الحرب العالمية الثانية. ولا يمكن أن تصبح المفارقة الثانية واضحة إلا حين نصل إلى الفصل الختامي للكتاب: ثمة تنافر واضح هنا بين إتقان أويرباخ للمعيار الأوربي وشكوكه حول علاقته بجماعته من القراء. هكذا، إن كتاباً بدأ بقراءة مقارنة لا تُنسى للاحتفاءات الأكثر جلالاً بموضوع التمثيل في التراث الغربي ( أوديسة هوميروس و سفر التكوين 22) اختُتمَ بمرثاة:

بهذا قلتُ كلَّ ما اعتقدتُ أن القارئ يريد مني قوله. إن المهمة المتبقية الآن هي العثور على هذا القارئ المرجو. وآمل أن تصل دراستي إلى قرائها، وإلى جميع أصدقائي من الأعوام السابقة، إذا كانوا على قيد الحياة، ولكل من هو موجّه إليهم. وأتمنى أن تسهم في أن تجمع ثانية بين أولئك الذين استمرّ حبهم لتاريخنا الغربي بشكل هادئ.

في هذه المقولة الختامية، عبّر أويرباخ عن أسفه العميق لأنه في المنفى كان خارج وطنه المفهومي والفيلولوجي، وأن المكان الذي يكتب فيه كان أيضاً حدَّ فكرة الثقافة الغربية نفسها. وكان الوعي المأساوي هنا شرطاً مسبقاً للفيلولوجيا والنقد والأدب المقارن. فبدون طبوغرافيا بدا النقد إيماءة متأخرة. فالمفارقة بالطبع هي أن غياب الطبوغرافيا هو الذي جعل فكرة أوربا أَنْتَجَتْها الفيلولوجيا ضرورية. وفي رده على النقد القائل بأن نقاشه للتمثيل في الثقافة الغربية “كان مقيداً زمنياً جداً ومحدداً كثيراً من الحاضر”، قال أويرباخ إن السؤال الذي طرحه على نفسه حين كان يدرس موضوعه هو: “كيف تبدو المسائل في السياق الأوربي؟” أضاف: “إن كتاب المحاكاة هو، بشكل واع، كتاب ألّفه شخص معيّن في موقف معين في بداية الأربعينيات”.

اتسمت الأربعينيات بأزمة الهوية الأوربية، ودوالها ومدلولاتها. وبالنسبة لمفكرين مثل أويرباخ، التزموا بأوربا يوحّدها الأدب، حتى حين كانت تقسمها اللغات والإيديولوجيات المتنافسة، مثّل صعود الفاشية نهاية؛ ولم يكن واضحاً أن أوربا التي عرفوها، تلك التي أجازتْ مشاريعهم الفكرية، ستنجو من انتصار القوى السوداء التي يرمز إليها الصليب المعقوف. وفي هذا السياق، كان اختتام أويرباخ الرثائي لكتاب المحاكاة محاولة لإبعاد نفسه عن فكرة محتضرة لأوربا.  لكن و بسبب هذا الإبعاد، هذا النفي لنفسه عن الحبيبة، سيشفي أويرباخ ما عدّه جوهر واستمرارية تراث أوربي من التمثيل. وكان التحدي الذي واجه أويرباخ هو كيف يقرأ نصوصاً غربية فيما هو منفصل عن فكرة أوربا وعن الحالة الجمالية التي مكّنت الفيلولوجيا الألمانية في المقام الأول. فقد اقتضى الإلحاح على الزمن الأوربي كلٌّ من الشعور بفقدانه وبرغبة بأوربا، أو ألمانيا، كوطن للغة وربما للوجود. سيكون النقد رداً محسوباًعلى فقدان الحبيبة.

متع المنفى

لكن ماذا عن الذين نشدوا وطناً في لغة الآخر وجهدوا كي يسكنوا عالماً مكوّناً من أشكال ليست من صنعهم؟ أي عمل سينجزه النقد في سجن قومية فاسدة، بُنيت على إنكار وتدمير واستئصال الذات الضعيفة؟ فكِّروا مثلاً بقصة الكاتب والناقد الأفريقي الجنوبي حزقييل مفاهليلي، هذا الذي نشأ في بلاد تُحدِّدُ فيها الهويّة العرقيةُ حيوات المواطنين، وأُقصي عن الفرص التي يتيحها الانخراط والزمن والعمل. لجأ مفاهليلي إلى الكتابة الإبداعية والنقد كي يحافظ على شعوره الإنساني في وقتٍ كانت فيه الدولة تسنُّ القوانين للحد من إنسانية الرعايا. وفي سيرته الذاتية الصادرة سنة 1959 بعنوان في أسفل الجادة الثانية يروي مفاهليلي كيف واجه الفصل العنصري عبْر الانسحاب إلى الخيال والنقد. أُبْعدَ مفاهليلي عن الثقافة الرفيعة وفُرِضَ عليه دخول مؤسسات من الدرجة الثانية، لكنه ألّف قصصاً قصيرة ودراسات نقدية كي يؤكد هويته الثقافية في عالم حُفظتْ فيه الثقافة، بمرسوم رسمي، لأشخاص من أصول أوربية.

مُنع مفاهليلي في 1951 من التدريس في جنوب أفريقيا. وفي ظل قوانين الأبارتيد، كان هذا النوع من المنع معادلاً للنبذ الاجتماعي، يجرِّدُ المرء من حقوق المواطنة والحياة المدنية، وقد عبّر مفاهليلي عن هذا في سيرته الذاتية قائلاً:”مُنعْتُ من التعليم وسحقتْني الأوضاع، ذويْتُ في حمض مرارتي؛ وكنت أختنق”. إن الأبارتيد، كشكل من أشكال الحصار والإقصاء، وكنظام جسّد سلطة البيض في جنوب أفريقيا، حوّل أرض الكاتب الأصلية إلى مكان للموت الاجتماعي. ما كان ينبغي أن يكون مكاناً للتغذية الأخلاقية صار سجناً:”تشعر أن العالم يصغُر جداً بالنسبة لك، يتقلّص دوماً وينغلق عليك”. ولم يكن المرء يمتلك غرفته الخاصة في مكان لم تقم الدولة فيه بتجسس كلي على المجال العام فحسب بل استعمرت أيضاً الأمكنة الخاصة بقوانين تدير تفاصيل الحياة البشرية.  وهكذا في 1957 قدّم مفاهليلي للحصول على تأشيرة لمغادرة جنوب أفريقيا دون خيار العودة.

في منفى استمر 20 سنة، أصبح مفاهليلي فاعلاً رئيسياً في دراما الأدب الأفريقي لدى بزوغه، وأسس مراكز ثقافية في نيجيريا وكينيا ودرّس في زامبيا والولايات المتحدة. وأثناء تلك الفترة، نشر رواية مهمة (الجوالون)، وهي شهادة على ألم المنفى ومتعه المحدودة. ولكن في نقده الأدبي استخدم مفاهليلي المنفى كي يرسم من جديد علاقته الخاصة مع أفريقيا، ومع الشتات الأفريقي، ومع العالم. ففي أعمال نقدية مثل الصورة الأفريقية، و“أصوات في الزوبعة” ومقالات أخرى، أظهر مفاهليلي قدرة النقد على استضافة أفكار أشخاص من أمم وتراثات مختلفة.  وفي هذه الأعمال، كان المنفى مناسبة للتأمل في الشخصية البشرية بدلاً من الخسارة. وكما قال في كتاب الصورة الأفريقية، تبنى مفاهليلي أفريقيا كمكان كليّ غير مبني، لكنه تخيّله من جديد أيضاً كمكان للتعليم، وموقع “للاستيعاب والتعلم والجدل”. وما هو أكثر أهمية، مكّن المنفى التأمل النقدي ”في أفريقيا المستقلة، وفي قارة المنفى غير المعرّفة تلك، حيث التنقل على السطحين العمودي والأفقي ممكن، ينبغي أن تعيد تثقيف نفسك وفحص قيمك باستمرار”.

لكن لماذا يرى المؤلف المنفى كمناسبة لتقييم قيمه الخاصة وفرضياته المسبقة؟ يشير هذا السؤال إلى الواجب الثقافي الملح خلف احتفاء مفاهليلي باقتلاعه: المنفى، الذي سيظهر لكثير من الأشخاص على أنه اسم ومنطق التشرد، كان أداة اغتراب المرء الذاتي. وكان هذا الاغتراب الذاتي مرتبطاً بفكرة قوية عن الحرية. من المهم هنا أن نتذكر أنه في وطن مفاهليلي الأصلي جنوب أفريقيا وتحت نير الأبارتيد، اعتمدت صناعة روح الدولة جزئياً على موقع الأفارقة في وطن “قبليّ” أسطوري، وعلى نحو متزامن، على اقتلاعهم البنيوي من مؤسسات الحداثة الثقافية، التي قدمتها الدولة كعلامة على الحضارة الأوربية.  ومثل أعضاء آخرين في جيل الخمسينيات، رفض مفاهليلي هذه الفكرة عن الثقافة كملكية حصرية للمنحدرين من أصل أوربي عبر الإفراط في التماهي مع الثقافة الرفيعة وإبعاد نفسه عن ما عُدَّ محلياً. وكلما حاولت الدولة أن تقيّد مدخل الأفارقة إلى الثقافة الرفيعة، من خلال قانون المرافق العامة ذي السمعة السيئة، ازداد تثمين الموسيقا الأوربية والجاز الأميركي:

لدينا الجاز، لدينا الموسيقا الأوربية. كانت الموسيقا الأوربية بطريقة غير مألوفة رمز فتْح للفرد. أخذتْنا إلى أراض بعيدة حيث تخيلنا أنفسنا محلقين فوق الطغيان الذي حولنا. تحدثت الجاز أيضاً معنا عن أرض خيالية يحقق فيها السود أموراً لا نستطيع أن نحلم بها. أصّلتنا الجاز أيضاً بشكل أعمق في تجربتنا السوداء لأننا شعرنا ببعدها الآخر: حالة ذهنية متأصلة في حياة عرفت سفن العبيد والسياط والعمل الكاسر للظهر وتفكك الحياة العائلية والاغتراب، وهلمجرّا.  صارت الموسيقا بالنسبة لنا شيئاً لا يقدر أن يجردنا منه أي متوحش أبيض.

(الصورة الأفريقية)

هكذا، يصير المرء كائناً بشرياً برفضه للأفكار التي ترعاها الدولة عن السواد وانتحال ثقافة المهيمن كشرط لإمكانية وجود المرء؛ يصبح المرء شخصاً من خلال فك التماهي مع مشروع الدولة لبناء الجماعة. إن تاريخاً منسياً في الغالب للنقد الأدبي والثقافي في القرن العشرين يهتم بانتحال المُسْتَعْمَرين والمُهَيمن عليهم للثقافة الأوربية الرفيعة كمضاد لهيمنة أوربا على العالم. مصارعاً كي يحلّ مفارقة الحداثة (وأعني تعايش مُثُل الحرية وأشكال الهيمنة) لجأ دبليو. ي. ب. دو بواس إلى الثقافة الرفيعة كنقيض لا مفر منه لذرائعية حياة قائمة على التمييز العرقي:

أجلس مع شكسبير فلا يجْفل، أتحرك عبر خط اللون شابكاً ذراعي بذراع بلزاك ودوما حيث الرجال المبتسمون والنساء المرحبات يسرن بهدوء في قاعات مطلية بلون ذهبيّ. ومن كهوف المساء التي تتأرجح بين الأرض قوية الأعضاء وزخارف النجوم، أستدعي أرسطو وأورليوس وأي شخص أشاء، فيأتون جميعاً برشاقة دون ازدراء أو احتقار. هكذا، مقترناً بالحقيقة، أعيش دون حجاب. أهذه هي الحياة التي تحسديننا عليها يا أميركا النبيلة؟ أهذه هي الحياة التي تتوقين إلى تغييرها إلى البشاعة البليدة الحمراء لجورجيا؟ هل أنت خائفة من أنه إذا حدقنا من جبل بيسكاه المرتفع، بين الفلسطينيين والعماليق سنشاهد أرض الميعاد؟

إن ثقافة أدبية لا تحمي المرء من أدوات الهيمنة، لكن بالنسبة لكثيرين من رعايا الاستعمار يتم دائماً تحويل ثقافة جمالية تهدف إلى فرض الحكم الاستعماري إلى سرد حرية من خلال النقد.

نقد المرء الخاص

يُوجد أفضل توضيح لكيف يمكن أن يكون النقد قناة خارج أنظمة الهيمنة في كتابات سي. ل. ر. جيمس، المؤرخ والناقد الأدبي الكاريبي. ذلك أن جيمس الذي بلغ سن الرشد تحت هيمنة هوية إنكليزية مفروضة، قال إنّ ثقافته اقتصرت على تاريخ وأدب أوربا الغربية، في كهف ككهف أفلاطون:

إن الجو الذي نضجتُ فيه، والذي طورني على طول الخطوط التي سلكتها، هو جو أدب أوربا الغربية. ففي شبابي عشنا بحسب معايير ماثيو أرنولد؛ نشرنا العذوبة والضوء، ودرسنا أفضل ما كان هناك في الأدب من أجل أن ننقله، كما اعتقدنا، إلى الناس في الهند الغربية الفقراء والمتخلفين.

(اكتشاف)

متبعاً الكتابات المؤثرة لماثيو أرنولد، لم يكن النقد، في هذا الحيّز الاستعماري، يهدف إلى تدريب الرعايا على فن التشكيك بالنظام المهيمن؛ بل كان عمل الناقد هو دفع الرعايا إلى الارتباط بمجموعة من القيم الأخلاقية الجوهرية، كي ينتجوا بالتالي أجساداً طيّعة. وفي الحقيقة، إن بعض اللحظات الأكثر سحراً في كتاب خلف الحدود، مذكرات جيمس عن تربيته الجمالية، هي تلك التي يتماهى فيها الفتى الاستعماري الطيب، دون تشكيك وبشكل مطلق، مع الثقافة الأوربية الرفيعة:

قابلنا شخصيات أدبية مشهورة زائرة لأسباب تتعلق بالدراسة. ولم أتخلَّ أبداً عن خطتي للذهاب إلى الخارج وكي أؤلف، درستُ ومارستُ باجتهاد فنّ الرواية : دوستويفسكي، تولستوي، تشيخوف، فلوبير، موباسان والأخوان غونكور، كتاباتهم، يومياتهم ومراسلاتهم؛ بيرسي لوبوك وإدوين موير؛ قارنتُ فضائل ثاكيري وديكنز وفيلدنغ مع رذائل همنغواي وفوكنر ولورنس. عشتُ فكرياً في الخارج، بشكل رئيسي في إنكلترة. بيد أن ما أبطل كلّ هذا في النهاية هو أنه خرطني مع الناس الذين حولي بأكثر الطرق تجريداً. تحدثتُ. أصغى جمهوري واعتقدَ أن هذا رائع وأنني كنت رجلاً متعلماً. كان اهتمامي بالسياسة محدوداً. علّمتُ في المدارس ولكن لم يكن هناك مجادلات حول التعليم. درّستُ المقررات لكنني لم أزعج نفسي بالتفكير بها.

كلما أتقن الثقافة، بدا جيمس مسجوناً أكثر من قِبَل تعليمه، غير قادر على الرؤية خارج الجمالية الاستعمارية أو الممارسات الاجتماعية العرقية الصارخة. وحين رفضه “البحارة التجار” في ترينيداد بسبب لون بشرته، قال جيمس، كما عبّر بنفسه:” لم أكن متضايقاً جداً”:

أتذكر أن الرقيب الإنكليزي، مدرّس الطلاب العساكر، كان غاضباً حين أخبرته عن الأمر. قال: “يقولون هنا إنهم بحاجة إلى رجال وحين يتوفّر شاب واعد فإنهم لا يأخذونه”. انضم صبيان بيض من المدرسة إلى الوحدات العامة كضباط مفوضين وجاؤوا إلى الكلية كي يشاهدونا بصدور إلى الأمام وبذلات جميلة وأزرار لامعة. حين سمع الأسياد ما حصل معي كان بعضهم غاضباً، وشعر واحد أو اثنان بالعار، كان الجميع معي. لم يؤلمني هذا لمدة طويلة لأن هذه التدخلات الفظة من العالم الذي أحاط بنا كانت قد أُبعدت لسنوات كثيرة. لم أُجرح، لم تُترك أية ندبة.

وبقدر ما كان جيمس مهتماً، كانت العنصرية الاستعمارية مجرد مثال آخر على الحسد الثقافي؛ لقد كرهوك لأنك أتقنت ثقافتهم. وبالرغم من هذا التطوع في الأنظمة الثقافية للهوية الإنكليزية، تبنى جيمس نمطاً من الثقافة الجمالية كي يصبح أحد الأصوات البارزة في الثقافة الأفريقية والسياسة الراديكالية. أصبح مؤرخاً مهماً، وفي 1938 نشر كتاب اليعاقبة السود، أحد أهم الكتب حول الثورة الهاييتية. لكن ربما كانت أعماله في النقد الأدبي هي التي حوّلتْه من فتى استعماري جيد إلى ماركسي راديكالي. وإنه لبالغ الدلالة أن هذا التحول حصل في المنفى، وليس في بريطانيا بل في الولايات المتحدة، حيث صار جيمس مدركاً لعمل النقد كجزء من هرمنيوطيقا الشك. وحين اهتم جيمس بكتّاب أميركيين مثل وولت ويتمان وهرمان ميلفل تمكن من أن يستهلّ ممارسة نقدية خارج متواصل الثقافة والتراث المفروضين عليه من النظام الاستعماري للتعليم. وبقراءته للكتاب الأميركيين خارج قالب الحضارة الأوربية، قدّمهم جيمس كوسطاء للديمقراطية الأميركية، وليس كوسطاء لتراث حيٍّ أو مستمر.

وبتقديمه لأوربا وأميركا كنقيضين، أحدث جيمس نقلةً رئيسيةً في المبادئ الأساسية للنقد في الفترة الاستعمارية المتأخرة. وتتجلى هذه النقلة في الانقسام في نقد جيمس. ففي مقالاته الرئيسية حول الكتاب الأميركيين، كان جيمس الكاهن الأعلى للمعيار. ذلك أن الأعمال لا معنى لها إلا إذا كان يمكن مصالحة الموهبة الفردية مع التراث. مثلاً، قال جيمس إن جميع التيارات التي ساهمتْ في صناعة شكسبير جُمعتْ معاً في “هاملت”؛ فالمسرحية بالنسبة له جمعت وجسدت الأفكار المحورية المتضمنة في الحداثة الأوربية (“ملاحظات”). بالمقابل، إن كاتباً أميركياً كميلفل كتب ضد توتاليتارية التراث وعمل، مثل الثقافة الشعبية الأميركية، “كالمفسّر الذي لا يمكن تجاوزه للعصر الذي نعيش فيه، لماضيه ومستقبله غير المؤكد” (بحارة). وصار جيمس يقرأ الأدب الأميركي كرمز لوضعية المنفى نفسها.

كيف نشرح الفرق في قراءات جيمس للنصوص الأوربية وللنصوص الأميركية؟ لماذا أُعجب جيمس، الذي يمتلك ثقافة وحساسية رفيعتين، بالثقافة الشعبية الأميركية؟ يمكن القول إنه بدأ في الخمسينيات يفرّق بين النقد كمشروع يعمل داخل التراث وكشكل من إنكار الذات، وهذه طريقة في التفسير بزغت في سيرورة مغادرة الأمكنة المألوفة.  وكانت أميركا مهمة له لأنها مثلت الآخر بطرق لم تستطع أوربا وأفريقيا تمثيله بها. وحين شاهد نفسه في مرآة هذا الآخر الأميركي، حُرِّر جيمس من إمبريالية التفسير. بالنسبة له، إن إنتاج النقد حول مؤلف أميركي سيصبح في النهاية حجر المغناطيس للحرية.

في 1948 أصدرت الولايات المتحدة قراراً لترحيل جيمس، الذي انخرط في أواخر الأربعينيات في سياسة راديكالية في منطقة ديترويت، ونشر أيضاً كتباً مهمة حول الحركة الثورية العالمية. وفي العامين التاليين أمضى جيمس جلّ وقته في جزيرة إيليس، أو خارجها بكفالة. إن جزيرة إيليس، المدخل الذي يُضرب به المثل إلى أميركا، صارت مؤشراً على انعدام الجنسية: “كنتُ غريباً، لا أمتلك حقوق إنسان. إذا لم أحبها أستطيع الرحيل. كيف أشخّص هذا بطريقة أخرى سوى أنه غير إنساني وبربري؟ وما هو أصله سوى ذلك الغرور القومي المفرط الذي يغزو العالم كطاعون؟” (بحّارة) وفيما يتحدث عن المنبوذين والمارقين المحتجزين بسبب مأزق قانوني، اختتم جيمس أن السجن في جزيرة إيليس إساءة “لأية شظية من الكبرياء القومية، وأي وعي للدور الذي تلعبه أميركا الآن، والذي يجب أن تلعبه في المستقبل المرئي للمجتمع، لأي إحساس بالتاريخ السابق للبلاد، وما تزعمه، وأيضاً ما تُختبر به في أعين مئات الملايين في أنحاء العالم”. ومن المفارقات، إن رد جيمس العنيف على ترحيله الوشيك حفّزه ضيمٌ ثقافيٌّ قوي: فبعد أن عرّف الولايات المتحدة كمصدر للطاقات الثقافية الجديدة في عصر ثقافة أوربية متراجعة، شعر أن المُثُلَ التي بنيتْ عليها أميركا قوّضتْها البربرية التي كان يشهدها في جزيرة إيليس.

كيف يستطيع جيمس أن يحتفي بمرجعية الحضارة الأميركية وفتنة ثقافتها الشعبية في وجه هذا الانحراف الراديكالي عن مُثُل الحرية؟ فاقمت هذا السؤال شروطُ أمر الترحيل. فقد رُحِّل جيمس ليس بسبب أفعاله بل بسبب كتاباته الثورية. وكان عنيداً بحيث أنه لم يكن هناك شيء في كتاباته من 1935 فصاعداً يمكن أن يحوّله ”إلى خطر حالي واضح يهدد سكان الولايات المتحدة“:

إن الكاتب الذي رفض طعني القضائي تريث عند كتبي…إن إساءتى الرئيسية هي أنني ألّفتُ كتباً من هذا النوع الذي كتبته. وأحتج ضد هذا كانتهاك لحقوق جميع المواطنين في الولايات المتحدة. إن الضباط التنفيذيين والسياسيين الأعلى مقاماً في الولايات المتحدة أنفسهم، أكدوا للشعب الأميركي والعالم المصغي أن الحملة على الشيوعيين ليست موجهة ضد حرية الاستقصاء الفكري، وليست موجهة ضد الاختلافات في الرأي. وقد كُرّر مراراً أن الحملة موجهة ضد مؤامرة كونية تهدف إلى القضاء على حريات الشعب الأميركي وتأسيس حكومة توتاليتارية بكافة الوسائل.

إذا كان هذا صحيحاً، إذاً أية اتهامات ضدي، وأية قرارات ضدي، يمكن أن تُبْنى فقط على وجهة النظر القائلة بأنني شخص يهدف، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى إنجاز ومساعدة، أو تشجيع هذه الفواحش الوحشية.

طرح جيمس هذه الحجة في نهاية كتابه بحارة ومارقون ومنبوذون: قصة هيرمان ميلفل و العالم الذي نعيش فيه، وهو كتاب محوريٌّ في النقد ألّفه في السجن في جزيرة إيليس. ويبيّن هذا الكتاب، الذي نُشر في نيويورك سنة 1953، اتقان جيمس ونقده للثقافة الأميركية؛ ميلفل هو مدخله إلى ذلك النقد. إن هدف النقد هو التماهي والانفصال. أدان جيمس، في قراءته لميلفل، أولئك الذين حددوا هويته كغريبٍ تتناقض أفكاره ووجوده مع القيم الأميركية. ما قاله للبيروقراطيين في قسم الهجرة والمواطنة  (ربما بشكل حاذق جداً) أنه هو، قارئ المعيار الأميركي، وليس هم، مطبّقو القوانين، هو المواطن الحقيقي للجمهورية. سيشكل النقد بلسماً لانعدام الجنسية المفروض. وسيعمل كإرادة الحرية البشرية وسط القيود. هكذا، عالقاً بين حلم جزيرة إيليس كموقع للحرية ووجودها كسجن، يعود جيمس إلى أعمال ميلفل كجسر بين الحرية والضرورة.

سايمون جيكاندي ناقد ومحاضر في جامعة برنستون.

المصدر: مجلة جمعية اللغة الحديثة الأميركية (PMLA)، أيار 2013

ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر

هوامش

1- كان هناك استثناءات على القاعدة. بالرغم من أن كتاب إيلين سكاري الجسد متألماً لا يتعامل بشكل مباشر مع الإبادة الجماعية، فهو تأمل قوي في العلاقة بين اللغة والعنف. إن حقوق الإنسان موضوع لكتب مهمة ألفها جوزف سلوتر وإليزابيث آنكر.

2- بالنسبة للمعاني الضمنية لمنفى أويرباخ فيما يتعلق ببزوغ الأدب المقارن كحقل للدراسة، انظر مقالات إميلي آبتر وعامر مفتي.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى