صفحات سورية

في منطق التضحية

 


طلال نجار

ماذا نقول إزاء الدماء ال تتدفق كل يوم، في سوريا وفي غيرها من البلدان العربية التي استيقظت شعوبها اليوم على معنى الحرية؟ كيف نجد المعنى وسط موت يبدو عبثياً إذ لا يوجد ضامن أنه سيقود إلى أي هدف؟ كيف نتعايش مع حقيقة أن إنساناً بكل بآماله وأحلامه، ينتهي لمجرد كلمة، ولمجرد أن يتابع اللصوص استبدادهم ونهبهم؟

وماذا يمكن أن نقدم لمن يقدمون أرواحهم كل يوم؟ ماذا لدينا نعطيه لمن يقدمون حياتهم دون طلب من أحد، ودون انتظار للتخليد والتمجيد. من الصعب أن نصدق أن التضحية تضيع هباء، أن طفلاً يقتل دون أن تهتز أركان السماء. ولكن أركان السماء ثابتة لا تهتز. لا تحركها مصرع ملايين الأطفال. كم من الأرواح إذن يجب أن تزهق، وكم من الشهداء يجب أن يقدم أي شعب قبل أن يصير للتضحية معنى؟ هل هناك حد للإكتفاء؟ وهل هناك عدد محدد من الأرواح التي قبل أن يتحقق ذلك العهد؟ ذلك أننا نعرف أن هناك منطقاً في مكان ما، قانوناً غير مكتوب يقول أنه لابد أن يكون للتضحية من مقابل؟

ما أسهل أن نقول “يمهل ولا يهمل”. وما أبسط أن نعلن أن التضحيات لن تذهب هباء، وأن الدماء التي تسيل اليوم تشكل تياراً يغير مجرى التاريخ. نعم، رأينا الكثير ممن ضحوا وانتصروا. رأينا دماء لم تضع هدراً، سفكت في سبيل إسقاط ظالم أو طرد محتل. ولكن لماذا لا نختار من دروس التاريخ إلا ما يعجبنا؟ لقد رأينا ملايين تباد دون نتيجة أو عقوبة أو انتقام، ورأينا أراضٍ تنهب ويباد سكانها الأصليون. من يصدق أنه في أميركا الجنوبية أبيد في بضعة عقود 80% من أصل ثلاثين مليوناً هم سكانها الأصليون، رغم أنهم آمنوا بحقهم ولم يبخلوا بالتضحية؟ كما قاوم الكثيرون في أميركا الشمالية، أصحاب الأرض الذين دافعوا عن وجودهم المهدد. كانوا شجعان ونبلاء. آمنوا وقاوموا واستشهدوا. دافعوا عن أرض أجدادهم التي استلبت منهم، فكان مصيرهم الإبادة إزاء صمت العالم، وتحولوا إلى معروضات في صالات المتاحف، وأفلاماً للتشويق والتسلية. هل من منطق وراء ذلك؟ هل وقف الله بجانب أهل الكتاب ضد الوثنيين الكفرة؟ ربما تكون هناك حكمة ما. ربما له أسبابه  التي لا نعرفها، والتي تفوق مستوى تفكير البشر. ربما نرى حل اللغز في النهاية كما يحدث في الروايات البوليسية. ولكن إلى أن يأتي ذلك اليوم، ليس لنا هذا العالم، الذي لا نستطيع أن نفهم شيئاً إلا في حدوده.

وفي عالمنا هذا قد نقول لأنفسنا أننا اليوم في عصر أفضل، أكثر عدلاً وحضارة، عصر ترن فيه كلمات سحرية لم تسمعها الملايين التي سحقت على مدار التاريخ. حقوق الإنسان. الديمقراطية. المجتمع الدولي. هل صارت الهمجية حقاً من مخلفات الماضي؟ يصعب أن نقنع أنفسنا بذلك. منذ زمن غير بعيد قتل في مذابح رواندا أكثر من 800 ألف شخص في ثلاثة أشهر. لا أدري إن كان البشر أقل همجية من الماضي، ولكنهم بدون شك أكثر تدميراً. يقول البعض أننا قد تعلمنا من هذه التجارب، وأن العالم يصير أفضل بعد كل مأساة، أن بربرية الماضي لن تتكرر، وأن تغيير التاريخ لا بد أن يسير خطوة خطوة.

وربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن يبقى السؤال. ماذا نفعل حيال من يقتلون أمامنا كل يوم؟ ماذا نقول لأهلهم، لأولادهم وزوجاتهم؟ أنتم خطوة في مشوار الألف ميل؟ برغي صغير في آلة جبارة؟ تضحياتكم ستؤتي ثمارها دون شك، ولو بعد سنوات طويلة، ولو على شكل عبرة وموعظة نتعلم منه أن لا نكرر أخطاء الماضي؟ أم نقول لهم أن أحباؤكم في جنات النعيم؟ ولكن ماذا عن الأرض؟ لقد ذهب أحبائهم إلى السماء لأنهم أرادوا أن يجعلوا الأرض مكاناً أفضل.

الحقيقة التي لابد أن نواجهها مهما حاولنا الإنكار، ومهما ابتكرنا من الحلول والمخارج، أنه لا ضمان في التضحية. ليس إلا المنافق أو خادع نفسه من يقف أمام من يبذل روحه في سبيل قضية ويؤكد له إن تضحيته لابد أن تحقق أهدافها، أو أن دمه سيثأر له ذات يوم. ومن قال أن الدماء لا تضيع هدراً؟ أسألوا التاريخ كم من الدماء سالت دون حساب. ربما بقيت معنا عبرة نعتبر بها، ولكن ذلك لم يكن هو الهدف. ليس هناك يضحي بنفسه ليصير درساً في التاريخ.

ولكن هل يبالي الشهداء بما نقوله لهم؟ أتراهم لا يقدمون حياتهم إلا إذا عرفوا النتيجة مسبقاً؟ لو أمكن حساب عاقبة التضحية لما كانت تضحية حقاً. والتاريخ يعلمنا أنه لا ضمان في التضحية، أنها، رغم كل ما تقوله الأناشيد الوطنية، قد لا تحقق التحرر وتبني الغد الأفضل. ولكن التاريخ يعلمنا أيضاً أن التضحية هي السبيل الوحيد. فليس من استبداد أو استعباد أزال نفسه من تلقاء نفسه، والظالم لا يغادر إلا مدحوراً. الدماء قد لا ترفع الظلم دائماً، ولكن الظلم لا يرتفع إلا بالدماء.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى