صفحات الرأي

في مواجهة الاستبداد فكرياً

 

كرم الحلو

ثمة شريحة من الكتاب لا تهادن، لا تساوم، لا تتنازل، ترفض الاستبداد أنى ساد، تنحاز للحرية أنى استبيحت، تنتصر للحق والعدل أنى هُددا. متميزة دائماً بموقف حازم، لا تستطيع أن تكون حيادية، ترى نفسها مؤتمنة على المجتمع والأمة والجماهير. لعل نصري الصايغ من هذه الشريحة من الكتاب. أفكاره وآراؤه قد تغضب الأصدقاء قبل الخصوم، ولكنها في كل الحالات تحرض على مراجعة المسلمات وإعادة التفكير في ما عد ثابتاً ونهائياً وفوق الشكوك، من أجل قراءة عقلانية مختلفة تتعمد «أن تحاكي العقل وأن تمس في الإنسان إحساسه ومشاعره» كما يقول الصايغ في مقدمة كتابه «مصارع الاستبداد» دار الفارابي، 2012 حيث جمع من مقالاته ما رأى أن له «حظ البقاء أكثر من زمنه اليومي».

في الثورة قال المؤلف بأسبقية الفعل على النص. التنظير نتيجة للحدث وليس سبباً. الثورة لحظة مفاجأة كبرى، الثورة التونسية لم يتوقعها ربابنة الأبحاث. مفاجأة مصر لم ترد في أحلام المثقفين والكتاب. الطريق ترسمه الخطوات، والتاريخ ليس تاريخ الأفكار بل تاريخ الأقدام. هكذا، ثورات الربيع العربي كانت بلا نظريات وفوق التوقعات، فالواقع أولاً والنص تالياً، الثورة بداية والنظرية تكتب بعدها لا قبلها. من هذا المنطلق رأى الصايغ أننا ظلمنا أهلنا بأستذتنا لأنهم لا يتلاءمون مع تجاربنا الفاشلة وكتبنا المهترئة نظرياً. أطعمناهم من يأسنا ومنعنا عنهم الحلم بالأمل، حتى جاءت اللحظة التي لم تكن في توقيت أحد. وكما فوجئت السلطة فوجئ العالم وفوجئنا، كتاباً ومثقفين. لكن، من حقنا أن نفرح بعدما عاقرتنا الهزائم، بل من حقنا أن نطير فرحاً لأن مصر بعد تونس سكبت في روحنا روحاً تنافس السماء بثورتها البهية.

يتحرى الصايغ سمات الديكتاتور في الأنظمة الاستبدادية العربية. هو فوق البشر وفوق الشعب وفوق المؤسسات وفوق المبادئ وفوق الإنسانية، منزه عن الخطأ، كامل فكراً وقولاً وممارسة. يكثر الحديث عن الشعب فيما هو يحتقره، يحاصره ويراقبه ولا يأمن جانبه، مستعيضاً عنه بزمرة عائلية أو حزبية. يتعامل معه كأنه مؤامرة دائمة، ويسهر على إنامته في كهف العجز والعطالة والانتظار. الديكتاتور العربي لا يشعر بأنه مدين لأحد: لا لربه، ولا لشعبه فهو أرفع منه رتباً، ولا لأعوانه فهم خدمه المطيعون. لا يستمد شرعيته من الدساتير والقوانين والأعراف والقيم، بل من خوف الشعب. ولأنه يخاف شعبه، يمارس القوة ضده، مسقطاً في ذلك كل القيم، ففي عرفه، الشجاع متآمر، الذكي عميل، الكاتب مأجور، الوطني خائن.

وإذا كان الغرب يغض الطرف عن ارتكابات أنظمة الاستبداد وانتهاكها لحقوق الإنسان، لأنه معني فقط بحرية السوق وقدسية السلعة، فإن للمثقف العربي الحقيقي دوراً يجب أن يمضي فيه إلى النهاية، بوقوفه مع الثورات العربية لأنها كحركة شعبية تكنس التاريخ من الأوساخ التي تراكمت عليه منذ مئات السنين. فالمثقف محكوم بمبدئيته التي يجب ألا يتنازل عنها مطلقاً. وهو من هنا ملزم بالعمل لإسقاط النظام الاستبدادي لمصلحة نظام ديموقراطي حقيقي يكون فيه الشعب، كل الشعب مصدر السلطة.

ولا يمكن المثقف العضوي الملتزم بمقاومة الاستبداد إلا أن يقف إلى جانب حرية المرأة التي يمثل انتهاكها الوجه الكالح للطغيان، ومن هذا المنطلق يدين الصايغ الإرث الذكوري الذي عرّض المرأة لأبشع أنواع الظلم. هذا الإرث لا علاقة له بالأديان، وقد حول المرأة ضحية للأب والزوج والأخ والابن، فلا سلطة للمرأة في مجتمع الأبوات، لقد تم سلب حواء مراراً. على هذا الأساس يرفض المؤلف إلزام المرأة بما لا يلتزم به الرجل، ففي رأيه كل من لا يساوي المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات هو من أهل التفسير ولو كان النص مبرماً.

ثمة مشروع ديموقراطي إذاً، يتطلع إليه المؤلف على خلفية الحراك الشعبي العتيد. هذا المشروع ينهض به «الشعب» الذي بدأ يحفر تضاريس عالم عربي جديد، تطيعه أنظمة وتسقط صاغرة، فلا أحد بعد اليوم قادر على تحويل البلاد إلى زرائب، والشعوب إلى قطعان حيوانات أليفة ومطيعة. والأمل في ذلك معقود على جيل الشباب الذي صنع المعجزة عندما كسر المستحيل المتراكم، وانطلق بكامل قبضته العارية ليقول للحاكم: ارحل. جيل الشباب هذا كان مؤمناً بالوطن والشعب والمستقبل. فالحرية لا دين لها، والخبز لا طائفة له، وواهم من يخاف من الثورة بحجة انتساب بعضها إلى حركات دينية، فبإمكان ثورة بتلوينات دينية أن تنجز معجزة الديموقراطية.

إثر قراءة «مصارع الاستبداد» يلازمنا إحساس عميق بانتماء المؤلف إلى ذلك الجيل من النهضويين الليبراليين الذين تطلعوا إلى إرساء المواطنية العلمانية القائمة على المساواة وحقوق الإنسان والمرأة، وعلى الحرية السياسية المؤسسة على عقد اجتماعي من دون تمييز أو تفريق. ويذكر اندفاعه وصياغته الحادة لمواقفه تلك وإيمانه المطلق بها، بأديب إسحق وعبدالرحمن الكواكبي وفرنسيس المراش. إلا أننا مع ذلك نتحفظ عن بعض آراء الصايغ، لا نوافقه في اعتقاده بـ «المفاجأة» في الانتفاضات العربية، فهي في رأينا قامت على خلفيات اجتماعية واقتصادية وسياسية كانت تؤسس لها وإن تم انفجارها في هذه اللحظة التاريخية بالذات. ولا نشاطره اعتقاده بحركة ثورية حقيقية من دون خلفية أيديولوجية ثورية تلهمها. كما نأخذ عليه طوباويته وإفراطه في التفاؤل بالمستقبل، وإيمانه التام بنزاهة وصفاء توجهات الانتفاضات العربية الراهنة، وقد سارع مسارها إلى الكشف عن ثغرات كبرى تهددها في الصميم. ولا يمكن بأي حال اعتبار هذه الانتفاضات انقلاباً فعلياً يؤسس بالكامل لتاريخ جديد وعالم جديد، أو النظر إليها بصفتهاً نموذجاً فريداً لا يرقى إليه نموذج ثوري سابق. لكن المؤلف استطاع على رغم ذلك، أن يحرضنا على التفكير والرفض والثورة والإيمان بالتغيير والمستقبل، وهذه بالذات مقدمات مصارع الاستبداد.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى