صفحات الرأي

 في مواجهة التطرف/ إبراهيم غرايبة

 

 

تبدو الإدارة الأمنية المتبعة في عمليات المواجهة مع المتطرفين على مستوى متقدم من الكفاءة، ولكنها مواجهة مع المتطرفين وليس التطرف. وفي الحديث عن الإدارة الثقافية المركزية يمكن ملاحظة الكثير من الإنجاز والكفاءة في الإنتاج والإنفاق الثقافي، ولكن يبدو واضحاً أن التطرف يزيد انتشاراً وتمكناً، وأن البيئة الاجتماعية والثقافية المحيطة بالتطرف هي بيئة متطرفة ومنفصلة عن الأداء الحكومي الثقافي لأنها سياسات تستهدف فئة من المثقفين أكثر مما تستهدف المجتمعات، ولا يشارك الناس في التخطيط والتفكير لها، ولا يلاحظون علاقتها بتحسين حياتهم وتنظيم علاقاتهم مع الدولة والأسواق أو في تمكين المجتمعات واستقلالها…

الدولة والمجتمعات في حاجة إلى إصلاح السياسات والقيم الحاكمة للأداء الحكومي والعلاقة بين الدولة والمجتمع والأسواق أكثر من الحاجة إلى الأداء الديني أو الثقافي للدولة. ففي ظل المواجهة القائمة اليوم مع المتطرفين والجهود المؤسسية الثقافية والاجتماعية تغيب المجتمعات وتفقد استقلالها وحريتها وروح المبادرة، ولا يعود ثمة فائدة واضحة أو مباشرة لكل تلك الإنجازات الثقافية والفنية الجميلة، بل إنها قد تعمل ضد أهدافها المفترضة، وتدفع الأفراد والمجتمعات إلى التحالف مع المتطرفين. فالمجتمعات تتجه بوعي غامض قد لا تدركه أو لا تريد الاعتراف به الى التحالفات والمواقف التي تحميها من تغول الدولة وتسلطها حتى وإن كانت تحالفات غير عقلانية أو غير مفهومة للسلطات التي تظن نفسها تعمل للمجتمعات بسخاء وإخلاص… ولكنها تتحرك تلقائياً نحو ما تظنه يمنحها الكرامة والتمكين.

مواجهة التطرف تحتاج إلى حياد الدولة في تنظيم الشأن الديني أكثر من الحاجة إلى برامج الدعوة الى الاعتدال وتمكين المعتدلين من السيطرة على المساجد والتعليم الديني، فالاعتدال لا يحققه موظفون دينيون معتدلون إن وجدوا، ولكنه يتشكل في منظومة من تفاعل المجتمع وحراكه وولايته على الشأن الديني، ولا يلغي ذلك بالطبع الدور السيادي للدولة والقضاء وبسط القانون.

ويفترض أن تنشط تبعاً لذلك تيارات دينية واجتماعية، ويمكن للسلطة هنا أن تقوم بالإضافة إلى تطبيق القانون في تيسير عمل التيار المعتدل والتنويري، فالدولة يمكن أن تساعد المعتدلين في المجتمع لكنها لا تستطيع ان تنشئهم ولا تستطيع أن تفرض الاعتدال والتنوير بالسلطة والهيمنة فهي في ذلك تقوم بدور سلطوي مفرط يتناقض مع فلسفة الاعتدال والتنوير.

ولكن تستطيع السلطة السياسية أن تقوم بدور مركزي بالغ الأهمية إذا ردت الاعتبار للفلسفة والإبداع والثقافة والفنون في المدارس والجامعات وفي المؤسسات العامة والرسمية والتوظيف والترقية، وأن تولي اهتماماً كبيراً ومركزياً لبرامج خدمة المجتمع التطوعية في التنمية والثقافة والفنون والمساعدة وزيادة الاهتمام الاجتماعي والصحي بالأطفال والمعوقين وكبار السن وبرامج وأفكار التماسك والضمان الاجتماعي، وتشجيع برامج الحوار المجتمعية والمكانية في المدن والأحياء حول القضايا والأحداث التي تؤثر في حياة الناس، فالسلطة في ذلك تساعد على تكريس تضامن وتماسك اجتماعيين ومواجه حالات الهشاشة وضعف المناعة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وترفع كفاءة وسوية الأفراد والمجتمعات وقدرتها على المشاركة الاقتصادية والاجتماعية.

وبوضوح وبساطة فإن التطرف والخواء والأزمات الروحية ليست سوى هشاشة اجتماعية واقتصادية، ليس لأنها كذلك في الواقع ولكن لأن المناعة من التطرف لا يمكن بناؤها من غير تماسك وارتقاء اجتماعي اقتصادي.

* كاتب أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى