رشا عمرانصفحات مميزة

في ميوعة اللاموقف… سورياً/ رشا عمران

 

 

لا شيء يمكنه أن يصيب بالخيبة والخذلان، في ما يتعلق بالوضع السوري، أكثر من المثقفين السوريين الذين صمتوا، منذ أول لحظة لانطلاق الحراك في سوق الحميدية في قلب دمشق ثم تحوله إلى انتفاضة مع دخول درعا على خط الحراك، ثم إلى ثورة مع امتداد الانتفاضة إلى مدن وبلدات وقرى سوريّة في مختلف مناطق سورية. صَمت هؤلاء المثقفون تماماً، ولم يسمع عنهم أي موقف، لا مؤيد ولا معارض، ولا مساند ولا مناهض، وكأن الأمر لا يعنيهم أبداً، وكأن هذا الحدث الكبير، والاستثنائي في التاريخ السوري، يحدث في عالم آخر وبلد آخر، لا يعرفونه ولا يمتون له بصلة، لا بأس. ثمة، أحياناً، نكوص نفسي تسببه الأحداث المفاجئة وغير المتوقعة، حدث الثورة السورية منها، يمكن لفرط إدهاشه أن يسبب نكوصاً كهذا، ويمكن فهم نكوص المفاجئين به، فالجميع من دون استثناء أصيبوا بالدهشة والذهول، ومن الطبيعي أن تختلف ردات الفعل على شيء كهذا بين شخص وآخر، أو بين مجموعة بشرية وأخرى، تبعاً للتركيبة النفسية الشخصية، أو تبعاً للتراكم الجيوتاريخي والجيواقتصادي الذي يميز مجموعة بشرية عن أخرى، في قلب مجتمع لا منسجم، كالمجتمع السوري. لكن، ذلك المشهد المدهش سرعان ما تحول من مشهد خيالي، لا يمكن فهم ما يتركه من تغيير نفسي ومعرفي كبير وعميق، إلا لمن عاشه وانخرط في وسطه، وراقب الشحنات السلبية الهائلة للخوف المتراكم، وهي تخرج من الحناجر الكثيرة، لتصبح مجرد ذرات تتطاير في الهواء، دونما عودة، إلى مشهد واقعي، له لون ورائحة نفاذة أصابت الجميع، إذ لا توجد مخيلة حول الدم، الدم علني وواضح وصريح. ومن لم يره، أو لم يشتم رائحته، كان مصاباً بفقدان حاسته الإنسانية.

بعض المثقفين السوريين هم من هؤلاء المصابين بفقدان الحاسة الإنسانية، فإن كان مبرراً صمتهم عن الحدث الأول بذريعة عدم التصديق والتأمل، فإن استمرار صمتهم لحظة تحول الدم السوري إلى مشهد عادي في الشوارع السورية، وعلى الفضائيات، وفي الشريط الأحمر السريع في نشرات الأخبار، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، وفي الأحاديث اليومية، لا يمكن تبريره أبداً، هو صمت اللاموقف، صمت الميوعة النفسية والفكرية، صمت الحيادية من حدث ستمس نتائجه، مهما كانت، إيجابية أم سلبية، كل ذرة في الكيان السوري. لا شيء يعادل بشاعة وقرف الحياد واللاموقف في حدث مصيري كهذا، الانحياز لأي جهة هو موقف، وموقف جريء، لأن صاحبه غير معني بانعكاس نتائج موقفه عليه، مستقبلاً، هو وقف مع ما يعتقد أنه الصواب، مع ما يناسب رؤيته، المعيار القيمي الأخلاقي نحو الحدث هنا شيء آخر. الموقف بما يعنيه من انتماء هو المهم، الانتماء الذي يعني إلايمان بالمكان، مهما كانت الطريقة التي يرى بها أحدهم هذا المكان، حتى لو جعل منه الانتماء قاتلاً، أما اللاموقف، أو الحياد، ففيه تعال فارغ على المكان الذي يحدث فيه الحدث، وفيه انتهازية مشبعة، إضافة إلى الميوعة التي لا تشم سوى رائحة ذاتها. لهذا، لم يحفل أصحابه بالدم، ولم يتبنوه بموقف أخلاقي إنساني قبل السياسي، ولم يشدوا على اليد التي أسالته، اعتقدوا أنهم ينأون بأنفسهم عن التلوث به، لكنهم تلوثوا بما هو أسوأ منه: الصمت يوم كان للصوت قدرة على التغيير، والدفع بالحدث نحو مساره المستقبلي المفتوح والمضاء. والتجاهل: وقت كانت الرؤية ضرورة وطنية وأخلاقية للتوثيق، كي لا تضيع الحقيقة.

يدرك المثقفون السوريون، المنحازون لنظرية الثورة أو لنظرية المؤامرة، أن ما آلت إليه الأمور في سورية هو الحرب، وأن ما يحدث، الآن، هو حرب يدخل فيها العالم، بأسره، بفساد أنظمته وارتباطاتها، وبشركات أسلحته ومافياتها، وباستعداد مرتزقته لتنفيذ أوامر ممولي حرب كهذه. يدرك الاثنان أن لا اسم آخر لما يحدث الآن في سورية سوى الحرب، ويتعاملان مع معطياتها ونتائجها، من منطلق هذه التسمية، وإن اختلف الهدف والغاية والمأمول، وهو سياق طبيعي لكلا الموقفين منذ ما يقارب الأربع سنوات، أما غير الطبيعي وغير الأخلاقي وغير الإنساني أن يُسمع، الآن، صوت المثقفين الصامتين واللامبالين والحياديين، طوال نحو الأربع سنوات، ليدل بعضهم على الحرب، وعلى اكتشافهم (المدهش) لها، وعلى عدم جواز نعتها بالثورة، بينما يكتشف بعضهم الآخر، فجأة، قدرته على الحلم الثوري الرومانسي، ويصر على تسمية ما يحدث بالثورة التي ستخلصه من أعدائه، وتبني له دولة الخلافة أو الدولة المدنية أو دولة اليوتوبيا، وهو يتأمل في الطبيعة الأوروبية، المقابلة لمنزله، أو يخفف حدة التكييف في الإستديو الفاخر، حيث يعيش. يختلف الاثنان الأخيران بشأن تسمية ما يحدث الآن في سورية، بعد تجاهلهما الكامل كل ما أدى إلى هذه الحالة. يختلفان وكأن التسمية مهنة كُلّفا بالعمل بها معاً، وكأنها تعيد الموتى الكثيرين من قبورهم، والمغيّبين من غيابهم، والمدن المدمرة من أنقاضها، والمتوحشين المنتشرين في سورية من توحشهم، والسكاكين المسنونة من رقاب ضحاياها والبراميل المتفجرة من سقوطها. يختلفان حول التسمية، الآن، بينما لا يجرؤان على النظر إلى الخلف، ولو من باب الفضول، لاكتشاف ما أوصل الوضع السوري إلى التسميات التي يقترحانها، والتي استعاراها من دون خجل من سرديات السنوات الثلاث الماضية، من دون أن يكون لهما أي ذكر فيها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى