ديمة ونوسصفحات الناس

في وداع “أبو وليم”.. وزمن الثورة الجميل/ ديمة ونوس

 

 

 

في الستينات من عمره. شعره الكثيف ناصع البياض، كأنه يقين. يجلس على كنبة خضراء مسترخياً. يضع ساقاً فوق الأخرى. إلى جانب الكنبة طاولة صغيرة، يتدلّى فوقها غطاء مطرّز. فنجان قهوة ومنفضة سجائر. “العم أبو وليم”، يمسك السيجارة بين أصابعه ويتأمل الشارع برضا وكأن تلك اللحظات هاربة من حلم جميل. أبو وليم نجا من الموت قبل عامين عندما أصيب بيته بقذيفة أزالت الجدار الذي يفصل الصالون عن الفضاء الخارجي في حي بستان الديوان. “بيتي مهدوم، قدرة قادر ما بتصلحه”، يقول في إحدى التسجيلات التي بثها نشطاء عبر “يوتيوب”. “الجيش السوري دمّر لي بيتي. ومن غيره يملك الصواريخ!”.

ذلك الدمار المهين الذي عرّى بيته، لم يدفعه للانكفاء، كأنه يريد تكريس اللحظة التي دمّرت حياته. بقي جالساً حيث كان، يبدّل ثيابه فيظهر مرة بالبيجاما ومرة بملابس رسمية وأنيقة، يدخّن في كل الصور التي التقطت له، وإلى جانبه فنجان قهوة أو شاي، ينظر إلى الشارع نظرة لا مبالية وعادية، كأنه يجلس في الشرفة ساعة المغيب. يدعو المارّين للصعود إليه ومشاركته تلك الجلسة. سألوه في الفيديو القصير ما إذا كان ينوي ترك البيت. قال: “ما طالع إلا إلى القبر”.

سعيد مسلم عنيني (أبو وليم)، توفي قبل أسابيع وسمعنا بخبر وفاته متأخراً. لا نعرف كيف مات. هل كان جالساً على تلك الكنبة الخضراء عندما توقف قلبه عن الخفقان؟

ليس أبو وليم مجرّد رجل ستيني جلس على حافة البيت. إنه رمز من رموز الثورة السورية. تلك الرموز التي تتساقط واحدة بعد الأخرى أمام صمت ثقيل وإحساس بالعجز والمرارة. لم تمرّ السنوات الثلاث الماضية، بزمنها الطبيعي. كثيفة كانت ومترعة بكل أنواع الفظائع والمشاعر والاضطراب. كأنها ثلاثون عاماً. فصارت السنة ونصف السنة تاريخاً، يصفه كثيرون بالزمن الجميل للثورة. ورموز ذلك الزمن الجميل آخذة بالانطفاء بالموازاة مع جرائم النظام المستمرّة وظهور “داعش” وتمدّدها. غياث مطر وما يحمله من رمز لسلمية الثورة، قتل. الطفل حمزة الخطيب وتلك الابتسامة الوديعة التي لم ينتزعها الموت من مخيلة الثورة. الأب باولو، وما يمثله من ثورة مخطوفة. محامي المعتقلين والمدافع عن حقوقهم المدنية، الجميل خليل معتوق لا يزال مجهول المصير. عبد العزيز الخيّر أيضاً طال اختفاؤه. زكي كورديللو. الرائعة فدوى سليمان، قاومت حتى النفس الأخير وغادرت إلى فرنسا حيث تعيش عزلة. نسأل عن أحوالها ونفرح عندما نعلم أنها بخير. ابراهيم القاشوش، “حنجرة الثورة”، قتل بأشنع طرق القتل. عبد الباسط الساروت، حكى لنا بعد خروجه من حمص عن “جوع كافر” عاشوه تحت الحصار وعن ضياع محزن وأحكام مسبقة وتنميط للآخر العلوي أو الشيعي. حكى لنا عن نيته الالتحاق بـ”جبهة النصرة” و”داعش”. ما لم يقله هو عدم وجود أي خيار آخر. رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم الحمادي ووائل حمادة، ما زالوا غائبين أيضاً. باسل شحادة رحل. مشعل تمّو. مي سكاف اضطرت إلى الرحيل بعد استدعاءات متكرّرة وتهديدات بالتصفية حملتها على الخروج. وأشخاص آخرون كثر، كانوا رموزاً، حاملاً فكرياً وفنياً لـ”ثورة يتيمة”، كما وصفها المثقف والمفكر السوري فاروق مردم بيك.

مات من مات وقتل من قتل واعتقل من اعتقل وخطف من خطف وهاجر من هاجر والثورة مستمرة، لكنها لم تعد تنتمي إلى الزمن الجميل. تبدلّت حكاياتها وأغانيها وهتافاتها والأسلحة الموجهة ضدها. انتهى الزمن الجميل، والحنين إلى دبابة واقفة على مدخل البيت، هو حنين ينمّ عن قهر لعين. لأن الدبابة لم تعد واقفة على باب العمارة بل مكانها بعدما سوّيت بالأرض جراء القصف. ولا نعرف إن كان باستطاعة من لا يزال مصراً على البقاء والمقاومة، ابتداع زمن أجمل. هل ما زال ثمة قاشوش قادراً على الغناء وغياث مطر يحمل وروداً لجيش مجرم وساروت يمثل الأكثرية الشعبية المطالبة بالحرية بعيداً من أي شعار طائفي؟ هل ما زال في سوريا، فدوى سليمان تحملها أكتاف شباب الثورة وهي تغني للحرية؟ وأبو وليم، هل ما زال يمتلك بيتاً منزوع الجدار فقط؟

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى