سمر يزبكصفحات مميزة

في وداع ابراهيم


سمر يزبك

هكذا لا أريد أن تختلط علي الصورة. أغمض عينيّ وأراه كما في آخر مرة، ضاحكاً متقداً.

صورته ممدداً بآناة. ساكناً، أنيقاً كما كان في حياته.

لا أريد أن أذكره كما يفعل المُفارق. الصورة حمّالة أوجه، وربما استاء قليلاً، أو شعر بإحراج خفي، وهو ممدد بكامل عري الموت.

في اللقاء الأول عندما قال: مرحبا. كانت صديقة تجلس معنا، بدا هفهافاً، أنا سألت نفسي: من هذا الشاب الأنيق الوسيم الذي يريد أن يزج نفسه في الانتفاضة؟ دقائق، وعرفت السبب؛ إنه الشغف بإحساس التعاطف، ثم تلك الغلالة الآسرة لاجتماع ضدين: الرهافة والقوة.

الصورة تقول أنه كان نائماً: نم يا صديقي على تراب يشبهك.

ينام بعمق لولا الأحمر الأرعن فوق صدره، لأول مرة أكره اللون الأحمر. الصورة تجعل صوته المتلعثم حاضرا الآن، وهو يحدثني عن فكرة انشاء تنسيقية للأطباء لإعانة الناس وإغاثة الجرجى. كان يقول إنه بحاجة لدعم من باقي الأطباء، وأنه يريد أن يكتب بياناً مؤسساً للتنسيقة، وهذا البيان سيكون بمثابة اعلان لتجميع الجهود كافة من أجل مساعدة الناس العزل، الذين يقتلون برصاص النظام الأسدي. يومها فكرت بأمه، لو كان عندي ولد مثله لخفت عليه وهو يتحدث ويحرك يديه، متحمسا ومنفعلا ومتألماً.

لا أبالغ الآن.

لا أكتب عن شخصية في رواية تكون مثالاً محتذى للأخلاق النبيلة والرفيعة، ممزوجة بدماثة لا حدود لها، أنا أكتب لكم عن شاب سوري، طبيب يشتعل بالحماس والذكاء، التقيته عدة مرات قبل خروجي من سوريا، ومن ثم رأيت صورته ملقاة في الشبكة الافتراضية أمامي، ورغم أني ابحث في كل يوم، عن صور أصدقائي الشباب الناشطين والناشطات في الانتفاضة، وأتابع أخبارهم بقلق، وأخاف عليهم من الاعتقال أو التصفية إلا أنه لم يخطر في بالي، أن ابراهيم سيكون يوماً بينهم، ليس لأنه عصيّ على الموت، بل لأنه أكثر جمالا من الموت.

شاب أكثر جمالاً من التوقف عن العيش.

ستحسد الشابات الموت عليه، وسوف يذكره السوريين لسنين قادمة، بتلك الرهافة المعهودة، والحسرة الدفينة، لذكرى احتراق فراشة بألف جناح.

في اللقاء الأخير، كان اختفى ابراهيم فيها لفترة، قال أن الإنجاز الذي حققوه لم يكن على مستوى التطلعات التي يرمي إليها، رغم أن تنسيقية الأطباء انطلقت، وكان حقق الكثير من المساعدات، و أشرف على عدة مشافي ميدانية سرية، كان يقول أنه لايفهم كيف يتم قتل الجرحى،ويتابع بغصة، أنه بحاجة للعديد من الأطباء حوله، في ذلك الوقت كان الكثير من أطباء وطبيبات دمشق الذين لايعرفهم ابراهيم يجتمعون ويشكلون كوادر مهمة لاسعاف الجرحى في مناطق الاحتجاج، خاصة في ريف دمشق، كانت مهمتي مع ابراهيم وصله بهؤلاء الأطباء، في احدى مقاهي دمشق جلسنا، طلبت منه أن نتبعد عن الأعين، ضحك وقال: مستحيل يشكوا فينا، شوفي ما أحلانا. وأنا ضحكت، ضحكت من قلبي. لأني فهمت أنه يريد انتزاع القلق مني. يومها تحدث مطولا عن خطته في العمل، وكان أهم ما في تلك الخطة أنه بحاجة لكوادر طبية، ومعونات، ووسائل إعلام. احدى الطبيبات بعد اشتغلت معه، قالت لي: هكذا أحلم بشباب سوريا بعد سقوط النظام.

ابراهيم أحد الشباب الذين أعادوا لي ثقتي بالإنسان الذي حلمت به، بعد أن كنت ظننت أن النظام القاتل استطاع تخريب الإنسان بداخلنا، وأفقدنا حس التعاطف والمؤازرة، هو واحد من كثيرين في الانتفاضة، اكتشفت نفسي معهم مرة جديدة وتغيرت، هو وأمثاله ومثيلاته، غيروا جلدي وقلبي، تعلمت من ابراهيم وأصدقائه كيف يصير العصفور رصاصة، رصاصة ترد رصاصة، ثم تطير بجناحين من تعب حتى لاتسقط فوق الرؤوس.

سنلاحق قاتلك ابراهيم، سنلاحقهم جميعاً، كان لك شباب غض، وأيام سعيدة، وأطفال يلعبون بلحيتك، وتضحك لهم، فيفترّ ثغرك عن ابتسامة تلهيهم عن البكاء. كان لك هناءات قادمة سرقت منك.

لم يقتلك القتلة أنت، لقد قتلوا المعنى فيك. قتلوا ما يريد الشباب السوري، أن يصيروا إليه.

أنت الجميل ستبقى، وسيخبر عنك قصب الريح من الآن، وإلى آبد الآبدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى