صفحات الرأي

في وداع “ايهاب حسن” مقالات مختارة

 

شارك في صياغة مفاهيم «ما بعد الحداثة» واستكشف آدابها: رحيل الناقد المصري ـ الأمريكي إيهاب حسن/ صبحي حديدي

رحل مؤخراً، في ميلوكي، ولاية وسكنسن الأمريكية، الناقد المصري ـ الأمريكي إيهاب حسن (1925 ـ 2015)، إثر عارض في القلب. لافت، بادئ ذي بدء، أنّ خبر رحيله مرّ في غمرة تجاهل غريب ومريب، من جانب وسائل الإعلام الأمريكية، والأنغلو ـ سكسونية عموماً؛ على الرغم من الأهمية الفائقة التي اتصفت بها تنظيراته المعمقة، حول آداب ما بعد الحداثة بصفة خاصة.

وكان إيهاب حبيب حسن، الذي ولد في القاهرة وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1946، قد اختار تدريس الأدب بعد أن تخلى عن الهندسة، اختصاصه الدراسي الأصلي؛ وسرعان ما احتل موقعاً متميزاً، سواء على الصعيد الأكاديمي الأمريكي والعالمي (حاضر في قارات العالم الخمس)، أو على صعيد النظرية والدراسات النقدية. ومنذ عام 1961، تاريخ صدور كتابه الأول «البراءة الراديكالية: دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة»، أجرى حسن سلسلة تنويعات على مبدأ نقدي متماثل يرى أن السمة المركزية في الأدب الحديث (أو «ما بعد الحديث» في الواقع) هي العدمية الراديكالية في مسائل الفنّ والشكل واللغة. هذا، في عبارة حسن المألوفة، هو «أدب الصمت» الذي يدور حول نفسه، وينقلب على نفسه، لكي يعلن «الرفض التام للتاريخ الغربي، ولصورة الإنسان كمقياس للأشياء جمعاء». وفي هذا السبيل ذاته، أصدر حسن كتابه الثاني «أدب الصمت: هنري ميللر وصموئيل بيكيت»، ثم أعقبه بكتابه الأشهر ربما: «تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي» 1971.

ولقد حاول حسن تقديم «تخطيط مدرسي توجيهي وتجريبي» لظاهرة ما بعد الحداثة، واجتهد في توسيع نطاق هذا التخطيط المقارن مع الحداثة، فرسم موشوراً عريضاً من الأسماء والتيارات والأساليب… لكي يتجنّب ــ على الأرجح ــ المهمة العسيرة التالية، المتمثلة في «اعتصار» تعريف ما، لظاهرة كان بين أوائل من تلمّس تجلّياتها في الرواية بصفة خاصة، وفي ما سماه «أدب الصمت» الغربي بصفة أعمّ (النزاهة التاريخية تقتضي التذكير بأن جان ـ فرانسوا ليوتار، الذي يتفق الكثيرون على اعتباره فيلسوف ما بعد الحداثة الأول، كان قد اعتمد على أعمال حسن في إقامة معظم دليله الثقافي).

والكثيرون، قبل حسن وبعده، بذلوا محاولات مماثلة لا تقلّ نزاهة ومشقة وحيرة، ولا تخرج في الجوهر عن المعيار الذي يطرحه الرجل في صدر مقالته الشهيرة «نحو مفهوم لـ ما بعد الحداثة»(1)، على هيئة تساؤل أقرب إلى علامة تعجّب: «هل في وسعنا حقاً أن نتصوّر ظاهرة، تعمّ المجتمعات الغربية إجمالاً وآدابها خصوصاً، تحتاج إلى ما يميّزها عن الحداثة، وتحتاج إلى تسمية»؟ ولكنّ مقالة حسن انفردت عن كثير من سواها في منهجية التصدّي للمفهوم، أو محاولة الذهاب «نحو» المفهوم. هذه واحدة من فضائلها الكثيرة، ولكنها مثل العشرات سواها تظلّ أسيرة اللائحة المعتادة من المشكلات التي خيّمت وتخيّم على نقاش المفهوم، في الأدب والفنّ والعمارة والفلسفة والاقتصاد السياسي.

كذلك انفردت المقالة في محاولة معالجة المشكلات المفهومية التي تكتنف وتكوّن مسائل ما بعد الحداثة ذاتها، عن طريق «عزل» عشرٍ من هذه المشكلات، بدءاً من أبسطها، وانتهاءً بأكثرها عسراً. وهنا لائحة حسن، كما أوردها بصفة شبه حرفية:

1 ـ كلمة ما بعد الحداثة لا تبدو خرقاء فحسب، بل هي توحي بما ترغب في تجاوزه أو قمعه، أي الحداثة نفسها. وبذلك فإن المصطلح يحتوي على عدوّه الداخلي، وهو ليس حال مصطلحات مثل الرومانسية أو الكلاسيكية أو الباروك أو الروكوكو. فوق ذلك، يوحي المصطلح بالخَطّية الزمنية ويستثير معنى التأخّر عن الزمن، وربما التآكل، الذي لا يقرّه أيّ منتمٍ إلى التيارات ما بعد الحداثية. ولكن، هل هنالك اسم أفضل نطلقه على هذا العصر العجيب؟ عصر الذرّة، أو غزو الفضاء، أو التلفزة؟

2 ـ مثل سواه من المصطلحات غير المقيّدة ــ ومنها ما بعد البنيوية، أو الحداثة، أو الرومانسية بهذا الصدد ــ يعاني مصطلح ما بعد الحداثة من بعض اللااستقرار الدلالي: أي أنه لا يوجد إجماع واضح بين الباحثين حول معناه. والصعوبة العامّة تتداخل هنا مع عاملَيْن: 1) الشباب النسبي، أو بالأحرى الرَشَد الهشّ، للمصطلح؛ و2) قرابته الدلالية مع مصطلحات أكثر راهنية، غير مستقرة بدورها. وهكذا فإن بعض النقاد يعنون بما بعد الحداثة ما يعنيه آخرون عند الحديث عن الطليعية أو حتى الطليعية الجديدة، في حين أن البعض يواصل إطلاق اسم الحداثة على الظاهرة ذاتها.

3 ـ ترتبط بذلك صعوبة أخرى خاصة باللااستقرار التاريخي للعديد من المفاهيم الأدبية، وقابليتها المفتوحة للتغيير. وفي هذه الحقبة من استشراس سوء الفهم، من يجرؤ على الزعم أن أضراب كولريدج، وأبرامز، وبيكهام، وبلوم فهموا الرومانتيكية بالطريقة ذاتها؟ وهنالك اليوم بعض الدليل على أن ما بعد الحداثة، ثم الحداثة أكثر فأكثر، أخذت تنزلق وتنحدر في الزمن، مهددة بجعل أي تمييز تفريقي بينهما أمراً ميئوساً منه.

4 ـ لا يوجد ستار حديدي أو سور صيني للفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة، لأن التاريخ لوح أردواز، والثقافة مُنْفِذة للزمن الماضي، وللحاضر وللزمن المستقبلي. ويشكّ حسن في أننا جميعاً فكتوريون بعض الشيء، وحديثون بعض الشيء، وما بعد حداثيين بعض الشيء… في آن معاً. ولعلّ في وسع المؤلف أن يكتب عملاً حداثياً وما بعد حداثي (كما في عملَي جويس «صورة الفنان في شبابه» و»يقظة فينيغانز»). وبصورة أعمّ، وعلى مستوى معين من التجريد السردي، قد تجوز الملاءمة بين الحداثة والرومانتيكية، وقد ترتبط الرومانتيكية بعصر الأنوار، وهذا الأخير بعصر النهضة، وهكذا إلى زمن سالف بعيد.

5 ـ ذلك يعني أن «الفترة»، وضمن هذا المعنى، ينبغى أن تُدرك في مستوى التواصل ومستوى اللاتواصل، حيث يكون المنظوران تكميليين وجزئيين معاً. الرؤية الأبولونية، الطوّافة والمجردة، لا تدرك سوى التزامنات التاريخية. والإحساس الديونيسي، الحسّي رغم أنه شبه متبلّد، لا يلمس سوى البرهة المفارقة. وهكذا فإن ما بعد الحداثة تنخرط في رؤية مزدوجة ضمن إيحائها باثنين من المقدّسات. التشابه والاختلاف، الوحدة والانقطاع، الانضواء والثورة… كل هذه يتوجب تكريمها إذا توجّب الانتباه إلى التاريخ، واستكناه (وإدراك، وفهم) التغيير بوصفه بنية مكانية وذهنية مثلما هو سيرورة زمنية فيزيائية، كنَسَق وحَدَث فريد.

6 ـ «الفترة» عموماً ليست فترة على الإطلاق، إنها بالأحرى إنشاء آنيّ وزماني. وما بعد الحداثة ليست استثناء، مثلها مثل الحداثة أو الرومانتيكية كما سلف القول: إنها تتطلّب تعريفاً تاريخياً ونظرياً على حدّ سواء. وليس في وسعنا أن نزعم على نحو جدّي وجود تاريخ «افتتاحي» لها كما تحمست فرجينيا وولف وفعلت في حالة الحداثة. وبذلك فإننا نكتشف «سوابق» لما بعد الحداثة ـ عند أمثال [لورانس] ستيرن، دوساد، بليك، لوتريامون، رامبو، تزارا، هوفمانشتال، جرترود شتاين، جويس المتأخر، باوند المتأخر، دوشامب، أرتو، باتاي، بروخ، وكافكا. ما يعنيه ذلك هو أننا خلقنا في أذهاننا أنموذجاً لما بعد الحداثة، وتيبولوجية للثقافة والمخيّلة، وانتقلنا بعدئذ من أجل «إعادة اكتشاف» القرابات بين مختلف المؤلفين ومختلف العهود، استناداً إلى ذلك الأنموذج. بمعنى آخر، لقد أعدنا اختراع أسلافنا، ولسوف نفعل ذلك على الدوام. استطراداً، يمكن للمؤلفين «الشيوخ» أن يكونوا ما بعد حداثيين ــ مثل كافكا، بيكيت، بورخيس، نابوكوف، غومبروفيش ــ بينما لا يحتاج إلى ذلك المؤلفون «الأحدث سنّاً»: ستيرون، أبدايك، كابوت، إرفنغ، دوكتوروف، غاردنر.

7 ـ استطراداً، يستدعي أي تعريف لما بعد الحداثة رؤية رباعية الأطراف من المكمّلات، واعتناق التواصل واللاتواصل، والزمنية، والآنية. ولكن أي تعريف للمفهوم يقتضي الرؤية الجدلية أيضاً، لأن تعريف القَسَمات يظلّ تضادياً، وإهمال هذا الاتجاه نحو الواقع التاريخي هو انحدار إلى الرؤية الأحادية ونحو رقاد نيوتن. تعريف القسمات جدلي وتعدّدي أيضاً، واختيار واحدة من القسمات بوصفها معياراً مطلقاً لنعمة ما بعد الحداثة يفضي إلى وضع جميع الكتّاب الآخرين في غيهب الماضي.

8 ـ ذلك كله يقود إلى المشكلة الابتدائية حول التحقيب ذاته، وهي أيضاً مشكلة التاريخ الأدبي في حالة إدراكه كاكتناه معيّن للتغيير. والحق أن مفهوم ما بعد الحداثة يتضمن نظرية ما حول الابتكار، وإعادة الابتكار، والتجديد، أو التغيير ببساطة. ولكن أيّ نوع؟ هيراقليطي؟ داروني؟ ماركسي؟ فرويدي؟ كوهني Kuhnian؟ دريدائي؟ اصطفائي؟ أم أن «نظرية التغيير» ذاتها هي جماع متناقضات تُفصّل لكي تناسب أفضل أحوال المبشّرين الإيديولوجيين المعادين لالتباسات الزمان؟ هل يتوجب بالتالي ترك ما بعد الحداثة ــ في الآونة الراهنة على الأقل ــ غير مصاغة في مفهوم، ونوعاً من «الفارق» أو «الأثر» الأدبي ـ التاريخي؟

9 ـ ما بعد الحداثة يمكن أن تتوسع لتصبح مشكلة أعرض: أهي مجرّد اتجاه فنّي أم هي ظاهرة اجتماعية أيضاً، وربما برهة تبدّل في النزعة الإنسية الغربية بأسرها؟ وإذا كانت هذه هي الحال، كيف حدث أن توحّدت أو تفرقت جميع جوانب هذه الظاهرة، السيكولوجية والفلسفية والاقتصادية والسياسية؟ باختصار، هل نستطيع فهم ما بعد الحداثة في الأدب دون بذل بعض المحاولة لإدراك ملامح المجتمع ما بعد الحديث، وما بعد الحديث بالمعنى الذي جاء عند أرنولد توينبي، أو الحصيلة المعرفية للمستقبل بالمعنى الذي أشاعه ميشيل فوكو، حيث يكون الاتجاه الأدبي الذي أناقشه مجرّد ضَرْب وحيد نخبوي؟

10ـ وأخيراً، ولكن ليس آخر الآلام، هل ما بعد الحداثة مصطلح مشرّف يستخدم في سياق الانجرار وراء امتداح الكتّاب أياً كانت مشاربهم (ممن نكنّ لهم التقدير المسبق)؛ والتهليل للتيارات، مهما تضاربت (التي نقرّها بشكل أو آخر)؟ أم هو، على العكس، مصطلح للازدراء أو الشجب؟ باختصار، هل ما بعد الحداثة مقولة في الفكر الأدبي، وصفية مثلما هي تقييمية ومعيارية؟ أم أنها تنتمي، كما يلاحظ شارل ألتييري، إلى مقولة «المفاهيم القابلة للمنازعة الجوهرية» في الفلسفة، والتي لا يحدث أنها تستنفد تشوشاتها التكوينية؟

وإجمالاً كانت نتائج حسن في دراسة الآداب ما بعد الحداثية قد انتهت بها إلى:

ـ الاغتراب عن العقل والمجتمع والتاريخ؛

ـ اختزال جميع الالتزامات الطبيعية أو المختلَقة المفروضة في عالم البشر؛

ـ استثمار حالات «الذهن» القصوى، بما في ذلك الانفصال عن الطبيعة، أو اللجوء إلى الأنماط المنحرفة من الميول الحيوية والإيروسية؛

ـ سلخ اللغة عن الكلام اليومي، وتحريف الأفكار التقليدية عن الشكل؛

ـ مناهضة كل ما يتصل بمبادئ مثل «السيطرة» و»الحكمة» و»الثبات» و»النسق التاريخي».

وفي كتابه «إشاعات التغيير: مقالات خمسة عقود»، 1995؛ حاول حسن إيجاز نصف قرن من اشتغاله على إيضاح تلك السمة المركزية، ومواقفه هو من «إشاعات التغيير» الثقافي التي اقترنت بها، وكيف رأى أنها إنما تنبئ بأطوار ما بعد الحداثة (والبعض لا يتردد في القول إن إيهاب حسن هو أحد الآباء المبكرين لما سيستقر بعدئذ تحت اسم «ما بعد الحداثة»).

□ العقد الأول في الكتاب (1954ـ1963) يضمّ مقالات حسن عن الرواية الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية «حين كان العالم ما يزال شابّاً» كما يقول. هنالك مقالة عن بول باولز، وثانية عن جين ستافورد، وثالثة عن وليم بوروز، والخيط الجامع بين هذه المقالات هو أنها تكشف مدى تأثّر حسن بمدرسة «النقد الجديد»، التي يبدو أن أحداً لم يفلت من سطوتها في تلك الفترة.

□ العقد الثاني (1959ـ1984) يتناول الموضوعات والأجناس الأدبية، ويغادر أمريكا ليتحدث عن البطل المضاد في الرواية الأوروبية، وعن المدينة الذهنية في الخطابين السوسيولوجي والروائي، وفي المساحة الأسطورية الوسيطة بينهما. وثمة هنا مناقشة لامعة لفكرة دور المدينة في إطلاق أو تعطيل «حداثة الماضي»، والحلقات التي تربط بين العمارة واليوتوبيا والنظام السياسي والمخيلة، في أمثلة تمتد من نينوى وأور وطيبة وبابل، وتنتهي عند درسدن ودبلن وهيروشيما.

□ العقد الثالث (1975ـ1989) هو مرحلة منظورات ما بعد الحداثة، ويمهد له حسن باقتباس من هنري جيمس يقول فيه إن النظرية الأدبية تجابَه أولاً بتهمة السخف، ثم تُقبل بعدئذ إما لأنها صحيحة أو لأنها باتت واضحة، وأخيراً تصبح شديدة الأهمية إلى حدّ أن خصومها القدماء ينسبون إلى أنفسهم فضل اكتشافها أولاً. حسن يغمز من قناة الكثيرين هنا، ولعله على حقّ في تذكير البعض بأن مناقشته للميول التي اعتبرها «ما بعد حداثية» عند جيمس جويس وصمويل بيكيت، ظلت مناقشة قلقة وتساؤلية، ولم تنخرط سريعاً في الأحكام ما بعد الحداثية الصاخبة التي يطلقها اليوم مَنْ وقفوا ضد مناقشته آنذاك.

□ العقد الرابع (1989ـ1994)، ولا يضمّ سوى ثلاث مقالات فقط، «هي التي تبدي احتراماً حضارياً للنص الأدبي أكثر مما تطنب في الدفاع عنه»، كما يقول، وذلك رغم أن حسن كتب عشرات المقالات في شرح علاقة النقد الأدبي بالنظرية. وإذا صحّ أن هذا القسم من الكتاب هو الذي يعكس مواقف إيهاب حسن من العقائد والإيديولوجيات (الماركسية العالمية، اليسار الأمريكي، المدارس الفكرية في الحياة الأكاديمية، …) فإن الكاشف المهيمن هنا هو رغبة حسن في نفض يده من أي «تورّط» إيديولوجي عابر للنص الأدبي… على طريقة جرترود شتاين، في ردّها على أحد الصحافيين: «إذا كنتَ قد استمتعت بكتابي فهذا يعني أنك فهمته، وإذا كنتَ لم تستمتع به فأنت لم تفهمه أصلاً. فما حاجتك إلى مناقشته في الحالتين»؟

□ العقد الخامس (1988ـ1994)، ويضم ثلاث مقالات تتناول ثلاث موضوعات: الرحلة، السيرة الذاتية، والموضوعة الجيو ـ سياسية. وفي الربط بين هذه، والتمهيد لها في الواقع، يقول حسن: «ما البدائل عن النظرية المعاصرة، وعن الإيديولوجيا، وعن خطاب ما بعد الحداثة، بكلّ استفزازاتها وموارباتها؟ لا شيء، كما أعتقد، وليس في المدى الأعرض على الأقل». ولكن … ثمة منافذ هنا وهناك، تخفف من هذا «الشرط ما بعد الحداثي» المغلق، على رأسها فكرة الرحلة التي تكسر الحدود والحواجز، وتضع عذابات النفي على عتبة إبداعية مختلفة، وتعيد رسم الثوابت الجيو ـ سياسية حتى حين تتلكأ قليلاً عند النزوعات الإنفصالية والقبائلية والإثنية؟

كتاب حسن الأخير صدر سنة 2010 وحمل عنوان «البحث عن لاشيء: مقالات مختارة، 1998ـ2008 «، وضمّ مطارحات مكثفة حول مسلمات كبرى مثل الحقيقة، والوثوق، والحلم الأمريكي، وعذابات الهوية، و»التنقيب عن براءة ثانية». يقول، على سبيل المثال: «إذا ماتت الحقيقة، فكل شيء مسموح به إذاً، نظرياً. وإذا صار كلّ شيء اعتباطياً، عارضاً، ونسبياً، فلا شيء يصبح مُلْزِماً». ويتابع، في مثال يبعث على القشعريرة: «أخبر الناجين من هيروشيما وناغازاكي أنّ العلم محض ‘سردية’ أخرى. رجل يدعى اينشتاين، كتب على السبورة e=mc2، فكانت النتيجة احتراق مدينتين إلى رماد. أهذه سردية؟»…

كلا، إذا أدرك المرء مغزى الفقرة التي جاءت في تقديم حسن لهذا الكتاب: «هذه مقالات مختارة، حين يطمح العمر، وقد أعيته السنون، إلى براءة ثانية، فلا يبحث عن شيء، ومع ذلك فإنه يظلّ مدفوعاً بشباب ملحاح». كان هذا إقراراً أخيراً، من ذهن ظلّ فائق التأمل وفريد الاستخلاص، بأنّ تعقّب المفاهيم الشائكة لا يفضي بالضرورة إلى انكشاف «براءة» أصولها، بل قد ينتهي بالمتأمل إلى النقيض: فقدان البراءة!

——————————-

(1) أنظر ترجمتنا لهذه المقالة في «الكرمل»: 51، ربيع 1997.

ناقد سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

إيهاب حسن وعذابات إدراك الأدب ما بعد الحديث/ صبحي حديدي

إيهاب حبيب حسن ناقد أمريكي من أصل مصري، ولد في القاهرة عام 1925، وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1946 حيث يقيم ويعمل في تدريس الأدب بعد أن تخلى عن الهندسة، اختصاصه الدراسي الأصلي. وهو يحتل موقعاً متميزاً، سواء على الصعيد الأكاديمي الأمريكي والعالمي (حاضر في قارات العالم الخمس)، أو على صعيد النظرية والدراسات النقدية.

ومنذ عام 1961، تاريخ صدور كتابه الأول “البراءة الراديكالية: دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة”، وإيهاب حسن يجري سلسلة تنويعات على مبدأ نقدي متماثل يرى أن السمة المركزية في الأدب الحديث (أو “ما بعد الحديث” في الواقع) هي العدمية الراديكالية في مسائل الفنّ والشكل واللغة. هذا، في عبارة حسن المألوفة، هو “أدب الصمت” الذي يدور حول نفسه وينقلب على نفسه لكي يعلن “الرفض التام للتاريخ الغربي، ولصورة الإنسان كمقياس للأشياء جمعاء”. وفي هذا السبيل ذاته، أصدر حسن كتابه الثاني “أدب الصمت: هنري ميللر وصموئيل بيكيت”، ثم أعقبه بكتابه الأشهر ربما: “تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي” (1971).

ولقد حاول حسن تقديم “تخطيط مدرسي توجيهي وتجريبي” لظاهرة ما بعد الحداثة، واجتهد في توسيع نطاق هذا التخطيط المقارن مع الحداثة فرسم موشوراً عريضاً من الأسماء والتيارات والأساليب… لكي يتجنّب ــ على الأرجح ــ المهمة العسيرة التالية، المتمثلة في “اعتصار” تعريف ما لظاهرة كان بين أوائل من تلمّس تجلّياتها في الرواية بصفة خاصة، وفي ما أسماه “أدب الصمت” الغربي بصفة أعمّ (النزاهة التاريخية تقتضي التذكير بأن جان ـ فرانسوا ليوتار، والذي يتفق الكثيرون على اعتباره فيلسوف ما بعد الحداثة الأول، كان قد اعتمد على أعمال حسن في إقامة معظم دليله الثقافي).

والكثيرون، قبل إيهاب حسن وبعده، بذلوا محاولات مماثلة لا تقلّ نزاهة ومشقة وحيرة، ولا تخرج في الجوهر عن المعيار الذي يطرحه الرجل في صدر مقالته الشهيرة “نحو مفهوم لـ ما بعد الحداثة” (1)، على هيئة تساؤل أقرب إلى علامة تعجّب: “هل في وسعنا حقاً أن نتصوّر ظاهرة، تعمّ المجتمعات الغربية إجمالاً وآدابها خصوصاً، تحتاج إلى ما يميّزها عن الحداثة، وتحتاج إلى تسمية”؟ ولكنّ مقالة حسن انفردت عن كثير من سواها في خصيصة التصدّي للمفهوم، أو محاولة الذهاب “نحو” المفهوم. هذه واحدة من فضائلها الكثيرة، ولكنها مثل العشرات سواها تظلّ أسيرة اللائحة المعتادة من المشكلات التي خيّمت وتخيّم على نقاش المفهوم، في الأدب والفنّ والعمارة والفلسفة والاقتصاد السياسي.

كذلك انفردت المقالة في محاولة معالجة المشكلات المفهومية التي تكتنف وتكوّن مسائل ما بعد الحداثة ذاتها، وذلك عن طريق “عزل” عشرٍ من هذه المشكلات، بدءاً من أبسطها، وانتهاءً بأكثرها عسراً. وهنا لائحة حسن، كما أوردها بصفة شبه حرفية:

كلمة ما بعد الحداثة لا تبدو خرقاء فحسب، بل هي توحي بما ترغب في تجاوزه أو قمعه، أي الحداثة نفسها. وبذلك فإن المصطلح يحتوي على عدوّه الداخلي، وهو ليس حال مصطلحات مثل الرومانسية أو الكلاسيكية أو الباروك Baroque [أسلوب زخرفي في العمارة، وتنميقي في الأدب ساد خلال القرن السابع عشر ـ المترجم] أو الروكوكو Rococo [أسلوب زخرفي بدوره، ساد في القرن الثامن عشر]. فوق ذلك، يوحي المصطلح بالخَطّية الزمنية ويستثير معنى التأخّر عن الزمن، وربما التآكل، الذي لا يقرّه أيّ منتمٍ إلى التيارات ما بعد الحداثية. ولكن، هل هنالك اسم أفضل نطلقه على هذا العصر العجيب؟ عصر الذرّة، أو غزو الفضاء، أو التلفزة؟

مثل سواه من المصطلحات غير المقيّدة ــ ومنها ما بعد البنيوية، أو الحداثة، أو الرومانسية بهذا الصدد ــ يعاني مصطلح ما بعد الحداثة من بعض اللاإستقرار الدلالي: أي أنه لا يوجد إجماع واضح بين الباحثين حول معناه. والصعوبة العامّة تتداخل هنا مع عاملَيْن: أ ـ الشباب النسبي، أو بالأحرى الرَشَد الهشّ، للمصطلح؛ و ب ـ قرابته الدلالية مع مصطلحات أكثر راهنية، غير مستقرة بدورها. وهكذا فإن بعض النقاد يعنون بما بعد الحداثة ما يعنيه آخرون عند الحديث عن الطليعية Avant-gardism أو حتى الطليعية الجديدة، في حين أن البعض يواصل إطلاق اسم الحداثة على الظاهرة ذاتها.

ترتبط بذلك صعوبة أخرى خاصة باللاإستقرار التاريخي للعديد من المفاهيم الأدبية، وقابليتها المفتوحة للتغيير. وفي هذه الحقبة من استشراس سوء الفهم، من يجرؤ على الزعم أن أضراب كولريدج، وأبرامز، وبيكهام، وبلوم فهموا الرومانتيكية بالطريقة ذاتها؟ وهنالك اليوم بعض الدليل على أن ما بعد الحداثة، ثم الحداثة أكثر فأكثر، أخذت تنزلق وتنحدر في الزمن، مهددة بجعل أي تمييز تفريقي بينهما أمراً ميئوساً منه.

لا يوجد ستار حديدي أو سور صيني للفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة، لأن التاريخ لوح أردواز، والثقافة مُنْفِذة للزمن الماضي، وللحاضر، وللزمن المستقبلي. ويشكّ إيهاب حسن في أننا جميعاً فكتوريين بعض الشيء، وحديثين بعض الشيء، وما بعد حداثيين بعض الشيء… في آن معاً. ولعلّ في وسع المؤلف أن يكتب عملاً حداثياً وما بعد حداثي (كما في عملَي جويس “صورة الفنان في شبابه” و”يقظة فينيغانز”). وبصورة أعمّ، وعلى مستوى معين من التجريد السردي، قد تجوز الملاءمة بين الحداثة والرومانتيكية، وقد ترتبط الرومانتيكية بعصر الأنوار، وهذا الأخير بعصر النهضة، وهكذا إلى زمن سالف بعيد.

ذلك يعني أن “الفترة”، وضمن هذا المعنى، ينبغي أن تُدرك في مستوى التواصل ومستوى اللاتواصل، حيث يكون المنظوران تكميليين وجزئيين معاً. الرؤية الأبولونية، الطوّافة والمجردة، لا تدرك سوى التزامنات التاريخية. والإحساس الديونيسي، الحسّي رغم أنه شبه متبلّد، لا يلمس سوى البرهة المفارقة. وهكذا فإن ما بعد الحداثة تنخرط في رؤية مزدوجة ضمن إيحائها باثنتين من المقدّسات. التشابه والاختلاف، الوحدة والانقطاع، الانضواء والثورة، كل هذه يتوجب تكريمها إذا توجّب الانتباه إلى التاريخ، واستكناه (وإدراك، وفهم) التغيير بوصفه بنية مكانية وذهنية مثلما هو سيرورة زمنية فيزيائية، كنَسَق وحَدَث فريد.

“الفترة” عموماً ليست فترة على الإطلاق، إنها بالأحرى إنشاء آنيّ وزماني. وما بعد الحداثة ليست استثناء، مثلها مثل الحداثة أو الرومانتيكية كما سلف القول: إنها تتطلّب تعريفاً تاريخياً ونظرياً على حدّ سواء. وليس في وسعنا أن نزعم على نحو جدّي وجود تاريخ “افتتاحي” لها كما تحمست فرجينيا وولف وفعلت في حالة الحداثة، رغم أننا قد نتخيّل بألم أنها بدأت “في أو قرابة أيلول (سبتمبر) 9391” كما يُقال. وبذلك فإننا نكتشف “سوابق” لما بعد الحداثة ـ عند أمثال [لورانس] ستيرن، دوساد، بليك، لوتريامون، رامبو، تزارا، هوفمانشتال، جرترود شتاين، جويس المتأخر، باوند المتأخر، دوشامب، أرتو، باتاي، بروخ، وكافكا. ما يعنيه ذلك هو أننا خلقنا في أذهاننا أنموذجاً لما بعد الحداثة، وتيبولوجية للثقافة والمخيّلة، وانتقلنا بعدئذ من أجل “إعادة اكتشاف” القرابات بين مختلف المؤلفين ومختلف العهود، استناداً إلى ذلك الأنموذج. بمعنى آخر، لقد أعدنا اختراع أسلافنا، ولسوف نفعل ذلك على الدوام. استطراداً، يمكن للمؤلفين “الشيوخ” أن يكونوا ما بعد حداثيين ــ مثل كافكا، بيكيت، بورخيس، نابوكوف، غومبروفيش ــ بينما لا يحتاج إلى ذلك المؤلفون “الأحدث سنّاً”: ستيرون، أبدايك، كابوت، إرفنغ، دوكتوروف، غاردنر.

وكما رأينا، يستدعي أي تعريف لما بعد الحداثة رؤية رباعية الأطراف من المكمّلات، واعتناق التواصل واللاتواصل، والزمنية، والآنية. ولكن أي تعريف للمفهوم يقتضي الرؤية الجدلية أيضاً، لأن تعريف القَسَمات يظلّ تضادياً، وإهمال هذا الإتجاه نحو الواقع التاريخي هو انحدار إلى الرؤية الأحادية ونحو رقاد نيوتن. تعريف القسمات جدلي وتعدّدي أيضاً، واختيار واحدة من القسمات بوصفها معياراً مطلقاً لنعمة ما بعد الحداثة يفضي إلى وضع جميع الكتّاب الآخرين في غيهب الماضي.

ذلك كله يقود إلى المشكلة الابتدائية حول التحقيب ذاته، وهي أيضاً مشكلة التاريخ الأدبي في حالة إدراكه كاكتناه معيّن للتغيير. والحق أن مفهوم ما بعد الحداثة يتضمن نظرية ما حول الإبتكار، وإعادة الإبتكار، والتجديد، أو التغيير ببساطة. ولكن أيّ نوع؟ هيراقليطي؟ داروني؟ ماركسي؟ فرويدي؟ كوهني Kuhnian؟ دريدائي؟ إصطفائي Ecclectic؟ أم أن “نظرية التغيير” ذاتها هي جماع متناقضات تُفصّل لكي تناسب أفضل أحوال المبشّرين الإيديولوجيين المعادين لالتباسات الزمان؟ هل يتوجب بالتالي ترك ما بعد الحداثة ــ في الآونة الراهنة على الأقل ــ غير مصاغة في مفهوم، ونوعاً من “الفارق” أو “الأثر” الأدبي ـ التاريخي؟

وما بعد الحداثة يمكن أن تتوسع لتصبح مشكلة أعرض: أهي مجرّد اتجاه فنّي أم هي ظاهرة اجتماعية أيضاً، وربما برهة تبدّل في النزعة الإنسية الغربية بأسرها؟ وإذا كان هذا هو الحال، كيف حدث أن توحّدت أو تفرقت جميع جوانب هذه الظاهرة، السيكولوجية والفلسفية والاقتصادية والسياسية؟ باختصار، هل نستطيع فهم ما بعد الحداثة في الأدب دون بذل بعض المحاولة لإدراك ملامح المجتمع ما بعد الحديث، وما بعد الحديث بالمعنى الذي جاء عند أرنولد توينبي، أو الحصيلة المعرفية للمستقبل بالمعنى الذي أشاعه ميشيل فوكو، حيث يكون الإتجاه الأدبي الذي أناقشه مجرّد ضَرْب وحيد نخبوي؟

10ـ وأخيراً، ولكن ليس آخر الآلام، هل ما بعد الحداثة مصطلح مشرّف يستخدم في سياق الإنجرار وراء امتداح الكتّاب أياً كانت مشاربهم (ممن نكنّ لهم التقدير المسبق)، والتهليل للتيارات مهما تضاربت (والتي نقرّها بشكل أو آخر)؟ أم هو، على العكس، مصطلح للإزدراء أو الشجب؟ باختصار، هل ما بعد الحداثة مقولة في الفكر الأدبي، وصفية مثلما هي تقييمية ومعيارية؟ أم أنها تنتمي، كما يلاحظ شارل ألتييري، إلى مقولة “المفاهيم القابلة للمنازعة الجوهرية” في الفلسفة، والتي لا يحدث أنها تستنفد تشوشاتها التكوينية؟

وإجمالاً كانت نتائج إيهاب حسن في دراسة الآداب ما بعد الحداثية تنتهي بها إلى:

الاغتراب عن العقل والمجتمع والتاريخ؛ اختزال جميع الالتزامات الطبيعية أو المختلَقة المفروضة في عالم البشر؛ استثمار حالات “الذهن” القصوى، بما في ذلك الانفصال عن الطبيعة، أو اللجوء إلى الأنماط المنحرفة من الميول الحيوية والإيروسية؛ سلخ اللغة عن الكلام اليومي، وتحريف الأفكار التقليدية عن الشكل؛ مناهضة كل ما يتصل بمبادئ مثل “السيطرة” و”الحكمة” و”الثبات” و”النسق التاريخي”. وفي كتابه الأحدث “إشاعات التغيير: مقالات خمسة عقود” (2) حاول حسن إيجاز خمسة عقود من اشتغاله على إيضاح تلك السمة المركزية، ومواقفه هو من “إشاعات التغيير” الثقافي التي اقترنت بها، وكيف رأى أنها إنما تنبئ بأطوار ما بعد الحداثة (والبعض لا يتردد في القول إن إيهاب حسن هو أحد الآباء المبكرين لما سيستقر بعدئذ تحت اسم “ما بعد الحداثة”).

العقد الأول في الكتاب (1954ـ1963) يضمّ مقالات حسن عن الرواية الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية “حين كان العالم ما يزال شابّاً” كما يقول. هنالك مقالة عن بول باولز، وثانية عن جين ستافورد، وثالثة عن وليم بوروز، والخيط الجامع بين هذه المقالات هو أنها تكشف مدى تأثّر حسن بمدرسة “النقد الجديد”، التي يبدو أن أحداً لم يفلت من سطوتها في تلك الفترة.

العقد الثاني (1959ـ1984) يتناول الموضوعات والأجناس الأدبية، ويغادر أمريكا ليتحدث عن البطل المضاد في الرواية الأوروبية، وعن المدينة الذهنية في الخطابين السوسيولوجي والروائي، وفي المساحة الأسطورية الوسيطة بينهما. وثمة هنا مناقشة لامعة لفكرة دور المدينة في إطلاق أو تعطيل “حداثة الماضي”، والحلقات التي تربط بين العمارة واليوتوبيا والنظام السياسي والمخيلة، في أمثلة تمتد من نينوى وأور وطيبة وبابل، وتنتهي عند درسدن ودبلن وهيروشيما.

العقد الثالث (1975- 1989) هو مرحلة منظورات ما بعد الحداثة، ويمهد له حسن باقتباس من هنري جيمس يقول فيه إن النظرية الأدبية تجابَه أولاً بتهمة السخف، ثم تُقبل بعدئذ إما لأنها صحيحة أو لأنها باتت واضحة، وأخيراً تصبح شديدة الأهمية إلى حدّ أن خصومها القدماء ينسبون إلى أنفسهم فضل اكتشافها أولاً. حسن يغمز من قناة الكثيرين هنا، ولعله على حقّ في تذكير البعض بأن مناقشته للميول التي اعتبرها “ما بعد حداثية” عند جيمس جويس وصمويل بيكيت، ظلت مناقشة قلقة وتساؤلية، ولم تنخرط سريعاً في الأحكام ما بعد الحداثية الصاخبة التي يطلقها اليوم مَنْ وقفوا ضد مناقشته آنذاك.

العقد الرابع (1989- 1994)، ولا يضمّ سوى ثلاث مقالات فقط، “هي التي تبدي احتراماً حضارياً للنص الأدبي أكثر مما تطنب في الدفاع عنه” كما يقول، وذلك رغم أن حسن كتب عشرات المقالات في شرح علاقة النقد الأدبي بالنظرية. وإذا صحّ أن هذا القسم من الكتاب هو الذي يعكس مواقف إيهاب حسن من العقائد والإيديولوجيات (الماركسية العالمية، اليسار الأمريكي، المدارس الفكرية في الحياة الأكاديمية، …)، فإن الكاشف المهيمن هنا هو رغبة حسن في نفض يده من أي “تورّط” إيديولوجي عابر للنص الأدبي… على طريقة جرترود شتاين في ردّها على أحد الصحافيين: “إذا كنتَ قد استمتعت بكتابي فهذا يعني أنك فهمته، وإذا كنتَ لم تستمتع به فأنت لم تفهمه أصلاً. فما حاجتك إلى مناقشته في الحالتين”؟

العقد الخامس (1988-1994)، ويضم ثلاث مقالات تتناول ثلاث موضوعات: موضوعة الرحلة، موضوعة السيرة الذاتية، والموضوعة الجيو – سياسة. وفي الربط بين هذه، والتمهيد لها في الواقع، يقول حسن: “ما البدائل عن النظرية المعاصرة، وعن الإيديولوجيا، وعن خطاب ما بعد الحداثة، بكلّ استفزازاتها وموارباتها؟ لا شيء، كما أعتقد، وليس في المدى الأعرض على الأقل”. ولكن … ثمة منافذ هنا وهناك، تخفف من هذا “الشرط ما بعد الحداثي” المغلق، على رأسها فكرة الرحلة التي تكسر الحدود والحواجز، وتضع عذابات النفي على عتبة إبداعية مختلفة، وتعيد رسم الثوابت الجيو – سياسية حتى حين تتلكأ قليلاً عند النزوعات الانفصالية والقبيلية والإثنية؟

تساؤل بالغ الدلالة، خصوصاً حين يأتي من أحد الآباء المؤسسين لمصطلح “الشرط ما بعد الحداثي”، ممن يضرسون اليوم أكثر بكثير من الأبناء والأحفاد! ولعل في هذا الوضع الأخير ما يدفع إلى قراءة “إشاعات التغيير” كجردة مكثفة للمشهد الإبداعي والنقدي الأمريكي ما بعد الحرب، وكسيرة ذاتية نقدية أيضاً، لا تخلو في هذه الحالة الثانية من شجاعة النقد الذاتي و… مرارته.

 

 

 

إيهاب حسن المبشر الأكبر بعصر ما بعد الحداثة

ناقد مصري أميركي يرى اليوم أن ما بعد الحداثة صارت شبحاً، وكلما ظننا أننا قد تخلّصنا منها، ينهض شبحها مرة أخرى.

في حديث الناقد السّعودي الكبير عبدالله الغذّامي عن الحداثة والحداثيين أشار إلى «إن الحداثيين العرب قد تحوّلوا من استهلاك الحداثة المستوردة في الثمانينات إلى إنتاج حداثة عربية في تسعينات القرن العشرين‏».

لم يصرح الغذّامي بمَنْ يَقصد؟ لكن كثيرين اجتهدوا ووضعوا اسمي إدوارد سعيد، الناقد الأميركي الفلسطيني الأصل، وإيهاب حسن‏ الناقد الأميركي المصري الأصل، في صدارة الحداثيين العرب الذين أنتجوا الحداثة العربية الجديدة، وهو الأمر الذي لم يَرُقْ للناقد الرّاحل عبدالعزيز حمودة، الذي استفزه أحد الحضور أثناء تكريمه في جامعة دمشق، وكرّر هذا الأمر مُنَوِّهًا باسمي مَنْ لم يذكرهما الغذّامي مِن قبل، واعتبر القول إن «أيًّا مِن إدوارد سعيد وإيهاب حسن ناقد عربي حَداثي أو ما بعد حداثي مُغالطةٌ ثقافيّةٌ وعلميّة صريحة‏،‏ ناهيك عن كونه إشهارًا صريحًا لإفلاس الحداثيين وما بعد الحداثيين العرب وفشلهم‏،‏ بعد سنوات الاستعارة والتأثُّر والنقل‏،‏ في تطوير حداثة عربية‏.‏ فالفارق شاسع بين القول بأن سعيد أو حسن ناقد أميركي من أصل عربي‏، والقول بأنه ناقد عربي‏» وهو الأمر الذي أشاعه على الملأ في مقالة بعنوان «إدوارد سعيد والحداثة العربية».

لم يعمد الناقد الراحل عبدالعزيز حمودة إلى الانتقاص من قدر الناقديْن بل كان يشير إلى حقيقة ربما مغفلة بعض الشيء، تتمثّل في انفصال تأثير الثقافة العربيّة على الناقدين دون التقليل من جهدهما، وإسهاماتهما التي لاقت حفاوة في العالميْن الغربي والعربي، فالناقد إيهاب حبيب حسن مولود في القاهرة في الربع الأول من القرن المنصرم وبالتحديد في عام 1925، لأُسرة تجري فيها دماء تركية وألبانية ليعيش طفولته وشبابه في كنف الاستعمار البريطاني وَحُكم الأقليّة الوطنيّة.

إرث ما بعد الحداثة

تباينت الآراء حول ظهور مصطلح «ما بعد الحداثة» فهناك مَن يشير إلى أنه اُستخدم في الثلاثينات مِن القرن العشرين في نصّ كتبه الإسباني فردريكودي أونيس، وهناك مَن يرى أنّه ظَهَرَ لأوّل مرّة عند المؤرخ البريطاني توينبي 1959، وكان عنده يدلُ على ثلاث علامات ميّزت الفكر والمجتمع الغربيين بعد منتصف القرن المنصرم، وهي: اللاعقلانية والفوضوية والتشوش.

لكن ثمّة إجماعًا على أن انتقال هذا المصطلح إلى حقل الدراسات الأدبية في ستينات القرن العشرين على يد الناقد ليسلي فيلدر والناقد المصري الأميركي إيهاب حسن، بل يجزمون على أن الاستخدام المنهجي للمصطلح كان على يديه، والجدير بالذكر أن الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، الذي يتفق الكثيرون على اعتباره فيلسوف ما بعد الحداثة الأوّل، قد اعتمد على أعمال حسن في إقامة معظم دليله الثقافي. فقد ذكر في كتابه “الوضع ما بعد الحداثي” 1979 «أن عمل إيهاب حسن هو المصدر الأساسي الذي نبّهه إلى أهلية مفهوم ما بعد الحداثة».

اكتسب المصطلح تداولاً خلال فترة السبعينات من القرن العشرين وشمل العمارة أولاً، ثمّ اكتسح بالتدريج مجالات الرقص والمسرح والتصوير والسينما والموسيقى. ومع هذا فهناك مَن عَارض القول بمجيء عصر ما بعد الحداثة، كالفيلسوف والناقد الاجتماعي هابرماس حيث يعدُّ التنظير لعصر ما بعد الحداثة «ردة فعلٍ محافظة ويائسة ضدّ التنوير»، وهناك مَن قال بتحقُّقه على مسرح التاريخ المعاصر ومنهم ليوتار الذي اعتبر هذا العصر نهاية لـ “الحكايات الكبرى”، أي موت المذاهب الكبرى التي حاولت تفسير الواقع تفسيرا شموليًّا.

عُدَّ إيهاب حسن في تسعينات القرن المنصرم، واحدًا مِن مُنظري وَنُقّاد ما بعد الحداثة، والعجيب أن نُقادنا العرب كانوا مُنهمكين في فهم الحداثة بينما كان الرَّجل يُنَظِّرُ لمرحلةٍ معرفيةٍ جديدةٍ خاصّة في عامين 2000 ـــ 2001، وهى مرحلة تحوّل ظاهرة ما بعد الحداثة إلى سياق ما بعد الحداثة الجديد، أو ما أسماه بتجاوز ما بعد الحداثة. حيث «ينطلق مِن خاصية انعدام الحدود الواضحة فيما بعد الحداثة، ليبدأ بوصف التناقضات، وأسئلة الهُويّة المحليّة، والعالميّة، واللُّغة التفاعليّة الجديدة بين المحليّ والعالميّ على الإنترنت». وهي الاشتغالات التي أولاها إيهاب حسن اهتمامًا كبيرًا في سياق رصد اللحظات الحضارية المتحوِّلة والحاسمة. ويرى «أن الفن ما بعد الحداثي فنٌّ متعدّد الأشكال/ مخنث/ هجين، في حين أن الحداثة فن تناسلي/ ذكوري».

في مقالته المعنونة بذات الاسم «تجاوز ما بعد الحداثة» يتوقع حسن «لسياق التفاعل المفتوح أن يعيد التساؤلات الحضارية القديمة والمتجدِّدة، حول الهُوية الثقافيّة» وهو ما دفعه إلى أنْ يُسْهِبَ في «شرح أصولها البيولوجية، والقبلية القديمة، ليصلَ إلى إمكانية انفتاح الحدود بين الثقافات، والأفكار في تفاعلية إبداعية تجمع بين المحلي، والعالمي، وتتجاوز وحشية القوة المؤكدة للأنا في مقابل الآخر».

اشتغالاته على الحداثة وما بعد الحداثة تعود إلى كتابه الأوّل الذي صدر في عام 1961، بعنوان “البراءة الراديكالية: دراسات في الرواية الأميركية المعاصرة”، حيث يجري سلسلة تنويعات على مبدأ نقدي متماثل يرى أنّ السِّمَة المركزية في الأدب الحديث (أو “ما بعد الحديث” في الواقع) هي العدمية الراديكالية في مسائل الفنّ والشكل واللغة، وقد خَلُصَ من مناقشته إلى ما أسماه “أدب الصمت” الذي يدور حول نفسه وينقلب على نفسه لكي يُعلن “الرفض التام للتاريخ الغربي، ولصورة الإنسان كمقياس للأشياء جميعها”. وهي الأطروحات التي عمّقها في كتابه الثاني الذي حَمَلَ عنوان “أدب الصمت: هنري ميللر وصموئيل بيكيت” 1967، ثم أعقبه بكتابه الأشهر “تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي” 1971، وهو الكتاب الذي يستحضره كثيرًا أثناء كتابته لسيرته. ومن أعماله كتاب «أشباه نقدية: سبعة تأمّلات لزماننا» (1975)، و«النار البروميثيوسية الحقّة: الخيال والعلم والتغيير الثقافى» (1980)، «دورة ما بعد الحداثة: مقالات في نظرية ما بعد الحداثة والثقافة» (1987)، و«شائعات التغيير: مقالات عن خمسة عقود»، وكذلك «سؤال العدم: مقالات مختارة». اتّجه في السّنوات الأخيرة، إلى أدب السّيرة الذّاتيّة والرّحلات ومن هذه الأعمال سيرته الذاتية التي حملت عنوان «الخروج من مصر: مشاهد ومجادلات» عام 1986، ثم «ذوات في خطر: أنماط السؤال في الآداب الأميركية المعاصرة» عام 1990، و«بين النسر والشمس: آثار اليابان» عام 1996. إلى جانب تجميع لمقالاته التي نشرها على مدار مسيرته النقدية تحول حسن مؤخّرًا إلى كتابة الرواية (بعنوان: التحدّى)، كما نشر قصصا قصيرة في العديد من المجلات الأدبية الأميركية.

ظل مفقود

في عالمنا العربي مع الأسف لم تلقَ هذه الأعمال الصدى الواسع سواء بالمتابعة أو حتى بالترجمة، ما عدا بعض المقالات المتناثرة هنا وهناك أشهرها ترجمة صبحي حديدي في مجلة الكرمل في العام 1991 عن «نحو مفهوم لـ”ما بعد الحداثة”»، وعمرو خيري في الثقافة الجديدة نوفمبر 2010، بعنوان «النسر وغصن الزيتون والحلم: تغير تصورات العالم لأميركا»، بالإضافة إلى بعض مقالات متفرقة ترجمها جابر عصفور، وضمّها إلى أحد كتبه، وأخيرا مذكراته عن «طغاة الصحراء» التي ترجمها السّيد إمام. العمل الوحيد الكامل جاء بترجمة محمد عيد إبراهيم بعنوان «دورة ما بعد الحداثة» عن دار أروقة بالقاهرة.

بعد ثلاثين سنة من تنظيراته عن الحداثة وما بعد الحداثة يرى إيهاب حسن أن ما بعد الحداثة صارت الآن شبحًا، أو عودة لمدلول مُنْفَلِتٍ مِن الحدود، وكُلما نظن أننا قد تَخَلَّصنا منها، ينهض شبحها مرة أخرى. العجيب أنه يقرُّ بأن هذه الأفكار ما بعد الحداثية «ما زالت تتردّد في خطاب الهندسة المعمارية، والفنون المختلفة، والعلوم الإنسانية، وأحيانا الفيزياء، كما أنها لم تقتصر على المؤسسات الأكاديمية، بل نجدها أيضا في الخطاب الشعبي، وعوالم السياسة، والبيزنس، والميديا، وصناعات التسلية، كذلك شاعت في لغة الأساليب الشخصية للحياة؛ مثل طريقة طهو ما بعد حداثية، ومطبخ ما بعد حداثي».

وينتهي إلى أن ليس ثمة إجماع حول معنى ما بعد الحداثية، فهو ينتمي إلى فئة «ما يطلق عليه الفلاسفة الفئة المتنازع عليها جوهريًا». وعن التناقضات المتقابلة بين الحداثة وما بعد الحداثة يقول فإذا كانت الحداثة تتميز بـ “الشكل المتماسك والمغلق والنظام والاتقان، والعقلانية والحضور والتجميع والحسم والسمو…”، فإن ما بعد الحداثة تتميّز بما هو نقيض لما سبق، حيث تجد “الشكل المضاد المفكّك والمفتوح والفَوضى والتّشظي والإرهاق والصّمت والسّحرانية، والغياب والتفريق والسّخرية واللاحسم».

يذكرُ محمد سمير عبد السّلام في مقدمة ترجمة مقالته «تجاوز ما بعد الحداثة» أن كتابات إيهاب حسن تتميّزُ «بتأكيد تعدُّدية الهوية، والجمع بين المجاز ـمثل شبح ما بعد الحداثةـ والسِّياق الثّقافي أو التاريخيّ أو ما يدعى بالحقيقي، كما يعيد تركيب بعض المصطلحات بشكل إبداعي، مثل كلمة Glocal التي تجمع المحليّ والعالميّ معًا. إضافة إلى تداخل الأخيلة السّردية المتولِّدَة عن الأعمال الأدبيّة، ومظاهرها الواقعية على الخريطة دون انفصال» وهو ظاهر في كتاباته الأخيرة «أما اللُّغة التفاعلية التي يقترحها تتجاوز تأكيد الأنا لإدخاله في الروح الكونية، ومن ثمة نجد الأدب حاضرًا في الجغرافيا السّياسيّة والنَّسيج الكوني معًا».

طغاة الصحراء

في مذكراته التي عنوّنها بـ «مذكّرات هزلية، طُغاة الصّحراء» يَصِفُ الطُّغَاة بأنّهم «طغاة في كلِّ مكانٍ في العالم، قلت لنفسي الربيع العربي: هبّة من رياح الخماسين الساخنة، كم من القرون استغرق الشتاء العربي إذن؟ أم أن ذلك الربيع العربي كان مجرد “فاصل” ينبئ بعصر جليدي آخر؟ لقد أشعل أحد الباعة الجائلين في تونس النار في نفسه، فاشتعل الشرق الأوسط .

أنظر لما جري في بضعة شهور: فر الرئيس التونسي، وقبع الرئيس المصري في قفص من الحديد، وجروا الرئيس الليبي من إحدى الحفر وقتلوه بعد أن أطلقت عليه رصاصة من مسدسه المصنوع من الذهب، وتقاعد الرئيس اليمني بعد حكم فاسد استمر قرابة ثلاثة وثلاثين عاماً. وقبل ذلك، تم إعدام ديكتاتور العراق شنقاً. أما عن الرئيس السوري، الذي يجلس الآن تحت سيف ديموقليس، فإنه ينتظر أن يطاح برأسه بين لحظة وأخرى. خذ مصر التي ولدت بها كمثال. عندما أطاح الشباب المصري في ميدان التحرير بالفرعون الأخير وأجبروه علي مغادرة قصوره المطلة على النيل، قلت لنفسي: برافو، برافو، رائع! ثم تساءلت: هل هذا هو الوطن الذي غادرته منذ سبعة عقود؟ وأدركت، حتى من قبل أن يكتسح الإخوان المسلمون البرلمان المصري، وحتى قبل أن يتمكن الجنرالات من استعادة السلطة بأيد خفية، أن هذا الربيع العربي لن يكون مثل أيّ ربيع آخر. سوف يترك هذا الربيع المشهد في الشرق الأوسط خليطاً من الأخضر واليابس″.

يقول إيهاب حسن إن التاريخ “لا يتحرك مثل سهم بقدر ما يتحرك في حركة ارتدادية، أو بالأحرى، لا نعرف كيف يتحرك”، ويتساءل دامجاً بين الطغاة والمتطرفين “من الذي جعل الطغاة ضرورةً؟ لقد ظهروا مثل طرح البحر على شواطئ امبراطوريات متداعية؛ لقد برزوا من دول فاشلة أو قبائل متناحرة. لقد نشأوا في رحم مجتمعات تفتقر إلى تقاليد مدنية، إلى التعاطف الإنساني والالتزامات التي تتجاوز حدود العشيرة، إنني أضم الجهاديين الذين يقومون بتفجير أنفسهم والطغاة في فئة واحدة رغم ما بينهم من اختلاف، أضمهم إلى فئة واحدة ولكن لا أُوَحِّد بينهم”، لقد خرجوا معاً من رحم العنف، وينتمون معاً لنفس الثقافة والتاريخ، الميلُ إلي كراهية النساء والفقر والأمية والخطابة والنخبة غير المسؤولة، وغياب اتفاق ديمقراطي ليبرالي جماعي، والافتقار إلى روح نقدية نشطة وفعالة، والميل لرؤية العالم دون مراعاة للفروق الدقيقة (النزعة الأصولية)، ومزاج ما بعد كولونيالي منتقم ومُحَرِّر في الوقت ذاته.

 

 

 

بلاغة السياسة الجمالية في دورة ما بعد الحداثة ـ حيدر علي سلامة

تمثل ترجمة الأستاذ محمد إبراهيم عيد لمؤَلف الفيلسوف إيهاب حسن (دورة ما بعد الحداثة)، شكلا من أشكال المجازفة الفلسفية والأبستمولوجية والميتودولوجية المنهجية،وذلك لطبيعة التداخل الإشكالي والمفاهيمي المعقد بين المصطلحات الفلسفية من جهة؛ والمصطلحات الجمالية والميتا-جمالية في خطاب ما بعد الحداثة من جهة أخرى.

لهذا، سوف نتخذ من الأطر المنهجية والمفاهيمية إلى جانب إشكالات الترجمة الاصطلاحية، القاعدة الأساسية والمحورية لمحاولتنا الفلسفية الرامية إلى إعادة فهم تاريخ فلسفة الجمال وبنية العمل الفني منذ أفلاطون إلى مرحلة ما بعد الحداثة. وستكون أطروحات الفيلسوف إيهاب حسن في مؤلفه المذكور أعلاه، الرافد الأساسي لمجمل مقارباتنا المنطقية والجمالية واللسانية.

ما بعد الحداثة: الجدل الاصطلاحي لمفاهيم الدورة والمنعرج الثقافي

يُعد مصطلح “turn” من ابرز المصطلحات الإشكالية التي استوقفتنا عند مطالعتنا لكتاب (دورة ما بعد الحداثة) الذي كان عنوانه الأصلي   ” The Postmodern Turn”. حيث جرى ترجمة ذلك المصطلح بمفهوم “دورة”. على الرغم من أننا نلاحظ أن العنوان الفرعي للكتاب “Theory and Culture Postmodern” تضمن على إشارة إلى طبيعة الثيمات الفلسفية التي سيرتكز عليها عمل الأستاذ إيهاب حسن حول بنية الجدل الحاصل بين نظرية ما بعد الحداثة والثقافة، بعبارة أخرى، بين نظرية “مابعد الحداثة” “ونظرية الثقافة”. وهذا يعني أننا سنكون إزاء خطاب من التحولات والمنعرجات الأبستمولوجية واللسانية والأستطيقية. فكان لزاما علينا ان نتساءل فيما ينبغي عليه ان تكون ترجمة مصطلح “turne ” بالدورة أم “بالمنعرج” أم”بالمنعطف” ؟ وهل يمكن لمصطلح الدورة أن يؤسس لنظرية ثقافية جديدة أم هو مفهوم يُعيد إنتاج أشكال ثقافية تقليدية قديمة ؟ وهل أن معنى مفهوم “الدورة” ينسجم مع تحولات مفاهيم وتصورات ما بعد الحداثة الكونية ؟ وأين يمكن أن نضع فلسفة الجدل الثقافي والمابعد الحداثي: هل مع مفهوم الدورة “التوتولوجي” ؛ أم مع مفهوم المنعرج/والمنعطف السوسيو-لساني ؟

واللافت في الأمر، خلو الكتاب من مقدمة اصطلاحية لإشكالية ترجمة المصطلح المذكور أعلاه، بهدف توضيح السبب في تفضيل ترجمته بمفهوم “الدورة” عوضا عن “المنعرج” و “المنعطف”. على الرغم من أن المصطلحين الأخيرين هما الأقرب في ترجمة بنية تحولات مرحلة ما بعد الحداثة على كافة الأصعدة الثقافية والفلسفية والجمالية. في حين أن معنى مفهوم “الدورة” يحيلنا مباشرة إلى عملية “كوزمولوجية وغائية” لا يمكن لها أن تبشر بخطاب مابعد حداثي حافل بالتحولات السوسيو-ثقافية؛ والسوسيو-استطيقية والسياسية، كما هو الحال عليه في خطاب ما بعد الحداثة. فهل كان اعتماد مفهوم “الدورة” في ترجمة كتاب (دورة ما بعد الحداثة)، إستراتيجية من استراتيجيات فنون الترجمة، حاولت إيصال شيفرة للمتلقي حول افتقار النص الأصلي لآليات تحليل وتأويل “جينالوجيا” المفاهيم الجمالية والأعمال الفنية والأدبية التي جاء على وصفها وسردها الكاتب. ومن ثمة، فأن الكتاب تأسس على تحليل الخطاب الأدبي والشعري لعدد من الكتاب وأعمالهم الادبية، دون محاولة إعادة تفكيك “برادايمات المناهج والعلوم المنطقية والفلسفية التقليدية التي حكمت تاريخية العمل الفني/وفلسفة الجمال منذ أفلاطون إلى مرحلة ما بعد الحداثة؛ أو ربما دون إعادة تحليل وابتكار نظرية ثقافية مابعد حداثية جديدة، تأخذ على عاتقها مهمة تفكيك “لغة  ومنطق وأسلوبيات خطاب الحداثة القديم والمعياري” الذي سيطر على تاريخ الجماليات في الفكر الغربي. فلا يمكن لخطاب ما بعد الحداثة ان يتشكل ويُعاد تشكيله من جديد دون إحداث قطيعة ابستمولوجية/ومنعرجا ثقافيا مع بنية ونظام هذا المنطق الميتافيزيقي والمثالي القارّ في تاريخ  الفلسفة الغربية.

والغريب أن الأستاذ إيهاب حسن نفسه، لم يكن ميالا لاستعمال مفهوم “الدورة” في كتابه، حيث يقول: (( أدرك أن هذا كله لن يرضي أحدا يطلب “تعريفا” أكثر تحديدا لمابعد الحداثة. لكن الأفعال البشرية لا تتبع دائرة أو مربعا محكما كالأحداث التاريخية، فهي تروغ من التحديد البد هي))(إيهاب حسن:دورة ما بعد الحداثة،ترجمة محمد عيد إبراهيم ،ص،14)

فعلى ما يبدو،أن العلاقة بين مفهوم الدورة مع الدائرة التاريخية المحكمة، قد لا يتحقق فيها شرط المنعرج  التاريخي والثقافي لجينالوجيا المفاهيم الفلسفية والمنطقية التي سيطرت على إنتاج الأحكام الجمالية من جانب، وعلى فلسفة الجمال من جانب آخر. لكن الأستاذ إيهاب حسن، ورغم إشاراته المتكررة لطبيعة التحولات الثقافية لمابعد الحداثة،  لم يولِ عناية كافية واهتماما خاصا لعلاقة الفلسفة بالمناهج الأبستمولوجية مع خطاب ما بعد الحداثة من جهة؛ ولا إلى مفهوم المنعرج اللساني/الثقافي من جهة أخرى. ربما يعود هذا إلى تركيزه المفرط على ثقافة وقيم الرأسمالية- المتأخرة- لما بعد الحداثة، كالعمران؛ والأدب؛ والفنون بكافة صورها وأشكالها، إلى جانب اقتصاره على أنماط وصور الاستهلاك اليومي الشائعة والرائجة في مرحلة ما بعد الحداثة. لهذا لم تشغل المفاهيم الفلسفية حيزا وافيا ولم تأخذ حقها في تنظيراته الفلسفية من حيث النقد والمراجعة والتحقيق والتحري inquiry ، وكأنها مفاهيم لا ترتبط ارتباطا تواصليا بالتحولات والثورات العلمية والسوسيولوجية لمرحلة ما بعد الحداثة الجديدة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما جاء الأستاذ إيهاب حسن  على وصف تلك التحولات، اتسم وصفه بالنزعة التعميمية الجاهزة وليس الأسلوب التحليلي العلمي لبنية تلك المفاهيم، فيقول: ((ما الإنسان إلا حيوان مفكر،الخ – قد تروق لتواريخنا الثقافية.كيف،إذن،تنبثق من دون تعريفات،اعتقد ،بشكل اصطلاحي ،براجماتي،كما نفعل دوما،بشكل العرف.تميل دورة ما بعد الحداثة نحو تلك الطريق:فهي تتضح بوضع اصطلاحات وأفكار وسياقات رئيسية ،عما بعد الحداثة،في لعبة أوسع.واللعبة معنا شيء أليف،جد أليف،كما في مناظرة “ما بعد البنيوي”.لكن مع أن  ما بعد الحداثة و ما بعد البنيوية تتشاركان في اهتمامات عدة،إلا انهما في النهاية تقاومان الاندماج .تبدو ما بعد الحداثة أوسع ،عالميا،وأفقيا.يقع الفن،السياسة،التقنية،الثقافة كليا،ضمن بوصلتها،كما تتجه من المعمار الياباني إلى واقعية كولومبيا السحرية.وهكذا نرى سمة ما بعد الحداثة فضفاضة حرة، مبتذلة أكثر منها شنيعة، تكرب نقادها.فهل تلتئم ما بعد هذه المتجهات العالمية ذات يوم في نمط ملتحم؟النمط الوحيد الذي اقترحه حاليا،هو النمط الذي تستدعيه المقالات المختارة هنا،ضمنها.وأميز،في هذا النمط :اللاحتمي والتلازم ؛التمثل الوجودي،الأحداث الزائفة؛الوعي ناقص الهيمنة،التنوير والتلاشي في كل مكان؛الزمنية الجديدة،أو بالأحرى الزمنية التبادلية ،الإحساس بالعمل التاريخي ألتعددي؛النهج التخليطي أو اللعوب،المنتهك،أو ألتفكيكي،للمعرفة والسلطة؛وعي اللحظة التهكمي،المحاكي الساخر،الانعكاسي،الخيالي؛المنحى الالسني؛الآمر بالعلامات،في الثقافة؛وفي المجتمع عموما،عنف الرغبات المحلية المنتشر في تقنية الغواية والقوة معا.باختصار،أرى نمطا يراه آخرون أيضا:إرادة شاسعة ،تنقيحية ،في العالم الغربي،شفرات مزعزعة/مستوطنة،شرائع ،إجراءات ،عقائد،صارخة بما لا بعد الإنسانية؟.))(إيهاب حسن،المصدر نفسه،ص،15-16).

الملاحظ أن طبيعة النص أعلاه، جاءت حافلة بتحولات فلسفية مهمة جدا، فمن “الأبستيم الحداثوي العلموي المطلق” إلى “الأبستيم المابعد حداثوي التاريخي النسبي”. وهذا بطبيعة الحال، يشير إلى أكثر من منعرج في فلسفة ما بعد الحداثة، خاصة فيما يتعلق بالمنعرج اللساني والثقافي.

ما بعد الحداثة: جدل الأستطيقي والأسلوبي والبلاغي

قلنا سابقا،أن الخطاب الأستطيقي والجمالي في فلسفة ما بعد الحداثة،شكّل البؤرة الأساسية والرئيسية في مجمل تحولات هذا الخطاب، سيما المتعلق منها بعلاقة الجماليات باللسانيات وفلسفات العلوم الإنسانية التي انعرج فيها الخطاب الجمالي وتحول الى ممارسات لسانية/تواصلية وتعبيرية وتداولية، تضع في نظر اعتبارها المخاطَب/المتلقي. وهنا يمكننا أن نميز بين مرحلتين تاريخيتين في  فلسفة الجمال والأعمال الفنية والأدبية، فالمرحلة الأولى ظهر فيها مفهوم الجمال: ((بوصفه جوهر أما لكل ماهو حسي وروحي أو روحي محض. وهذا ما عمل عليه كل من أفلاطون في محاورة الفايدروس، والفيلسوف الألماني شيلنج، في الحفاظ مع مبدأ الجمال على الثالوث الهوياتي الميتافيزيقي: الجمال=الحقيقة=الخير=المطلق.)). ( Flex M. Gatz, the Object of Aesthetics. The journal of AESHETICS, FALL 1941.N,23,p.5)

وعلى أساس ذلك “الثالوث الهوياتي المتطابق” تشكّل منطق التأثر  بكل من فلسفة :((أفلاطون وأرسطو من خلال تأكيدهم الشديد على مفهوم الكلي/الشامل، الذي بدا واضحا مع اعتقاد الفلسفة الرواقية بالنزعة الكوزمولوجية، ومع امتداد ذلك التاثير الافلاطو-ارسطي مع المسيحية وتوافقها العام معه، مما ادى بالضرورة إلى ان يفقد الإنسان رؤيته الزمنية)). ( George Boas. THE JOURNAL OF AESTHETICS, SPRING, 1941, N, 1, P.53)

من هنا، أصبح هذا الثالوث اشبه بـ”الأساس الأنطولوجي التقليدي/الهرموني” لفلسفة الفن والجمال التي مثّلت في جوهرها عملية توتولوجية، بقيت محكومة بجدل المثالي/والتجريدي والكلي. وبهذه الطريقة، تشكلت أيضا المناهج والنظريات الجمالية التجريدية المتعالية: ((فبدء من النظريات الشكلية formalistic التي يستند تعريفها لمفهوم الجمال على مصطلحات مشتقة كليا من الشكل form ، ومرورا بالنظريات المثالية idealistic التي تحدد مفهوم الجمال بمصطلحات مشتقة كاملة من الأفكار ideas….وبذلك تكون النزعة الشكلية Formalism هي النظرية الكلاسيكية التي اشارت بالفعل إلى امكانية تعريف مفهوم الجمال وفق مصطلحات النظام أو الهارمونية الشكلانية، على النحو الذي يجعلنا نمتلك الوحدة -في- التنوع على حد سواء))( JAREDS.MOORE ,BeautyAS Harmony. THE JOURNAL OF AESTHETICS, N, 7, P.42).

أذن علينا ان نتساءل هنا، كيف يمكن لمنهج الفن والفنان أن يتشكل في ظل سيادة مثل هذه النظريات الهرمونية التقليدية؟ و ما هو المنطق الذي سوف يمثل طبيعة مناهج فلسفة الفن والجمال؟ وهل هناك استقلالية للعمل الفني وللفنان عن سيطرة هذا النظام الكلي؟ وما طبيعة الأسلوبيات واللسانيات التي ترعرعت في ظل هذه الهرمونية الأفلاطونية المثالية؟

أن التمركز الحداثوي على أسس العقلنة المنطقية والوضعية المعيارية، جعل من المنهج الفني :((مجرد عملية منطقية تتضمن على كل من: المنهج الاستقرائي والمنهج الاستدلالي ،تنسج على الدوام سياقا منفرداً لكل من الأشياء الواقعية وللإمكانيات المنطقية التجريدية لمفهوم القيمة. فعلينا أن نعترف أن أهم جزء في هذه العملية، هو ذلك الاستنتاج الفني، بأن ماهو منطقي يقع على النقيض مع عملية “الحدس الفني”))( JAMES FEIBLE MAN, The logical Value of The objects of Art. THE JOURNAL OF AESTHETICS,FALL,1941,N,2,3.P.74.)

لهذا، نلاحظ كيف ظلّ واقع العملية الفنية، إلى جانب فلسفة الفن والجمال، محكومة في مجملها وفق نظام “بنيوي شكلاني” أنتج بالضرورة “لغة فنية مجردة” مسيطرة عليها “أسلوبيات تراتبية” تجعل من قيمة العمل الأدبي كامنة في بنيته ونظامه الداخلي الشكلاني وتراكيبه السنتاكسية والمورفولوجية. فمع ((المنهج الفني التجريدي لم يعد بإمكان لأي احد أن يصبح فنانا. لكن ذلك يعني أن هناك إمكانية في العمل على مساعدة الفنانين في تطوير مهاراتهم الفنية، ومن ثمة، أن يتعلم تلاميذهم أكثر بكثير من طريقة محاكاة مجردة لأسلوب أساتذتهم)) ( Ibid,p,75).

من هنا، ينبغي ان يتركز منهج التحقق والتقصي الأبستمولوجي في الأستطيقا الجمالية على نقد سيطرة النزعات الموضوعانية Objectivism على أسلوبيات وبلاغة الخطاب الجمالي ونظام تشكل/وتشكيل وهيكلة الأعمال الأدبية القديمة، وذلك لأن :((الأسلوب في نهاية المطاف يمثل بعدا من الأبعاد الجوهرية والأساسية في اي تجربة إنسانية، لان علاقات التحكم والاستقلالية الذاتية تجري عملية تفاوض فيما بينها من خلال تركيبة متقنة من الكلام والإيماءة والإشارة، والزخرفة والتزويقات اللفظية. وأي وسائل أخرى لغرض تحوير ادراكاتنا وتشكيل أنماط استجاباتنا. بكلمة واحدة، إن خبراتنا الثقافية/السياسية صُممت مسبّقا بأسلوبيات تقليدية قبلية)) (Brand fond Vivian,Style,Rhetoric,and postmodern culture,p242).

لهذا، إن تحقق المنعرج من “الأستطيقا المركزية الحدثواية” المكتفية بأسلوبياتها التقليدية، إلى إستطيقا بوصفها تمثل بعدا من أبعاد “التجربة الجمالية السياسية/والسياسية الجمالية” يمثل “فلسفة الفعل الراديكالي المابعد حداثوي المسكوت عنها”. وذلك لانه ((على الرغم من أنه لا يزال الأسلوب يسلط الضوء على ردود الأفعال الأستطيقية، إلا إنه لم يعد يعمل بطريقة تدفع نحو الاستقلالية الفنية. بل أصبح الأسلوب يمثل ،في حد ذاته، مقولة تحليلية لفهم الواقع الاجتماعي، ومن ثمة، لغرض فهم سياسيات الواقع الاجتماعي. لذا، ينبغي علينا أن ننظر بعين الاعتبار إلى الكيفية التي يتضمن فيها الفعل السياسي على عملية صياغة وتشكيل تمثلاتنا وأحكامنا حسب أسلوبيات سياسية مسيطِرة)). (Ibid,p,224   )

من هنا، شهد تاريخ “الأستطيقا الجمالية” قطيعة ابستمولوجية جديدة، خاصة على المستوى الأسلوبي والبلاغي. وهذا ما بدا واضحا من خلال استعمال “هاريمان” لمصطلح حذر ما بعد الحداثة cautious postmodernism ” ، لان مشروعه المابعد حداثي ((….يؤكد على دراسة الأسلوب بحسب الأبعاد الجمالية للعلاقات الاجتماعية وليس على مبدأ الاستقلالية الفنية بمفرده. لكن حذر هاريمان يشير في الوقت نفسه، إلى اعتماده بشكل جليّ على التعريف الكلاسيكي الأرسطوطاليسي للبلاغة. فبلاغة وظائف الأسلوب السياسي تُعرف بوصفها ” إشهار لوسائل الإقناع التي تتسم بها ثقافة سياسية معينة يتمكن أي أحد من استعمالها لغرض تحقيق منافعه…فلا يمكننا بعد ذلك إذن تأويل مبادئ البلاغة الكلاسيكية دون العودة إلى مبدأ “الاستقلال الفني” استنادا إلى تعريفنا لمفهوم البلاغة الأصلي أعلاه))(Ibid,p,224-225)

إذن، أصبح من الواضح أن عملية فهم النظرية الأدبية/والجمالية  المابعد حداثية، لا يمكن لها أن تنفصل عن عملية إعادة تأويل “الجماليات وحقولها الفلسفية التقليدية”  في تمثل ممارسات تعبيرية ولسانية وسيمانتيكية  وخطاب تواصلي جديد، يٌعيد تعرية الأشكال البلاغية والأسلوبية التي مأسست بنية علاقاتنا وأنظمتنا الثقافية والاجتماعية، نتيجة لتحول هذه البلاغة إلى أسلوبيات سياسية سلطوية تسيطر على مفاصل الحياة الماكروفيزيائية/والميكروفيزيائية. وهنا تكمن أصالة مابعد الحداثة المستندة على :((مبدأ التحقق البلاغي Rhetoricale inquiry الذي يوفر الوسائل الملائمة للكشف ليس عن أهمية الأسلوب بوصفه أداة لتنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية فحسب، بل وعن الطرق التي تعمل على عملية توليدها والحفاظ عليها وإعادة تشكيلها أيضا. وذلك بهدف تجنب اختزال النماذج الجمالية الديناميكية في الحياة المجتمعية إلى مجرد نطاق ذو صلاحية دائمة من الخيارات الاقناعية الجاهزة، أو إلى عقلانية متأصلة في بنية المثل الإنسانية. مع ذلك، ينبغي علينا توثيق الوظيفة البلاغية دون الاعتماد الحصري على مفهوم البلاغة  الارسطوطاليسي. وهنا تقع  بالضبط الفرصة المناسبة في إعادة تعريف “شرائع الأسلوب” من خلال التأكيد على أهمية دلالته في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وذلك من اجل ضمان تعزيز مبدأ التحقق البلاغي بهدف وضع رؤية أفضل للتغيرات الحاضرة والمستقبلية في العلاقة المتداخلة بين الخطاب الجماعي والجماليات الثقافية.)).(Ibid,p,225-226)

ما بعد الحداثة: بين أيهاب حسن وفريدريك جيمسون

سنحاول هنا تسليط الضوء على طبيعة العلاقة الإشكالية المركبة بين كل من: فعل الكتابة/وعملية إنتاج التصورات والتمثلات للحياة والنظام الثقافي للوجود الإنساني في العالم. والذي سيقودنا بالضرورة إلى أجراء بعض المقاربات اللسانية والأسلوبية والجمالية لمفاهيم الكتابة وتحولاتها وتمفصلاتها مع بقية حقول العلوم الإنسانية الأخرى، بين كل من أيهاب حسن وفيلسوف مابعد الحداثة المتاخرة فريدريك جيمسون.

انطلق إيهاب حسن في تصوره لمفهوم الكتابة من منظور رؤيوي يجمع بين فحش النص الأدبي وسرياليته الجمالية والباطنية التي تكمن في بنيته ونظامه اللغوي من جانب و الأنطولوجي والأدبي من جانب آخر. ومن الواضح ان هناك حضورا غالبا “للسرد السريالي اللاتاريخي” في قراءاته وتأويلاته لمعنى الأدب والكتابة ونظام إنتاجها وتوزيعها الثقافي في العالم. فحينما جاء على عرض بعض النماذج من الكتاب والفلاسفة والفنانين، نراه يصف على سبيل المثال لا الحصر، مفهوم الكتابة لدى بيكيت بكونها: ((…لعبة عبثية. بحس معين، نعتقد أن أعماله كأنها محاكاة ساخرة لنظرية لودفيج فتجنشتاين حيث اللغة نظام العاب،مماثل لحساب القبائل البدائية. إن محاكيات بيكيت الساخرة، مشبَعة بحقد شخصي، وتكشف عن ميل عام ضد الأدب…. والفن ذو مجال مغلق إذ صار لعبة عبثية من التباديل، كما يرضع مولوي حجارة الشاطئ، و”يعتزل الكلمة”…. تكتفي مفاهيم الأدب بالإمتاع ،كلعبة وكحدث يندمجان بشكل آخر في صمت استعاري: فحش الأدب. يصعب تعريف المصطلح برداءة سمعته عدا الحدث الرسمي؛ استخدمته هنا لأشير أساسا إلى إعمال تربط الفحش بالاحتجاج. كما يتيسر فهم أنه في ثقافة ممنوحة بقمع جنسي، يأخذ الاحتجاج شكل الصدى الدائري للفحش. الأدب الفاضح لهذا الحافز هو أدب تمرد. عموما، فالفحش مختزل بعنف، ومصطلحاته ومقابلاته وأشكاله المبتذلة محددة بصرامة.وعندما تبرد خلفية الغضب ،يتبدى الفحش كلعبة تباديل، مقتصرا على كلمات عدة وإحداث اقل)).( إيهاب حسن،المصدر نفسه،ص 28،29)

من الملاحظ، أن انشغال الأستاذ أيهاب حسن على توضيح الجوانب السلبية والجنسية والفضائحية في الكتابة، جرّد مفهوم الكتابة من أبعادها الجمالية واللسانية والفلسفية، بل وحتى الراديكالية والبراكسيسية الفعّالة، سيما عندما يتعلق الأمر بأعمال “بيكيت” التي اظهرهها وكانها مجرد “محاكاة أفلاطونية” لألعاب لغوية فارغة ومجوفة، لا تبشر بقيّم جمالية وأخلاقية جديدة. في حين أنه من المعروف، أن كتابات بيكيت أصبحت مرجعا لا غنى عنه في إعادة قراءة الخطاب الفلسفي والنظرية الأدبية الجديدة، ناهيك عن أهمية أطروحاته اللسانية واللغوية التي سطرّها في رسائله التي صدرت في أربع أجزاء من جامعة كامبردج. ربما كان غياب البعد التاريخي والفلسفي في رؤية إيهاب حسن لمفهوم “ما بعد الحداثة” احد اهم الأسباب التي جعلته يقع في دائرة تعميم المفاهيم الثقافية والأستطيقية والفلسفية والمعمارية أيضا. الأمر الذي أدى إلى ضمور “مناهج النظرية الأدبية والثقافية إلى جانب النظرية الجمالية واللسانية”، هذا على الرغم من أن الأستاذ إيهاب حسن جاء على ذكر مجمل حقول العلوم الإنسانية ذات الصلة بخطاب ما بعد الحداثة. لكن، وكما ذكرنا سابقا، كان تركيزه على الابعاد الكونية و العولمية والاستهلاكية والمعمارية الرأسمالية كبيرا إلى الحد الذي جعله لم يتمكن من تجاوز ماهو مقرر وسائد عن مفهوم ما بعد الحداثة عنده، بل كاد يتحول إلى معيار norm . لهذا، تتمثل رؤيته نحو مفهوم ما بعد الحداثة: ((بوصفها عملية عالمية، لا يفترض أن تتماثل في كل مكان على الإطلاق، كما إنها ليست شاملة، ويمكن تخيلها كمظلة واسعة، تقف تحتها مجموعة من الظواهر المختلفة، مثل ما بعد الحداثية في الفنون، وما بعد البنيوية في الفلسفة، والنسوية في الخطاب الاجتماعي، ودراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات الثقافية في الأكاديمية، وكذلك تضم الرأسمالية العالمية، وتكنولوجيا الاتصالات، والإرهاب الدولي، والاختلاط العرقي والقومي، والحركات الدينية، كل هذه الظواهر تقع في سياق مابعد الحداثة دون أن تكون متضمنة فيها بشكل سببي. ويمكننا أن نستنتج نقطتين مما سبق :

الأولى: تتواءم مابعد الحداثية كظاهرة ثقافية مع التقنية العالمية، والمستهلك، وقيادة الأجهزة الإعلامية الاجتماعية.

الثانية: تشير ما بعد الحداثة كعملية جغرافية سياسية عالمية، إلى ظاهرة كوكبية تفاعلية،يتخلل نسيجها القبلية، والإمبريالية، والأساطير، والتكنولوجيا، والهوامش، والمراكز هذه المفاهيم غير المتكافئة تخرج طاقاتها المتصارعة ،في اغلب الأحيان على شبكة الإنترنت.)).( إيهاب حسن،تجاوز ما بعد الحداثية أو التفاعل المفتوح بين المحلي والعالمي،ترجمة ،محمد سمير عبد السلام الكلمة،مجلة الكلمة،العدد العاشر،اكتوبر2007،ص 4)

والغريب أن إشكالية التعليم وصناعة هيمنة المناهج التقليدية في فلسفة وخطاب ما بعد الحداثة، لم تشغل حيزا في مرحلة “ما بعد الحداثية”،باعتبارها تتوسط الأدب والثقافة والتعليم. على الرغم من الإشارة المهمة للأستاذ إيهاب حسن،  والمتعلقة بمفهوم “الهيمنة الناقصة”، إلا أن هذا المفهوم ظل يشير ويحيل في كتابات إيهاب،  أكثر مما يدل ويعني. بعبارة أخرى، إن العلاقة الإشكالية بين كل من: الهيمنة والسلطة والمعرفة واللغة، لم تكتمل ولم تأخذ حقها الكافي من البعد التنظيري والتأويلي الذي توفرت عليه أعمال المفكر الراحل ادوارد سعيد. ربما يعود ذلك ، لأن مفهوم “النقد الجامعي المابعد حداثي” هو الموضوع يحيلنا مباشرة إلى نقد الأطر التراتبية والطبقية المهيمنة في كل زمان ومكان، وهذا ما قد يستدعي بالضرورة، حضور النظرية النقدية والماركسية والدراسات الأنتروبولوجية واللسانية التعددية، التي تأخذ على عاتقها مهمة تفكيك آليات التعلم والتعليم النخبوي والشكلاني المدعوم رسميا من قبل ايديولوجيا المنطق التقليدي القديم.

وعندما مطالعتنا  لكتاب المفكر فريدريك جيمسون “المنعرج الثقافي The Cultural Turn” نجده قد عرض أولا  لإشكالية التعليم النخبوي/والشعبي بين الحداثة وما بعدها، بوصفها إشكالية احتلت الصدارة في كتابه الأنف الذكر،فما ميّز معظم ما بعد الحداثيين: ((…أنهم ظهروا كرد فعل الموجهة ضد الأشكال المؤسساتية لنزعة الحداثة النخبوية، وضد هكذا نوع من الحداثة النخبوية المهيمنة على مؤسسات: الجامعات، المتاحف الفنية، شبكة القاعات الفنية والجمعيات وغيرها. الذين عملوا سابقا على مناهضة وتدمير كل ما يبشر بولادة اسلوبيات جديدة، بهدف المحافظة على النزعة التعبيرية التجريدية…. ومن جهة أخرى، إنهم عملوا على إزالة بعض من القيود والحدود الأساسية التي تبرز ذلك التلاشي للتمييز القديم بين الثقافة العليا وبين ما يدعى بالثقافة الشعبية. ولعل هذا كان من أكثر التطورات المؤلمة والفاجعة للنخبة الأكاديمية التي اعتادت أن تتحصل على امتيازات واسعة بواسطة حفاظها على ثقافة النخب المتعالية ضد ما يحيط بهم من حركات طليعية قد تهدد تقاليدهم العريقة))( FREDRIC JAMESON, THE CULTURAL TURN, P, 1, 2.)

من هنا، لم يعد بالإمكان فهم  “فلسفة ما بعد الحداثة” دون العودة إلى جينالوجيا علاقاتها الإشكالية المرتبطة بكل من: التعليم؛ والتاريخ؛ والجماليات، وعلاقة هذه الحقول بالخطاب السوسيو-ثقافي؛ والسوسيو-سياسي والسوسيو-لساني. لهذا، كان شكلت أعمال فلاسفة ما بعد الحداثة في تفكيك منطق وأسلوبيات التعليم القديمة، صدمة لمفاهيم “الهيمنة الحداثوية المطلقة” التي كانت تسيطر عليها نخب ومناهج وأساليب ولسانيات طبقية محددة. فكانت بذلك تمثل قطيعة راديكالية ضد الثقافة المهيمنة والأستطيقيا الجمالية التقليدية- حسب ليوتار- .

لهذا،نرى كيف ان فريدريك جيمسون عمل على إعادة تفكيك منطق مابعد الحداثة لمرحلة “الرأسمالية المتأخرة”،خاصة فيما يتعلق بنقد الفنون الجمالية والأنواع الأدبية التي شكلت قطيعة مع بلاغة الحداثة وأسلوبياتها التقليدية/ المعيارية. فهو يرى، ان خصائص الأدب في مرحلة مابعد الحداثة، تختلف اختلافا جذريا عن خصائص الأدب في مرحلة الحداثة، وذلك لأن هذه المرحلة: ((استندت على صيغ أسلوبية بنيوية ووظيفية  خاصة)) (Ibid,p,2)

ربما ان أهم ما ميز  كتابات جيمسون المابعد حداثية ،هو حضور منطق البحث والتحققinquiry الفلسفي والتاريخي،في مجمل كتاباته الثقافية والجمالية بل حتى السياسية منها، سيما وهو قد عمل على  إعادة قراءة الخطاب الماركسي إلى جانب نقد النزعات الشكلانية في الفلسفة والأدب منذ أرسطو إلى المدرسة الشكلانية الروسية، وتشخيص إعراضها الباثولوجية المسيطرة على الخطاب الفلسفي والأدبي في الفكر الغربي. وقد اشتمل كتابه”إيديولوجيات النظرية   THE IDEOLOGIES OF THEORY “على نقد معمق لغرض تفكيك أهم الأسس التاريخية والنظرية والفلسفية،التي مهدت لولادة خطاب “ما بعد الحداثة” خاصة فيما يتعلق بالخطاب الأدبي الطليعي الذي بشر ببلاغة جديدة اصطلح  على تسميتها جيمسون ببلاغة “المعارضة الأدبية   Pastiche  ” وفن المحاكاة الساخرة الذي عده جيمسون: ((واحدا من أهم سمات وممارسات ما بعد الحداثة اليوم))(Ibid,p,4)

فمن خلال عملية تحليل ونقد لغة وبلاغة ما بعد الحداثة، حاول جيمسون تقويض أسس الثقافة/وثقافة الأسس الميتافيزيقية القارّة والمستقرة في بنية الخطاب الأدبي والجمالي الذي سيطرت عليه أسلوبيات وتقنيات الحداثة المجردة والمفرطة بالتمركز العقلاني من جهة، والتمركز الطبقي من جهة أخرى. لهذا، فأن منطق المعارضة الأدبية، هو في الواقع، يمثل منطق “الثقافة الطليعية الجديدة” التي تُعيد النظر بكافة الأشكال الثقافية بدء من نقد بيداغوجيا التعلم والتعليم إلى تفكيك لغة “لسانيات الأستطيقا” والانعراج بها من التقوقع حول العمل الفني المتبرجز، إلى مرحلة تشكل فيها علاقة تواصلية مع الكائن الإنساني ومع ممارسات إنتاج لغته التداولية وخطابه الثقافي اليومي. وهذا ما شخصه جيمسون، حينما لاحظ أن: ((الإنتاج الثقافي كان مدفوعا إلى داخل العقل، منطويا كموضوع متفرد ومنعزل كالموناد عند الفيلسوف ليبنز، بل ولا يمكن له النظر مباشرة إلى العالم الواقعي خارج حدود ذلك العقل. لأنه ينبغي ،كما في أسطورة كهف أفلاطون، أن يبقى تابعا لأثر الصور الذهنية للعالم المحصور داخل جدران الكهف))(Ibid,p,10)

ختاما،أن الهدف من  محاولتنا لأجراء  بعض المقاربات الفلسفية والثقافية في خطاب وفلسفة ما بعد الحداثة بين كل من: الفيلسوف المصري إيهاب حسن؛ والفيلسوف الأمريكي فريدريك جيمسون، هو من اجل فهم وتأويل بعض الأفكار والمناهج والفلسفات اللسانية واللغوية التي تعرضت إلى أكثر من منعرجا ومنعطفا في ظل خطاب ما بعد الحداثة. وهذا ما يجعلنا نتعامل مع خطاب ما بعد الحداثة ليس بوصفه يمثل حالات شاذة وتحولات لصور الانتهاك والفحش الأدبي والأوديبي وإنتاج فن الخيبات الجنسية الملازمة لتكوين بنية النص  الأدبي، بل على العكس من ذلك، ينبغي قراءة ما بعد الحداثة بوصفها تمهيدا لمرحلة “ما بعد الفلسفة التقليدية وما بعد الأنساق الأفلاطونية والأرسطوطاليسية الميتافيزيقية” كما أراد لها ذلك مارتن هايدجر وآخرون. ومن ثمة، فأن الحديث عن خطاب ما بعد الحداثة بوصفها تقليعة غربية لا تبشر إلا بما هو إشهاري وتجاري واستهلاكي، هو حديث إيديولوجي بالضرورة، لأنه يفصل بين الفلسفة وتحولاتها الميتودولوجية؛ والتاريخية؛ وبين ما بعد الحداثة وخطاب الدراسات  الثقافية واللسانية والجمالية التي شكلت بمجملها الخطاب الطليعي الجديد والمسكوت عنه في القول الفلسفي العربي الراهن.

 

(*)إيهاب حسن: دورة ما بعد الحداثة، ترجمة محمد عيد إبراهيم، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، ط 1،2015

(**)باحث من العراق-مختص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها

 

 

 

 

إيهاب حسن: تجاوز ما بعد الحداثية: أو التفاعل المفتوح بين المحلي والعالمي

ترجمة: محمد سمير عبد السلام

  1. مقدمة المترجم

يصف إيهاب حسن في هذا المقال، تحولات اللحظة الحضارية الراهنة، انطلاقا من صيرورة سياق ما بعد الحداثة، وقد تجاوزت نفسها كظاهرة في الهندسة المعمارية، والأدب، والفلسفة، والفنون منذ الستينيات، فيما يعرف بظاهرة ما بعد الحداثية. وينطلق إيهاب حسن من خاصية انعدام الحدود الواضحة فيما بعد الحداثة كما بدأ بوصفها مع آخرين منذ أكثر من ثلاثين عاما، ليبدأ بوصف التناقضات، وأسئلة الهوية المحلية، والعالمية، واللغة التفاعلية الجديدة بين المحلي والعالمي على الإنترنت، ومن ثم فهو يتوقع لسياق التفاعل المفتوح أن يعيد التساؤلات الحضارية القديمة والمتجددة، حول الهوية الثقافية، حيث يسهب في شرح أصولها البيولوجية، والقبلية القديمة، ليصل إلى امكانية انفتاح الحدود بين الثقافات، والأفكار في تفاعلية إبداعية تجمع بين المحلي، والعالمي، وتتجاوز وحشية القوة المؤكدة للأنا في مقابل الآخر.

ويعد هذا المقال بيانا ينتقل فيه إيهاب حسن من تكرار ظهور شبح الظاهرة ما بعد الحداثية، والتحقق التأويلي التاريخي المتجاوز لما بعد الحداثة، وفيه تتحرر نقاط التفاعل، من حدود التميز القديمة التي بدأت تتسلل لظاهرة ما بعد الحداثة، إذ يشترك الجميع بوعي أو بغير وعي في معايشة التحول الراهن لسياق ما بعد الحداثة. ويختلف وصف إيهاب حسن للسياق الثقافي / التاريخي الجديد عن غيره من المفكرين والنقاد الذين ترتكز رؤاهم حول علامات فارقة في الحقبة الراهنة بين ما بعد الحداثة، وما يتجاوزها، فهم يضعون ظواهر جمالية، وثقافية جديدة، أو يتحدثون عن عودة جديدة للحداثة التكنولوجية، لكنه يجعل من تحول سياق ما بعد الحداثة مجالا مفتوحا للتفاعلية، دون وضع لحدود أخرى.

وتتميز كتابة إيهاب حسن بتأكيد تعددية الهوية، والجمع بين المجاز ـ مثل شبح ما بعد الحداثة ـ والسياق الثقافي، أو التاريخي، أو ما يدعى بالحقيقي، كما يعيد تركيب بعض المصطلحات بشكل إبداعي، مثل كلمة Glocal التي تجمع المحلي والعالمي معا. إن الشبح يتجانس مع خاصية انعدام التحديد التي يؤكدها حسن من بداية البيان إلى نهايته، وأرى أنه همزة اتصال خفية بين ظاهرة ما بعد الحداثية، والسياق التفاعلي الجديد بين الثقافات والأفكار، حيث يميل الآن إلى تجسد غير واع من داخل تكراره الملح في السابق، ومعاينته لأفول يحتمل بدايات جديدة.

كما تتداخل في كتابة إيهاب حسن الأخيلة السردية المولدة عن الأعمال الأدبية، ومظاهرها الواقعية على الخريطة دون انفصال، أما اللغة التفاعلية التي يقترحها تتجاوز تأكيد الأنا لإدخاله في الروح الكونية، ومن ثم نجد الأدب حاضرا في الجغرافيا السياسية، والنسيج الكوني معا. ولي ثلاث تعليقات على بيان إيهاب حسن:

الأول: عندما وصلت نزعة الشك، واللامبالاة واللعب السوداوي، في الفن إلى الحدود القصوى بدأ إيهاب حسن يتحدث عن نهاية هذه النزعة، واستبدالها بشيء من التصديق تنفتح فيه الحدود، ولكن من داخل سياق التفاعل الجديد يمكن لهذه النزعات أن تعود بصور جزئية، وممزوجة بعناصر تاريخية، وفنية أخرى.

الثاني: خصص حسن جزءا من البيان حول علاقة ما بعد الحداثية، بالبراجماتية الأمريكية، ولم يتطرق للآلية السلوكية التي ميزت فكر بعض روادها مثل بيرس وديوي وسكنر، حيث يرتكز حسن على الأداء المتجاوز للقضايا العقلانية الكبرى، وهنا تبدو نقطة اللقاء، والتداخل، وتصير احتمالا مضافا لما بعد الحداثة يدفع بها إلى ما يتجاوزها، دون أن تكون عنصرا تكوينيا، فاللغة التفاعلية التي تبدأ من نبذ التمركز حول القوة الذاتية تنفتح أدائيا، في مجال النصوص، والجغرافيا، والعناصر الكونية لتتلاشى النزعات الحتمية، أو تتحول إلى فضاء أكثر اتساعا هو فضاء تجاوز ما بعد الحداثية.

 

الثالث: مثلما يفكك إيهاب حسن العنصر الزمني المتضمن في تعبير ما بعد الحداثية، بما يتجاوز التاريخية، فإنه يحرص ضمن السياق الجديد أن يفكك أحادية الهويات الثقافية بما تتضمنه من احتمالات الآخر بداخلها.

  1. مقال إيهاب حسن

أولا: ماذا كانت ما بعد الحداثة، وماذا تمثل الآن؟

أعتقد أن ما بعد الحداثة صارت الآن شبحا، أو عودة لمدلول منفلت من الحدود، وكلما نظن أننا قد تخلصنا منها، ينهض شبحها مرة أخرى، فهي تماثل هذا الشبح؛ إذ تستعصي على التعريف، أو محاولة وضعها في إطار. أعرف اليوم دونما شك ـ القليل عن ما بعد الحداثة، مقارنة بما كنت أعرف منذ أكثر من ثلاثين عاما، عندما بدأت الكتابة عنها؛ ربما لأنها قد تغيرت، مثلما تغيرت، وتغير العالم. هذا التغير يؤكد نفاذ بصيرة فريدريك نيتشه ؛ إذ يرى أنه إذا كان للفكرة تاريخ، فإنها تصير تأويلا، أو موضوعا للمراجعة، والتنقيح في المستقبل. أما الفرار من التأويل، ومن ثم إعادة التأويل، فهو مفهوم أفلاطوني، أكثر انتماء للتحليل النظري، مثل الدائرة، والمثلث، والإنسانية، والرومانسية، والواقعية، والحداثية، وما بعد الحداثية، وسوف تخضع هذه المفاهيم للتحول المستمر، خاصة في فترة صراع الأيديولوجيات، والنشاط المفرط للميديا.

ولكن أفكار ما بعد الحداثية مازالت تتردد في خطاب الهندسة المعمارية، والفنون المختلفة، والعلوم الإنسانية، وأحيانا الفيزياء، كما أنها لم تقتصر على المؤسسات الأكاديمية، بل نجدها أيضا في الخطاب الشعبي، وعوالم السياسة، والبيزنس، والميديا، وصناعات التسلية، كذلك شاعت في لغة الأساليب الشخصية للحياة ؛ مثل طريقة طهو ما بعد حداثية، ومطبخ ما بعد حداثي. والخلاصة، ليس هناك إجماع حول معنى ما بعد الحداثية. إن المصطلح، فضلا عن المفهوم ينتمي إلى ما يطلق عليه الفلاسفة الفئة المتنازع عليها جوهريا، وبلغة أبسط، إذا وضعت أهم المفكرين الذين ناقشوا المفهوم مثل ليسل فيدلز، وتشارلز جنكس، وجان فرانسوا ليوتار، وبرنارد سميث، وروزاليند كراوس، وليندا هاتشون، بالإضافة إلي، في غرفة واحدة، ثم أضفت الإرباك الملازم للمفهوم، وأغلقت الغرفة، وألقيت بالمفتاح بعيدا، لن يحدث اتفاق بين المناقشين، ولو مر على اجتماعهم أسبوع، بل ستجد خيطا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة.

دعنا لا نستسلم لليأس، فإذا كنا غير قادرين على تعريف شبح ما بعد الحداثية، أو التخلص منه، فيمكننا أن نقترب منه، أو نفاجأه من أكثر من زاوية، فربما نثيره ليدخل نطاقا جزئيا مضيئا، وخلال هذه العملية نستطيع الكشف عن عائلة من الكلمات تتجانس مع تعبير ما بعد الحداثية، وأشير هنا إلى بعض الاستخدامات الحالية للمصطلح:

1 – بعض أعمال الهندسة المعمارية، درست كأمثلة لعمارة ما بعد حداثية، مثل متحف جاجنهيم لفرانك جاري في مدينة بيلباو الأسبانية، وقصر أشتون ريجات مكدوجال في ميلبورن بأستراليا، ومركز سكيوبا لأرتا أيسوزوكي في اليابان، وأصحاب هذه الأعمال تجنبوا خشونة الزوايا الهندسية للباوهاوس، ونقاءها التجريدي، فمثلا الأطر ذات الحد الأدنى من المعدن مع الزجاج عند فان دير روه تخلط العناصر الجمالية، بالتاريخية، كما تعبث بالشظايا، وتستخدم العناصر الرديئة.

2 في كتابه الصادر مؤخرا الإيمان والنسبية، يستخدم البابا جون بول تعبير ما بعد الحداثية ؛ لإدانة النسبية المفرطة في النظر إلى القيم والمعتقدات، وكذلك النزوع إلى السخرية، والشك في العقل السببي، ومن ثم إنكار فكرة الحقيقة.

3- في مجال الدراسات الثقافية انغمس مصطلح ما بعد الحداثية بشدة في الحقل السياسي، وعادة ما يستخدم في مقابل ما بعد الكولونيالية، فقد اعتبر الأول غير مبال، وغير فعال من الناحية التاريخية، والسياسية، فهو الأسوأ لأنه لا يحمل تعديلا سياسيا.

4 في نطاق الثقافة الشعبية تشير ما بعد الحداثية، أو بو مو كما يسميها بعض المحترفين إلى مدى واسع من الظواهر، والأحداث، من أندي وارهول حتى مادونا، ولصوق الموناليزا الكبيرة، وقد شاهدت صورة العملاق لديفيد ميكلانجلو في إعلان شركة باشينكو في طوكيو، وكان من الضخامة بحيث تمر الكاميرا على كل جزء من كتفه المفتولة بمعزل عن الجزء الآخر، وكذلك شاهدته في إعلان شركة الرحلات كونتكي في نيوزلندا.

في أي شيء يشترك هؤلاء؟

حسنا يمكننا الإشارة إلى سمات مثل اختلاط الأساليب، والشظايا، والنسبية، والمحاكاة الساخرة، والقص واللصق، ومقاومة الروح الشمولية، والأيديولوجيا. ولهذا سوف نبدأ في بناء عائلة من الكلمات تتلاءم مع ما بعد الحداثية، وسوف نبدأ بإنتاج السياق، إذا لم يكن هناك من حد له، ويمكن للقارئ الذي يريد التوسع أن يراجع كتاب فكرة ما بعد الحداثية، لهانز برتنز، فهو أوسع مقدمة أعرفها عن الموضوع، لكنني الآن يجب أن أقوم بحركتي الثانية، الخدعة الثانية للاقتراب من ما بعد الحداثية من منظور مختلف.

ثانيا: ما بعد الحداثية، وما بعد الحداثة

لم أرتكز بقدر كاف في أعمالي المبكرة، على كشف الاختلاف بين ما بعد الحداثية، وما بعد الحداثة. هذا الاختلاف سيشكل النقطة الرئيسية في هذا البيان، وسوف أعود إليه بالتفصيل لاحقا. دعني أقول ببساطة في هذه اللحظة، بأنني أعني بما بعد الحداثية الإشارة إلى المجال الثقافي، خاصة الأدب، والفلسفة، والفنون المختلفة، متضمنة الهندسة المعمارية، بينما تشير ما بعد الحداثة إلى مجال الجغرافيا السياسية، وقد كانت أقل أهمية من تعبير ما بعد الكولونيالية المربك، وقد انتشر في العقود الأخيرة ؛ ليبرز نطاقي العولمة، والتموضع المحلي، ويدمجهما بأساليب غريبة.

الاختلاف هنا ليس بين بناء فوقي، وآخر تحتي كما هو في الماركسية، ذلك أن الحقول السياسية والدينية، والتقنية، والاقتصادية الجديدة يصعب أن تتلاءم مع الفكر الماركسي. ولا تستوي ما بعد الحداثة بتعبير ما بعد الكولونيالية ؛ فقد تشكل الأخير من خلال القلق إزاء الإرث الاستعماري.

يمكننا إذا التفكير فيما بعد الحداثة بوصفها عملية عالمية، لا يفترض أن تتماثل في كل مكان على الإطلاق، كما أنها ليست شاملة، ويمكن تخيلها كمظلة واسعة، تقف تحتها مجموعة من الظواهر المختلفة، مثل ما بعد الحداثية في الفنون، وما بعد البنيوية في الفلسفة، والنسوية في الخطاب الاجتماعي، ودراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات الثقافية في الأكاديمية، وكذلك تضم الرأسمالية العالمية، وتكنولوجيا الاتصالات، والإرهاب الدولي، والاختلاط العرقي، والقومي، والحركات الدينية، كل هذه الظواهر تقع في سياق ما بعد الحداثة، دون أن تكون متضمنة فيها بشكل سببي.

ويمكننا أن نستنتج نقطتين مما سبق:

الأولى: تتواءم ما بعد الحداثية كظاهرة ثقافية مع التقنية العالية، والمستهلك، وقيادة الأجهزة الإعلامية الاجتماعية.

الثانية: تشير ما بعد الحداثة كعملية جغرافية سياسية عالمية، إلى ظاهرة كوكبية تفاعلية، يتخلل نسيجها القبلية، والإمبريالية، والأساطير، والتكنولوجيا، والهوامش، والمراكز هذه المفاهيم غير المتكافئة تخرج طاقاتها المتصارعة، في أغلب الأحيان على شبكة الإنترنت.

ذكرت من قبل أنني لم أميز بقدر كاف بين ما بعد الحداثية، وما بعد الحداثة، وللإنصاف فقد لاحظت وقتها ـ سمة داخلية في ما بعد الحداثية نفسها، تتفق مع السياق الكوكبي الجديد لما بعد الحداثة، ففي مقالي المعنون ب “الثقافة، وانعدام الحدود، وأصالة الهوامش في العصر ما بعد الحداثي” سنة 1977، صغت التعبير “أصالة انعدام التحديد” لوصف ميلين متباينين في ما بعد الحداثية، يشير الأول إلى انعدام التحديد في المجال الثقافي، والثاني إلى أصالة المجال التكنولوجي. مثل هذه الميول ذات الطابع الاختلافي تصير بديلا عن الجدلية، إذ تتغير باستمرار خارج التركيب الهيجلي، أو الماركسي. ومن ثم أعتقد أنه ليس هناك شخص ينتمي إلى سياق ما بعد الحداثة بدرجة أقل من الآخر.

تتضمن العناصر غير القابلة للتحديد مفاهيم عديدة منها ؛ النزوع إلى الانفتاح، والتجزؤ، والغموض، واللامركزية، والتعدديه، وانقطاع المتوالية الاتصالية، والهرطقة، ونقد البنية الشكلية، أو إرجاء المدلول، وسنجد أن المفهوم الأخير وحده يتضمن دستة من المصطلحات مثل التفكيكية، والإزاحة، والتفكك، والاختلاف، والاختفاء، والغياب، ومقاومة المتوالية الاتصالية، ومقاومة التعريف، والحقيقة، والنزعة الاستعمارية، والفكر الشمولي..، وبواسطة هذه العناصر، والحركات ستبطل مؤثرات التجسد السياسي، وتجسد الإدراك، والجنس الجسدي، والروح الفردية، والعالم الكامل الحقيقي في الفكر الغربي. وفي مجال الأدب وحده سوف تتغير أفكارنا جميعها، حول المؤلف، والجمهور، والقراءة، والكتابة، والكتاب، والنوع، والنظرية النقدية، والأدب نفسه. كل شيء يخضع للتساؤل، والمراجعة ؛ ليس بسبب العجز، وإنما لإعادة الإنشاء في مسارات عديدة، ومختلفة، كما أن هذه العناصر فضلا عن انعدام التحديد، والمراجعة المستمرة، ذات طبيعة تناثرية، وانتشارية، نظرا لتدفق التقنيات المعاصرة.

وهذا هو الميل الثاني فيما بعد الحداثية، وأستخدمه هنا دون أصداء أيديولوجية، لتعيين قدرة العقل على دمج نفسه في الرموز، ويتخلل هذا الميل الطبيعة، أكثر فأكثر، كما يؤدي من داخل تجريده الحاص، ويبني مشروعه الإنساني الواعي في نطاق كوني. هذا الميل العقلي يوصف بكلمات مثل الانتشار، والتناثر، والتغيير الأساسي، والتفاعل، والاتصال، وكلها مشتقة من حالة انبثاق البشر كحيوانات لغوية، أو جنس تصويري إشاري، أو مخلوقات تعيد إنشاء نفسها، برموز جعلت ملكها، ويمكننا أن نطلق عليها هرطقة نصية خارقة للمعرفة، إذ يختلط الحقيقي والقصصي، ويصير التاريخ حدثا إعلاميا، إذ تؤخذ نماذجه كوقائع يسهل الحصول عليها، أما علوم الاتصالات فتتحدانا بلغز الذكاء الاصطناعي، فكمبيوتر الأزرق العميق يتحدي كاسباروف بطل الشطرنج، كما تضع خطوط التقنية مدركاتنا الحسية على الحافة، في أبحاث الذرة، والإطار الواسع للكون معا.

تتفاوت هذه الميول ـ بلا شك من بلد لآخر؛ ففي الولايات المتحدة، واستراليا، وألمانيا، واليابان صارت ما بعد الحداثية مألوفة داخل الجامعة، وخارجها، وفي أغلب المجتمعات الكبرى نراها كظاهرة ثقافية تشير إلى ميل مضاعف لتجاوز الحدود، والأشكال الأقرب للمتاهة، والتشابك، وتعود جذورها لجيل دولوز، وغتاري. ورغم ذلك فالأرض أكثر أهمية من كوكب هوليود، أو بنك دويتش، أو ميتسوبيشي، لقد تغيرت صلة ما بعد الحداثة، بانعدام التحديد على المستوى الثقافي لما بعد الحداثية، إلي سياق جديد من صراع النزعات المحلية والعالمية، مثل الإبادات الجماعية، في البوسنة، وكوسوفو، وألستر، وروندا، والشيشان، وكردستان، وسيريلنكا، والتبت وغيرها.

في الوقت نفسه تحول الجانب الثقافي في ما بعد الحداثية، إلى التجسد في مجموعات ساخرة، وألعاب مسدودة النهايات، أو مجرد إثارة في وسائل الإعلام.

لقد أضفنا هنا بعض المصطلحات الجديدة لعائلة ما بعد الحداثية مثل أصالة عدم التحديد، والنزعة النصية، والتشابك، والتقنية، والمستهلك، والقيادة الاجتماعية للإعلام، فضلا عن مفردات أخرى ثانوية، فهل دفعنا شبح ما بعد الحداثية إلى دائرة الضوء؟ ربما نحتاج لدفعه أبعد من ذلك بسؤال آخر. ألم تكن هذه المقالة فحصا للأفكار والدوافع التاريخية؟ ألم تقترح بأن عقل ما بعد الحداثية يميل إلى الانعكاس الذاتي، كما لو كان هدفا لكتابة سيرة ذاتية ملتبسة؟

ثالثا: سيرة ذاتية ملتبسة:

نشر إيمانويل كانط في عام 1784 مقالا بعنوان “ما هو التنوير “، وقد تناوله بعض المفكرين، وبخاصة ميشيل فوكو، ليمثل المرة الأولى التي يرتد فيها الفكر إلى نفسه، فيسأل من نحن؟ من زاوية تاريخية، كما يتساءل عن معنى المعاصرة، ومن ثم يتساءل العديد منا في الوقت الحاضر، هل كنا ما بعد حداثيين؟ وبينما يخفق فوكو في ملاحظته، يمكننا أن نعيد طرح السؤال نفسه، ولكن من دون ثقة كانط في إمكانية تحقق المعرفة، وكذلك ثقته بالذات التاريخية.

من الصعوبة بمكان أن نميز ما بعد الحداثية مثلما ميز كانط تعبير التنوير؛ فهناك الشكوكيون، وأنصار التعددية، واللامركزية، ومبدعوا المحاكاة الساخرة، والأعمال المناهضة للهوية، والبراجماتيون، وغيرهم. يمكننا بدلا من محاولة التحديد، أن نراوغ حماسة المعاصرة ظاهريا، وكذلك قلق التسمية والمصطلحات التي انتشرت، وارتبطت بما بعد الحداثية مثل ما بعد الحداثية الكلاسيكية، أو العالية، أو البوب، أو بو مو، والتفكيك، وإعادة إنشاء الرؤى، والنبوءات، وبعد ما بعد الحداثية، وما قبلها. مثل هذه الكلمات الجديدة تؤدي إلى انفجار في معمل اللغة. على أي حال يمكننا أن نتخيل بصعوبة عصرا يتعذب كثيرا حول نفسه، فقط ليخترع صوتا تمثيليا لمهرج يدعى ما بعد الحداثية، ومع ذلك يمكن أن نميز ما بعد الحداثية كسؤال مستمر لفكرة التحقق الذاتي، ولا يقتصر هذا الاندفاع على ما يسمى بالغرب فقط، ولكن يشمل تفاعلات عديدة في الكرة الأرضية، فكثير من السكان يتحركون، ويتدافعون، ويتصارعون.

إنه عصر التشتت، والاختلاف، إذ تثار فيه الأسئلة الكثيرة حول الهوية الثقافية، والدينية، والشخصية، وقد يصير الإحساس بها حادا وأحيانا خادعا. وفي التحول من ما بعد الحداثية، إلى ما بعد الحداثة يمكنك أن تسمع البكاء حول العالم، مع طرح أسئلة مثل من نحن؟ ومن أنا؟

لهذا يمكننا إضافة كلمات عديدة، إلى عائلة ما بعد الحداثية، مثل المعنى التاريخي، والانعكاس الذاتي المعرفي، وقلق التعيين، والتسمية، والأعمال متبدلة الهوية، والإحساس بالمعاصرة، وتشتت الإحساس بالزمن الخطي، والدوري، والنبوئي، والحلم بالزمن. كل هذه الأوقات الرؤيوية، هناك، تصاحبها هجرات ضخمة، ومفاهيم أخرى مثل الحرية، والقوة، وأزمة الهويات الثقافية، والشخصية.

رابعا: تاريخ قصير للمصطلح:

هذه المحاولة من الإدراك الذاتي، والتي أطلقت عليها سيرة ذاتية ملتبسة لما بعد الحداثية، تبدو في التاريخ الفريد للمصطلح، فهو يسهم في توضيح المفهوم الذي نستعمله في الوقت الحالي، ولهذا يجب أن أحدد هذا التاريخ بدقة، خاصة أن كلا من تشارلز جنكس، ومارجريت روز، قدم تفصيلا له في موضع آخر.

في عام 1870 استعمل الرسام الإنجليزي جون واتكنز شابمان المصطلح، في سياق الحديث عن ما بعد الانطباعية، وفي عام 1934 استخدمه فريدريكو دي أونز، ليقترح من خلاله حركة مضادة للصعوبة، والنزعة التعبيرية في الشعر الحداثي، ويقر أرنولد توينبي المصطلح في عام 1939، بمدلول مختلف، إذ يشير إلى نهاية الوضع الحداثي، والطلب البورجوازي الغربي الذي يعود إلى القرن السابع عشر. وفي عام 1945 يستخدمه برنارد سميث، للدلالة على حركة في الفن التشكيلي تتجاوز التجريد، والتي نطلق عليها الواقعية الاشتراكية. وفي الخمسينيات تحدث عنه في الولايات المتحدة تشارلز أولسون، بالاتحاد مع مجموعة من الشعراء في كلية بلاك مونين، ويرجع أولسون ما بعد الحداثية بدرجة أكبر عند عزرا باوند وويليم كارلوس وليم، عن الشعراء الشكليين مثل ت. س. إليوت. وفي نهاية ذلك العقد جادل كل من أرفنج هاو، وهاري ليفين على التوالي بأن ما بعد الحداثية تعني انحدارا للثقافة العالية للحداثة.

وقد بدأت مع لازلي فيدلر، وآخرين في أواخر الستينيات، وأوائل السبعينيات في كتابة مقالات، تناولنا فيها المصطلح بشكل متميز، وقاطع أحيانا، ومتطور في الثقافة الأمريكية، كتعديل نقدي للحداثية، إن لم يكن نهاية فعلية لها. وأعتقد أنه وفقا لهذا المعنى مازالت وجوه ما بعد الحداثية، وأقتعتها تتغير حتى اليوم. ليس في الأمر انحياز للستينيات، لكنها بالفعل حملت كل الافتتاحيات، والانكسارات التي حدثت في تطور مجتمع المستهلك، وقد دعا أندريس هايسين ذلك العقد الذي يقع بين الستينيات، والسبعينيات، بالخط الفاصل العظيم، ففي خلال عشر، أو خمس عشرة سنة واجهت الولايات المتحدة سلسلة متوالية من حركات التحرر، وحركات المقاومة الثقافية مثل خطاب الحرية عند بركلي، والحركات المناهضة لحرب فيتنام، ومجموعات السود، والحركات البيئية، والنسوية، وكذلك مسرح الشارع، وأحداثه، والتأليف المبني على الصدفة، وموسيقى الروك، وشعر العوالم الملموسة، والمجموعات اللغوية، وفن البوب، وانتشار الأحداث الإعلامية، وتعددها.

و بدأت الحدود تذوب بين الثقافة العالية، والثقافة الشعبية، والفن والنظرية، والنص والنقد، الأطفال والرجال، كما يزدحم كل من رجال المقاومة، ورهبان الزن في المشهد الطبيعي، ونهاية التسلسل الهرمي، كما انتقلت أشكال الفن والتفكير من الاستاتيكية، إلى الأدائية، ومن التكنيك العالي، إلى ما يتجاوز التكنيك، ولهذا لم يفضل ضمن هذا السياق هيدجر، ولكن دريدا، وليس ماتيس، ولكن دوشامب، وليس شونبرج، ولكن جون كيج، وليس همنجواي، ولكن بارثليم، وبشكل أوضح ليس جروبيوس، أو ميس، أو لي كروبيوسير، ولكن فرانك جاري، ورينزو بيانو، وأيسوزوكي في الهندسة المعمارية، وغيرهم. على أية حال ليست ما بعد الحداثية متماثلة في الفنون المختلفة كما سأناقش ذلك لاحقا.

في هذا المناخ الثقافي غير المحدد، فضلا عن مقاومة النزعة الكلية عند فرانسوا ليوتار، نما مصطلح ما بعد الحداثية، واتخذ مظهره الأخير، وأعتقد أنه مات رغم أن شبحه مازال يطارد أوربا، وأمريكا، واستراليا، واليابان. هذا الشبح يجد الآن حياة جديدة، واسما جديدا، فقد ضغطت على مصطلح ما بعد الحداثية، في محرك البحث على الإنترنت، فتحولت إلى اثنين وتسعين ألف رابط في ست ثوان فقط.

خامسا: صعوبات مفاهيمية:

مازال شبح ما بعد الحداثية يلازمنا، لكن تأثيره أقل ؛ فهو يتصدع من الناحية الدلالية، وذلك منذ أن اكتشفت الصعوبات النظرية الكامنة فيه ذاتيا، كما أن الزمن لا ينتظره، وسوف أشير هنا إلى خمس من هذه الصعوبات:

1 لم يكن مصطلح ما بعد الحداثية مربكا، وملتبسا، وحسب، ولكنه أوديبي أيضا، إذ يشبه المراهق الثائر الذي لا يستطيع عزل نفسه كليا عن والده. إنه لا يبتكر لنفسه اسما جديدا مثل الباروكي، والركوكي، والرومانسي، والرمزي، والمستقبلي، والتكعيبي، والدادي، والتفكيكي. فتظل إذا العلاقة ملتبسة، وأوديبية طفيلية بين ما بعد الحداثية، والحداثية، أو كما يشير برنارد سميث في كتابه “تارخ الحداثة” إلى بقاء حوار متصارع دائما مع الحركة الأقدم، فالمصطلح يحمل إشكاليات عديدة بداخله.

2 الاستعمال الخاطئ لما بعد الحداثية من قبل برنارد سميث، والذي يصر عليه، يصلها دوما بالحداثية، وليس أبعد منها، وحتى وقت متأخر ليس أبعد من وصف نتاج الثقافة العالية ما بين 1890، و1940، فتعبير الحداثي في شكله النموذجي يتضمن حفظ التقدم إلى الأمام، والتقدم التاريخي الحاد، منذ ان استعمله كل من شكسبير وأبوت سوجر حتى وقتنا هذا.

3 مصطلح ما بعد الحداثية غير متجانس بشكل مضاعف، أي لا ينتمي لما بعد الحداثية، فما بعد الحداثي، وبخاصة ما بعد البنيوي يرفض الامتداد الخطي للزمن، من الماضي للحاضر، والمستقبل، ومن ثم البادئات مثل قبل، وبعد.وقد قلت إن حقبة ما بعد الحداثية بحد ذاتها خارقة للهوية، وتبطل التكرار المطلق، والخطي للزمن. وعلى سبيل المثال هناك متوالية مفيدة في دراسة تاريخ الأدب الإنجليزي من العصر الإليزابيثي، واليعقوبي، والكلاسيكي الجديد، والرومانسي، والفيكتوري، والإدواردي، حتى الحداثي، وما بعد الحداثي.

4 الأكثر أهمية أن ما بعد الحداثية لا تتجانس مع فترة زمنية معينة، أو مع تركيب تسلسلي (دياكروني) متطور تاريخيا. فهو يعمل نظريا بشكل متزامن (سنكروني) ظاهراتي، فالكتاب الأقدم مثل صمويل بيكيت، أو خورخي لويس بورخيس، أو رايموند راسل، أو فلاديمير نابوكوف من الممكن أن يكونوا ما بعد حداثيين، وذلك في مقابل بعض الكتاب المعاصرين الأحياء مثل جون أبدايك، أو توني موريسون، أو نايبول الذين لا ينتمون لما بعد الحداثية. كما لا ندعي أن الأعمال التي سبقت 1960 حداثية، والتي تلتها ما بعد حداثية، فقد ظهرت مورفي لصمويل بيكيت عام 1938، ويقظة فينيجان لجيمس جويس 1939، وكلاهما من وجهة نظري ما بعد حداثي بامتياز.

لا يمكننا إذا أن نقول إن جيمس جويس كان ينتمي للحداثية، أو ما بعد الحداثية. أي جويس؟ إنه في “الدبلنيون” قبل حديث، وفي “صورة الفنان في شبابه” حداثي، وفي “يقظة فنيجان” ما بعد حداثي.

كل هذا يؤكد أنه يتطلب لوصف نموذج ما بعد حداثي، مجموعة من الأساليب، والخصائص والحالات توضع في سياق تاريخي بعينه. وأي واحدة من هذه الخصائص بمفردها، مثل المحاكاة الساخرة، أو المرح الأسود، قد نجد من سبق إليها منذ مئة عام، أو ألف، مثل ستيرن، أو يوريبيدس، ولكن تجمعها في السياق الحالي هو ما يجعلها تنتمي إلى الظاهرة التي ندعوها ما بعد الحداثية.

5 هل تتطور ما بعد الحداثية، وفق الخطوط نفسها، في الحقول الفنية والثقافية، بعد بناء هذا النموذج؟ هل تظهر نفسها بصور متشابهة في الهندسة المعمارية، والتصوير، والموسيقى، والأدب؟ وفي الأخير بمفرده، في الشعر، والقصة، والمسرحية، والمقالة؟ وكذلك في الحقول المتباينة مثل العلم، والفلسفة، والسياسة، والثقافة الشعبية؟.

إننا نهاب تحديات بناء نموذج شامل لما بعد الحداثية. ولكن هل نحتاج بالأساس لهذا النموذج؟ هل نحتاج هذا المصطلح؟

سادسا: ما بعد الحداثية كمقولة تأويلية:

يجب أن نتساءل حول نقطة الإرباك فيما بعد الحداثية، سواء أكنا في القاهرة، أم سيدني، أم كوالالمبور، وقد اقترحت إجابة واحدة هي تحول ما بعد الحداثية، إلى ما بعد الحداثة في سياقنا المحلي / العالمي الراهن، وسأعود لهذه النقطة لاحقا لأختتم بها فكرتي الرئيسية. ولكن هناك إجابة أخرى أكثر إلحاحا، وهي تحول ما بعد الحداثية بحد ذاتها ـ بصورة واعية، أو غير واعية ـ إلى أداة تفسيرية، فهي تمس عملنا كطلاب ثقافة، وأدب، وفنون، نظرا لدراسة أكثر من فترة، ومجموعة من الأساليب، والاتجاهات الفنية. لقد أصبحت ما بعد الحداثية ـ بعد زوالها الجزئي ـ طريقة نرى من خلالها العالم، وربما كان رأي برنارد سميث صائبا حول حوارها المتصارع مع الحداثية. ولكن كلا من الحوار والمقاومة، يصبحان مصفاة ننظر من خلالها للتاريخ، وبها نترجم الحقيقة، وننظر إلى أنفسنا. ما بعد الحداثية هي الآن ظلنا الرفيق.

إن كل جيل بالطبع يؤول أسلافه، ويعيد ابتكارهم، فإذا نظرنا للوراء سنجد أسبقية لتوجه ما بعد حداثي في أعمال مثل “تريسترام شاندي” 1759 – 1767 للورنس ستيرن، وكذلك قلعة فرانز كافكا 1926، والغثيان لجان بول سارتر، ويقظة فنيجان لجيمس جويس 1939. هذا يعني أننا قد قبلنا فرضيات، ومميزات ما بعد الحداثية، وأننا الآن نعيد قراءة الماضي ضمن شروطها. هذه النزعة حتمية لكنها من الممكن أن تصير عدوانية عندما تفكك أيديولوجيا ما بعد الحداثية الماضي، وتدمجه كليا في نسيجها. نحتاج لاحترام آخرية الماضي، مثلما نعيد مراجعته.

من الممكن أن تصير نظرية ما بعد الحداثية مفيدة في نطاق الدراسات الأدبية بشكل عام، فهي تمثل نموذجا قويا للإدراك الذاتي، وكذلك النقد الذاتي لأساطيرها، ولاهوتها السري، وكذلك قدرتها على التسامح، واحتمال ما لا يتطابق معها. وسنصل عند هذه النقطة للحديث عن البراجماتية، فهي تتجنب الحدود القصوى لكل من الدوجماتية، والشكية المتأخرة.

وكما قال ت س إليوت في ملاحظاته لتعريف الثقافة، أن الشكية المطلقة تدفع الحضارة العالية إلى الانحدار.

سابعا: ما بعد الحداثية، والبراجماتية:

نتحدث هنا عن البراجماتية في الفلسفة، وهي من أكثر الكلمات حسما، لكي تضاف إلى عائلتنا اللفظية المتزايدة حول ما بعد الحداثية. عندما نشرت كتابي “التحول ما بعد الحداثي” في عام 1987، كنت قد بدأت بالتساؤل ـ مثل الآخرين ـ عن كيفية استعادة النبض الإبداعي لما بعد الحداثية، دون الارتداد إلى نوع آخر، أو العودة إلى فكرة الأصل، دون انتكاس للأشكال الأضعف، أو الدوجماتية القاسية، أو التعصب المذهبي. لقد افتقر الوثوق في نزعة الشك، إلى نوع من التصديق، مثلما كانت السياسات الأيديولوجية مملوءة بالحماسة الكاذبة. إن كلا من البراجماتية الفلسفية عند وليم جيمس، والبراجماتية في الفن عند جون كيج، يسمح بمساحة من التصديق، أو روحانية غير مرتبكة، فالبراجماتية في الفلسفة مجرد عروض، وليست دواء شافيا أبدا، لكن اتساعها الفكري، والمعرفي يجنبها الجدل حول العقل، والقضايا الكبرى مثل، الحرية، والضرورة، والطبيعة، والغذاء، وهي تتصل بفكرة المجتمعات المفتوحة، والمتعددة الثقافات، وتؤيد حل القضايا بالوساطة، والتفاهم كبديل عن القوة الديكتاتورية، والمراسيم المقدسة. كل هذا يجعلها متجانسة مع ما بعد الحداثية، دون قبول للعدمية المتأخرة، وروح اللامبالاة، واللعب السوداوي. وإن مزايا الإمرسونيين، والجيمسيين فيها أعلى تأثيرا بكثير من الرورتيين، في الدراسات الأدبية بوجه عام، وليس فقط على نظرية ما بعد الحداثية.

إن المزايا الروحية السابقة تقاوم كبرياء النظرية، ونفاد صبر الأيديولوجيا، وحماسة رغباتنا، وحاجاتنا. إنها باختصار تغذي قابلية السلب التي اعتبرها كيتس ضرورية للأدب العظيم. لقد حمل جون كيج ـ أحد أهم طلائع ما بعد الحداثية في الموسيقى، والرقص، والفنون البصرية ـ قابلية سلبية براجماتية، تؤسس بدايات انعدام التمييز، والتعصب، فهو ينحدر من التفوق الأمريكي، وكذلك من تأملية مذهب الزن. إن رؤية كيج الطقسية تطرد الغرور الذاتي، والتمركز حول الأنا من البدء، إلى المنتهى، فمركباته المبنية على المصادفة، تتفق مع السعادة الصينية، فالفم الضاحك يحاكي المرح الصاخب للمولعين بالدين في العصور الماضية. إضافة إلى اللطف القوي الواسع في فلسفة وليم جيمس. هذا هو صوت البراجماتية الذي أحلت إليه، حيث تهدأ الإيقاعات، وتصير ملهمة للجميع، وبخاصة في الدراسات الثقافية، وما بعد الكولونيالية.

ثامنا: تجاوز ما بعد الحداثية.. التفاعل المفتوح بين المحلي والعالمي:

كان السؤال المستتر خلف هذا البيان، هو ماذا يقع وراء ما بعد الحداثية؟ وبالطبع لا أحد يعرف حقا، ولكن إجابتي الضمنية كانت سياق ما بعد الحداثة، وإيجابيته على شبكة الإنترنت. ولا يدعو هذا للابتهاج، فالواقعية تعلمنا، أن الأزمات التاريخية، لا تأتينا دائما بحل سعيد، نحتاج أن نتعلم ما يمكن أن يعلمنا إياه التاريخ، وما لا يمكن أن يعلمه أيضا. مازال الجور قائما هناك، وقد يكون أكثر قسوة، ولكن ليس كله متعذر العلاج في الأشكال الجزئية التي يكمن فيها.

ثمة عاملان يثيران أزمات ما بعد الحداثة في وقتنا الراهن هما ؛ التفاوتات البارزة للثروة بين الأمم، وبداخلها، وكذلك الغضب الذي يرتكز على الهوية الكلية، والمشاعر الجماعية المتمركزة حول الذات الأولى، وما تحمله من عصبية متوقعة. هذه المشاعر تشارك وحشية علوم الاقتصاد، والجغرافيا السياسية. ولي بعض الملاحظات حول النقطة الثانية:

يمكن قول الكثير حول الاختلاف، والآخرية، لكن أغلبه يقع تحت دائرة الوعظ، فمن ينادون بالانحياز لنوعهم لا يقبلون دائما من الأنواع الأخرى. والحقيقة أن المخ البشري قد طفر بصورة غامضة، قبل أكثر من مليون سنة، لابتكار استراتيجيات سريعة من أجل البقاء، وقد تضمنت الانفصال بين الأنا، والآخر، نحن وهم. ويبدو هذا الانقسام واضحا في العالم البيولوجي، ليس فقط بين الأنواع المختلفة، ولكن بين أفراد النوع نفسه. تلك أعجوبة حصانتنا. إن الأنظمة التي تميل ـ بشكل كهرو كيميائي سريع ـ بالتمييز بين الأنا والآخر يمكن أن تخدع أحيانا، فتهاجم الأصدقاء، وتهمل الأعداء.

ويتضح الانفصام بين الأنا والآخر في لغاتنا جميعها، وفي التراكيب التحتية للقواعد، وفي مفردات الضمائر المختلفة، ولهذا نضع حدا بين ضميري، أنا وأنت، نحن وهم… الخ، فضلا عن ذلك فالانفصام يعمل أيضا في طبقات العقل، كما يرى الفرويديون، واللاكانيون ـ حيث تنفصل غرائز الأنا المتمركزة نحو الذات، والغرائز الجنسية المتمركزة حول الآخر، أو الطلب الرمزي في مرحلة المرآة عند جان لاكان، وهي أكثر ارتباطا بموضوعنا. على أية حال الانقسام واضح في التطور التاريخي للعائلة، والجماعة، والقبيلة. كان من الممكن أن ينقرض البشر منذ عهد بعيد في الكفاح من أجل التطور، أمام الحيوانات الأكثر قوة، وسرعة مثل النمر حاد الأسنان، ومن ثم كان من الممكن أن ينعدم العقل الإنساني، واللغات الإنسانية، والمنظمات الاجتماعية. ومن الغريزة العميقة للقبلية تطورت الهويات العرقية، والثقافية المختلفة. هذه الغريزة أساسية، لكنها موغلة في البدائية. كتب البلغاري إلياس كانيتي أن الروح الجماعية تتحرك في أنفسنا كحيوان ضخم متوحش، وبصورة أكثر جدية كتب الأحيائي إي أو ويلسون عن قواعد التخلق الجنيني المتعاقب الذي يحكم علاقات القرابة، وممارسات التعاون، والإيثار في المجتمعات الإنسانية.

قد تكون الغريزة العشائرية، وروحها الجماعية أساسية، ولكن الخيال والحب، والعطف، والإحساس بشعور الآخرين أساسي كذلك. ربما كان انعزال الأنا عن الآخر ضروريا من قبل؛ لأجل البقاء، لكننا لا نحتاجه الآن كثيرا، نحتاج لجذب أشكال مختلفة في سياقنا التفاعلي، حيث يعتمد كل شيء على الشيء الآخر، وأن نقبل عوالم الإنترنت، وعصر المحلي / العالمي هذا التعبير الجديد غير المقبول يمكن أن يستعمل لمرة واحدة في عصر ما بعد الحداثة.

لا أعتقد أن الانقسام بين الأنا والآخر، نحن وهم سيختفي قريبا، خاصة إذا استمرت تناقضات كل من الثروة، والقوة، وأفكر أن نستبدل الحديث عن جانب الانقسام، بإمكانية أن نصنع منه ما يتجاوزه في حياتنا، ويتطلب هذا صدقا، وشجاعة، وقوة في الإدراك لأنفسنا، وليس فقط للآخرين، كما نحتاج لزرع الإحساس بالحوارية، فيما يتعلق بالثقافات المتنوعة، وكذلك الطبيعة، والكون الكامل نفسه، كما نحتاج التنوع في أنماط الإعلاء لأجل البؤس الأرضي، إذ يبطل الاندماج في المجموعات الشمولية القائمة على استبعاد المجموعات البشرية الأخرى.

أعلم تماما أن قول ذلك أسهل من عمله، خاصة للمهتم بالمسألة الجماعية. ولكنني يمكن أن أبقي التصور الروحي لسياق ما بعد الحداثة مفعما بالحيوية في الأدب والفنون المختلفة. وبالطبع يمكن أن نعرف تصور ما بعد الحداثة ببساطة ضمن الشروط السياسية كحوار مفتوح بين المحلي والعالمي، والهامش والمركز، والأقلية والأغلبية، والجزئي والكوني، وكذلك بين المحلي والمحلي، والهامشي والهامشي، والأقلية والأقلية، وبين عالمية الأنواع المختلفة ؛ ولكن بشرط ألا ينفجر الحوار المفتوح إلى العنف. وليس لدي علاج للطخة العنف الإنساني القديمة، ولكنني أتساءل حول إمكانية الإفادة من عملية ما بعد الحداثة. هل تصير الأرض روحا تنبثق منها القيم البيئية، والكوكبية الجديدة التي أسميها في النقد الهامشي “الغنوصية الجديدة”؟

أعرف أنه خلافا للروح، والإحساس بالدهشة الكونية، بالوجود، والفناء في الحافة الأوسع التي نشترك فيها جميعا، نحتاج أن نطلق سراحنا من قبضة العشائرية، وقلق التمركز حول الذات. ليست كل الموسيقى من إبداعنا في هذا العالم.

إيهاب حسن (1925 ـ  ) ناقد ومفكر أمريكي من أصل مصري، من أهم المنظرين الأوائل لاتجاه ما بعد الحداثة الأدب والثقافة، من أهم مؤلفاته أدب الصمت نيويورك 1967، والأدب الأمريكي المعاصر 1973، والتحول ما بعد الحداثي 1987، وبين النسر والشمس حول آثار اليابان 1996. ويعد هذا البيان استشرافا لتحول ما بعد الحداثية إلى ما يتجاوزها، وقد نشره إيهاب حسن في مجلة الفلسفة والأدب بالإنجليزية صيف 2001، ثم أعاد نشرة بالإنجليزية على موقعه الشخصي على شبكة الإنترنت. www.ihabhassan.com

 

 

 

 

مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة

علي وطفة(*)

استقطب مفهوم الحداثة La modernité اهتمام الأدباء والفلاسفة وعلماء الاجتماع، منذ عصر النهضة حتى اليوم، واحتل مكانه المميز في الأنساق الفكرية الكلاسيكية عند كارل ماركس K.Marx، وإميل دوركهايم E.Durkheim، وماكس فيبر M.Weber، واستطاع لاحقا أن يأخذ مركز الأهمية في أعمال المحدثين، ولا سيما هابرماس J.Habermas، وجيدن A.Gidden، وليوتار J.F.Lyotard، وتورين A.Touraine.

يطلق مصطلح الحداثة بوجه عام على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم ويغطي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية[1]. لقد أدخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا، إلى الحياة الاجتماعية عامل التغيير المستمر والصيرورة الدائمة التي أدت إلى انهيار المعايير والقيم الثقافية التقليدية. وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها تحدد السياق العام لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطا من الحياة يقوم على أساسي التغيير والابتكار. وغني عن البيان أن أكثر اللحظات في التاريخ أهمية وإبداعا اللحظات التغييرية الحداثية، وهي اللحظات التي يتم فيها الكشف عن منطق خاطئ مضلل وإبداع منطق جديد. حيث نجد في الفلسفة نقدية كانط التحليلية، ومثالية هيغل الكلية، ومادية ماركس الجدلية، وظواهرية هوسرل التأويلية، وبنيوية فوكو التفكيكية[2]. وهي من أهم اللحظات التاريخية في الحداثة الفلسفية.

تعريف الحداثة:

يأخذ مفهوم الحداثة La modernité مكانه اليوم في حقل المفاهيم الغامضة. وإذا كان هذا المفهوم يعاني من غموض كبير في بنية الفكر الغربي الذي أنجبه، فإن هذا الغموض يشتد في دائرة ثقافتنا العربية ويأخذ مداه ليطرح نفسه إشكالية فكرية هامة تتطلب بذل مزيد من الجهود العلمية لتحديد مضامينه وتركيباته وحدوده.

وبعيدا عن التوظيفات الساذجة والشائعة لمفهوم الحداثة، التي تختزله إلى صيرورته الزمنية الراهنة، حيث يجري الحديث عن الزمن الحاضر، أو المرحلة الراهنة، أو العصر الحديث، أو المجتمع المعاصر، يمكن القول بأن الحداثة هي غير بعدها الزمني، إنها مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحث لا يتوقف أبدا عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العصر التي تثقل على الوجود الإنساني[3].

يرى كل من كارل ماركس K.Marx وإميل دوركهايم E.Durkeim، وماكس فيبر M.Weber، أن الحداثة تجسد صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق صناعي منظم وآمن، وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات[4].

وتتمثل الحداثة كما يحددها جيدن في نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي الكنسي. فالحداثة تتميز بأنماط وجود وحياة وعقائد مختلفة كليا عن هذه التي كانت سائدة في المراحل التقليدية حيث عرفت التغيرات التي شهدتها الحداثة بطابع التسارع والتنوع والشمول ولا سيما في مجال التكنولوجيا والمعرفة العلمية التكنولوجية، كما عرفت هذه المرحلة أيضا بتنامي الاتصالات الفعالة بين جوانب الحياة الإنسانية حيث شملت الأقاليم والمناطق المتباعدة في جغرافية الكون. وهذه هي المرحلة التي حدثت فيها تحولات جوهرية في عمق المؤسسات على مدى تنوعها. وقد سمحت هذه التحولات والتغيرات الجوهرية في شروط الوجود للناس من السيطرة على مقدرات وجودهم وشروط حياتهم[5].

ويرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين هما: فكرة الثورة ضد التقليد، وفكرة مركزية العقل[6].

يعرف جابر عصفور الحداثة “بأنها البحث المستمر للتعرف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض. أما سياسيا واجتماعيا فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة، ومن الدولة التسلطية إلى الدولة الديموقراطية[7]. “تعني الحداثة الإبداع الذي هو نقيض الاتباع، والعقل الذي هو نقيض النقل”[8].

“يصوغ أوزفالد شبغلر في كتابه انحطاط الغرب مفهوما للحداثة أطلق عليه حضارة الرجل الفاوستي (نسبة إلى فاوست والفاوستية هي محصلة خصائص الإنسان الغربي الحديث، أما فاوست فهو العملاق المبدع النهم الذي لا يشبع طموحه وظمأه إلى المعرفة، ولا يتوقف عن البحث عن الحقيقة المطلقة، وفاوست عند الشاعر الألماني (غوته) هو العبقري المغامر دوما وبلا هوادة نحو المعرفة”[9].

“والحداثة مفهوم متعدد المعاني والصور، يمثل رؤية جديدة للعالم مرتبطة بمنهجية عقلية مرهونة بزمانها ومكانها”[10]. فهي رفض الجمود والانغلاق والقبول بمبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية، وهي تعني إطلاق الحرية وفسح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية للقيام بدورها.

يرى ناصيف نصار في مجال التمييز بين الحداثة والتقليد “أن الحداثة هي المفهوم الدال على التجديد والنشاط الإبداعي، فحيث نجد إبداعا نجد عملا حداثيا، وبهذا المعنى فإن الحداثة ظاهرة تاريخية إنسانية عامة نجدها في مختلف الثقافات. وتتحدد الحداثة في هذا المعنى بعلاقتها التناقضية مع ما يسمى بالتقليد أو التراث أو الماضي، فالحداثة هي حالة خروج من التقاليد وحالة تجديد”[11].

بين الحداثة والتحديث:

يعد الفصل بين مفهوم الحداثة والتحديث مدخلا منهجيا لتعريف الحداثة بصورة علمية. وغالبا ما يرسم الباحثون في ميدان العلوم الإنسانية حدودا فاصلة بين مفهومي الحداثة والتحديث. وعلى الرغم من هذا الترسيم العلمي يلاحظ هذا التداخل الكبير بين المفهومين. فغالبا ما يجري استخدام مفهوم تحديث للدلالة على الحداثة وعلى خلاف ذلك كثيرا ما يستخدم مفهوم الحداثة للإشارة إلى ظاهرة التحديث.

وفي وصف طابع هذه الإشكالية يقول محمد محفوظ: “يبدو أن مصطلح الحداثة وكأنه نص مفتوح على كل مضامين التقدم المعاصر، بحيث أنك لا تفرق بشكل صارم بين مضمون مصطلح الحداثة وبين مضامين مفاهيم التحديث والتقدم والعصرية أو الجديد. ويمتد التداخل ليشمل المعايير والقيم وأنماط السلوك واللباس وطراز السكن أي كل مناحي الحياة في آخر المطاف”[12].

يتمايز مفهوما الحداثة Modernity عن مفهوم التحديث Modernization في اللغتين الفرنسية والإنكليزية. فالحداثة هي موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل إلى معرفة ملموسة. أما التحديث Modernization فهو عملية استجلاب التقنية والمخترعات الحديثة حيث توظف هذه التقنيات في الحياة الاجتماعية دون إحداث أي تغيير عقلي أو ذهني للإنسان من الكون والعالم. فأنصار التيارات السلفية المتطرفة يوجدون في المعاهد العلمية ويتعاملون مع التقنية الحديثة دون أن يأخذوا بالروح العلمية أو الفلسفية لهذه التقانة. ومن أجل أن نفهم جوهر الحداثة يتوجب علينا أن ندركها كطاقة مجددة متحركة منطلقة تتمثل الماضي والحاضر وتعيد إنتاجهما بروح مستقبلية جديدة.

التطورات التي تسجل في مستويات الإنتاج والاستهلاك وفي البنية التحتية تشكل صورة لعملية تحديث وشتان ما بين الحداثة والتحديث، فالتحديث يعني مظاهر الحداثة وقشورها بينما تعني الحداثة في الأصل اللحظة الواعية التي تتمثل في انتظام العقلانية والفردية والعلمانية والقيم الحرة في اندفاعة حضارية قادرة على إحداث تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والبنائية للمجتمع. فالحداثة هي حالة تعتمل في بوتقة الروح الاجتماعية وتتجلى في مظاهر الجسد الاجتماعي. أما التحديث فقد يكون حالة من حالات الاستيراد المنظم لشكليات الحداثة مثل: استيراد السيارات والطائرات وأنظمة التعليم وبدع الاستهلاك الاجتماعي.

والتحديث في التجربة العربية يأخذ طابع المحاكاة الجوفاء لمظاهر المدنية في الغرب ونماذجه الحضارية وهذه المظاهر لا تنم عن حالة حضارية أو حداثية تنبثق من صميم المجتمع وتتكون في رحمه الحضاري. وغالبا ما يظهر أن هذه النماذج الحضارية تتعارض مع النسق الحضاري العربي في أصوله وتجلياته الذاتية. وهذا يعني أن استجلاب مظاهر الحداثة من الغرب قد يؤدي إلى مزيد من الضياع والاحتضار. وقد يعني ذلك، وهذه هي الحالة على الأغلب في عالمنا العربي، تعايش منظومتين اجتماعيتين متنافرتين في آن واحد هما: مجتمع تقليدي يمارس حياته وفق معايير وقيم تقليدية، ومجتمع حداثي يعيش وفق أحدث المعايير العصرية دون أن يتمثل روح هذه المعايير ويتشرب من تدفقاتها الذاتية. ووفقا لهذه التصور فإن التحديث العربي في التاريخ المعاصر يأخذ صورة متناقضة مع الحداثة الحقيقة.

وفي هذا السياق يميز محمد أركون في كتابه الإسلام والحداثة بين المفهومين: “فالحداثة موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، إنها موقف للروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع. أما التحديث فهو مجرد إدخال للتقنية والمخترعات الحديثة (بالمعنى الزمني للكلمة) إلى الساحة العربية أو الإسلامية، نقصد إدخال المخترعات الأوروبية الاستهلاكية وإجراء تحديث شكلي أو خارجي، لا يرافقه أي تغير جذري في موقف العربي المسلم للكون والحياة”[13].

يصف محمد أركون هذا بأمثلة مستمدة من واقع الجزائر والخليج العربي. ففي الجزائر وفي صبيحة الاستقلال عام 1962 انخرطت في التحديث في مجال التصنيع الثقيل وذلك عن طريق استيراد المصانع والمعامل والخبرات، وهذه ليست حداثة، فالحداثة كانت ممكنة عن طريق بناء المخابر في مجال الفيزياء والكيمياء والرياضيات. وفي الخليج نشاهد الموقف عينه فبلدان الخليج تستورد مظاهر الحداثة المادية من آليات وسيارات وأجهزة وأنابيب النفط ومصافيه وهي آلات ومخترعات كلفت أوروبا مئات السنين من البحث والتجريب العلمي وفي أصل هذه المخترعات تكمن روح ديكارت وفرانسيس بيكون وغاليلو وكوبرنيكوس وأديسون وغيرهم، وهذه هي الروح العلمية روح العلم الحديث التي تمثل جوهر الحداثة. ونحن ننقل مظاهر هذه الروح وليست روح العلم والمعرفة العلمية الحقة.

وأريد أنا في هذا السياق أن أشير إلى ظاهر تحديث الأسلحة. فنحن نستورد الأسلحة الحديثة من طائرات ودبابات وصواريخ وبارجات ومدمرات وشبكات ولكننا لم نسع إلى امتلاك الحداثة الحقيقية أي الروح العلمية الكامنة في أصل هذه الحداثة أي القدرة على إنتاجها وتصنيعها أو تعديلها. وهذا على خلاف ما حققه العدو الصهيوني الذي امتلك الحداثة لا التحديث حيث استطاع أن يطور هذه الأسلحة ويعيد إنتاجها بجدة وأصالة متفوقة النظير. وهذا ما حدث في إيران وباكستان والهند حي استطاعت هذه الدول أن تمتلك الروح الحقة العلمية الكامنة في أصل هذا التحديث الذي انتقل بها من مظاهر الحداثة إلى جوهرها ومن ثم إلى عملية الإبداع والابتكار في مجال السلاح والتكنولوجيا.

فنحن نعيش على فتات الحداثة وقشورها، وبالتالي فإن الروح الحقيقية للحداثة الحقيقية لم تستطع أن تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في المجتمع العربي.

وفي تحديد المضمون الحقيقي للحداثة وفصله عن التحديث، يميز محمد محفوظ بين وجهين للحداثة: خارجي وداخلي، حيث يتجلى الوجه الخارجي بالمنجزات المادية والتطورات العلمية والتكنولوجية أي بالمحيط الإنساني، ويتجلى الوجه الداخلي بالسلوك والشعور والقيم الإنسانية، فالحداثة لا تقوم بذاتها وإنما تتأصل في النسق الاجتماعي الذي يشمل الوجهين المادي والمعنوي”[14].

“إننا نعيش المدنية كتوسع اسمنتي وتقنيات كمبيوتر متطورة لا نملك من قيمتها إلا احتواءها. كل ذلك على أرضية العلاقات الإقطاعية (الخراجية) والجانب التجهيلي من البداوة، وليس البداوة الإنسانية المؤصلة لقيم إنسانية تضع الإنسان كقيمة أولى”[15].

وهذا يعني بأننا نعيش قشور المدنية وأن الروح الحقيقية للمجتمع المدني لم تستطع أن تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في المجتمع العربي. فنحن نعيش على قشور المدنية وتتأصل فينا البداوة الشرسة التي تغيب معها القيم الإنسانية الأصيلة التي تضع الإنسان في صدارة غاياتها.

النهضة والحداثة:

يتشاكل مفهوم الحداثة مع مفهوم النهضة، وبعض الباحثين يطابقون بين المفهومين، حيث يعتقدون بتجانس النهضة الأوروبية والحداثة، فتحقيق الحداثة يعادل تحقيق النهضة، ويعتمد هذا التجانس على تكافؤ مرتكزات المفهومين، فكلاهما الحداثة والنهضة يعرفان بهيمنة العقل والعلمانية والفردية والمدنية وحقوق الإنسان. غير أن بعض الباحثين يحاولون الفصل بصعوبة وحذر بين المفهومين. وفي هذا السياق تطالعنا محاولة برهان غليون الذي يرى أن ما “يميز النهضة عن الحداثة، هو أن الحداثة تجري بشكل تلقائي ويومي، وتتجسد في انتقال أنماط الحياة والسلوك والإنتاج الغربية دون تمييز إلى المجتمع العربي. وليست جميع هذه الأنماط دلائل حقيقية على الحضارة، أو ليست جميعها من جوهر الحضارة وأسسها. فالنهضة كنظرية في الولوج إلى الحضارة تحدد أولويات وتصيغ استراتيجية للعمل الجماعي. وبمعنى آخر أن النهضة كنظرية ليست إلا محاولة لعقلنة هذه الحداثة العامة والداخلة حتما إلى الحياة العربية. ومن الطبيعي أن تعني هذه العقلنة إخضاع الحداثة، إضافة إلى المعايير العقلية، إلى معايير اجتماعية وأخلاقية”[16].

فالنهضة تؤكد على أولوية التغيير والتحويل، أي التغلب على الانحطاط، وتمثل الإبداعات الجديدة. ويفترض التغيير الثورة على الوعي القائم وعلى منظومة القيم التقليدية السائدة. وسواء تعلق الأمر بالمصلحين الإسلاميين من أمثال محمد عبده أو رشيد رضا، أو بالمحدثين، فإن تغيير هذا الوعي من وعي تقليدي وخرافي إلى وعي عقلي وعلمي هو طريق التطور، وهو بمثابة إعداد التربية الصالحة لكل تغيير إيجابي مقبل[17].

“كانت النهضة تعني استيعاب الحضارة ضمن التراث، أي نهضة للذات التراثية نفسها، أما الحداثة فهي تفترض أن هذه الذات تخفي خطر الخصوصية المبعدة عن الحضارة والمبررة للتقاليد. فالحداثة ليست مشروعا تاريخيا اجتماعيا كالنهضة وإنما هي سياسة وممارسة يومية، هي تغيير في كل الاتجاهات لبنى الواقع والفكر العربيين. إنها اندراج دون أوهام في العالمية والحضارة المادية، وأولوياتها هي إنهاء هذه الخصوصية وهذا التراث[18].

تأخذ الحداثة طابع الإبداع والتجديد وعلى خلاف هذا يكون التقليد حالة من التكرار وهي إنتاج وإعادة إنتاج ما هو قائم. فالحداثة تعني ظهور الفردية والوعي الفردي المستقل والاهتمامات الخاصة وذلك بالقياس إلى المجتمع التقليدي الذي يتميز بالطابع السحري والديني. فالمجتمع التقليدي يبالغ عادة في احترام وتقديس الطرق والأنماط التقليدية التي توارثها الآباء والأجداد والتي اعتادوا عليها لفترات طويلة، حيث تكون أفضل طريقة يسلكها الفرد أو الجماعة هي الطريقة التي رسمها واتبعها الآباء والأولون، وما هو شرعي ليس سوى كل ما انبثق عن التراث وحفظ عن الماضي[19].

وعندما تواجه الأنماط التقليدية طوفان الحداثة المتدفق فإن هذا لا يخلو من مظاهر التوتر والاضطراب، ويرجع هذا إلى استمرارية الأنماط التقليدية، حيث تكون متأصلة عميقا في نفوس الأفراد خلال عملية التنشئة، ومن ثم لا يمكن تغييرها في يسر دون أن يتم تحويل وتغيير أنماط التنشئة السائدة في المجتمع. وهكذا فمع تدفق العناصر الحديثة يتوقع استمرار بعض الأنماط التقليدية[20].

وعلى خلاف اللحظة التراثية تتميز اللحظة الحداثية بتفردها، وتأخذ هذه اللحظة خطا تصاعديا ينطلق من الماضي إلى الحاضر ومن ثم إلى المستقبل، خط الأصل والغاية، وهذه اللحظة قابلة للقياس، ولكنها غير قابلة للتراجع، إنها لحظة في البحث الدائم عن الجدة، وفي قلب الزمن اللا محدود والذي لا يعرف معنى للخلود فإن الأشياء في الحداثة تريد أن تأخذ طابع المعاصرة، وهذا ما تتفرد به الحداثة، حيث تأخذ الحالية والفورية واليومية اللحظة الخالصة في الزمن الحداثي. فالحداثة هي صيغة انفصال وإبداع فردي وتجديد يسم الظاهرة الاجتماعية وهي محاولة دائمة لهدم القديم وتدميره (الصيغ الأدبية، وأنظمة التوازن، السلطة والشرعية والأشكال الأدبية القائمة).

يرى زكي نجيب محمود أن هذا التراث فقد مكانته في عصرنا لأنه يدور أساسا على محور العلاقة بين الله والإنسان، في حين أن محور العلاقة في عصرنا هذا تدور بين الإنسان والإنسان. ومن جهة أخرى يرى زكي نجيب محمود مفكر الجيل أن تراثنا لا يشكل مصدر الثقافة العلمية المطلوبة حيث يتوجب علينا أن نبحث عن قيم هذه الثقافة ومعاييرها في ثقافة الغرب المعاصرة وفي حضارته ويجب أن ننهل منها ما استطعنا إليها سبيلا. أما طه حسين فيرى أن الأعراف والتقاليد وطرائق التفكير هي التي تمنع العرب من بناء حداثتهم وتكوين حضارتهم ولا بد من إزالة هذه العوائق وتغييرها حتى يتاح للوعي الحديث العلمي أن يأخذ مكانه ودوره في حياتنا ووجودنا.

الملامح التاريخية لمفهوم الحداثة:

من حيث المبدأ يختلف العلماء في تحديد المرحلة التاريخية التي بدأت فيها الحداثة. ويرى المؤرخون أن العصر الحديث بدأ مع اكتشاف أمريكا من قبل كريستوف كولمبس Cristoph Colombs عام 1492. وينظر المفكرون أن تخوم العصر الحديث تبدأ مع الأحداث التاريخية الكبرى، التي تمثلت بادئ بدء في اكتشاف جاليلو لمركزية الشمس، وسقوط القسنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين عام 1453. وإذا كان التحديث أو العصر الحديث يبدأ مع هذه المؤشرات التاريخية فإن مفهوم الحداثة يتجلى في حركة الإصلاح الديني في أوروبا التي قادها مارتن لوثر في عام 1517. ومن ثم بدا هذا المفهوم يأخذ أبعاده الفلسفية والسياسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث تتجلى خصائصه في ولادة التفكير الفردي والعقلاني الذي أرسى مقوماته ديكارت ومن ثم فلاسفة التنوير بعامة.

وغالبا ما يرتبط عصر الحداثة باختراع الحداد الألماني جوتنبرغ لآلة الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر، هذا الاختراع الذي استطاع أن يبدل ذاكرة الإنسانية، كان سبيل الإنسانية إلى بناء ذاكرة جديدة تعتمد الكتابة سجلا تاريخيا، استندت إليه الأمم، في حركة نهضتها، وبناء تقدمها العلمي والمعرفي. لقد شكل اختراع الطباعة المرحلة التي انتقلت فيها الإنسانية من حضارة المشافهة إلى حضارة الكتابة، وعلى أساس ذلك استطاع الإنسان توظيف التراكم المعرفي في خدمة الثورات العلمية المتعاقبة التي توج في أصل الحداثة.

ومن المنطقي في هذا السياق أن يشار إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت Rene Descartes (1596-1650) بوصفه أب الحداثة ولا سيما في مجال التفكير الفلسفي. لقد كان لعبقريته التاريخية الفذة أن تؤدي إلى اكتشاف المنهج العقلي الذي قدر له أن يبدد ظلام العصور الوسطى، وأن يحرر العقل من عبودية الأنساق الفكرية وهمجية الأفكار والمعتقدات القدسية التي حاصرت العقل ودفعت به إلى زنزانات العبودية والقهر. فكان لمنهج الشك والشك المنهجي أن يشكل معول الهدم الجبار الذي تناثرت تحت صدماته الأوهام التاريخية التي صنعتها الكنيسة ورجال الإكليروس ورجال الإقطاع على مدى أجيال وأجيال، امتدت لتشمل القرون العشرة التي بدأت منذ القرن الخامس الميلادي. فديكارت أكد روح البحث العلمي الحر والقناعة الفكرية الواعية محل المعتقدات العمياء. والشك المنهجي يعتمد لديه على قواعد هامة تقول أولاها: ألا نقبل شيئا ونعتقد بصحته ما لم يتبين لنا بالبداهة كذلك، وألا نضم إلى أحكامنا حكما ما لم يره فكرنا ببينة واضحة متميزة، وما لم يكن في مأمن من كل شبهة وشك. ومثل هذا المبدأ كما يقول عبد الله عبد الدايم: “لا يصلح به العلم ويقلب الفلسفة فحسب بل يهدم مذهب السنة القديمة والطرق الآلية(…) ويوقظ أفكارا ويحرض الحكم والتفكير”[21]. وهذا المنهج الذي ينطلق من الشك ويدعو إليه هو الأصل في تبديد ظلام الأفكار والمعتقدات والأوهام الخاطئة التي رفعت إلى مرتبة القدسية في العصور الوسطى المسيحية. وفي هذه المنهجية وفي ذاك التأثير تمثلت واحدة من أهم لحظات الحداثة ومقوماتها في الحضارة الغربية.

عندما دعا فلاسفة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر إلى تغليب حكم العقل والاهتداء به في الحكم على الأشياء، كانوا يدركون بأن الإنسانية عبر تاريخها اهتدت بالعقل إلى اكتشافاتها وحضاراتها المتعاقبة. ولكن بيت القصيد أنهم كانوا يقصدون بدعوتهم هذه اعتماد المنهج العلمي التجريبي في النظر إلى الكون والوجود والحياة ومن ثم التحرر من أسر الأوهام والخرافات والتحيزات المسبقة التي تضرب أسس التفكير وتشل قدرة العقل في الكشف عن ماهية الأشياء. دعوتهم هذه كانت حربا ضد كل أشكال السحر والتخريف والشعوذة والتعصب التي فرضتها الأنظمة الكنسية الإقطاعية التي وضعت تاريخ أوروبا الوسيط في دائرة الظلام[22].

وفي عصر الأنوار تضاعف ومض الحداثة وبريقها، ولا سيما في نظريات كانط وأعماله الفكرية الفذة. ففي كتابه المعروف ما الأنوار[23]، يحاول كانط أن يحدد طبيعة وماهية عصر التنوير في القرن الثامن عشر. وهو في هذا السياق يبين أن عصر التنوير هو منظومة الوضعيات التي يحاول فيها الإنسان أن يحطم الأغلال التي وضعها هو نفسه في معصمه، إنها الحالة التي يسعى فيها الإنسان إلى تحطيم دائرة الوصاية التي تسبب فيها نفسه بنفسه، إنها في نهاية الأمر العملية التي حقق فيها لعقله التحرر من الوصاية التاريخية التي فرضت عليه من الخارج. هذا ويؤكد كانط في كل أعماله أن شرط التنوير والحداثة هو الحرية، ومن بين الحريات يؤكد على هذه التي تتصل بحرية العقل وحرية التفكير[24]. إن الجوهري في مقولات كانط أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل كي يستطيع الإنسان أن يبني نهضته نحو الحضارة والحرية والمدنية والحداثة.

يعرف الفيلسوف الألماني كانط الحداثة في سياق إجابته عن سؤال “ما الأنوار؟” في مقولته المشهورة: “الأنوار خروج الإنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره”. ولذا كان شعار الأنوار عبارة تقول: “أقدم على استخدام فكرك”[25].

وفي عصر الأنوار وما يليه بدأت الدولة المركزية بتقنياتها الإدارية تأخذ مكان النظام الإقطاعي والتأكيد على العلوم والفيزياء الطبيعية التي توجد في أصل العطاءات التكنولوجية، وحيث بدأت الفنون تأخذ ظلالها الإبداعية في أوروبا. وفي هذا الصدد يقول بومدين بوزيد: “البداية الحقيقية لكل حداثة هي تفكيك أسس مناهج تفكيرنا والكشف عن العوائق الإبيستمولوجية التي تحجب عنا عيوبنا المنهجية والنظرية”[26].

وحسب الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل(1770-1831) فإن الحداثة بدأت مع “عصر الأنوار بفعل هؤلاء الذين أظهروا وعيا وبصيرة باعتبار أن هذا العصر هو حد فاصل ومرحلة نهائية من التاريخ”[27]. لقد أكدت الثورة الفرنسية في عام 1789 حضور الدولة البرجوازية والقيم الليبرالية والديمقراطية التي سجلت نفسها في منطق الحداثة. لقد أدخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات وتقسيم العمل إلى الحياة الاجتماعي بعد التغيير المستمر وانهيار المعايير والثقافة التقليدية. وبالتالي فإن التقسيم الاجتماعية للعمل أدى إلى اتصالات سياسية واسعة، وإلى إحداث نوع من الصراعات الاجتماعية التي شهدها القرنان التاسع عشر والعشرون. وظهرت على التوالي أهمية النمو السكاني ومركزيات المدن والتطور الهائل لوسائل الاتصال والمعلوماتية، هذه العوامل مجتمعة سجلت انطباعاتها في مفهوم الحداثة وأبدتها على أنها ممارسة اجتماعية ونمط من الحياة يقوم على أساسي التغير والابتكار وعلى أساس القلق واللا استقرارية والحركة الدائمة والأزمة.

لقد استطاعت الإنجازات الحضارية التي تجسدت بتطور العلوم والتقنيات والتطور العقلاني والمنظم لأدوات الإنتاج أن ترسم حدود الحداثة وتخومها حيث تبدت هذه الحداثة في تكثيف العمل الإنساني، وتأكيد الهيمنة الإنسانية على الطبيعة، وتلك هي خاصة أغلب المجتمعات الحداثية التي أدت إلى تغيير عميق وشامل في شروط الحياة والتفكير في آن واحد، وقد تمثل هذا التأثير في انتقال الحضارة من حضارة العمل والتقدم إلى حضارة الاستهلاك والفراغ.

أسس الحداثة وخصائصها:

تستند الحداثة كما يراها محمد محفوظ إلى الخصائص التالية:

ـ مرحلة تبلغها المجتمعات الإنسانية من خلال عملية التراكم التاريخي، والخروج من دائرة الوصاية التاريخية التي فرضت على العقل الإنساني في عصور الظلام.

ـ الحرية الإنسانية وتأكيد دور الإنسان الحر في مختلف ميادين المجتمع وقضاياه انطلاقا من حقوق الإنسان وتعزيزا للقيم الديمقراطية.

ـ العقلانية حيث يتجلى العقل بسيادته وهيمنته في مختلف جوانب الوجود الاجتماعي والسياسي تجليا لمبادئ التنوير وقيمه[28].

ويسجل محفوظ في هذا السياق مجموعة من النقاط الهامة حول الحداثة منها:

ـ أن الحداثة لا يتم استيرادها من الخارج بل هي حالة تنبثق من صميم المجتمع، وهذا يعني حالة تطور وتراكم تاريخي تتم في داخل المعطيات التاريخية للحياة الاجتماعية تمهد لعملية الحداثة وحضورها.

ـ إن الحداثة كمرحلة تاريخية بحاجة إلى توفير الشروط الثقافية الضرورية لبلوغها، فالحداثة لا تتم وفقا لمبدأ المصادفة وإنما هي عملية فعل إنساني يقتضي منظومة من الشروط الذاتية والموضوعية.

ـ تأكيد أهمية الوعي الإنساني في فكرة الحداثة وضرورة الحضور الثقافي لهذا الوعي في مختلف مجالات الحياة حضورا يؤكد تنامي العقلانية والتنوير والقدرة على امتلاك اللحظة الذاتية في الوعي الاجتماعي[29].

وتسجل الحداثة نفسها في مظاهر متعددة ومن أهم الأسس والمنطلقات التي ترتكز إليها في المستوى الفلسفي يمكن الإشارة إلى المرتكزات التالية:

ـ يعد العقل ودوره في الحياة مبتدأ الحداثة وخبرها ولذلك فإن هيمنة العقل وسيادته تشكل المنطلق الحقيقي للحداثة وأساسها المركزي.

ـ يأخذ العلم والإيمان بدوره في الحياة الإنسانية دورا مركزيا في مفهوم الحداثة وهو دور يتكامل مع أهمية العقل ودوره التنويري. فالمعرفة العلمية هي المحور الأساسي في فهمنا للكون وحقائقه وعلله وتجلياته بصرف النظر عن المعارف التراثية والتقليدية التي سادت في العصور الماضية من تاريخ الإنسانية.

ـ تأخذ الحرية مكانها المميز في صميم مفهوم الحداثة. فالحداثة هي حالة من المغامرة في عالم الضرورة والحتمية وهي من هذه الزاوية تتجلى في صورة إرادة إنسانية حرة تتحدى وتتقصى وتغامر لتصنع مصير الإنسان على مقياس إرادته وعلى أطياف أحلامه الإنسانية. وتتمثل هذه الحرية في إرادة إنسانية تسعى لهدم عالم الوصاية وتدميره بمختلف تجلياته وحدوده ومرتسماته.

ويأخذ مفهوم الزمن وعلاقة الإنسان بالزمن أهمية مركزية بين أطياف مفهوم الحداثة. فالإنسان في الحداثة يصنع زمنه ويرسم ملامح مصيره بإرادته. فالزمن في الحداثة لا يأخذ صورة دورات متكررة صائرة إلى بداياتها. إنه لحظات متقطعة متنافرة متقدمة، إنه صولة الإنسان وتجسيد لإرادته الخلاقة. والإنسان في هذا التصور يصنع تاريخه ويهندس لحظات وجوده تحددا وابتكارا وإبداعا. وفي أصل هذا التصور للزمن بوصفه حركة إنسانية واعية تجلت فكرة التقدم الإنساني وفكرة المصير الذي تقرره إرادة البشر. إنها الحرية التي تتمثل في الخروج عن وصاية الزمن، إنها الإرادة التي تنتزع نفسها من قبضة الحتمية المتمثلة في دائرة الزمن.

ويشكل الحق دائرة مركزية في أصل الحداثة. فالحق ينبثق من إرادة البشر وليس من عالم الطبيعة والقوى الخارقة لها. وهذا يعني أن الإنسان يشكل بإرادته وحريته وحجم حضوره في هذا الكون مصدر الحقيقة الأولى وصانعها. والفعل الإنساني في نهاية الأمر صورة إرادة إنسانية تجعل من الإنسان بصورته الاجتماعية مبتدأ الحقيقة وغايتها[30].

ـ الإنسان جوهر الحداثة: “إن عملية التحديث السليمة لا تبدأ بالمظاهر والمؤشرات الكمية، وإنما تبدأ بالمضمون والجوهر وهو الإنسان، فبدون تغير الإنسان في ثقافته وقيمه ونظرته إلى الذات والآخر تبقى عملية التحديث ظاهرية، مزيفة، لا تعكس الواقع بأمانة، وهذا ما تشير إليه الآية القرآنية في قوله تعالى  “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فمربط الفرس في عملية التحديث هو الإنسان والنظام  القيمي الذي يتحكم فيه على المستوى الشخصية والاجتماعي”[31].

وفي هذا السياق يرى قسطنطين زريق أن الحداثة تنطلق من المواقف التالية:

ـ الإيمان بأن العالم الطبيعي هو العالم الحقيقي. فهو ليس عالما زائلا وليس مجرد جسر نعبره إلى العالم الآخر، إنه عالم يمتلك الجدارة والأصالة وهو قمين بأسباب اهتمامنا وعنايتنا.

ـ الإيمان بأن الإنسان هو أهم كائن في العالم الطبيعي وأنه معيار الأشياء جميعا وغاية الوجود. ولكونه غاية يتوجب على المجتمع أن يحيطه بكل أسباب الرعاية والحماية وأن يوفر له شروط الإبداع والحياة الحرة الكريمة. وهذا يتأسس من منطلق أن الإنسان هو العامل الفاعل في التاريخ في ميادين التحضر والتطور، إنه سيد قدره وحاكم لصيرورة وجوده إبداعا وعطاءا.

ـ الإيمان بأن العقل هو مصدر تفوق الإنسان وتفرده في مملكة الكائنات الحية، ومن ثم الإيمان بأن الإنسان يستطيع عبر هذا العقل أن يطور العلوم والمعارف باتجاه السيطرة على الوجود والمصير[32].

أما لوي ديمون فيرى الحداثة ترتكز إلى المحاور التالية:

ـ الفردانية (مقابل حلول الفرد في الجماعة Holisme).

ـ أولوية العلاقة مع الأشياء مقابل أولوية العلاقة بين البشر.

ـ التمييز المطلق بين الذات والموضوع.

ـ فصل القيم عن الوقائع والأفكار.

ـ تقسيم المعرفة إلى مستويات (فروع معرفية) مستقلة متناظرة ومتجانسة[33].

ويحدد هايدغر خمسة مظاهر للأزمنة الحديثة وهي: العلم، والتكنولوجيا، والفن، والثقافة، ومن ثم الانسلاخ عن المقدس[34].

يحدد عياض بن عاشور عددا من الأسس المركزية للحداثة ويحددها بأهمية العقل ودوره في الحياة الإنسانية، ومن ثم بأهمية الفردية الإنسانية، والإرادة البشرية، وبالتالي التأكيد على دور الطبيعة وأهميتها، وأخيرا الزمن بوصفه رصيدا يتجدد ويزيد بالتدريج[35].

وتعتمد الحداثة على ركيزتين أساسيتين كما يرى تورين A.Touraine هما العقلانية والانفجار المعرفي.

العقلانية :  Rationalisme

تعد العقلانية مبتدأ الحداثة وخبرها ولا توجد حداثة من غير أساس عقلاني كما يؤكد آلان تورين A.Tourain[36]. والحداثة كما يرى تورين هي عملية انتشار المنتجات العقلية والعلمية والتكنولوجية وهي بالتالي حالة رفض للتصورات القديمة التي تقوم على أساس ديني طوباوي وتمثل في الوقت ذاته حالة قطيعة مع الغائية الدينية التقليدية، إنها انتصار للعقل في مختلف مجالات الحياة والوجود، في مجال العلم والحياة الاجتماعية، وغاية الحداثة هي بناء مجتمع عقلاني[37]. وهذا يعني أن الحداثة هي حالة ولادة جديدة لعالم يحكمه العقل وتسوده العقلانية. وبعبارة أخرى الحداثة وضعية اجتماعية وحضارية تجعل من العقل والعقلانية المبدأ الأساسي الذي يعتمد في مجال الحياة الشخصية والاجتماعية. وهذا يقتضي وجود حالة رفض لجميع العقائد والتصورات وأشكال التنظيم الاجتماعي التي لا تستند إلى أسس عقلية أو علمية. وهذا هو التصور الذي اعتمدته فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر والتي نادت بوجود الإنسان على أساس التوافق مع العقل والعقلانية، وذلك سعيا إلى تحرير الإنسان من العبودية والظلم ومن المخاوف الأسطورية والجهل والعبودية والتسلط وقد اتجهت هذه الحركة إلى إزالة العقبات التي تقف في وجه المعرفة العلمية.

وتأخذ الحداثة ملامحها الأساسية في الفلسفة الوضعية La positivisme التي أحدثت نوعا من القطيعة مع التصورات الأبوية والكنسية التقليدية مؤكدة أهمية المعرفة العلمية والعقلانية في شتى مناحي الحياة الاجتماعية واتجاهاتها. وفي هذا السياق تتبدى الحداثة أيضا في عطاءات المنهج العلمي التجريبي الذي أخذ هيئة العقلانية الأداتية التي اتسمت بالموضوعية والتماسك والتي بدأت تسجل حضورها العارم في مختلف مجالات المعرفة العلمية بفروعها المختلفة.

الانفجار المعرفي : L’éclatement de connaissance

يقول تورين في كتابه نقد الحداثة: تستبدل “الحداثة فكرة الله بفكرة العلم، وتقصر الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يكفي أن تكون هناك تطبيقات علمية وتكنولوجية للعلم كي نتكلم عن مجتمع حديث حيث ينبغي أيضا حماية النشاط العقلي من الدعايات السياسية ومن الاعتقادات الدينية[38].

شهدت الحداثة وما زالت تشهد أيضا نموا متسارعا في جميع ميادين المعرفة العلمية والتكنولوجية على مختلف المستويات الاجتماعية والإنسانية. وقد تنامت هذه المعرفة بصورة ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية على مدى العصور والأزمنة. لقد تميزت مرحلة الحداثة بظهور عدد كبير من التيارات والنظريات والفلسفات والاختراعات العلمية والتكنولوجية في مجال الفن والنحت والتصوير والموسيقا والأدب والهندسة والكيمياء وفي مجال الذرة والبيولوجيا والشيفرات وفي مجالات أخرى تنأى عن التعداد والحصر. وهذه الاكتشافات المتزايدة والمتنامية شكلت وما زالت تشكل ثورة معرفية حقيقية وجبارة في مجال العلم والمعرفة الإنسانية. وهذه الثورة أو التحولات العلمية تشكل الأساس المحوري والعلامة الفارقة في وضعية الحداثة وذلك إلى جانب العقلانية التي تشغل فضاء الوجود الإنساني في عصر الحداثة.

نقد الحداثة:

علماء الاجتماع استطاعوا عبر رؤاهم النقدية أن يكتشفوا مسالب الحداثة ومخاطرها ولكنهم مع ذلك كانوا يرجحون الجوانب الإيجابية لهذه الحداثة على مضامينها السلبية.

لم تستطع الحداثة بنزعتها العقلانية ومغامراتها العلمية أن تحقق الغايات التي كانت في أصل وجودها. إن مأساة الحداثة كما يقول تورين “أنها تطورت ضد ذاتها”[39]. وهذا يعني أنها وجدت من أجل تحرير الإنسان ولكنها وفي سياق تطورها وضعته في أقفاص عبودية جديدة هي عبودية العقل والعقلانية، لقد أصبحت الذات الإنسانية في سياق هذا التطور موضعا للعلم والعقلانية، وتم استلاب هذه الذات من مقومات وجودها الإنسانية.

لقد أعلن جان جاك روسو J.J.Rousseau (1712-1778) زعيم النزعة الطبيعية، في القرن الثامن عشر، عن مسالب الحداثة ومخاطر العقلانية الصارمة التي اجتاحت العمق الإنساني واستلبت المشاعر السامية للإنسان. وقد أكد هذه الملاحظات في مختلف أعماله بدءا من العقد الاجتماعي Le contrat social وانتهاء بكتابه إميل Emile.

يهاجم روسو بشدة التقدم العلمي الذي أدى إلى تشويه الجانب الإنساني في الإنسان، ونادى بإصلاح التربية والقيم والمؤسسات السياسية والدين من أجل الإنسان في أعمق مضامينه الإنسانية. وإذا كان الإنسان اليوم يحتل مكانا مركزيا في دائرة تصوراتنا فإن هذا يعود بالدرجة الأولى إلى روسو. وعلى أساس ذلك يقول كانط إن “روسو هو نيوتن العالم الأخلاقي”[40]. ففي رسالتيه المشهورتين: مقالة في العلوم والفنون Le discours sur les sciences et les arts، ومن ثم مقالته في أصل اللامساواة بين البشر Discours sur l’origine de l’inégalité يؤكد روسو على أن الحضارة المادية العقلانية تؤدي إلى تراجع الأخلاق وتراجع القيم الإنسانية وتدفع الإنسان إلى دوائر الاستلاب والاغتراب. وفي هذا السياق يرى روسو أن المجتمع ليس عقلانيا وأن الحداثة تفسد أكثر مما تقدمه من فوائد. وبالتالي ومن أجل تحقيق الوحدة بين الإنسان والمجتمع فإن الحداثة تؤدي إلى تأكيد السيادة السياسية التي توظف في خدمة العقل وهي سيادة تنمو وتزدهر على حساب الذات الإنسانية المتفردة. وبعبارة أخرى من أجل انتصار العقل والعقلانية يجب التخلي عن الذات الإنسانية بما تنطوي عليه هذه الذات من كرامة وخصوصية. وهنا يجب على الإنسان أن يخضع لعقله وتأملاته العقلية وذلك على حساب عواطفه ومشاعره وقيمه الخاصة. وعلى هذا الأساس يستطيع المرء أن يتدرج وأن يأخذ مكانه وحضوره في سياق وجوده الاجتماعي وذلك بوصفه عاملا أو جنديا أو مواطنا بدرجة أكبر من كونه سيدا لنفسه ولمصيره. وعلى هذا الأساس يتحول العقل إلى طاغية والعقلانية إلى قهر واستبداد تنتهك وجود الإنسان وتستلبه[41].

لقد شكلت الحداثة شكلت على مدى القرون الماضية دريئة للنقد من قبل مفكرين أفذاذ مثل ماركس ونيتشه وفرويد واستطاعوا أن يفندوا جميع الأسس التي قامت عليها الحداثة. وفي ظل هذه الانتقادات المتنامية طرحت العلاقة الإشكالية بين الجانب الذاتي في الإنسان (الذاتية الإنسانية التي تمثل الجانب الانفعالي والعاطفي من كرامة وحب وكراهية وأحاسيس ومشاعر وقيم وانتماءات) والعقلانية نفسها بوصفها إحدى أهم التحديات التي واجهتها مرحلة الحداثة. فالحداثة تؤكد العقلانية وهي لا تعير الجانب الذاتي الإنساني اهتماما كبيرا، وإذا كان تجاهل الجانب الذاتي في الإنسان يضع الحداثة في وضعية أزمة فإن تغييب الجانب العقلي لحساب الجانب الذاتي يضاعف من حدة هذه الأزمة. فالإنسان الذي يتجرد من عطاءات العقلانية يضع نفسه في زنزانات الهوية والنزعات الاعتباطية ويذوب في معاصر التعصب والتحيز والانكماش.

وتلك هي المعادلة الصعبة والحل المناسب هنا ليس في أن يختار الإنسان بين العقل أو الذات بل وعلى خلاف ذلك يتوجب على الإنسان أن يحقق التوافق بين الطرفين والتوازن بين الاتجاهين: بين العقل وبين الذات الإنسانية. وإنه لمن مظاهر الخطر الكبير تنامي هذا الانفصال بين الجانبين: بين العالم العقلي وبين العالم الذاتي في مستوى الإنسان الفرد كما في مستوى المجتمع، بين الحياة الخاصة وبين الحياة العامة للفرد. وغالبا ما تجد هذه المعادلة الصعبة مخرجها عبر عملية ديمقراطية تتميز بالقدرة الحقيقية على تحقيق علاقة التوازن بين الفرد والمجتمع بين المصلحة الخاصة للفرد وبين المصلحة العامة كما يؤكد في هذا السياق المفكر الأمريكي جون ديوي.

لقد فقدت الحداثة قدرتها على تحرير الإنسان بعد أن أدت دورها التاريخي، وفي هذا السياق يقول تورين: “بقدر ما تنتصر الحداثة بقدر ما تفقد قدرتها على التحرير، إن دعوة التنوير مؤثرة عندما يكون العالم غارقا في الظلام والجهل والعبودية”[42]. ومن أجل تفسير هذا التناقض الكبير يشرح لنا تورين هذه الإشكالية، إشكالية التحرير والعبودية فيما بين عصر التقاليد وعصر الحداثة فيقول: “كنا نعيش في الصمت صرنا نعيش في الضجيج، كنا معزولين فصرنا ضائعين وسط الزحام، كنا نتسلم قليلا من الرسائل والآن تنهمر علينا كوابل من نار، لقد انتزعتنا الحداثة من الحدود الضيقة للثقافة التقليدية المحلية التي كنا نحياها وألقت بنا في جحيم الحرية الفردية، لقد ناضلنا ضد نظم الحكم القديمة الفاسدة وميراثها، أما في القرن العشرين فضد الأنظمة الجديدة والمجتمع الجديد والإنسان الجديد”[43].

يعد الفيلسوف الفرنسي المعروف جان فرانسوا ليوتار Lyotard من كبار المفكرين الذين وضعوا الحداثة في قفص الاتهام وهو من أعلن نهايتها معلنا عن ميلاد عصر ما بعد الحداثة في كتابه المعروف الوضع ما بعد الحداثي La condition Postmoderne عام 1979. وهو في هذا السياق يعلن عن سقوط النظريات والإيديولوجيات الكبرى وعجز هذه النظريات عن قراءة الواقع أو تفسيره لأن هذه الأنساق الفكرية تعاني من الجمود والانغلاق وهي ليست قادرة أبدا كما يذهب أصحابها وروادها على تفسير العالم أو المجتمع ومن هذه النظريات الماركسية والوضعية والوجودية والبرغماتية وغيرها من النظريات الشمولية المعروفة.

ومن القضايا التي يناقشها جان فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard في هذا الجانب إشكالية الحتمية التي يعلن سقوطها تأسيسا على تطور العلوم الطبيعية والتاريخ[44]. فالحتمية تعلن إفلاسها أمام المستجدات العلمية الجديدة في القرن العشرين. لقد بينت الأحداث المتتابعة، على مدى القرن العشرين، أن التاريخ لا يأخذ خطا حتميا تحركه تتابعات المراحل، وحتميات التتابع التاريخي الذي أنبأت عنه الماركسية وغيرها. فالتاريخ الإنساني قد يأخذ خط التقدم، ولكنه قد يتراجع وقد ينهض من جديد أو يراوح في مكانه، فلا مكان لأقدار الحتمية وأفكار الغايات التي يسعى إليها التطور في منظور الأنساق الفكرية الكبرى[45].

مفهوم ما بعد الحداثة:

غالبا ما يحاصر المفكرون المفاهيم الجديدة بإيقاعات تصوراتهم الفكرية ومن هذا المنطلق نجد أن مفهوم الحداثة قد تشبع بتصورات وحدود عدد كبير من المفكرين العمالقة الذين وظفوا هذا المفهوم في منظوماتهم الفكرية. ومن هذه الزاوية نجد حالة من التنوع والاضطراب في تحديد مفهوم ما بعد الحداثة بصورة واضحة وجلية. لقد شكلت الانتقادات المنهجية التي وجهت إلى مفهوم الحداثة الأرضية العلمية التي تنامى في تربتها مفهوم ما بعد الحداثة ليأخذ صورته النقدية التي تغذيها روح فكرية نقدية نشطة ومتطورة. وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن هذه الانتقادات التي تنامت في حقل الحداثة شكلت أيضا ينبوعا للتنظير العلمي المتقدم والإبداعي في ميدان ما بعد الحداثة. وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن مفهوم ما بعد الحداثة لا يأخذ أهميته بوصفه امتدادا زمنيا لحالات حضارية متعاقبة بل هو نسق من التصورات النقدية التي أبدعتها روح العصر المتجدد في مختلف ميادين الحياة الفكرية.

وفي غمرة الانتقادات التي وجهت إلى الحداثة وفي ملامح الأزمة التي تعيشها الحداثة دفعت بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الإنسانية خرجت، تحت تأثير هذه الاختناقات الحضارية، من مرحلة الحداثة وبدأت مرحلة جديدة أطلق عليها ما بعد الحداثة. ويقدر فريق من هؤلاء الباحثين أن هذه المرحلة قد بدأت تاريخيا منذ عام 1968 وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب في مختلف عواصم العالم، وعلى خلاف ذلك يرى الفريق الآخر من هؤلاء الباحثين أن مرحلة الحداثة قد بدأت مع سقوط جدار برلين تعبيرا عن سقوط المنظومة الاشتراكية.

وفي هذا الخصوص يشير إيهاب حسن، أحد المنظرين في هذا المجال، إلى صعوبة تحديد مفهوم ما بعد الحداثة، ولكنه مع ذلك يقدم مجموعة من التصورات العلمية التي يمكنها أن تشكل العناصر الأساسية في بنية هذا المفهوم ومنها:

إن لفظ ما بعد الحداثة يوحي بفكرة الحداثة وهو بالتالي يتضمن بعد التوالي الزمني للعلاقة بين المفهومين.

لا يوجد إجماع بين النقاد على تعريف واضح لمفهوم ما بعد الحداثة.

مفهوم ما بعد الحداثة عرضة كغيره للتغير والصيرورة التي نلاحظها في المفاهيم الوليدة حديثا[46].

ومن هذا المنطلق يمكن الإشارة إلى موقف يورجين هابرماس Jurgen Habermas من هذا المفهوم في مقالة له بعنوان “الحداثة مشروع لم يكتمل” في عام 1981[47]، حيث يرى بأن لفظة ما بعد الحداثة Post-modernité تمثل رغبة بعض المفكرين في الابتعاد عن ماض متشبع بتناقضات كبيرة وتعبر في الوقت نفسه عن سعي حثيث إلى وصف العصر الجديد بمفهوم لم تتحدد ملامحه بعد وذلك لأن الإنسانية لم تستطع أن تجد الحلول المناسبة للإشكاليات التي يطرحها العصر. ووفقا لهذه الصيغة يرى هابرماس بأن ما بعد الحداثة هي صيغة جديدة لمفهوم قديم (الحداثة) وأن ما بعد الحداثة محاولة لإثراء مرحلة الحداثة ذاتها وإتمام مشروعها حتى النهاية.

إن السمات الأساسية التي تنطلق منها حركة ما بعد الحداثة تتمثل في عدة اتجاهات أهمها:

ـ هدم الأنساق الفكرية الجامدة والإيديولوجيات الكبرى المغلقة وتقويض أسسها؛

ـ العمل على إزالة التناقض الحداثي بين الذات والموضوع بين الجانب العقلاني والجانب الروحي في الإنسان، وذلك من منطلق الافتراض بعدم وجود مثل هذه الثنائية الميتافيزيائية؛

ـ رفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة ولا سيما مفهوم التطور التعاقبي أو الخطي أو الزمني الذي يسجل حضوره في الأنساق الاجتماعية والحياة الاجتماعية[48]؛

ويصف إيهاب حسن مرحلة ما بعد الحداثة بالسمات التالية:

ـ فكر يرفض الشمولية في التفكير ولا سيما النظريات الكبرى مثل نظرية كارل ماركس، ونظرية هيغل، ووضعية كونت، ونظرية التحليل النفسي…إلخ.  ويركز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون والوجود؛

ـ رفض اليقين المعرفي المطلق ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول، أي تطابق الأشياء والكلمات؛

ـ يلح على إسقاط نظام السلطة الفكرية في المجتمع والجامعة، في الأدب والفن، والإطاحة بمشروعية القيم المفروضة من فوق في الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية كافة[49].

وفي هذا السياق، يرفض أنصار ما بعد الحداثة مفاهيم حداثية مثل: العقل والذات والعقلانية والمنطق والحقيقة، فهي مقولات مرفوضة. والحقيقة وهم لا طائل منه، ذلك لأن الحقيقية مرتهنة بعدد من المعايير الخاصة بالعقل والمنطق وهذه بدورها مرفوضة أيضا[50].

إزاء هذه التناقضات التي نسبت إلى مرحلة الحداثة وعرفت بها، وفي مواجهة هذه الإشكاليات والتحديات، التي انبثقت عن التحولات التاريخية، في النصف الثاني من القرن العشرين، توجب على الإنسانية أن تبحث عن حالة توازن جديدة لتحقيق التوافق الاجتماعي الثقافي وتحقيق المصالحة بين العقل والروح، بين المظاهر المادية للحضارة والمظاهر الروحية، بين العقلانية والذاتية. وفي إطار البحث الإنساني عن مخارج حضارية جديدة للأزمات المتفاقمة جاءت مرحلة ما بعد الحداثة بأفكار وآراء ونظريات مرشحة لتقديم تصورات ذكية عن المخارج الحضارية الجديدة لتجاوز الاختناقات التاريخية القائمة.

ومرحلة ما بعد الحداثة لا ترفض عطاءات المرحلة الحداثية بل تأخذها وتعيد إنتاجها بصورة تتساقط معها مختلف التناقضات وتتكامل فيها مختلف جوانب الوجود الفكري والإنساني في لحمة واحدة. ما بعد الحداثة محاولة لإعادة ترتيب الإشكاليات المطروحة ومن ثم العمل على تنظيم تناقضاتها وإدماجه في حركة التطور الإنساني.

لقد شكلت التحولات الحضارية الجديدة مناخا فكريا لولادة أنظمة فكرية تتسم بطابع الذكاء والتعقيد والتكامل في الآن الواحد. وهذه الولادة الذكية جاءت تعبيرا عن وعي إنساني جديد يتميز بطابعه النقدي المتمرد. وفي هذا السياق يمكن أن نقف عند محورين إشكاليين أساسيين لمرحلة ما بعد الحداثة وهما إشكالية العلاقة بين العقلانية والذاتية من جهة وإشكالية التكاملية من جهة أخرى.

 

العقلانية والذاتية: : La rationalisation et la subjectivation

استطاعت النزعة العقلانية في الحداثة أن تقتحم بوابات الجوانب الذاتية في الإنسان وأن تقوض حصون الروح الإنسانية بكل ما تنطوي عليه هذه الروح من مشاعر وأحاسيس وحدوس وقيم ذاتية. وتحت تأثير تموجات الحضارة المادية تشيأ الإنسان وتحول إلى موضوع لهذه النزعة الحضارية الجارفة. لقد تحول الإنسان إلى موضوع للمعرفة العلمية وترتب عليه أن يخضع لمقتضيات النزعة العقلانية وأن يتخلى عن عناصر الخصوصية التي تتميز بها الروح الفردية لديه.

وقد تجلت هذه الوضعية في الأنساق التربوية القائمة حيث عملت المدرسة على تأكيد هذا الانشطار بين الموضوع والذات، بين الإنسان باعتباراته الذاتية وبين العقل باعتباراته الموضوعية. فالمدرسة كانت تعلم التفكير العقلاني وتشدد على أهميته وتعارض مختلف مظاهر الذاتانية التي تتصل بالمشاعر والميول والعواطف والحدوس والخيال والقيم الذاتية والجمالية.

وفي ظل هذه الإكراهات المتنامية التي فرضها منطق العقل والعقلانية ظهرت اتجاهات فكرية واجتماعية تنادي بإعادة الاعتبار للذات الإنسانية بكل ما تشتمل عليه هذه الذات الإنسانية من خصائص ومضامين أخلاقية. واتضح هذا الاتجاه في المراحل الأخيرة من الحداثة وبداية مرحلة ما بعد الحداثة. وفي هذا السياق بدأت الأسرة تأخذ دورها في إعادة الاعتبار إلى الجوانب الروحية والذاتية في الإنسان وبدأت تتنامى أهمية النظرة إلى الإنسان بوصفه ذاتا وبدأت هذه الرؤية تأخذ مداها في مدار الحياة الأسرية. وفي هذه الأجواء لم يعد الزواج مجرد عقد اجتماعي صارم يقوم على أساس من الحقوق والواجبات التي يمليها القانون. وعلى خلاف ذلك بدأت الجوانب الإنسانية في دائرة هذه العلاقة الزواجية تأخذ أهميتها وخصوصيتها. وبدأ الأزواج ينفصلون عندما لا يجدون في دائرة حياتهم الزواجية الأبعاد الإنسانية والعاطفية الضرورية بين الزوجين. فالزواج لم يعد مجرد عقد قانوني بل أصبح عقدا إنسانيا وعاطفيا وانفعاليا يؤكد القيم الإنسانية في أكثر جوانبها خصوصية وأهمية. وبدأ الناس يجدون أنفسهم فيما بعد الحداثة ولا سيما في دائرة الحياة العائلية التي بدأت تغدق على أفرادها ما يحتاجونه من مشاعر إنسانية وقيم عاطفية ملحة وضرورية في حياة الأفراد والمجتمعات الإنسانية.

هذه التغيرات الجديدة في مجال الأسرة بدأت تطرح أهمية إعادة النظر في مفهوم الأسرة وأهمية تقديم تعريفات جديدة وتحديدات جديدة لهذا المفهوم. وتأتي أهمية هذا الموقف من وجود عناصر جديدة تتمثل في أن الحياة الأسرية بدأت في الغرب تتحرر من سطوة الكنيسة ورجال الدين ومن تأثير حطام الإيديولوجيات القديمة. وفي هذه الأجواء أيضا بدأت الحياة الفردية تتحرر من صيغتها التقليدية وبدأت الحياة الأسرة تتمحور وبصورة متزايدة حول مبدأي الاستقلال الذاتي والتوافق.

إن ظهور النزعة الذاتانية لا يعني أبدا رفض العقلانية بل بقيت حيث وجب أن تبقى السلاح النقدي الأكثر قدرة وقوة ضد التسلط والشمولية. وهذا لا يعني أبدا أنه يجب علينا أن نتجاهل أن هذه العقلانية كثيرا ما كانت تضع الإنسان الفرد جانبا باسم العلم والموضوعية العلمية.

إن الخصوصية التاريخية لما بعد الحداثة تكمن في تعزيز هذا التقاطع التكاملي بين ذاتانية الفرد وعقلانيته، بين الجوانب الذاتية والجوانب الموضوعية للحياة الإنسانية. ولا يمكن اليوم إجراء المقابلات القديمة بين هذين الجانبين إلا في سياق الصورة التكاملية والجلية بينهما. فالإنسان يمكن أن يكون موضوعا للمعرفة العلمية دون أن ينتقص ذلك من خصوصيته الذاتية والإنسانية.

وهذه الخصوصية الذاتية للإنسان بدأت تتجلى في النسق الاجتماعي أيضا حيث نلاحظ تنامي الاهتمام بالجوانب الذاتية والشخصية للأفراد في دائرة حياتهم الاجتماعية. وهذا يعني أن الأنا يأخذ هيئة بناء يتكامل فيها مع الروح الاجتماعية ليتحول إلى فاعل اجتماعي. وفي هذا الخصوص يمكن القول بأن ما بعد الحداثة تعمل على تحقيق التكامل بين الفرد وأدواره الاجتماعية. وهذا التكامل هو الذي يضعنا في صورة الإنسان الذي يستطيع أن يواجه الأنظمة الاجتماعية القائمة، وأن يعمل على تغييرها بصورة مستمرة، وهذا يعني الإنسان الذي يستطيع أن يحدد مصيره وأن يرسم غايات وجوده بصورة عملية. فالإنسان يمتلك ذاتا وهوية شخصية فردية وهو في الوقت نفسه كائن اجتماعي وهو بجانبيه هذين يشكل لحظة واحدة لا تمايز فيها بين مكوناتها الشخصية والاجتماعية. وهذا يعني أنه يجب ألا يضحي بأحد هذين الجانبين لصالح الآخر ويجب ألا يتوارى أحدهما عندما يظهر الآخر في مجتمع ما بعد الحداثة. فمجتمع ما بعد الحداثة يتعارض مع أي صورة للوجود الإنساني يتعالى فيها أحد الجانبين على الآخر أو يؤدي إلى إزاحته. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن قوى الحضارة لا ترتهن اليوم بعملية النمو المعرفي وتنامي المعرفة العلمية والتكنولوجية فحسب، بل تجد هذه القوة نفسها في الإنسان وتتجلى في طاقاته الذاتية والإنسانية التي يمكنها أن تحرك الطاقة الحضارية للمجتمع.

لقد سبق لدوركهايم Emile Durkheim أن أعطى هذه القضية جل اهتمامه واستطاع بعبقريته المعهودة أن يميز بين جانبي الشخصية وأن يؤكد الوحدة بين هذين الجانبين. يقول دوركهايم في هذا الصدد: “يوجد في كل منا كائنان لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحو تجريدي، أحدهما نتاج لكل الحالات الذهنية الخاصة بنا وبحياتنا الشخصية وهو ما يمكن أن نطلق عليه الكائن الفردي. أما الكائن الآخر، فهو نظام من الأفكار والمشاعر والعادات التي ننتمي إليها، مثل العقائد الدينية والممارسات الأخلاقية والتقاليد القومية والمهنية والمشاعر الجمعية من أي نوع كانت، وهي تشكل في مجموعها الكائن الاجتماعي الآخر. وبالتالي فإن بناء هذا الكائن الاجتماعي في كل منا يشكل في نهاية المطاف هدف التربية وغايتها”[51].

وفي هذا السياق، يؤكد دوركهايم وهمية التصور بأنه يمكن الفصل بين هذين الجانبين حيث يقول: “إن المعارضة بين الفرد والمجتمع فكرة لا تتوافق أبدا مع معطيات الواقع، لأن هذين المفهومين يتداخلان ويترابطان. وبالتالي فإن الفعل الذي يمارسه المجتمع على الفرد لا يهدف أبدا إلى إفساد الفرد أو إلحاق الضرر به لأن بناء الفرد على نحو اجتماعي ضرورة إنسانية وحضارية[52].

التكامل والشمولية : L’intégration

يرى بعض المفكرين أن الحداثة تضج بمظاهر التجزئة والتشظي والانشطار في مختلف مظاهر الوجود الاجتماعي والفكري. وأمام هذا الواقع تتجه القوى الحضارية لمرحلة ما بعد الحداثة إلى توحيد هذه الاتجاهات وعقلنة وجودها في سياق تكاملي. وهذا يعني البحث عن مبدأ التكامل في نسق الوجود الاجتماعي والإنساني وبالتالي تحقيق النقلة الواعية من مبدأ الفصل والاستبعاد إلى مبدأ الوحدة والتكامل والإنسانية. ومن أجل هذه الغاية يجب التدخل لتحقيق هذه الانسيابية في مستوى المعارف العلمية والتكنولوجية.

لقد بلغت المعرفة العلمية حالة مزرية من الفوضى والجزئية والتناقض، وقد خضعت هذه المعرفة لمبدأ التعدد المدرسي في كل اتجاه وحدب وصوب. وإذا كانت مرحلة الحداثة تؤكد هذه الوضعية وتعرف بها فإن ما بعد الحداثة تؤكد على أهمية الوحدة والتنسيق والتكامل والتبادل بين مختلف الاتجاهات والتيارات العلمية المتنافرة. وهي وفقا لهذا الاتجاه تبحث عن سياق تتكامل فيه هذه الاتجاهات لتشكل طاقة حضارية متجددة وفاعلة ودافعة إلى تحقيق التطور.

وفي نسق رؤية نقدية لوضعية التجزؤ والفوضى المعرفية التي شهدتها مرحلة الحداثة يرى موران E.Morin أنه قد حان الوقت من أجل تجاوز وضعية التشتت والتجزئة والفوضى العلمية القائمة وإيجاد لحمة حقيقية بين التيارات والاتجاهات العلمية والفكرية المتنافرة. فالتيارات المتعددة يمكن أن تشكل العناصر الأساسية لنسيج علمي متطور يؤدي إلى بناء تكوينات علمية جديدة قادرة على توفير الشروط الحضارية لعملية إبداع متواصلة وحركة تجديد في مختلف ميادين الوجود والحياة.

وفي غمرة هذه التصورات الجديدة الداعية إلى الوحدة والتكامل بين عناصر الحياة الفكرية والاجتماعية يحدد ليوتار J.F.Lyotard اتجاه وغاية هذه النزعة إلى التجديد والشمولية. فالهدف من هذه النزعة حسب ليوتار لا يهدف إلى مجرد إحداث القطيعة مع الماضي وتفكيكه وإنما الهدف هو العمل على تطوير الأنظمة القائمة وتغذيتها بطاقة جديدة فاعلة في ميدان الإبداع والتجديد. وفي هذا السياق عينه ينظر ليوتار إلى التعقيد بوصفه صورة متقدمة لعملية التطور. وهذا يعني أن الأنظمة تصبح أكثر تطورا كلما أصبحت أكثر تعقيدا. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن تجاوز الازدواجيات والثنائيات في الفكر والإيديولوجيا والنظريات يعني في الوقت ذاته نهاية الأنظمة الفكرية الشمولية والنظريات الكبرى التي تحجرت وتصلبت تحت تأثير الانغلاق الإيديولوجي والتعصب الفكري.

وعلى خلاف الأنظمة المغلقة فإن النظام ما بعد الحداثي يبشر بحالة من الانفتاح الواسعة، وهذا الانفتاح يؤسس بدوره لمناخ يحفز على الإبداع وينضج بإمكانيات الابتكار والتجديد في مناحي الحياة المختلفة. فالتجديد يولد ويتوالد في قلب عملية الجدل والصراع والمواجهات والتعارض والتخاصب بين مختلف التيارات والاتجاهات التي يتوجب عليها أن تخرج من دوائر الجمود والانغلاق[53].

وهذه التصورات ما بعد الحداثية الجديدة، التي تعبر عن إرهاصات واقع متقدم، يضج بطاقات الإبداع والابتكار، ويسعى إلى البحث الدائم عن آفاق إنسانية جديدة، لا تتوانى عن إظهار بعض التحديات التي تواجه المصير الإنساني في هذه المرحلة المتقدمة من التطور. لقد كان الإيمان بالله في مرحلة ما قبل الحداثة هي الفكرة التي يخلد إليها العقل الإنساني وهي السكون التي تلجأ إليه النفس البشرية. فالإيمان بالله كان يمنح البشر هذا الإحساس الشامل بالأمن الوجودي الخلاق، ويغذيهم بطاقات وجودية خلاقة تمنحهم الاستقرار والسكينة والقدرة على مواجهة مختلف التحديات الوجودية التي تضع الإنسان في دوائر الخوف والقلق. أما فيما بعد الحداثة فإن غياب هذا الإيمان النبيل بوجود الله كقوة عليا حامية يدفع البشر إلى دائرة إحساس عميق لا حدود له بالقلق والخوف والتوتر. وهنا يمكن القول بأن غياب ما هو إلهي يؤدي إلى غياب ما هو إنساني وإلى حالة من القلق الوجودي والعصاب الذي يقهر كل الإرادات ويقض كل المضاجع ويضع الإنسان في حالة اغتراب لا حدود لها.

وفي دائرة هذا الاختناق الوجودي المفعم بالقلق والتوتر والعصاب يجب على الإنسان أن يواجه عالما يفيض بالخطر الدائم. وهذا يعني أنه يجب على الإنسان أن يتكيف مع هذا الواقع الجديد وأن يتعايش مع هذا الخطر المستمر والألم الوجودي المزمن، كما يتعايش مع أي مرض له طابع الاستمرارية الزمنية. ولا يبقى في جعبة الإنسان المعاصر إلا البحث الدائم عن صيغ جديدة وإبداعات جديدة يمكنها في سياق عملية التطور أن تخفف من حدة هذا الخطر وغلواء الشعور بالقهر الإنساني الذي تولده كل آليات الاستلاب الحضاري القائمة.

نحن والحداثة :

يجري الاعتقاد، في أوساط كثير من المثقفين العرب، أن الحداثة عملية يتم من خلالها نقل الأفكار الغربية والتكنولوجيا المتقدمة إلى الأقطار العربية، وعلى أساس هذا المنطق يعرف عبد الغفار رشاد الحداثة بوصفها “الأفكار والمعايير والقيم والمؤسسات ونماذج السلوك الجديدة الوافدة إلى المجتمع من الخارج، أو تلك التي ابتكرها المجتمع من خلال حركة تجديد أو إحياء داخلية”[54]. وهذا يعني أن الحداثة يمكن أن تتحقق بكل بساطة مع انتقال المعلومات والمعارف والتكنولوجيا إلى البلدان العربية.

إن مجرد الحصول على المال والرجال والتكنولوجيا لا يعني في أي حال من الأحوال تحقيق الحداثة. وذلك لأن الحداثة عمل وفعل يجد نفسه في أعماق القوى الفاعلة في المجتمع. الحداثة فعل جوهري يحدث في الروح الدافعة للتطور والوجود، إنها طاقة تنوير هائلة تلامس الروح والعقل بالدرجة الأولى. وهذا يعني أن الحداثة لن تتحقق أبدا عبر المظاهر وأنها رهينة الروح الحضارية التي تتمثل في تفجير طاقات العقل وبناء الروح العلمية التي تستمد نسغ وجودها من القيم الإنسانية الحضارية التي تتعلق بالحرية والإنسان والمدنية والقيم الديمقراطية.

وفي معرض التمييز بين الحداثة الغربية والحداثة العربية، يقول محمد محفوظ، إشارة منه إلى عقم الحداثة العربية وبقائها في مستوى الشعارات: “الحداثة الغربية كانت وليدة تطور تاريخي-اجتماعي لا يمكننا تجاوزه.. وبالتالي فالحداثة ليست شعارات وأشكالا سياسية، بل هي قبل ذلك كله صيرورة تاريخية-اجتماعية يصل إليها المجتمع بعد حقبة تاريخية من العمل المتواصل والجهد المركز في هذا السبيل”[55].

وهذا يعني أنه يجب علينا في البداية وفي الجوهر أن نطهر ساحة الفكر العربي من الأوهام والغيبيات والخرافات التي تعطل العقل وتبدد كل إمكانيات التطور والإبداع الإنساني وتدفع بالإنسان إلى دوائر العطالة والجمود. وفي هذا المقام يقول حسن صعب: “إن بطء هذا التغير العقلي المنهجي هو المسؤول الأول عن بطء التقدم في العالم العربي وفي سائر أنحاء العالم الثالث. فالشرط الأول للتقدم هو في عقل الإنسان. والإنسان الواعي لتخلفه وتقدم غيره هو الذي يندفع في طريق التقدم”[56].

لقد استطاع الغرب أن يحقق اليوم حداثته وأن يتجاوزها في الآن الواحد. والغرب الآن يحاكم مرحلة جديدة من تطوره هي مرحلة ما بعد الحداثة. حيث يواجه تحديات جديدة وقضايا جديدة تختلف كليا عن هذه التي طرحت في مرحلة ما بعد الحداثة.

فالفكر الأوروبي يشكل منطقة يترعرع فيها منطق وفكر ما بعد الحداثة، أما نحن فما زلنا نجوب مخفقين في دائرة الحداثة بمفهومها التنويري المرتبط بفكرة التقدم فقط. وحتى التقدم هنا لا يأخذ معناه النقدي بل صيغته الاقتصادية الإنتاجية البحتة وأحيانا صورته المظهرية، وهو تقدم بائس وحداثة مشوهة[57].

وباختصار إذا كان الغرب اليوم يصول في حقل معرفي جديد وإذا كان يواجه مشكلات ما بعد الحداثة، ومشكلات ما بعد المجتمع الصناعي، فهل يمكننا أن نقول بأننا ما زلنا نواجه تحديات ما قبل المجتمع الصناعي ومشكلات ما قبل الحداثة؟ وأخيرا ألا يحق لنا أن نتساءل عن الوقت الذي تبدأ فيه حركة حداثتنا؟g

[1] – آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيت، المجلس الأعلى للثقافة، المطابع الأميرية، القاهرة 1992، ص16.

[2] – بومدين بوزيد، الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، العدد 18، بيروت، ص19-31، ص21.

[3]  – Danilo Martuccelli, Sociologie de la modernité, E.Gallimard, Paris, 1999.

[4]  – Jean-Pierre Pourtois et Huguette Desmet, L’éducation postmoderne, P.U.F, Paris, 1997, p26.

[5]  – A.Giddens, Les conséquences de la modernité, Harmattan, Paris, 1994.

[6]  – Tom Rock More, (La modernité et la raison, Habermas et Hegele), In Archives de philosophie 52, 1989, p177-190.

[7] – سمير أحمد جرار، (التربية العربية ومأزق الثنائية المتوهمة، الحداثة والتغريب)، ضمن: الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، العرب والتربية والعصر الجديد، الكتاب السنوي الثالث عشر، الكويت، 1997-1998، (ص57-90)، ص63.

[8] – انظر جابر عصفور، (إسلام النفط والحداثة) ضمن الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، لندن، دار الساقي، 1990، ص177-209.

[9] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المركز الثقافي العربي، الدار اليبضاء، ، 1998، ص33.

[10] – سمير أحمد جرار، التربية العربية ومأزق الثنائية المتوهمة،  مرجع السابق، ص63.

[11] – غانم هنا، عبد الله الغذامي، مرسل العجمي، ناصيف نصار، ندوة حول عناصر الحداثة في الفكر العربي المعاصر، عدد 61، السنة 16، شتاء 1998، ص218-247، ص221.

[12] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع السابق، ص27.

[13] – نقلا عن محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المرجع السابق، ص45.

[14] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع السابق، ص35.

[15] – جمال الدين الخضور: مأساة العقل العربي: دراسة في البناء الأنتروبولوجي الثقافي المعرفي العربي المعاصر، دار الحصاد، دمشق، 1995، ص119.

[16] – برهان غليون، اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1987، ص184.

[17] – برهنة غليون، اغتيال العقل، مرجع سابق، ص185.

[18] – برهان غليون، اغتيال العقل، مرجع سابق، ص194.

[19] – عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984، ص28.

[20] – عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مرجع سابق، ص32.

[21] – عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ: من العصور المسيحية حتى أوائل القرن العشرين، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ص354.

[22] – جلال أمين، حول مفهوم التنوير، ضمن ، قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت، ص19-31، ص76.

[23]  – E.Kant, Réponse à la question : Qu’est-ce que les lumières ? Flamaration, Paris, 1990.

[24]  – E.Kant, Réponse à la question : Qu’est-ce que les lumières ? ibid.

[25] – عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، العقلية المدنية والحقوق الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998، ص13.

[26] – بومدين بوزيد، الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة، مرجع سابق، ص22.

[27] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع السابق، ص32.

[28] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998، ص33.

[29] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع سابق، ص36.

[30] – انظر عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، العقلية المدنية والحقوق الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1998، ص14 و15.

[31] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع سابق، 1998، ص27.

[32] – محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الحداثة، دفاتر فلسفية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1996، ص12.

[33] – محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الحداثة، المرجع السابق، 1996، ص17.

[34] – محمد سبيلا وعبد اللام بنعبد العالي، الحداثة، مرجع سابق، ص62.

[35] – عياض بن عاشور، (العقلية المدنية العربية تجاه الحداثة)، لوموند ديبلوماتيك، الطبعة العربية، 1989.

[36]  – A.Touraine, Critique de la modernité, Fayard, Paris, 1993.

[37]  – Jean-Pierre Pourtois et Huguette Desmet, L’éducation postmoderne, PUF, Paris, 1997, p27.

[38] – آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيت، مرجع سابق، ص29.

[39]  – A.Touraine, Critique de la modernité, Fayard, Paris, 1993, p241.

[40]  – L’encyclopédie française universaliste, Livre numéro 20, Paris, 1995, p318.

[41]  – Jean-Pierre Pourtois et Juguette Desmet, L’éducation postmoderne, PUF, Paris, 1997, p29.

[42] – آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيت، المجلس الأعلى للثقافة، المطابع الأميرية، القاهرة، ص129.

[43] – آلان تورين، نقد الحداثة، مرجع سابق، ص129.

[44]  – Jean François Lyotard, La condition postmoderne, Minuit, Paris, 1979.

[45] – عصام عبد الله، (الجذور النيتشوية لـ”ما بعد” الحداثة)، الفلسفة والعصر، العدد الأول، أكتوبر، 1999، ص229-248، ص232.

[46] – عصام عبد الله، الجذور النيتشوية لـ”ما بعد” الحداثة، المرجع السابق، ص232.

[47]  – Jurgen Habermas, (La modernité, un projet inachevé), Critique, n° 413, Octobre, 1981, pp950-967.

[48] – عصام عبد الله، الجذور النيتشوية لـ”ما بعد” الحداثة، مرجع سابق، ص237.

[49] – بومدين بوزيد، (الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة)، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، العدد 18، بيروت، ص19-31، ص21.

[50] – عصام عبد الله، الجذور النيتشوية لـ”ما بعد” الحداثة، مرجع سابق، ص238.

[51] – إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، الينابيع، دمشق، 1994، ص133.

[52] – إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، المرجع السابق، ص77.

[53]  – Jean François Lyotard, La condition postmoderne, Minuit, Paris, 1979.

[54] – عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984، ص25.

[55] – محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، مرجع سابق، ص47.

[56] – نقلا عن برهان غليون، اغتيال العقل، مرجع سابق، ص184 (حسن صعب، تحديث العقل العربي، ص19).

[57] – بومدين بوزيد، الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة، مرجع سابق، ص22.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى