أحمد مولود الطيارصفحات الناس

في ولاية الرقة: الرواتب من نظام الأسد/ أحـمـد مـولـود الطـيـار

الزائر القادم من المدخل الغربي إلى الرقة، المدينة الواقعة في شمال شرق سوريا؛ تستقبله شاخصة كبيرة كُتب عليها (ولاية الرقة)، ومفردة (ولاية)، واحدة من مفردات كثيرة تشكل قاموساً جديداً يغرف من ماضٍ بعيد بدأت تفرضه (دولة الشام والعراق الإسلامية – داعش) على “رعايا” دولتها الناشئة.

هذا “القاموس” الجديد كلياً على سكان مدينة الرقة يترافق مع إجراءات بدأت تنتشر رويداً رويداً عبر القوة الغليظة مرة، وعبر القوة الناعمة تارة أخرى. فمع شيوع حفلات الإعدام في الساحات العامة، إلى محاولات فرض الحجاب و”اللباس الشرعي” على طالبات المدارس، إلى مداهمة المقاهي العامة ومنع “الأراكيل”، إلى منع التدخين ومصادرته و”تعفيسه” أمام الناس وفي الشوارع العامة.. هذه هي “السياسة” العامة والمعلنة للدولة المذكورة من أجل إعادة هندسة المجتمع الرقّاوي، وإحلالها محل هندسة سابقة اشتغل عليها حافظ الأسد وابنه في العقود الخمسة السابقة. أمّا مهام ووظائف الدولة الحقيقية التي تهتم بمواطينها من حيث تأمين متطلبات ومستلزمات حياتهم، فهذا ليس في وارد تفكير الدولة العتيدة.

تقول “س”، وهي معلمة في إحدى مدارس مدينة الرقة، تحفَّظت عن ذكر اسمها الحقيقي مخافة عواقب قد تأتي: “قسم منا ذهب بمفرده، وهناك كثر جداً أستأجروا باصات صغيرة وتوجهنا جميعاً إلى محافظة دير الزور – 130 كم شرقي الرقة لا تزال تحت سيطرة النظام السوري – لاستلام رواتبنا”، أما عن المبلغ الذي تم استلامه ومن هم الذين توجهوا إلى دير الزور فتقول: “موظفون ينتمون إلى أغلب مؤسسات القطاع الحكومي، إلى جانب معلمين يدرّسون في المدارس الابتدائية والثانوية”.

تكمل “ع” وهي موظفة تعمل في إحدى دوائر الدولة في الرقة تحفَّظت أيضاً على ذكر اسمها الحقيقي خوفاً – كما عبّرت – من (دولتين)، فتقول: “ذهبنا إلى دير الزور مرتين بعد التحرير”، وتحدد التاريخ: “في الشهر الثامن من العام الحالي 2013، وتم تسليمنا خمسة رواتب لخمسة شهور سابقة، ثم ذهبنا مرة أخرى في الشهر الحادي عشر، وتم تسليمنا راتبَي شهرين سابقين”.

أما بخصوص المعاملة التي تلقوها في دير الزور من قبل الموظفين الحكوميين هناك ومن قبل أجهزة (الدولة الأخرى) فأكدت الموظفتان أنّهما عانتا الأمرّين، “إنما لا يجبرك على المر إلّا الأمرّ منه، فالأوضاع المادية صعبة، وكان لا بد من المجازفة ومغامرة الذهاب إلى دير الزور واستلام رواتبنا”.

وتتابع “ع “: “كانت الأعداد كبيرة والزحام شديداً، وضعونا في طوابير طويلة منذ وصولنا قرابة التاسعة صباحاً وحتى الخامسة عصراً، وسمعنا من العساكر الذين كانوا ينظمون الطابور كل الشتائم والكلمات البذيئة، من مثل: بدّكم تحرير مو؟!! بدكم حرية.. شوايا قذرين وما تلبقلكم الحرية… أساساً داعش كثيرة عليكم، وما إلى ذلك من شتائم وسباب”.

المؤلم أكثر – تقول ع – أن أحد المعلمين توفي في اليوم التالي بعد وصولهم إلى دير الزور نتيجة للتعذيب والضرب الذي تلقاه أمام الجميع. لماذا؟ تجيب: “هناك قوائم بأسماء مطلوبة للمخابرات السورية، يبدو أن اسمه فيها، وغامر بالمجيء لاستلام راتبه”. وعند سؤالها عما إذا كان هنالك من حالات أخرى شاهدوها، تقول “فؤاد حقي نعرفه جيداً، هو مدرس رياضيات شهير في مدينة الرقة، تم اعتقاله ولم يفرج عنه حتى الآن”.

وكم كانت دهشتي كبيرة عندما سألت إن كانت داعش تعلم أنهم يستلمون رواتبهم من قبل دولة الأسد، إذ أجابت ع: “في طريق عودتنا إلى الرقة من دير الزور، وعند مدخل المدينة هناك حاجز عسكري لداعش أوقفنا وسألنا أين كنتم؟، ولم يعترضوا عندما عرفوا أننا ذهبنا لاستلام رواتبنا.

كل همّهم – تقول ع – “أن يزوروا مدرستنا ومدارس أخرى من وقت إلى آخر، يحضّونا على ارتداء الحجاب واللباس الشرعي، وهم منذ شهر وجهوا تهديداً مبطنا إلى مديرة مدرستنا، فإن لم ترتدِ اللباس الشرعي سيكون كلامهم في المرة القادمة ليس معها، إنما مع زوجها”.

اللافت في كلام معلمة المدرسة “ع” تحديداً – وهذا بات متواتراً وتعرفه أغلبية سكان مدينة الرقة – أن مديرية تربية الرقة على سبيل المثال لا الحصر لا تزال تعمل تقريباً بنصف طاقتها، أو يزيد قليلاً، حيث يوجد موظفوها ويسيّرون أمورها، ويذهبون كل شهرين تقريبا إلى مدينة دير الزور القريبة، ويتقاضون رواتبهم الشهرية من هناك.

ولما سألت عن مدير التربية، وهل هو على رأس عمله؟ كان الجواب: “لا هو في دمشق، ويدير أغلبية شؤون المديرية عبر الهاتف، لأنه لا يستطيع المجيء إلى الرقة، فرأسه مطلوبة لداعش”.

حول هذا التناقض، وكيف لمدينة “محررة” أن تعيش تحت سلطة “دولتين” توجهت بالسؤال إلى الناشط المدني والفنان التشكيلي ح . م الذي ظننت أنه لا يزال مقيماً في الرقة، لأعلم منه أنه غادرها منذ عشرة أيام، بعد معرفته أن اسمه موجود على قائمة الخطف، وأن دوره “قادم بعد الدكتور اسماعيل الحامض” المعتقل لدى داعش. وهو الآن يقيم بشكل مؤقت في مدينة تل أبيض التركية القريبة من الحدود السورية. ولما سألته كيف عرف بذلك؟ قال: “هذه الأمور تنتشر على شكل إشاعات مدروسة، الغرض منها الضغط علينا لنغادر وإلا…”. أيضا تحفظ على ذكر اسمه لأنه قد يضطر مكرها العودة الى الرقة ولا يعرف “بكرا شو ” على حد تعبيره.

بتعريف موجز ؛ ح. م في بدايات العقد الرابع من عمره، عمل أكثر من عشر سنوات مديراً ومدرساً في معهد الفنون التشكيلية في الرقة. يمكن القول أن كل الرسوم والشعارات والغرافيتي الموجودة على جدران مدينة الرقة بعد تحريرها من عمله وتلاميذه وزملائه. وهذا حسب رأيه (سبب التهديد)، لأن “ما نرسمه ونخطّه على الجدران يتفارق تماماً مع شعارات دولة داعش”.

وحول الوضع “الكاريكاتوري” الذي تعيشه الرقة – كما أسماه – و”ازدواجية الدولتين” يقول: “النظام يدفع المال للموظفين كي يكسب الرأي العام الشعبي، وحتى لا تخرج المنطقة عن سيطرته بشكل كامل، أما داعش وبعض الكتائب الإسلامية فدورهما أمني صرف، وتكيلان التهم للناس من تعاون مع النظام وعمالة وما شابه، من تعتقله، ومن تعدمه، ومن تضغط عليه ليغادر البلد كي لا يعكر مخططاتها أحد”. ثم يتابع قائلا: “داعش لم تكتفِ بهذا فقط، بل إنها عمدت إلى تصفية الكتائب العسكرية الرقيّة، وقامت بإجبار البقية على المبايعة”.

موقع لبنان ناو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى