صفحات مميزةعمر قدور

قادرون على الثورة.. قاصرون على الحكم!


عمر قدور

من المؤسف أن تترسخ تلك الصورة التي تُظهر السوريين كأنهم غير جاهزين لتولي مقاليد الحكم في بلادهم حال سقوط النظام، ومن المؤكد أن الأخير أكبر المستفيدين من رواج هذه النظرة التي ساهمت قوى دولية فيها من خلال تذرعها بسلبيات المعارضة السورية كسبب لعدم اتخاذها موقفاً حازماً ينهي معاناة الشعب السوري. سيبدو، وفق هذا التصور، أن النظام هو الوحيد المؤهل للإمساك بدفة البلاد، وأن السوريين عموماً قاصرون على ذلك، وبالتالي سيتم تبرير مختلف أنواع المساومات التي تفتقر إلى الأخلاقية، كما سيتم تبرير إضاعة المزيد من الوقت بما يعنيه هذا من إعطاء مهل للنظام كي يتمكن من سحق الثورة.

منذ البداية حاول النظام تمرير الرسالة ذاتها إلى القوى الدولية الفاعلة، فأولاً أكد على أنه الوحيد القادر على ضبط الحدود مع إسرائيل، سواء عبر قواته في سوريا أو بواسطة حليفه حزب الله في لبنان، أي أنه طرح نفسه بلا مواربة حامياً للحدود الإسرائيلية على العكس من الفوضى التي يهدد بها إن استُهدف دولياً. ثم تالياً قدّم نفسه كحامٍ للأقليات، أي كضامن للاستقرار الاجتماعي، وكأن المجتمع السوري لم يشهد الاستقرار أو الوحدة إلا في سنوات حكمه. إذاً أصرّ على التأكيد للخارج، ولجزء من الداخل، على أنه الأجدر باحتكار السلطة دائماً، وعلى أن مصالحهم معرضة للخطر بفعل أية سلطة قادمة ما دام الذين سيأتون من بعده لا يتمتعون بالمقدرة السياسية التي يتمتع بها؛ تماماً كما حاول خلال عقود تكريس هذه الفكرة في عقل السوريين أولاً.

لا يعرف الآخرون الكثير عن سوريا، فقد أصبحت منذ مستهل سبعينيات القرن الماضي بمثابة الصندوق الأسود الكتيم، وقد أغلقت سلطة الأسد باطراد كافة المنافذ التي تتيح للسوريين التعبير عن إمكانياتهم. ولم يكن مسموحاً لأحد أن يبرز على أي صعيد. كان من المؤمل حقاً أن تتحول البلد إلى مزرعة من المسوخ تتربع على عرشها السلالة الحاكمة إلى الأبد، لذا كان تغييب سوريا هدفاً تسهر عليه الأجهزة الأمنية طوال الليل والنهار. أُفرغت البلد من الكفاءات، ولمدة من الزمن ظنت نسبة كبيرة من السوريين أيضاً أنها باتت عقيمة، وغير قادرة على مواجهة سلطة استولت في المقابل على كافة مقومات القوة. لقد نسي العالم وجود شعب في هذه البقعة من العالم، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأبناء البلد الذين فقدوا الثقة بأنفسهم وبقدرتهم على أن يكونوا شعباً يقارع سلطته المستبدة، ويعيدها إلى حجمها الطبيعي كمحض استبداد فاسد، لا يرقى في أحسن حالاته لأن يمثّل أحداً، لا لأن يدعي علو كعبه على ما عداه.

ليس من سؤال مهين اليوم كذلك الذي يرسم علامات استفهام وتوجس من البديل، فهذا يتضمن إقراراً بجدارة النظام الذي لم يمارس فعلاً سوى الإرهاب. يتناسى أصحاب هذا السؤال أن سوريا لم تكن طوال التاريخ محكومة بالنظام الحالي، وأنها لم تشهد منذ استقلالها فاشية مشابهة له، وحتى انقلاباتها العسكرية في خمسينيات القرن الماضي تُعدّ مزحة بالمقارنة مع الانقلاب على كافة أسس الحياة الذي بدأ منذ مستهل السبعينيات. كان من المتوقع، على الأقل، أن يبدد إجرام النظام اليومي مثل تلك التساؤلات، وأن يعزز القناعة بأن أي بديل سيكون أقل سوءاً، إن لم يكن أفضل. بل لعل اختيار سلطة جديدة بقرعة عشوائية لن يكون أسوأ من الواقع الحالي، ولن يأتي بسلطة تداني الحالية في انعدام الأخلاق. نعم، هذه السلطة تبز جميع السوريين، إذ يصعب أن نتصور وجود بديل يضاهيها انحطاطاً على المستوى الإنساني العام.

ربما لم يكن أحد ليتخيل قبل سنتين أن يثور السوريون على نظامهم بالإرادة والتصميم اللذين تكشفا لاحقاً، ولقد أقر العالم بدايةً بجدارتهم وأحقيتهم قبل أن يبدأ الانقلاب عليهم وتصيد أخطاء ثورتهم والتذرع بها للتجاهل والتسويف. حتى بات الكثيرون يتناسون الأسس والغايات التي انطلقت عليها ومن أجلها الثورة، فضاعت أحقية السوريين بمستقبل لائق وكريم في متاهات الدبلوماسية الدولية، وفي ذلك الجدل العقيم الذي يبتغي المساواة بينهم وبين جلاديهم. بعض أولئك الذين لم يعترفوا سابقاً بأهليتهم صار مستعداً للاعتراف بها، ولكن على قدم المساواة مع نظام قاتل. هكذا يتعرض السوري لعملية ابتزاز كبرى، إذ ليس هناك أسوأ من تحويل شعب إلى مجرد طرف في بلاده بالتوازي مع العصابة التي تحتل إرادته وتدمر يومياً مقومات حياته.

كأن هناك من يضمر القول بأن السوريين قادرون على الثورة وقاصرون على الحكم، وفي الوقت الذي يُنظر فيه بإعجاب إلى تضحياتهم الجسيمة في سبيل الحرية يُنظر باستهانة إلى قدرتهم على حكم أنفسهم. كأن السوري، من وجهة النظر هذه، يبرهن على قدرته على الموت وحسب، من دون أن يُرى وراء ذلك تصميمه على الحياة. في الواقع ما يتجاهله العديدون هنا ليس التصميم على الحياة فقط، بل الثورة ذاتها كفعل حياة يمارسه السوري يومياً، ولعل أي نظرة متفحصة تكشف عن المواهب الاستثنائية التي كشفت عنها الثورة، والتي يُصار إلى التغطية عليها يومياً بالمزيد من المجازر.

ما سبق لا ينفي واقع أن المعارضة السورية لم ترقَ بدورها إلى مستوى الثورة، ومن يتابع الانتقادات التي تتعرض لها الأخيرة في صفوف الناشطين يدرك مدى حيوية الثورة وقدرتها على ممارسة النقد تجاه المستوى السياسي، بل إن ديموقراطية الثورة تتجلى أولاً في قدرتها الملموسة والمستمرة على نقد ذاتها، الأمر الذي لا يكف الكثيرون عن ممارسته وعن التذكير به. أما تعثر المعارضة السياسية واختلافاتها فهذا ينبغي أن يكون محموداً، ومن طبيعة الحياة السياسية، فيما لو سقط النظام وانخرط الجميع في العملية الديموقراطية، لذا من المستغرب أن يطالب العديد من القوى الدولية بتوحيد المعارضة كشرط لتقديم المساعدة لها، بخاصة لأن غالبيتها العظمى تتفق على هدف إسقاط النظام. إن وضع مثل هذا الشرط ينفي أحقية السوريين بالاختلاف حول مستقبلهم، هم الذين ثاروا أصلاً ضد هيمنة الفرد الواحد والرأي الواحد.

ليس من النزاهة أبداً أن يُنظر إلى الذين قاموا بالثورة كقاصرين، ومن أهم ما تتجاهله هذه الرؤية عمليات الاعتقال والقتل التي مارسها النظام طوال مدة الثورة، وقد غيبت هذه العمليات عدداً كبيراً من الكوادر التي كان يُفترض بها تمثيل الحراك الحالي على المستوى السياسي. هذا الواقع أدى إلى فصل تعسفي بين الثورة وتمثيلها السياسي، واستطاع النظام عملياً أن يفرض تأجيل السياسة لحساب معركة كسر العظم على الأرض، فأهم ما يشغل الثوار هو الانتصار وليس حصد النتائج السياسية؛ ذلك من وجهة نظرهم حق واستحقاق لجميع السوريين عندما يبدأ الغد. يدرك الثوار، والسوريون عموماً، أن السياسة بكافة أشكالها ممتنعة طالما بقي هذا النظام، لذلك فإن أي تخرصات فيما يخص مقدراتهم السياسية تدخل في باب الدجل السياسي ليس إلا، فقدرة السوريين على حكم أنفسهم تتبين لدى تمكينهم من هذا المطلب لا في الوقت الذي لا يزال ممنوعاً عليهم. لا ضمانات مطلقة يقدّمها السوريون للآخرين، وهذا بالضبط من ملامح الممارسة الديمقراطية. الضمانات المطلقة تقدّمها الديكتاتوريات فقط، بخاصة عندما تبدأ بالانهيار، فهي لا تخسر شيئاً إذ تبيع مستقبل شعوبها بمجرد البقاء في السلطة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى