صفحات العالم

مقالات تناولت دور حزب الله في دعم النظام السوري ضد الثورة السورية وسقوط مدينة القصير

حزب الله: الحسابات التكتيكية والأثمان الإستراتيجية

 مركز الجزيرة للدراسات

يعد انخراط حزب الله العلني في القتال بسوريا من أجل دعم نظام الأسد منعطفا كبيرا، سواء في الحرب الدائرة في سوريا أم في مستقبل حزب الله، أم الوضع في لبنان. فمن قبل، كان الحزب يُدرج وجوده وإستراتيجيته ويبرر امتلاكه للسلاح في الإطار اللبناني، لكنه بات الآن يبرر وجوده ودوره ضمن تحالف مع قوى إقليمية، يسميه حلف المقاومة.

تدخل متدرج

كانت قد انقضت أشهر ثلاثة على الثورة السورية حين تشكلت حكومة نجيب ميقاتي في بيروت (13 يونيو/حزيران 2011) والمدعومة من حزب الله، بعدما كانت حكومة سعد الحريري قد سقطت (يناير/كانون الثاني 2011) بفعل استقالة ثلث وزرائها بإيعاز من بشار الأسد كما تناقلت عدة تقارير. وقد اختار ميقاتي سياسة النأي بالنفس حيال الأزمة السورية، في محاولة لدرء انعكاساتها السلبية على لبنان المنقسم بين مؤيد للنظام السوري ومعاد له. لكن سرعان ما تبينت استحالة تطبيق مثل هذه السياسة على أرض الواقع بسبب التداخل الجغرافي والاجتماعي والتاريخ السياسي وصعوبة ضبط الحدود بين البلدين. ففي مايو/أيار 2011 بدأ اللاجئون السوريون، الهاربون من قمع النظام في تلكلخ وغيرها من البلدات والمدن القريبة من لبنان، بالتوافد إلى القرى ذات الغالبية السنية في الشمال والبقاع الشمالي . ومع تطور الأزمة وتزايد أعداد النازحين، بدأ الجيش السوري القصف والتوغل داخل الحدود اللبنانية بدعوى ملاحقة منشقين عنه ومقاتلين ضده. وتشكلت حالة تضامن شعبية، في البلدات السنية، مع الثوار السوريين.

من جهته، أيَّد حزب الله في بداية الثورة النظام السوري، إعلامياً وسياسياً على الأقل، معتبراً أن ما يتعرض له مؤامرة دولية تهدف إلى كسر حلف الممانعة ومحاصرة المقاومة التي انتصرت على إسرائيل. لكنه اختار دعم سياسة النأي بالنفس الحكومية والابتعاد عن الأضواء لا سيما بعد الإحراج الذي تسبب به إلقاء القبض على وزير الإعلام الأسبق ميشال سماحة واتهامه باستعمال سيارته الخاصة، في أغسطس/ آب 2012، في نقل متفجرات سلمه إياها مدير الأمن السياسي السوري، علي مملوك، لاستخدامها في هجمات ضد المدنيين في الشمال السني اللبناني المؤيد للثورة السورية.

ثم أخذت تتكاثر الحوادث الأمنية في لبنان المرتبطة بالحرب السورية والتي راحت بدورها تشتد ضراوة واتساعاً، وأضحت مدينة طرابلس مسرحاً لمناوشات بين حي جبل محسن ذي الغالبية العلوية المؤيدة لبشار الأسد وحي باب التبانة السني المعادي له. وتفاقمت حدة الاحتقان المذهبي على وقع المجازر في سوريا وأصيبت الحكومة اللبنانية بالشلل بسبب الخلافات بين وزرائها، ما انعكس على القوى الأمنية التي أصيبت بالإرباك والعجز عن ضبط الحدود التي غدت مسرحاً لتهريب السلاح والمقاتلين بين الجانبين.

في أكتوبر/تشرين الأول2012، صدرت تقارير صحافية عن اشتراك حزب الله في القتال في سوريا. ذلك أن جنازات عديدة أقيمت في قرى شيعية لبنانية لمقاتلين من الحزب دفنوا على أنهم “شهداء” من دون معلومات غير تلك الصادرة عن ثوار سوريين قالوا بأن هؤلاء كانوا يقاتلون إلى جانب النظام السوري. وفي خطاب له، وقتها، قدَّم حسن نصرالله تفسيراً بالقول أن ثمة حوالي عشرين بلدة لبنانية، تقع داخل الحدود السورية، تعرضت لهجوم من قبل الجيش السوري الحر فاضطر سكانها، وبعضهم أعضاء في حزب الله، للدفاع عنها، هذا عدا أن الحزب يقوم بواجب حماية مقام السيدة زينب في ريف دمشق من الذين سمَّاهم بالتكفيريين الذين قد يعمدون إلى تدميره.

في هذا الوقت، كانت مصادر مقربة من الحزب تشير إلى أن نظام الأسد، غير الراضي عن سياسة النأي بالنفس، طلب من الحزب دعماً أوسع من هذا العدد الضئيل من المقاتلين في بعض المواقع. وبدا أن ثمة خلافاً قد وقع بين دمشق والحزب بسبب رفض جناح واسع فيه الانخراط العلني في سوريا وتفضيله البقاء بعيدا، ولو نسبياً، عن الأضواء. وكان جناح آخر يعتبر أن حليفه الإستراتيجي، النظام السوري، يتراجع في الميدان يوماً بعد يوم أمام تقدم المعارضة التي توعدت الحزب بالانتقام، وبالتالي فقد يجد نفسه مضطراً لخوض الحرب بعد فوات الأوان. ويبدو أن التدخل الإيراني حسم المسألة لمصلحة الرأي الثاني. فبعد لقاء نصرالله بالمرشد الإيراني في طهران في نيسان الماضي لم يعد الحزب ينفي أو يخفف من أهمية انخراطه، بل إن نصرالله أعلن، في خطابه بمناسبة عيد التحرير في 15 مايو/ أيار 2013، عن الانخراط العسكري لقواته في معركة القصير ووعد مؤيديه بالنصر على أعداء النظام السوري.

صحيح أن جماعات سنية سلفية، لاسيما في طرابلس، أيدت علناً وجهاراً الثورة بل وصلت إلى حد الدعوة إلى الجهاد ضد نظام دمشق، إلا أن تأثيرها بقي محدوداً، فهي جماعات متفرقة ضعيفة تعصف الخلافات في ما بينها ومؤيدوها ضعيفو التنظيم والتسليح والتدريب ولا تغيَّر مشاركتهم العسكرية شيئاً في موازين القوى. لكن انخراط حزب الله القوي والمدعوم والمجهز لمحاربة إسرائيل نفسها، له وقع كبير على موازين القوى، وهذا ما بينته معركة القصير، ناهيك عن تداعياته الخطيرة أولا على الحزب نفسه، وتالياً على لبنان الضعيف بنيوياً والهش سياسياً والمحتقن مذهبياً؟

مع الأسد في خندق واحد

منذ ولادته في مارس/آذار 1985، بنى الحزب صورته وموقعه على أنه حزب مقاوم للاحتلال الإسرائيلي للبنان. وأثبت جدارة في ذلك، فكان له مواعيد عديدة مع النصر والمصداقية، أبرزها في 25 مايو/أيار 2000 عندما أرغم الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب اللبناني بطريقة فوضوية تشبه الفرار. وقد أضحى هذا اليوم عيداً وطنيا رسمياً في لبنان.

وطيلة عقدين كاملين من الزمن، كانت تتردد أصداء بطولات الحزب في وجه الاحتلال الإسرائيلي في أرجاء واسعة من العالمين العربي والإسلامي، وصارت ترفع أعلامه وصور قائده في المظاهرات الشعبية في عواصم هذين العالمين. وقد بينت استطلاعات للرأي أجرتها معاهد أجنبية في العام 2003، أن حسن نصرالله هو القائد الأكثر شعبية في دول عربية عديدة مثل مصر والأردن وسوريا.

كان ذلك في زمن ولى، أما اليوم فتتسابق الصحف والفضائيات والنشرات الإلكترونية العربية على كيل الانتقادات، وحتى الشتائم، للحزب، إلى حد أن الداعية يوسف القرضاوي، أحد كبار القيادات الروحية للإخوان المسلمين، وصفه بـ”حزب الطاغوت” وزعيمه بـ”نصر الشيطان”. لم تعد ترفع أعلام وصور الحزب في أي مكان عربي ولا حتى في لبنان حيث باتت البيئة الحاضنة للحزب تقتصر على المناطق الشيعية والتي تعيش، هي الأخرى، حالة توجس وقلق من تبعات الانخراط العسكري في سوريا ومن خسارة الحزب لهالته كحركة مقاومة.

أنصار الحزب يقولون بأن تراجع شعبيته لم يبدأ مع تدخله في سوريا بل مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005. ولكن هذا التراجع ارتبط وقتها بتأييد الحزب للنظام السوري الذي كانت غالبية من اللبنانيين تنظر إليه كقوة قهر واحتلال وتطالبه بالانسحاب من لبنان. وقد استمر هذا التراجع مع إصرار الحزب على دعم النظام الذي لم يتردد لحظة في قمع الانتفاضة الشعبية منذ اندلاعها في درعا، في 15مارس/آذار 2011، وبأكثر الأساليب عنفاً ووحشية.

خصومه يقولون بأن الحزب الشيعي الذي ينظم الحلقات الثقافية والمهرجانات الشعبية في مناسبة عاشوراء من كل عام ليشرح السيرة الحسينية والتصدي للظالمين ونصرة المظلومين، ذهب ينتصر للظالم في سوريا ويشترك معه في قتل المظلوم، وبالتالي فإنه يستخدم الشعارات الحسينية غطاءً لسياسات ومصالح إقليمية.

لكن نصرالله، في خطابه في 25 مايو/ أيار الماضي 2013، قال بأنه يقاتل حلفاء إسرائيل في سوريا دفاعاً عن لبنان والقضية الفلسطينية التي ستضيع إذا سقط النظام السوري، وبأن حربه استباقية لأن “التكفيريين” توعدوه بالزحف إلى معاقله في لبنان بعد انتصارهم على نظام الأسد. ووعد مؤيديه بالنصر مجدداً، ولكن أي نصر هذا، لمن وعلى من وفي أي حرب؟ وهل النظام السوري هو الذي حمى القضية الفلسطينية من الضياع؟ يتساءل منتقدوه الذين يذكّرونه بأنه لطالما انتقد وحارب مفهوم الحرب الوقائية والاستباقية الذي استخدمه الإسرائيليون والأميركيون في حروبهم وغزواتهم ضد لبنان وفلسطين والعراق وغيرها. ها هو اليوم يمارس ما كان يجاهد ضده وبنى مصداقيته على مثل هذا المنطلق. وحتى على فرض أنه سينتصر في الحرب السورية، فما هي قيمة الانتصار العسكري إذا ألحق بنفسه خسائر معنوية لمناصرته نظاما قتل الآلاف من شعبه، وسياسية لأنه سيخسر التعاطف الشعبي الذي احتضنه. فكيف سيستعيد بعدها صورته كمقاوم للظلم والاحتلال وهو يشارك في قتل سوريين يطالبون بالحرية؟ أم أنه سيضطر للتكيف مع صورة جديدة ونعوت قديمة كان يروِّج لها خصومه كفصيل عسكري متقدم للنفوذ الإيراني على شواطئ المتوسط؟

تكاليف إستراتيجية باهظة

إن من شروط نجاح المقاومة، كما بينتها تجارب الجزائر وفيتنام وأفغانستان ولبنان وغيرها، أن تحظى بدعم بلد مجاور يؤمن لها تدفق الأعتدة والسلاح، وأن تمتلك شرعية قانونية تنص عليها المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، وأن تكون كالسمكة في الماء بين الجماهير المؤيدة لها والمؤتمنة عليها.

يستميت حزب الله في القصير دفاعاً عن الشرط الأول، وهو فعل إستراتيجي، لكنه من الجهة المقابلة يخسر الشرطين الآخرين وهما لا يقلان ضرورة لاستمراره كحزب مقاوم .فقواته تفتقد إلى الشرعية والقانونية حيث ذهبت إلى بلد أجنبي، ولو كان شقيقاً، ووصفها ممثلو المعارضة السورية بقوات غزو واحتلال. وهو لم يعد كالسمكة في الماء لأن شعبيته العربية الواسعة انهارت كما شعبيته في لبنان التي باتت محصورة في مناطق ذات لون مذهبي معين، ناهيك أن حالات التململ بدأت تظهر في هذه المناطق نفسها من خلال الأخبار التي يتناقلها الناس عن العدد الكبير من مقاتلي الحزب الذين يقتلون في غير ساحة المقاومة في مواجهة إسرائيل، والجدل الديني حول وصفهم بالشهداء أو القتلى إلخ… ولن يكون مفاجئاً أن تحدث انشقاقات في الحزب إذا طالت الأزمة السورية وازداد انخراطه فيها وارتفاع تكاليفها البشرية والمعنوية والأخلاقية.

توسيع الاضطراب إلى لبنان

بعد ساعات قليلة على انتهاء خطاب السيد نصرالله مساء 25 مايو/أيار الماضي، انفجر صاروخان في الضاحية الجنوبية انطلقا من منطقة جبلية قريبة دون أن تتبنى أي جهة مسؤولية إطلاقهما. لم تقع إصابات تذكر في صبيحة ذلك الأحد لأن الهدف منهما كان، على الأرجح، رسالة تشي بما يمكن أن يستخدمه خصوم حزب الله من وسائل لمحاربته طالما أنهم عاجزون عن منازلته وجهاً لوجه. وتقول التقارير الصحافية، وبالتفاصيل الدقيقة أحياناً بالأسماء والتواريخ وغيرها، أن عدة جماعات سنية وسلفية، داخل لبنان وخارجه، تنظم صفوفها وتستعد للرد على حزب الله داخل لبنان. وقد تنامت هذه الحركات في الفترة الأخيرة وولدت جماعات، كالشيخ أحمد الأسير، تتبنى خطابا مذهبيا معاد للنظام الإيراني والنظام السوري وحزب الله. وبات الشارع اللبناني يغلي من الاحتقان المذهبي على خلفية حوادث أمنية متقطعة وخطف هنا وهناك ومناوشات في طرابلس، بين السنة والعلويين، آخر حصيلة لها أكثر من ثلاثين قتيلاً ومائة جريح.

خصوم حزب الله يحمّلونه مسؤولية الفتنة المذهبية لأنه استجلب التطرف المضاد له بسبب سياسته السورية. حتى أن معاذ الخطيب، الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري، اعتبر أن وجود مقاتلي حزب الله إلى جانب النظام وضد الشعب ليس أكثر من غزو خارجي وإفلاس أخلاقي، واتهمه بأنه سيكون مسؤولاً شخصياً عن تفكك لبنان وسوريا طائفياً. فالحزب الذي يحرص على إبعاد شبح المذهبية عن لبنان قد يعجز عن لجم مناصريه، كما أعلن هو نفسه في إحدى المرات، في حال انفلات الأمور من عقالها. وتشير تقارير أميركية إلى أن معركة القصير قد تهدف إلى فتح الطريق أمام إقامة جيب علوي في اللاذقية، ما قد يؤدي إلى تفكك سوريا على أساس طائفي وانتقال النزاع إلى بلدان مجاورة.

حزب الله يسعى إلى تحقيق أهداف تكتيكية أخرى كإبقاء أحد طرق إمداداته الرئيسية، من إيران عبر الأراضي السورية، بعيداً عن أيدي قوات المعارضة وإلى تقوية الأوراق التفاوضية للنظام السوري على طاولة المفاوضات في جنيف2. لكن في مقابل هذا الإنجاز، إن تحقق، ستتعرض الأرضية اللبنانية التي يقف عليها إلى مزيد من الاهتزازات، وهي الجاهزة أصلاً لكل أنواع الفتن لاسيما الطائفية منها. ومن أولى نتائج معركة القصير التمديد للمجلس النيابي اللبناني المشلول بذريعة أن الوضع الأمني غير ملائم لإجراء الانتخابات النيابية، بعد سقوط الصاروخين على الضاحية والمناوشات في طرابلس والتهديدات المتبادلة والاحتقان الأمني.

من الناحية الاقتصادية، والتي لها تأثير مباشر على الأمن بأنواعه، فبعد تهديد مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي بوضع حزب الله على لائحة الإرهاب، ونظراً للحملة التي تشنها واشنطن ضد مصادر تمويل الحزب وفرض العقوبات الدولية على إيران وسوريا، وبعد أن اتهمت وزارة الخزانة الأميركية البنك اللبناني-الكندي، في العام 2011، بغسل الأموال وتمويل حزب الله، يخشى المصرفيون من أن تستهدف المصارف اللبنانية مجدداً، الأمر الذي قد يؤدي إلى كسر العمود الفقري للاقتصاد اللبناني. هذا الاقتصاد الذي يشكو من التباطؤ بتأثير من الأزمة السورية، إذ انخفض الناتج المحلي من 4 أو5 إلى واحد في المائة، وتراجعت السياحة بنسبة خمسين في المائة العام 2012 مقارنة مع العام 2011، كما انخفضت الصادرات أكثر من عشرين في المائة، وتضرر قطاع السياحة الذي سيصاب بالركود هذا الصيف بسبب هشاشة الأوضاع الأمنية.

من ناحية أخرى، فإن انخراط الحزب قد يرفع التكلفة السياسية لدوره في النظام اللبناني، فقد أيَّدت أوروبا وأميركا ودول الخليج العربي من قبل سياسة النأي بالنفس الرسمية في الأعوام السابقة ونصحت اللبنانيين بتسوية خلافاتهم في ما بينهم وساهمت في ذلك أيضاً. وساعد هذا الموقف في حماية الاستقرار الذي صمد، إلى حد ما، في وجه العواصف السورية العاتية. لكن انخراط حزب الله العلني في الحرب السورية قد يدفع هذه الدول إلى تغيير سياستها هذه وربما دعم الجماعات المناهضة له في لبنان، ما يضع مستقبل هذا البلد ومعه الحزب نفسه أمام مخاطر يصعب تصورها.

المآزق الإستراتيجية

والحاصل، أن انخراط حزب الله في دعم النظام السوري عسكريا يضعه في عدة مآزق إستراتيجية، حيث سيضر برصيده الأخلاقي كحزب يدافع عن المظلومين في مواجهة الأنظمة الظالمة، ويضر بإستراتيجيته لأنه سيجد صعوبة مستقبلا في إقناع الرأي العام اللبناني والعربي الإسلامي بأن تحرير الشعب الفلسطيني سيتحقق من خلال دعمه للنظام السوري الذي يقمع السوريين، أي أن الحزب يعتقد أن حرية السوريين تعيق تحرر الفلسطينيين.

أما المأزق الإستراتيجي الآخر، فهو إعلان الحزب أن مشاركته في القتال خارج لبنان هي من أجل حماية المقامات الشيعية ومحاربة “التكفيريين”، وبذلك يضع لنفسه أهدافا واسعة جدا، وتشمل دولا عديدة، فكيف يمكنه أن يحقق هذه الأهداف بوسائل محدودة وبشرعية سياسية يستمدها بالأساس من وجوده داخل النظام اللبناني؟

وآخر المآزق، هو التعارض بين تدخله في سوريا مع السياسة اللبنانية التي التزمت النأي بالنفس، فكيف يمكنه التوفيق بين التزامه بالمواثيق اللبنانية وتحالفاته الخارجية التي أعطته الأسبقية في ما يجري بسوريا؟

 

«البقلاوة»: تكثيف الأولويات

حسام عيتاني

غداة وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل في آب (أغسطس) 2006، توجه صديق إلى أحد أحياء الضاحية الجنوبية لتفقد متجره الذي افتتحه قبل أيام من بدء الحرب في 12 تموز (يوليو). عثر الشاب على محله كومة من الركام مدفونة تحت انقاض مبنى دمره قصف الطيران الإسرائيلي.

بينما هو واقف يتأمل خسارته ويضرب أخماساً في أسداس، تقدم منه شاب يحمل صينية حلوى داعياً صديقي إلى تناول بعض منها احتفالاً بـ «النصر الإلهي». لم يجد الشاب المنكوب ما يقول. كانت مفاجأة كاملة. كيف له أن يحتفل بالنصر فيما الدخان ما زال يتصاعد مما تبقى من جنى عمره؟

واليوم تتدفق نعوش عشرات الشبان إلى قرى الجنوب والبقاع وسط نثر الأرز والورود عليها من الأهل. ويقيم مؤيدو «حزب الله» حواجز في الضاحية وعدد من البلدات لتوزيع البقلاوة وغيرها من الحلويات على المارة للتعبير عن الفرح بانتصار جديد حققه الحزب باستيلائه على بلدة القصيْر السورية.

يدرك الحزب وجمهوره الأثمان الباهظة التي يدفعانها على شكل كلفة لتوسيع «مجاله الحيوي» ضمن الطائفة الشيعية وعلى مستوى لبنان، لكن ذلك لا يمنعهما من الإصرار على المضي في هذه الدرب ومن ابتهاج (يعبر عنه توزيع الحلويات) عند كل منعطف يصورانه كخطوة إلى الأمام في مشروع تحصين المذهب والطائفة ورد تطاول أو اعتداءات أعداء الداخل والخارج.

الاكتفاء بالقول إن «حزب الله» مجرد أداة إيرانية تنفذ سياسات الولي الفقيه، لا يفسر التماسك الشديد لجمهور الحزب وفرحه الصادق باستشهاد العشرات من أبنائه في سورية. ويمكن فهم تورط الحزب في القتال كتنفيذ لأوامر من الخارج الذي درب الحزب وموّله وسلّحه على مدى عقود، أما بقاء الاعتراض على هذا الانغماس في المقتلة السورية محصوراً بأصوات وأسماء قليلة، فيقول إن الأمر أبعد من تلبية الحاجات الإيرانية وأكثر تعقيداً.

وغني عن البيان أن إرجاع الاستنفار الحالي بين أكثرية الشيعة اللبنانيين إلى التاريخ البعيد، غير مفيد. زينب والحسين و»بنو أمية» ليسوا أكثر من رموز وتوريات تستغلها قوى سياسية تضرب مصالحها في أرض الحاضر وليس في الماضي. ولا يقل الحديث عن «المشروع الأميركي- الإسرائيلي- التكفيري» وضرورة سحقه، مراوغة وتزييفاً عن حديث الدفاع عن آل البيت ومقاماتهم والثأر لهم.

مقولات «العقل الجمعي» و»الوعي الزائف» تعجز عن تفسير واقع ملموس ما لم توضع كمقدمة لنشاط جماعة محكمة البنيان حاملة لإيديولوجيا واضحة تعلي أولاً من شأن ذاتها على حساب أفرادها. هكذا يقدم «حزب الله» مصلحة الجماعة التي يقول بتمثيلها و»كرامتها» وبالتالي موقعها في السياسة والاجتماع والاقتصاد، على ما عداه من مهمات. عندها تكتسب شعارات موجهة إلى شخص زعيم الجماعة من نوع «رهن إشارتك» و»لو خضت البحر لخضناه معك»، معناها الحقيقي. ويصبح الخضوع لأوامر القتال في سورية مفهوماً تماماً، مثله مثل القتال ضد إسرائيل أو اقتحام بيروت في أيار (مايو) 2008.

تكثف حواجز توزيع الحلويات هذه الآلية وتقدمها على شكل انتصارات جديدة للجماعة وقائدها واستصغاراً للأثمان التي يتعين دفعها على مذبح سؤدد المذهب والطائفة. بكلمات ثانية، تحدد «البقلاوة» سلم الأولويات السياسي وترسم الاتجاه الذي ستسير إليه الجماعة وقوتها «الطليعية».

عليه، لن تجد عائلات من سقطوا في سورية ما تقول رداً على خطاب مفحم وصارم كخطاب الحزب، تماماً كما عجز ذاك الشاب عن الكلام أمام متجره المدمر.

الحياة

قصّة موزّع بقلاوة

سامر فرنجيّة

كتب حسام عيتاني منذ حوالى شهر مقالاً عن «الصمت العلوي»، توقّع فيه أنّ يكون غياب أي ردّ فعل لدى أبناء طائفة حيال مجازر تطاول طائفة أخرى مدخلاً «إلى تعقيد العلاقات الطائفية في سورية» وبداية لمسلسل مجازر ومجازر مضادة. هذا الاستنتاج الأليم على رغم صوابيته بُنِي على فرضية «الصمت»، فلم يكن هناك تهليل أو ترحيب بالمجازر ولا توزيع للبقلاوة. كان هناك مجرّد صمت، قد يكون إشارة الى خجل ما أو مجرّد عدم اكتراث لمصير الآخر. وكما هو متوقّع، كلما تعاطى أحد مع موضوع الطائفية، انتُقد الكاتب لإضاءته على تلك المسألة، ورفضه الخضوع للمنطق السائد القائم على تجاهلها، إمّا من خلال طمسها تحت سخافات قومية أو اعتبارها مجرّد اختراع، فرضه بعضهم في لحظة جهنمية على الناس الطيّبين.

هذا كان الوضع في لحظة الصمت. لكنّنا عبرنا هذه اللحظة مع سقوط مدينة القصير ودخلنا عصر البقلاوة. فخاض «حزب الله» هذه المعركة تحت شعار «محاربة التكفيريين»، مطهّراً ومنظّفاً ومقتلعاً «الإرهاب» وضارباً بعرض الحائط مشاعر طائفة بأكملها. وحول تلك المدينة الصغيرة بنيت أسطورة قومية-طائفية تشبه لحظات التأهب الكامل إبّان الحروب العالمية، فاستُنفِرت الطائفة واستَنفَرت والتفّت حول حزبها ومسيرة تحرير لبلد آخر. وإذا لم يكن هذا كافياً لتوتير ما لم يتوتّر بعد، استُقبِل سقوط القصير بإطلاق نار ابتهاجاً وتوزيعٍ للبقلاوة في الشوارع، وهنأت إيران «الجيش والشعب السوري» بـ «الانتصار على الإرهابيين». وبعد «اليوم المجيد» في ٧ أيار (مايو) ٢٠٠٨، بات عندنا عيد جديد إسمه «سقوط القصير».

موزّع البقلاوة، والذي قد يكون إنساناً طيّباً في العادة، يرفع تحدياً أخلاقياً وسياسياً في وجه أي مراقب. فالحروب الطائفية ليست لعبة أمم ومصالح دولية فحسب، بل أيضاً كلمة صغيرة من هنا وشعار خجول من هناك، وتوزيع بقلاوة احتفالاً بقتل بعض الناس الطيّبين لآخرين طيّبين أيضاً. ومزيج الطيبة وتوزيع البقلاوة يعكّر النظرة التقليدية للسياسة، التي تضع كل اللوم على فاعلين معينين، ليعيد طرح مسألة «الشر» ومسؤولية الأفراد.

وأحد أساليب التعاطي مع تلك المعضلة، إذا استثنينا القراءات الطائفية التي تؤبلس فقط موزعي البقلاوة المنتمين الى الطائفة الأخرى وقراءة الممانعة التي ترى في موزّع البقلاوة مقاوماً يحتفل بإنقاذ «ظهر المقاومة» من مؤامرة كونية، هو تجاهله عبر التمسّك المرضي بورقة التوت التي بات يشكّلها الخطاب السياسي السائد. فهناك «مقاومة» و «محاور سياسية» و «تاريخ استعماري» وربّما حتى «طبقات»، ولكن ليس هناك سنّة أو شيعة في المشرق العربي. أمّا التساؤل عن الخطاب الطائفي الذي يجري عبر تلك الممارسات، فبات هو الطائفية، إذ إن وصف الأمور في شكل طائفي، كما علمنا التفكيكيون، هو تثبيت لهذا الشكل، وهو المنطق نفسه الذي يحمّل مقدِّمة نشرة الأحوال الجوية مسؤولية الطقس الرديء لمجرّد توقّعها له.

ولكن، على رغم شعبية هذا المنطق وراحة البال التي يؤمّنها، فبعضهم يرفض التجاهل ويعترف بالأبعاد الطائفية لبعض الممارسات وبخطر الانزلاق إلى صراع عبثي. وهذا الاعتراف يأتي غالباً مصحوباً بتحليل يحجّم أبعاده الأخلاقية الصعبة. فوفق هذا التحليل، ليس مشهد كهذا إلاّ إشارة الى أيديولوجية طائفية تتحكّم بالناس الطيّبين، نتيجة سيرورة تاريخية تتزاوج فيها الرأسمالية والاستعمار والنيو-ليبرالية وتفكك مجتمعات العالم الثالث وغيرها من الآفات العالمية. وعليه، يتحوّل موزّع البقلاوة من مقاوم إلى ضحية تاريخ يجهله، لتعود الطمأنينة إلى قلوب محبي الإنسانية بأنه لا يزال هناك أمل في العالم وإن طمسته الأيديولوجيا التي تطلق النار ابتهاجاً بمجزرة قريبة. فالطائفية كتفسير لتوزيع البقلاوة تعيد بعض العقلانية والدفء إلى علاقة المراقب بمجتمعه، لتطمئنه إلى أن الشرّ مسؤولية بُنية صنعها الآخرون.

ولمن لا تكفيه تلك الحلول، يمكن الذهاب أبعد واعتبار تلك التصرفات نتيجة لبنية طائفية تقوم على تلك المبارزات التي لا نهاية لها. فموزّع البقلاوة اليوم يحتفل بسقوط القصير، لكنّ موزعاً جديداً سيخرج غداً للاحتفال بإعادة سقوطها أو سقوط غيرها في أيادي «التكفيريين». ومع كل سقوط، سيوزع صحن بقلاوة أكبر، لكي يتسابق الموت بين خطر التفجيرات ومرض السكري. فموزّع البقلاوة اليوم ليس إلاّ ضحية الغد، ومن يُحكم اليوم سنتعاطف معه غداً، ويمضي تاريخ منطقتنا هكذا. أمّا المسؤولية الشخصية، فلا مكان لها في تلك البنية القائمة على التماهي والمحاكاة. وقد يكون هذا منطق «حزب الله» والنظام البعثي، المدركين أنّهما إن لم ينتصرا كـ «نظام» و «مقاومة»، أمكنهما دائماً ألاّ يخسرا كـ «شيعة» و «علويين» في تسوية طائفية للصراع الحالي.

أمّا البعض الآخر، فاستسلم أمام صعوبة التحدي الذي رفعه موزّع البقلاوة وقرر الالتحاق به وبجماعته. فالطائفة صلبة وغامرة، وتقدّم من حين الى آخر بعض مناسبات الاحتفال الجماعي وتوزيع البقلاوة، وهو ما لا يقدمه خيار الفرد. وقد شهدت الأحداث السورية الأخيرة عودة واسعة لـ «أفراد» كانوا هجروا طائفتهم، وإن تركوا خط رجعة إسمه «المقاومة» تسللوا من خلاله إلى جماعتهم القديمة المتجدّدة. ففي وجه «آكلي القلوب» عند الطائفة الأخرى، يبدو موزّع البقلاوة مشهداً حضارياً، يمكن عبره الاحتفاء بالعودة بعد هجرة طالت بضع سنوات.

غير أنّ المعضلة تبقى حية. فهناك أفراد، مهما كانوا ضحايا إيديولوجيا أو طائفية، وزعوا البقلاوة لمقتل أفراد آخرين. وهذا ليس جديداً حيث كانت تفجيرات «القاعدة» في العراق تُستقبل بالحفاوة ذاتها عند بعضهم، لكنه يبقى مصدر انزعاج عميق، يجعلنا نترحّم على الصمت الذي كان يسود في الماضي.

بعث سيد المقاومة جنوده إلى القصير لمحاربة الفتنة. وانتصر عليها وعلى وجوهها التي لا تشبه في مخيّلته إلاّ وجه الشيخ الأسير. هذا وجه من الفتنة. لكنّ لها أيضاً وجهاً آخر هو وجه موزّع البقلاوة، الذي وعده السيد بانتصارات لا تحصى في ذاك الخطاب الشهير الذي يمكن اليوم تلخيصه بعملية توزيع بقلاوة استباقية. فمهما كانت التفسيرات والتبريرات لهذا الفعل، ومهما حمّلنا المسؤولية للأيديولوجيا أو الطائفية، يبقى هناك جانب صغير اسمه فردية موزّع البقلاوة. وهذا الموزّع، بهذه الفردية، وفي اقتناعه بهذا الخطاب، لا يحملنا إلّا على إدانته.

الحياة

حلوى الضاحية

يوسف بزي

ما بين عام 1979 وعام 1982، شهد جنوب لبنان وبقاعه، كما ضاحية بيروت الجنوبية، ما يمكن وصفه بانتفاضة مسلحة قام بها السكان بأغلبيتهم الشيعية، وبقيادة “حركة أمل” الوليدة، التي أسسها رجل الدين الإمام موسى الصدر، الساعي إلى رفع الحرمان عن طائفته وتدبير مطالبها السياسية المزمنة.

وكانت تلك الانتفاضة، من أهم تداعيات الاجتياح الإسرائيلي الأول لجنوب لبنان في ربيع العام 1978، وإقامته لما سمي ب”الشريط الحدودي”، وهذا الإجتياح جاء تتويجاً لمسار امتد عشر سنوات من “العمليات الفدائية” الفلسطينية ـ اللبنانية ضد اسرائيل (تحت شعار “حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد”)، بعدما منح “اتفاق القاهرة” المشؤوم (1969) المنظمات المسلحة حرية العمل العسكري انطلاقاً من جنوب لبنان وأجلى سيادة الدولة عنه. ونتج عن استباحة الجنوب وتحويله “ساحة” لمناوشة اسرائيل من قبل المنظمات، الموالية إما لليبيا أو العراق أو سوريا أو لـ”فتح” ياسر عرفات، والمدعومة من الاتحاد السوفياتي في زمن الحرب الباردة، نتج عن ذلك ان السكان ذاقوا الويلات، تهجيراً وموتاً وخراب قراهم وبوار أراضيهم وانهيار أحوال معيشتهم، التي كانت تتسم في الأصل بالحرمان والفقر. وفاقم من نقمة السكان أن ميليشيات الأحزاب اليسارية والقومية والفصائل الفلسطينية المسلحة نشرت الفوضى وعممت الفساد والانحلال الأخلاقي والتسلط بقوة السلاح، واستشرت فيها سلوكيات العصابات الاجرامية، عدا عن تورطها اليومي بالاشتباكات فيما بينها وتقاتلها على الغنائم والنفوذ، وإيغالها في التعديات على كرامات الناس وأملاكهم وإهانتهم، والتعرض لهم في أجسادهم وأموالهم وارزاقهم، وعدا عن تحول “العمل الفدائي” نفسه إلى لعبة قذرة، من مثل قيام منظمة موالية لصدام حسين مثلاً بإطلاق قذائف باتجاه اسرائيل من دون ان تصيب أحداً أو هدفاً، لأسباب لا تتعلق ب”تحرير فلسطين” بل تتصل بمناكفة بين صدام حسين وحافظ الأسد مثلاً، أو لاحراج ياسر عرفات سياسياً في لحظة ما.. وعليه، تقوم اسرائيل وتقصف القرية الجنوبية التي انطلقت منها القذائف، فتدمر البيوت على رؤوس ساكنيها وتهجر الباقين منها.

على هذا المنوال، استمر الحال لسنوات مديدة، وبات عيش الجنوبيين كابوساً دموياً لا يطاق. هكذا تحولوا من “الحضن الدافئ” لإخوتهم الفلسطينيين و”الخزان البشري” للأحزاب اليسارية والقومية إلى شعب ناقم وغاضب ويائس. ولدت “حركة أمل” من رحم هذه المعاناة. فقادت الحركة حرباً شرسة ضد تلك الأحزاب والمنظمات، غير عابئة بالاتهامات التي كانت تنهال عليها من صنف “العمالة للصهيونية” و”الطابور الخامس” و”الرجعية”، الخ. لم تستطع “حركة امل” ولا اهل الجنوب التخلص من الشيوعيين والبعثيين والقوميين ومنظمة التحرير الفلسطينية تماماً، إلى ان أتت لحظة الاجتياح الاسرائيلي الثاني في صيف العام 1982 وتحديداً يوم 5 حزيران.

يومها اعتبر أهل الجنوب، ان اللحظة قد أتت ليتخلصوا من كابوس الميليشيات، ولذا فقط هللت الكثير من القرى لهذا الاجتياح ليس حباً بالاسرائيليين لكن لتفوق كراهيتهم للمسلحين على عداوتهم لإسرائيل. واعتبروا ان المسلحين واتفاق القاهرة هما أصل المشكلة والسبب في استجلاب الجيش الإسرائيلي إلى أرضهم. ومع زوال السبب، لا مبرر لبقاء الاسرائيلي، طامحين في الوقت عينه إلى وضع حد للحروب اللبنانية، كي يجدوا فرصتهم في رفع الحرمان عن مجتمعهم، وولوجهم على قدم المساواة الحياة اللبنانية، والعودة إلى كنف الدولة العادلة والحامية.

لهذا كله، وزع أهل الجنوب الحلوى، ورشوا الأرز والورود وزغردوا، ورفعوا اللافتات في الخامس من حزيران عام 1982.

بعد 31 عاماً، في الخامس من حزيران 2013، الشعب الذي عانى من فساد الأنظمة العربية، الممانعة منها خصوصاً، الشعب الذي عانى تسلط السلاح وأحابيل الأنظمة الاستبداية التي ترفع شعار “تحرير فلسطين” ويعرف انها كاذبة، الشعب الذي ذاق الموت مرات لا تحصى ولا يزال كرمى عيون دول أخرى، الذي تهجر وعرف الويلات بسبب صواريخ عبثية، الشعب الذي يقوم إيمانه على “المظلومية” و”ضد الطواغيت”.. ها هو يوزع الحلوى اذ يرى بلدة القصير السورية مدمرة على رؤوس أصحابها، ويغزوها جيش طاغية و”تسقط” بيد مقاتلي المنظمة المسلحة “حزب الله”. هذا الحزب الذي باتوا يتبعونه ويبايعونه، وهو يقول لهم ان طريق القدس تمر في حمص، وربما سيقول لهم لاحقاً أنها تمر في اسطنبول أو حلب أو الأنبار، كما قال مرة أبو أياد ان طريق القدس تمر في جونيه، وكما قال صدام حسين ان الطريق اياها تمر من الكويت، وكما قال القذافي انها تمر ببلفاست أو لوكربي، وكما يقول الظواهري انها تمر في كابول أو إسلام اباد أو نيويورك.

في ذكرى “النكسة” (1967)، قرأ العالم العربي خبرين بالأهمية ذاتها: سقوط القصير، وتوزيع الحلوى في الضاحية الجنوبية ببيروت.

حلوى الخامس من حزيران 2013، كما الحلوى التي وزعت ما بين 2005 و2008 عقب كل اغتيال في بيروت، احتفال بالجريمة، إحتفال بالقتل. فإلى أين ذهب سكان الجنوب والضاحية والبقاع؟ إلى اين أخذهم “حزب الله”… وها هم اليوم يعلنون العداء لأكثر من 300 مليون عربي وأكثر من 800 مليون مسلم غير عربي، وعداء أكثر من 15 مليون سوري (الأغلبية السنية).

بلدة القصير، الذي هجّر “حزب الله” سكانها البالغ عددهم أكثر من 40 الف نسمة، الى متى سيظل حزب الله يحتلها؟ وبعدها إلى أين؟ إحتلال سوريا؟ حفاظاً على “خطوط الإمداد” فوق جثث الشعب السوري كله؟

نعم “سقطت” القصير، أي تم احتلالها. هذا يعني أن ثمة مهمة “تحريرها” من الإحتلال، وهذه حرب مفتوحة بين شعب وقوة احتلال إسمها “حزب الله”. ولا أحد يعرف معنى “مقاومة الإحتلال” مثلما يعرفها أهل الجنوب والضاحية. هذا هو خبث التاريخ وغباء الطوائف.

المستقبل

القصير توسع السؤال عن السلاح

دلال البزري

  من شاهد نشرة أخبار قناة “المنار”، ليلة الأربعاء الخميس، وهي تغطي دخول جيش الأسد برفقة قوات “حزب الله” الى القصير، كان لا بد له أن يستحضر الأيام الخوالي لـ”إنتصار” سابق، ذاك الذي أنجزه الحزب نفسه عام 2006. مذيعة النشرة كانت منتشية، واثقة؛ في نبرتها بريق الغلَبة والشماتة. أما التقرير “الخاص بقناة المنار”، الذي يغطي هذا “الانتصار” على القصير، فلم يكن أقل تعبيراً: قُطّعت مشاهده بما يناسب الموسيقى التصويرية المرافقة له؛ موسيقى من تلك التي يروِّج لها حزب الله عندما يريد ان يقنعنا بشيء ما، من انه فعلا ملك الساحة… من ان اسرائيل فعلا هي التي قتلت رفيق الحريري… تقرير تعبوي حماسي إحتفالي مشغول، لا يمتّ بأية صلة بصفته “الإعلامية” المفترضة. بعد ذلك تأتي اللغة، الأدهى من الجميع. وهي تفسّر غبطة “التقرير” والمذيعة. فالنص التي تلته هذه الأخيرة احتوى على مفردات “النصر” السابق لـ”حزب الله” عام 2006. كلمة “النصر”، أولاً، والتي ردّدتها المذيعة، ومعها “التقرير”: “إنتصرنا في القصير… انتصرت المقاومة في القصير… إنتصرنا على الصهاينة الارهابيين والتكفيريين… القصير تفتح ذراعيها للجيش الباسل، حامي الديار…” الخ. أما كلمة “استراتيجي” فرافقت “النصر”: “المغزى الاستراتيجي للقصير… أو البُعد… أو الآفاق…”.

لم أنتبه ما إذا كان كلمتي “تاريخي” و”الهي” قد نطق بهما المذيعة أو “التقرير”. لكن ملاك هاتين الكلمتين كان يحوم حولهما، بالتأكيد، بالإيحاءات والتلميحات وترسانة المحمولات والإشارات التي يعرفها من ألف لبنان. كل ذلك للقول بأن نشرة أخبار قناة “المنار” في تلك الليلة كان ينقصها قليل من الرتوش، وقليل آخر من مهرجانات وهمروجات “الانتصارات” حتى تقترب عملية سحق القصير، تقترب جداً، الى “انتصار الهي تاريخي استراتيجي”، كالذي “أنجزه” الحزب عام 2006. وفي منطق عملياته العسكرية ما هو محفوظ ومعلوم: فهو نبّهنا انه، بمشاركته الى جانب بشار الأسد، إنما يحارب الصهيونية والامبريالية، اللتين أضيف لهما مؤخراً “التكفيرية”.

والأمر لم يتوقف على قناة “المنار” وحدها؛ قبل النشرة، كان “الأهالي”، أي جمهور الحزب، “يبتهجون” بالـ”نصر”؛ يطلقون النار،  يرفعون كلماتهم على لوحات الكرتون، يوزعون الحلوى، يقودون، وبالسلاح، تظاهرات سيارة… فيما نخبتهم “الفايسبوكية” كانت أكثر بلاغة في التقاطها لمعنى هذا النصر. إعلامي معروف كتب على صفحته، شامتاً أولاً، ثم رامياً تلك الكلمات: “لم تروا شيئاً بعد…! بعد القصير سترون في حمص ودمشق وحلب!” مستدعياً بذلك اللازمة الشهيرة لحرب 2006، “ما بعد بعد حيفا….”.

العلاقة بين لبنان وسوريا، في ظل وصاية الثانية، كان يظللها شعار “تلازم المسارين”.  مؤخراً، ألغي “التلازم”، وحلّ مكانه تداخل فوضوي مضطرب، ينطوي على أخطار مجهولة. النازحون السوريون، إنسياب الحدود بين البلدين، وقوفها على السيطرة المسلحة، إندراج الحرب على سوريا في البُعدين المذهبي والإقليمي… ولبنان، وسط كل هذا، مثل قارب متواضع في محيط هادر، يرتجف، يتوهم، ينقز، يجفل… ويأمل بأسرة دولية لا تريد الحرب فيه؛ كانت هذه حدود تساؤلاته.

أما بعد دخول “حزب الله” في معركة سوريا “رسمياً”، عن طريق القصير، فقد توسّعت حدود هذه التساؤلات.

 وأولها: اذا كان “نصر” القصير هو الشقيق التوأم الصغير لـ”نصر” 2006، فمن يكون يا ترى توأمه الأصلي؟ حلب؟ دمشق؟ درعا؟

واذا كانت كل هذه “الإنتصارات السورية” هي الإبنة البارة لـ”نصر” 2006، فهل بوسع لبنان أن يتحمل ، من بعده، “نصراً” مشابهاً؟ مع كل ما نعلمه عن “ثمرات” هذا “النصر” المحلية؟

ألا يخشى “حزب الله”، بصفته ميليشيا إحتلالية، ان يتوحد السوريون ضده، بل ضد اللبنانيين، أكثر من أي عدو آخر؟

حسناً، إذا كان “إنتصار” 2006 قد خدم إيران في سعيها لإمتلاك القنبلة النووية، بأنها صارت، من بعده تلوّح بـ”ورقته” شمال اسرائيل… فماذا تكون هدية الحزب الى إيران هذه المرة؟

المدن

نهاية لبنان الكبير

حـازم الأميـن

الى الياس خوري

“سقطت القصير”، هذه العبارة كتبها مناصرو “حزب الله” في الضاحية الجنوبية على لافتات رفعوها في الشوارع التي وزعوا فيها الحلوى على العابرين، احتفالاً بـ “السقوط”.

والحال ان عبارة “سقطت” هي عبارة سلبية في قاموس النزاعات والحروب. نقول “سقطت بيروت” عندما نعني بالسقوط ان العدو احتلها، أما عندما ننتزعها منه فنقول: “تحررت بيروت”. هكذا قال العرب في عام 2003: “سقطت بغداد”، وقالوا قبل ذلك: “سقطت الجولان”، في حين قلنا في عام 2000: “تحرر الجنوب”، وفي أكثر العبارات حيادية نقول: “انسحبت إسرائيل”. وليس ما وقع فيه مناصرو الحزب خطأ في اللغة، ذاك ان عبارتهم صحيحة، لكن ما خانهم هو المعنى لا المبنى. فلنتخيل قليلاً، لو ان “حزب الله” حرر القدس، (وهو ما كاد يفعله عندما دخل القصير)، فهل كان مناصروه كتبوا “سقطت القدس”، فالقدس “تسقط” على أيدي الأعداء و”تتحرر على أيدينا”. انه الـ “lapsus” على ما تقول الإفرنجة، والعبارة لا تعني “زلة لسان”، انما تعني اللحظة التي يتولى فيها لاوعي المرء تصويب الوعي.

و”سقطت القصير” اذا ما استتبعت بدلالاتها اللبنانية تعني أيضاً سقوط فكرة أساسية هي في أصل الكيان اللبناني، فلبنان الكبير عندما أعلن في عام 1920، انتزعت أجزاء من كيانات اجتماعية مجاورة وضُمت اليه، وخاض الإستقلاليون الأُول، وخصوصاً رياض الصلح، معارك فعلية لتثبيتها في الكيان. طرابلس كانت خارجه، وقاومت لتبقى خارجه وفشلت، وسفوح السلسلة الشرقية لجبال لبنان كانت خارجه، ومساحات شاسعة من الجنوب. وطوال الحروب والنزاعات اللبنانية الحديثة في سبعينات وثمانينات القرن الفائت، كانت هذه الحقيقة خارج خيال المتنازعين، وهذا ليس بسبب مناعتهم الوطنية، انما لاستحالة الأمر. دخول الجيش السوري الى لبنان لم يطرح يوماً على اللبنانيين مسألة كيانية، فهو كان لقسم منهم احتلالاً خارجياً، ولقسم آخر سنداً، وفي كلا الحالين لم يتولَ ربطهم بمجتمعه ولا بهويته وبمآزقه وبانقساماته الداخلية.

اليوم أقدم “حزب الله” على خطوة تاريخية. قال إننا جزء من النزاع الأهلي في سورية. هو لم يقلها، لقد فعلها. “حزب الله” الذي يملك كل السلطة التنفيذية ونحو نصف السلطة التشريعية، وصاحب النفوذ الواسع في الأجهزة الأمنية والعسكرية أعلن أن حدود لبنان الكبير لا قيمة لها، وأننا جزء من نزاع داخلي في سورية. اذاً لبنان كله اليوم جزء من النزاع في سورية، ولم يعد من قيمة للحدود الجغرافية والإجتماعية التي كرستها التجربة اللبنانية. بعلبك جزء من لواء القصير الذي “سقط” بيد الحزب أو هو جزء منها، وستستأنف طرابلس أحلامها القديمة.

وفي مقابل ذلك باشر المسيحيون تحسس مشروعهم القديم المتمثل بإمارة جبل لبنان، ذاك انهم يشعرون بأنهم خارج هذا النزاع السقيم بين السنّة والشيعة، والإنتقال من “ماكرو لبنان” الى “ميكرو لبنان” يبدو مخرجاً منطقياً بعد ان تداعى الكيان الكبير. واليوم تفصل بين طرفي الإنقسام المسيحي (القوات والعونيين) مسافة يشغلها هم مسيحي هذا هو جوهره. يشغلها سؤال مفاده: ما هو المغري في البقاء مع هؤلاء الشركاء؟

موقع لبنان ناو

لا ضمان للاستقرار بعد تغيير قواعد اللعبة

    روزانا بومنصف

تلتقي الآراء السياسية على ان الاستقرار في لبنان بات يواجه هشاشة اكبر في الاسابيع الاخيرة خصوصا بعد تدخل “حزب الله” علنا في القتال الى جانب النظام في سوريا. اذ ان الهاجس بات متعاظما بعد امتداد المعارك الى داخل لبنان على ما باتت تشهده المناطق في الهرمل وجوارها في الآونة الاخيرة وردود الفعل على الموقف الاخير للامين العام للحزب السيد نصرالله لجهة التهديدات بردود ستحصل في لبنان. وتقر بعض المصادر بانحسار نسبة التفاؤل لديها بالغطاء الاقليمي الدولي لتحييد لبنان. ويشكل تطور هذا الواقع ضغطا ومسؤولية على الحزب نتيجة لاستدراجه الحرب الى الداخل اللبناني ولو انه اعلن رغبته في ابقائها في سوريا. كما تشكل المواقف السياسية كتلك التي لوحت بها دول مجلس التعاون الخليجي ضغطا كبيرا ويمكن ان تثير مخاوف بالنسبة الى اللبنانيين خصوصا من يتعاطف منهم مع الحزب مماثلة للمخاوف التي تزايدت مع سقوط الصواريخ على محيط الضاحية الجنوبية قبل اسبوعين. الا ان واقع الامور ان المخاوف الكبرى في ضوء هذه التطورات تتوزع على الاقل في اتجاهين :

الاول ان القرار الاقليمي والدولي بتحييد لبنان عن الحرب الجارية في سوريا والذي ساد في العامين الاخيرين من عمر الازمة وحاول الامين العام للحزب تمديد فاعليته على رغم اعلانه مشاركة الحزب في الحرب في سوريا قد لا يكون ممكنا حمايته بعد الان. اذ ان ردود بعض التنظيمات السورية التي تحارب النظام السوري على تدخل الحزب في سوريا قد لا ينطبق عليها القرار الدولي والاقليمي او لا يكون ايا من هذه التنظيمات المعارضة ملزما به. وفي ضوء التطورات الاخيرة، وفي حال لم يخرج الحزب من حربه الى جانب النظام من القصير في وقت قريب، اللهم اذا كان هذا قراره اي القيام بحرب سريعة ثم الانسحاب قبل الغرق في الوحول السورية، وعجز عن ذلك فطالت هذه الحرب ثم وسع الحزب من نطاق مشاركته في اتجاه مدن سورية اخرى، يصعب عدم الخوف من ان تزيد التعقيدات الداخلية على اكثر من مستوى بعضها يتصل برد فعل الثوار السوريين والبعض الآخر يتصل بتصعيد المشاعر المذهبية بين اللبنانيين ايضا. فقواعد اللعبة تسري وفق شروط معينة حتى اذا ما تغيرت هذه القواعد فانها تستدرج تغييرات اخرى على ما هي الحال بالنسبة الى الخطر الذي بات يستشعره كثر على الاستقرار اللبناني واحتمال انهيار فاعلية قرار تحييد لبنان.

اما الاتجاه الثاني فيتعلق بالحدود مع اسرائيل التي على رغم هدوئها الشامل الذي يبدو واضحا الحرص عليه بقوة، فان مشاركة الحزب في الحرب السورية تجعله على الارجح موضع مراقبة من اسرائيل التي قد لا يكون خافيا ارتياحها لتورط هذا الاخير خصوصا في ضوء العدد الكبير من القتلى له في القصير حتى الان. والخشية في هذا الاطار ان لا ضمان محتملا لعدم استفادة اسرائيل من الوضع المستجد الذي يمكن ان يساهم في انهاك الحزب في حال اطالة امد وجوده في سوريا. وتاليا من غير المستبعد تحين اسرائيل الوقت المناسب من اجل توجيه ضربة عسكرية للحزب وتاليا للبنان بعد هذا الانهاك. كما لا ضمان ايضا بان الهدوء الاسرائيلي قد يكون طويل الامد في ظل عناوين يرفعها المسؤولون الاسرائيليون او مخاوف يثيرونها من سيطرة الحزب على اسلحة متطورة او على السلاح الكيماوي.

النهار

أميركا تتفرّج “بواقعية” على انكفاء دورها الإقليمي

وتضخيم مكاسب القصير لا يقلّل أهمية التمدّد الإيراني

    روزانا بومنصف

حين علقت واشنطن على “سقوط” القصير السورية في الأيام الاخيرة، اعتبرت انه “لولا “حزب الله” وايران لما سيطر بشار الاسد على القصير”. وهذا التوصيف لا يجانب الواقع او يعتبر تحاملاً على الحزب وايران خصوصاً ان الشواهد اللبنانية على الاقل بين الاحتفالات التي عمت الضاحية الجنوبية ومناطق وجود ابناء الطائفة الشيعية وبين مواكب التشييع المتلاحقة في الأسابيع الاخيرة تؤكد هذا التقويم. الا ان المغزى في هذا التعليق الذي يفيد بأن الأسد لا قدرة لديه بقوته المباشرة على استعادة السيطرة على بلدة او مدينة مما يعني استحالة سيطرته على المدن السورية، يعني ايضا ان الحرب في سوريا باتت تقودها ايران مباشرة عبر قواها الخاصة وباعتمادها على “حزب الله” من لبنان. الا ان السؤال الخطير والمهم الذي يطرحه هذا التوصيف الواقعي يتصل بما اذا كانت واشنطن ستسلم بسيطرة ايران والحزب على سوريا خصوصاً اذا قرر هذان الطرفان بدعم من روسيا متابعة شن المعارك على المدن السورية الأخرى تحت ذرائع واهية مختلفة بهدف استعادتها من الثوار على ما أوحت معلومات عن حشود للحزب تتوجه الى الزبداني وتستعد للتوجه الى حلب. اذ انه وبغض النظر عن كاريكاتورية رئيس دولة لا يزال يقول بتمتعه بالقوة للسيطرة والبقاء في الحكم مستندا كما يقول الى دعم شعبي يستعين بتنظيم أجنبي حليف لاستعادة بلدة من المعارضة، فان التحدي الذي يطرح نفسه امام واشنطن خصوصا وكل الدول الاوروبية والعربية الرافضة لبقاء الاسد في الحكم وتطالب برحيله، ان الصمت على اندفاع ايران و”حزب الله” على الارض في موازاة تصميم روسيا على ارسال صواريخ وطائرات الى النظام جنبا الى جنب قد لا يعزز اوراق التفاوض الروسية في مؤتمر جنيف 2 في حال انعقاده او ان يمد بعمر النظام حتى موعد انتهاء ولاية الأسد في سنة 2014 فحسب بل انه من غير المستبعد ان يبقيه في موقعه طويلاً وفقاً لانتخابات واستفتاءات صورية على عادة الانتخابات السورية، وبما يعنيه ذلك من سيطرة ايران وتعزيز نفوذها في سوريا. والخسارة الكبيرة في هذه المعادلة ستكون لاميركا التي لم تستفد من الحرب السورية لاضعاف ايران على رغم رهانها على ذلك مع انطلاق الثورة السورية كما ستكون لحلفاء اميركا في المنطقة من دول اوروبية وعربية على حد سواء. فتكون النتيجة تبعا لذلك هي اولاً ان الاسد بقي في موقعه اطول بكثيرمن المتوقع ولو ليس بقواه الذاتية انما بفضل الدعم الايراني الميداني اضافة الى الدعم المالي وقتال “حزب الله” الى جانبه، اضافة الى استمرار تمتعه بالدعم الروسي الى حد حلول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مكان الخارجية السورية في مختلف المواقف التي تتطلب حضوراً ديبلوماسياً. وثانياً تكون ايران عززت اوراقها وامتدادها على عكس المتوقع اي ضعف نفوذها وانحساره وقيامها بحرب استباقية من اجل حشر الغرب وتعزيز نفوذها في سوريا وعلى لبنان. يضاف الى ذلك نجاح هذا المحور في زعزعة دول الجوار السوري الحليفة لواشنطن كالاردن وتركيا اضافة الى زعزعة لبنان والعراق علماً ان لبنان قد لا يحتل اهمية كبيرة في سلم الاولويات لدى واشنطن كما لدى هذه الدول. لذا تقول مصادر ديبلوماسية انها تراقب ما اذا كان “حزب الله” سيتوجه لخوض الحرب في مناطق سورية اخرى غير القصير ربما عملاً بما سعت اليه ايران منذ انطلاق الازمة ومحاولتها مساواة سوريا بالبحرين حيث تدخلت قوات سعودية من اجل مساعدة النظام في البحرين من اجل ان تبني على الامر مقتضاه ام ان الحزب سيكون حذراً في ذلك خصوصا في ظل آراء تستبعد انخراطه اكثر من ذلك في مناطق سورية اخرى على رغم ما يسرب في الاعلام لهذه الجهة. اذ تقول هذه المصادر ان هناك دعاية او حرباً دعائية كبيرة رافقت حرب القصير وجعلت منها مكسباً للحزب، وهي كذلك، شأنها في ذلك شأن الدعاية في كل انتصارات الحزب السابقة لكن هناك تضخيماً ايضاً تغذيه مصالح واتجاهات عدة خصوصا متى اخذ في الاعتبار حجم الضحايا الهائل الذي دفعه الحزب قياساً بحرب على بلدة والوقت الذي استغرقه لذلك مع مساعدة جوية من النظام وخصوصاً ان هذا “الانتصار” ليس كالانتصارات الاخرى بأي من المعايير. فلا هو ضد اسرائيل التي “تقاطع” الحزب معها في اتجاه ابقاء نظام الاسد ولا يملك اي غطاء محلي او عربي لما يقوم به وهو وضع طائفته امام عزلة كبيرة في المنطقة وفي مواجهة الطائفة السنية.

هل يحرك هذا التقويم الذي يلتقي على تقديمه ديبلوماسيون كثر واشنطن فتتخذ من تدخل ايران و” حزب الله” في الحرب ذريعة من اجل الافساح في المجال امام تدخل آخر ام تتخذ من تزويدها من فرنسا ادلة حول استخدام النظام السلاح الكيماوي ضد شعبه والذي اعتبرت واشنطن استخدامه خطاً احمر ذريعة للقيام بعمل ما ام تبقى متفرجة شأنها شأن ما فعلت ازاء الهجوم على القصير مكتفية بالتنديد؟

السؤال تحفزه جملة اقتناعات ابرزها بأن واشنطن في موقف ضعيف جداً ازاء روسيا في ما يتصل بالوضع السوري الاستراتيجي والحيوي لهذه الاخيرة في مقابل لامبالاة كبيرة من جانب الولايات المتحدة نظرا الى عدم تهديد الازمة السورية اسرائيل بل ارتياح هذه الاخيرة لما يجري في سوريا. والاقتناع الآخر عن ضعف واشنطن والغرب ومواقفهما الكلامية التي لم تجد لها تنفيذا على ارض الواقع في مقابل روسيا وايران ان ذلك يترجم نفسه في مؤتمر جنيف 2 والاستعدادات له. وقد سربت قبل ايام قليلة معلومات نقلت عن مصادر اميركية تقول باقتناع روسيا بحكومة انتقالية في سوريا ستكون لها صلاحيات على الجيش والاجهزة الامنية السورية باعتبار ان هذه كانت نقطة خلاف من اجل بقاء القوة في يد الاسد او من يضمن لروسيا الضمانات نفسها التي تأخذها من النظام الحالي على ان يبقى الاسد في موقعه حتى نهاية ولايته في سنة 2014. فهذا الاتفاق في حال صحته ينطوي على مطبات كثيرة ليس اقله ان ترجمته قد لا تختلف عن ترجمة جنيف 1 او ترجمة السوريين انفسهم لاتفاق الطائف في لبنان وتسليم دمشق تطبيقه وفق ما تخشى المصادر المعنية.

النهار

القصير تكسر ظهر لبنان!

    راجح الخوري

ليس مهماً ما اذا كانت القصير المحاصرة ستسقط ام ستصمد، ففي النهاية هي مجرد شجرة في غابة مشتعلة على امتداد الاراضي السورية. المهم لا بل المؤذي ان ذهاب “حزب الله” للقتال هناك دعماً للنظام، لن يكون في النهاية حماية لظهر المقاومة كما قال السيد حسن نصرالله بل سيكون كما بدأ يتبين كسراً لظهر لبنان، فاذا انكسر ظهر لبنان ينكسر ظهر الجميع وفي مقدمهم “حزب الله”!

قبل الحديث عن الوقائع الميدانية التي تؤكد ان لبنان آخذ في الانزلاق الى نار الحرب المذهبية البغيضة المتأججة في سوريا والتي تعصف بالمنطقة كلها، من الضروري ان نتذكر ان مساحة سوريا تساوي 18 ضعفا مساحة لبنان وان عدد السوريين يساوي ستة اضعاف عدد اللبنانيين، وانه قياساً بطبيعة المعركة المحتدمة منذ عامين ونصف عام وقد صارت خمسة حروب في حرب واحدة ويبدو انها قد تستمر زمناً طويلاً حتى لو ذهب الوضع الى التقسيم، كان من الضروري السؤال: الى اين نحن ذاهبون وفي اي مغطس نازلون وفي اي منقلب نحن منقلبون؟

لست ادري ما الذي سيحمي ظهر المقاومة في النهاية عندما تنقل سلاحها تدريجاً من الجنوب الى الداخل لتصبح دولة داخل الدولة المستضعفة بحجة مواجهة اسرائيل، ثم تنقله الى الشمال والشرق حيث تطل الآن جبهة بعلبك بعد جبهة عكار في حين يستمر اشتعال جبهة طرابلس، فاذا اضفنا الاحتقان المتصاعد من صيدا الى البقاع الغربي، يصبح في الامكان معاينة نتائج مقامرة الزج بالنفس في النيران ولبنان لا يتحمل اشتعال عود ثقاب في اذياله وحطام اقتصاده!

لماذا ضيّع “حزب الله” في القصير واخواتها ما بناه عربياً خلال ربع قرن، وهل يقرأ قادته ما يقال عنه الآن من المحيط الى الخليج وكذلك في العالم الذي يتسابق لإدراجه على لوائح الارهاب، وهل يقنع المنطق البسيط للاشياء احداً بأن حماية ظهر المقاومة تكون بخسارة العالم العربي في مقابل الاحتفاظ بالبيئة الايرانية الحاضنة، وماذا يمكن ايران ان تفعل عندما يسقط النظام السوري ويترنح نفوذها في العراق؟

لتذهب الدولة اللبنانية الى الجحيم، كنا بحماية ظهر المقاومة في القصير فصرنا سريعاً بحماية ظهرها في الضاحية وعلى امتداد الجبهات، فها هو “حزب الله” يتخذ تدابيره الاحترازية واجراءاته الامنية في الضاحية والبقاع والجنوب، في حين تجمع دول مجلس التعاون الخليجي على اعتباره منظمة ارهابية وتقرر اتخاذ اجراءات ضد مصالحه في اراضيها، وهذه المصالح هي مصالح لبنانيين لم يحسب الحزب حسابهم ستنكسر ظهورهم ايضاً إلا اذا كانوا سيجدون مصالح بديلة لهم في ايران ولا اظن … في القصير واخواتها لم نضيّع تاريخاً فحسب بل كسرنا ظهرنا وظهر لبنان!

النهار

حزب النعوش

    احمد عياش

حرص “حزب الله” حتى الان على ان لا تسجّل آلات التصوير عناصره يقاتلون في سوريا. الوجه الوحيد للحزب الذي ظهر ولا يزال في هذه الحرب هو وجه مراسل قناة “المنار” التلفزيونية الذي يطل يومياً على مشاهدي القناة ليخبرهم ان جيش نظام بشار الاسد هو من يقصف من الجو والبر ويقتحم ويترك وراءه كما كانت الحال في القصير دماراً هائلاً. ثم يسأل المراسل امام الكاميرا: “أين هم المدنيون الذين يتباكون عليهم؟”. لو شاء اعلام “حزب الله” الحصول على جواب لذهب الى عرسال التي تدفق إليها آلاف النازحين من جحيم القصير وريفها ومعظمهم من الاطفال والنساء والطاعنين في السن.وهناك سيسمعون “أم دياب” وسط اولادها الستة وهي حامل الآن بتوأم تروي لمراسلة “الحياة” الاتي: “كنت أحلب البقرة في الخامسة صباحاً حين قالوا لنا غادروا البيوت. حملت طنجرة الحليب ووضعتها على الموقد لأطعم أطفالي فلم أتمكن. فقد غادرنا على عجل. أطفالي الآن من دون طعام”. لم ينتبه اعلام النظام السوري الذي تحرّك بعد سقوط القصير فنظم جولات للاعلاميين لتغطية مسرح “الانتصار” ما روته “أم دياب” تاركاً الاعلاميين يصورون ما استطاعوا ومن بين ما صوّروا بقرتين كانتا امام دبابة لجيش النظام. ومن البديهي القول ان البقرة حيثما وجدت تكون هناك عائلة مثل عائلة “أم دياب” وأطفالها الستة. إلا اذا اعتبر “حزب الله” ان البقرة دليل حيواني وليس دليلا مدنياً.

اذا كان اعلام “حزب الله” يسأل “أين المدنيون؟، “فان مشاهدي “المنار” يسألون: “أين مقاتلو الحزب؟”. الواصلون الى عرسال رووا انهم شاهدوهم  وقالوا ان المقاتلين “يلبسون اللون الاسود ويضعون قبعات على رؤوسهم” تماما مثلما فعل اقرانهم في بيروت في الأعوام الماضية. وكشفت التسجيلات التلفزيونية التي بثها المدافعون عن القصير قبل سقوطها جثث ضحايا الحزب في أرض المعركة. في المقابل سمح الحزب بتغطية مواكب تشييع الضحايا في البقاع والجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت. ومن اراد معرفة من هو صاحب النعش عليه متابعة بيانات النعي التي تورد اسم الضحية مع صورته مذيلة بعبارة “استشهد وهو يؤدي واجبه الجهادي”.

حتى اعداد هذا المقال لا تزال مواكب التشييع مستمرة ومعها بيانات النعي وصور الضحايا. واذا كان “انتصار” القصير قد تسبب بتهجير عشرات الالوف من سكان المدينة وريفها فهو أخرج “حزب الله” من ورطة الحرج امام عائلات النعوش الذين كانوا يظنون ان قبلة الجهاد هي فلسطين وليست سوريا. ولعل كثرة الحلوى التي وزعها الحزب بعد سقوط القصير كانت بمثابة مسكّنات لاوجاع ذوي الضحايا من المقاتلين. لكن السؤال الان: كم من الحلوى مطلوب توزيعها طالما ان هناك قصيرات لا عد لها ولا حصر ما زالت على امتداد سوريا؟

النهار

“خيبة الأمل” من أداء “حزب الله”…

دلال البزري

كثيرون الآن ينْدبون “المقاومة” التي غرقت في البحر السوري الهائج. يعبّرون بوضوح عن خيبة أملهم: “كنا نؤمن…! كنا نعتقد…! بأن “حزب الله” حزب مقاومة. وإذا به الآن حزب يدافع عن بشار الأسد!!!”. تلك هي خلاصة مشاعر الذين صدّقوا يوماً ما يقوله الحزب عن نفسه، من أنه جمع “الشرفاء”، ورافع راية المظلومين المستضعفين، ومضحّ برجاله من أجل إحقاق الحق، خصوصاً حق فلسطين…. الخ. وها هو الآن في المكان الذي نعرف… بعض من هؤلاء الخائب ظنهم، من شدة “مفاجأتهم” وأحياناً “صدمتهم”، لا يريدون أن يصدّقوا تماماً إنهيار فكرة “المقاومة” هذه، فيناشدون الحزب بالإنسحاب من القصير… فيما الحزب يتوغّل في العمق السوري، نحو دمشق ثم حلب. يتكلمون وكأن الحزب “إنحرف” عن مقصده الأصلي، كأنه كان شيئاً وصار شيئاً آخر. ثم يأملون… لعلهم بذلك يهيئون أنفسهم لخيبة أعظم.

ولكن: هل فعلاً انحرف الحزب عن خطه الأصلي؟ أم أنه منسجم تماماً مع هذا الخط؟

إذا كان الجواب على هذا السؤال حرفياً، فله مرجع ونص مكتوب، وتجده في الوثيقة التأسيسية للحزب، وقد أطلقها عام 1985، والتي يبشّرنا فيها بأنه ينوي، مع مقاومة الصهيونية والإمبريالية، أو بعدها، إقامة جمهورية إسلامية في لبنان، مثل الإيرانية. هذه الوثيقة لم يتبرأ منها الحزب يوماً؛ جمّلها، زيّنها، موّهها، ولكن عندما “تمكّن” أضافَ اليها وضوحاً على وضوح، بتصريحات أعيانه المعتزة من انهم إنما يأتمرون بأمر الولي الفقيه… ولا لبس في الموضع…

أما اذا أردنا إجابة “ميدانية”، فلن نجد أفلح من حرب تموز 2006: ماذا أعطت هذه الحرب لللبنانيين أولاً، ثم والفلسطينيين، أصحاب القضية الملعوب بها؟ ما هو السبب الجوهري لإندلاع هذه الحرب؟ بماذا أفادت لبنان؟ بماذا أفادت كافة المعذبين بشجون فلسطين وشؤونها؟ وما هو المضمون الفعلي لهمروجة “الإنتصار التاريخي الإلهي الإستراتيجي”، الذي أُدخل الى العقول بصخب الصراخ؟

محصلة حرب 2006 كانت أولاً كارثية على كل هؤلاء، ولكنها كانت أساساً نعمة الهية هبطت على “حزب الله” وجعلته ملك اللعبة والتلاعب السياسيَين في بلده الصغير. قلنا “أساساً”، لأنه، بعد هذه الحرب-النعمة، صارت الدولة الايرانية تمعن في رفع “ورقة حزب الله وجنوب لبنان” بوجه كل من يهدّدها بالنووي. ومن ورائها عادت سوريا بشار الأسد وتسللت الى لبنان، بعدما كانت انتفاضة شعبية عارمة قد طردت جيوشه منه.

تلك كانت وظيفة “المقاومة” التي اشبعنا لسان “حزب الله” ومحبوه بصفّ كلماتها وتنميقها كيفما اتفق؛ كل تعبيرات هيمنتهم وسلوكياتها استمدوها من تلك المشروعية الزائفة. ولم يكن “انتصارهم الالهي…”، غير استقواء على عباد الله، المواطنين، إما بغسل مخهم، أو بإرهابهم؛ ولازمتهم، حجتهم، ترنيمتهم: “اذا كنا استطعنا أن ننتصر على اسرائيل…!”، وهذا السؤال صار مأثورة، صيغة علاقة مع الآخرين، وفحواها: “من تكونوا أنتم لتتجرأوا وتقفوا بوجهنا… نحن الذين انتصرنا على اسرائيل!؟”. والى ما هنالك…

نظام “حزب الله” هو، من حيث البنية، شبيه بالنظامين الايراني والسوري: بالـ”مقر” و”الممر”. الأول، الإيراني، أمام إنتفاضة شعبه ضد تزوير الانتخابات عام 2009 ، لم يكن بوسعه الا إغراقه في الدماء. “تنازل” واحد لمطالب هذا الشعب، أو تعامل غير وحشي معهم… هو بمثابة سقوط جدار من ذاك البناء المحكم، كل زاوية فيه ليست أقل من حجر أساس، لا تحتمل خدشاً… كي لا نقول نقداً أو إنتفاضة.

النظام السوري على المنوال نفسه. من كان يتوقع منه مبادرة أو إصلاحاً، أو وحشية أقل، كان واهماً أو راغباً بالتوهّم، أو مسوَِقا خبيثاً لمبادرات باطلة من أساسها. تخيّل فقط لو سمح بشار بحرية التظاهر، أو بإدخال قليل من الترتيبات والإقالات، قليل من التعويضات، المعنوية خصوصاً… قبل أن يخيب ظن المتظاهرين الذين باتوا لا يطالبون بأقل من سقوطه. لم يكن ذلك ممكناً، ولا يتعلق الأمر ببصيرة بشار المفقودة، ولا بجرعة الشرّ التي ورثها عن أبيه؛ إنما بالمنطق: إذا استجاب لقدر قليل مما يطالبه به شعبه، سوف يسقط أيضا معه جدار، أو تفتح ثغرة… يرى هو ومن حوله انها بداية نهايتهم، وهم على حق.

نظام “حزب الله” مثل النظامين الإيراني والسوري، مقفل بإحكام. وهو يلتقي مع حلفائه حول هذه النقطة كما ينضوي تحت استراتيجيتهما. وضمن هذه الانظمة الثلاث المقفلة بالذات، يترتّب علينا فهم “تبدّلات حزب الله” الأخيرة. وهي ليست مفاجئة إلا عند المصدّقين، المرشحين للإصابة بهكذا نوع من خيبات الأمل.

لم تخفِ ايران يوماً طموحها بالسيطرة على بلادنا. ولا أخفى “حزب الله” إندراجه تحت ولاية فقيهها. وإن ألبس استتباعه هذا أقنعة الحق، وصدقته “جماهير” و”نخب”. ولا نظام الأسد تنكّر يوماً للجميل الإيراني، وقد مدّته إيران، كما مدّت “حزب الله” بوسائل الإستقواء على شعبه وعلى محيطه. وهذا مكسب عظيم لسلطة تبحث من دون هوادة عن سبل بقائها على عرشها.

نحن إذن أمام كتلة إسمنتية متراصة المكونات، لا يتحرك بداخلها شيء إلا وتهتزّ أركانه. كان من المنطقي جداً أن لا يتزحزح بشار الأسد قيد انملة على ثوابته، أن يهجم على شعبه بهذه الشراسة (وإن فاقت، هذه الشراسة، كل التوقعات). بالقدر نفسه لم يخرج “حزب الله” عن جلده، ولا تنكّر لنفسه… عندما انخرط الى جانب بشار في معركته ضد شعبه. هو فقط رمى شعاراته جانباً، معوّلا على طاقة النسيان… مشاركته في المعارك كانت أشد تعبيرات إنسجامه مع نفسه: حزب ميليشيات مسلحة في خدمة نظامين هما ركنيه الأساسيين، الاول هو الأصيل، القائد، الإيراني، والثاني الرديف هو السوري.

للمزيد، فلنتصوَّر العكس: أي أن يمتنع “حزب الله” عن التدخّل في سوريا، أن “ينأى بنفسه” حقاً، احتراما لـ”عقيدة” الحكومة التي شكلها، ثم أسقطها. أو، فلنتصوّر أيضاً، أن ينكبّ الحزب على الإغاثة وعلى كافة المشكلات الهائلة، الناجمة عن تدفّق اللاجئين السوريين الى لبنان… أو، لنتصور أيضاً وأيضاً، أن يدافع، بسلاحه، عن حدود لبنان الشرقية والشمالية من الخروقات، او الإهتزازات الأمنية… أو إذا وضع كل ثقله لحل مشكلة الكهرباء المتفاقمة… أو أي شيء حيوي آخر… هل يكون الحزب نفسه الذي نحن بصدده الآن؟ هل يكون أمينا لولائه اذا لم يدخل سوريا الى جانب الايرانيين، الداعمين بالمال والسلاح والخبراء والـ”مستشارين”… الخ؟ هل يرمي كل “إنجازاته”، وخصوصا حرب 2006 في البحر، هكذا من دون حساب ولا تدبير؟ هل تذهب أدراج الرياح 7 أيار 2008 والقمصان السود؟ يترك “مقره” يستميت بمفرده للدفاع عن “ممره”، ويمتنع… هو “رأس حربة الممانعة”؟

كلها تساؤلات عبثية طبعاً. هي فقط تمرين للخائبين، للذين كانوا يظنوها “مقاومة” واذا بها حجرة أساسية من ذاك البناء الباطوني المقفل المسمى “المحور الايراني”. وحدهم الاسرائيليون فهموا الأمر ولم يخيبوا ظناً: عندما ضربوا مخازن الجيش النظامي مؤخراً، ربتوا على كتف بشار وقالوا له: “إطمئن… الضربة ليست ضدك، بل ضد ايران”.

أيها الخائبون من المقاومة الآن. كففوا دموعكم. انها حرب، وبشعة، صحيح… ولكنها أيضا لحظة وعي جديد، لا بد من إلتقاط إشاراته… وإلا فسوف تلاحقكم الخيبة كيفما وليتم.

المستقبل

إنهم يتقاسمون سوريا!

طارق الحميد

ما يحدث الآن في سوريا، وبكل بساطة، هو تقاسم إيراني روسي لبلاد الشام، وأمام أنظار العالم، تفعل إيران ذلك من خلال فيلق القدس وعملائها في المنطقة من حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية، والأمر نفسه تفعله روسيا من خلال استثمار دعمها للأسد، ومواقفها السياسية.

ففي الوقت الذي تجوب فيه ميليشيات حزب الله الأراضي السورية قمعا للثوار، محاولة استعادة ما فقده الأسد، وبحجة تأمين حدود «السلاح الشيعي»، لضمان خط إمداد سلاح حزب الله وإيران، وهو ما سماه حسن نصر الله حماية ظهر المقاومة، تقوم روسيا أيضا بانتزاع حصتها من سوريا وليس في طرطوس وحسب، بل ها هي موسكو تعرض إرسال جنود مراقبة للجولان للفصل بين النظام الأسدي وإسرائيل وذلك بعد انسحاب القوات النمساوية من هناك، مما يعني أن حزب الله، ومن خلفه إيران بالطبع، يقومان باقتطاع جزء من سوريا تأمينا لنفوذهما، وتثبيتا لعميلهما الأسد، بينما تقوم روسيا بتثبيت نفوذها هناك، والفصل بين الأسد وإسرائيل، وذلك لتأمين الطاغية الذي بات يصغر حجمه يوما بعد الآخر في ظل الوصاية الإيرانية الروسية.

هذا ما يحدث فعليا في سوريا بينما المجتمع الدولي مشغول في مؤتمر جنيف 2 الذي ألهتهم به روسيا، ورغم إعلان الأمم المتحدة عن أنه مع نهاية العام سيكون نصف السوريين بحاجة لمساعدة، فإن الاحتلال الإيراني الروسي لسوريا، وتقسيمها، نتيجته للآن هي أن نصف السوريين تحت وطأة التشرد والمعاناة، والنصف الآخر تحت الاحتلال الإيراني الروسي، والمضحك المبكي هنا هو أن المجتمع الدولي لا يزال يحذر من تقسيم سوريا، بل إن الغرب لا يزال يحذر من مغبة التدخل العسكري بسوريا، وخطورة «القاعدة» وفتاوى الجهاد والتكفير هناك، فهل من عبث أكثر من هذا العبث؟ فالتقسيم في سوريا بات أمرا واقعا، وكذلك الخطر الطائفي، والمعاناة الإنسانية حقيقية، وبإقرار الأمم المتحدة التي طالبت بدعم مالي يصل إلى خمسة مليارات دولار للقيام بما اعتبر «أكبر نداء» في تاريخ المنظمة الدولية، وهو ما يفوق حجم المساعدات التي قدمت للعراق، وباكستان، والسودان! يحدث كل ذلك وسط تدفق السلاح الإيراني والروسي، وتدفق مقاتلي حزب الله ومرتزقة العراق، بينما لا يزال المجتمع الدولي مترددا للقيام بعمل عسكري ضد الأسد، فأي تقاعس أكثر من هذا التقاعس؟ خصوصا أن المعارضة لا تقاتل قوات الطاغية وحسب، بل إنها تقاتل غزاة سوريا الجدد، إيران وعملاءها!

والمؤسف أن العرب، وتحديدا الفاعلين وليس المتخاذلين، والمجتمع الدولي، خصوصا أميركا وفرنسا وبريطانيا، لا يتجاهلون معاناة السوريين وحسب، بل إنهم يتجاهلون أيضا عملية تقاسم سوريا من قبل إيران وروسيا، وبالطبع إسرائيل التي أخذت حصتها المتمثلة بمرتفعات الجولان وما زالت تحافظ عليها بمساعدة من الأسد نفسه، وكل هذا يعني مساسا مباشرا بمصالح العرب والغرب، ولا أبالغ إن قلت إنه مساس مباشر بأمنهم واستقراره

م، فعلامَ هذا الصمت، والتردد؟ يا سادة لقد وصلنا لمرحلة: أنقذ نفسك، فماذا تنتظرون؟

الشرق الأوسط

لقد فتحتم أبواب جهنم

    علي حماده

“ارتقوا… فقد ازدحم القعر”… هذه تغريدة نشرتها البارحة على حسابي على “التويتر”. والمقصود فيها “حزب الله” وسياساته التي اوصلت لبنان الى مفترق طرق خطير للغاية. نعم ان سياسات الحزب المذكور بلغت القعر من حيث نتائجها المدمرة على النسيج الوطني اللبناني، وعلى العيش المشترك، وعلى وحدة الكيان، ومصير الصيغة اللبنانية التي قام عليها لبنان الحديث. هذه السياسات اوصلتنا الى مكان خطر جدا. لم تعد تفصلنا  عن الحرب الاهلية سوى شعرة واحدة لا نعرف متى واين وكيف ومن سيقطعها. انها مسألة نقطة الماء التي ستفيض بها الكأس في لبنان. في كل مكان من لبنان اقتناع عميق باستحالة التعايش مع مشروع “حزب الله”، وثقافته، ووظيفته، وعدوانيته الفائقة في كل اتجاه. في اتجاه الداخل بالقتل والاغتيالات وبناء مجتمع رديف للمجتمع اللبناني فوق القانون وقواعد الانتظام العام. والمجتمع  يتم بناؤه على اساس البلطجة الداخلية بحيث بتنا اليوم امام مأزق وطني كبير جدا نهايته بحر من الدماء حتى لو توهم بعضهم ان موازين القوى تمنع الثورة على واقع الحال المزري.

نعم ثمة ثورة حقيقية تعتمل في امكنة كثيرة من لبنان، ولن يمر وقت طويل قبل ان يحصل انفجار لطالما حذرنا منه. واول من حذرنا قيادات “حزب الله” التي تبدو من كبيرها الى صغيرها سكرى بنشوة القوة، والبلطجة. لم نعد امام ظاهرة مسلحة، ولا امام حالة مافيوية، وبإزاء تنظيم فاشيستي فحسب، بل اننا امام وحش اوصل الناس في لبنان وسوريا وبقية ارجاء المنطقة الى اقتناع راسخ مفاده انه لا يجبه بالادوات التقليدية المعتمدة، وانما يواجه بالمنطق نفسه، اي بالاحتكام الى منطق القوة.

طبعا يثبت التاريخ ان الثورة على الظلم وعلى العدوانية قد لا تبدأ بحال من التوازن، ولكن الطرف المعتدى عليه ومن شدة الظلم اللاحق به يصل مكرهاً الى الخيارات المؤلمة… لكنه يصل اليها. ويقيننا ان جنون “حزب الله” اوصل كثيرين الى تلك الخيارات…

لقد شكل غزو “حزب الله” مدنا وقرى سورية وتورطه في قتل الناس هناك الحد الفاصل بين مرحلة ومرحلة. فقد فهم اللبنانيون بغالبيتهم ان هذا التنظيم العدواني والغارق في دماء الناس في سوريا عائد الى هنا لاستكمال وضع اليد على لبنان، وكسر توازناته، وقتل من يمثلون معنى لبنان الحر التعددي المستقل الحيادي.

لقد فتح “حزب الله” ابواب جهنم فعلا… ودخل في حرب “المئة عام” العربية الاسلامية… وهذه الحرب ستمتد في كل ارجاء المشرق العربي. وواهمون اولياء هذا الحزب أكانوا لبنانيين ام ايرانيين ان الثمن سيكون بخسا. سوف يكون الثمن باهظاً… ومن وزعوا البقلاوة يوم غزوة القصير، كالذين وزعوها يوم قتل جبران تويني وآخرين سيكونون اول من سيكتشف هول العواقب القادمة… ومَن يعش يرَ!

النهار

ماذا تستغربون سلوك «حزب الله»؟

حسان حيدر

يشبه التفاجؤ العربي، والخليجي خصوصاً، بسلوك «حزب الله» في سورية وتفانيه في القتال دفاعاً عن نظام بشار الأسد، التفاجؤ الدولي بسلوك إيران في الملف النووي بعدما «اكتشفت» الوكالة الدولية للطاقة الذرية الآن فقط أن الحوار مع طهران «يدور في حلقة مفرغة».

كأن العرب يقولون إن ما قام به الحزب قبل الحرب السورية كان مقبولاً، وإن التغيير الذي طرأ على مواقفه لم يكن متأصلاً في تكوينه، مثلما يرفض العالم الاعتراف بأن إيران تناور منذ صدور التقرير الأول للوكالة الذرية في 2003 عن إخفائها معلومات عن نشاطها النووي، ولم تفعل سوى زيادة قدرتها على التخصيب، بينما هو يتلهى بالوعود والآمال الخاوية.

لو استمع العرب إلى ما تعب اللبنانيون من ترديده عن تجربتهم مع الحزب منذ تأسيسه قبل ثلاثة عقود، وشكواهم من ممارساته طوالها، لاستنتجوا أن مواقفه الحالية هي وحدها النتيجة الطبيعية لنشأته وتركيبته وارتهاناته.

فالحزب بدأ جهازاً أمنياً إيرانياً – سورياً منذ لحظته الأولى ولا يزال، مع أن البعض يعتبر أن التجسيد الأوضح لتحالفه العضوي مع النظام السوري، ظهر مع اغتيال الحريري في 2005 عندما ثارت تساؤلات عن سبب «عجز» أمن الحزب المنتشر بفاعلية في العاصمة وسائر المناطق اللبنانية عن اكتشاف وجود شاحنة مملوءة بطنين من المتفجرات تتنقل في شوارع بيروت بانتظار مرور هدفها، قبل أن يتضح من تحقيقات المحكمة الدولية أنه شارك في الاغتيال تخطيطاً وتنفيذاً. ثم تجلى هذا التحالف في التظاهرة الضخمة التي نظمها الحزب وقدم فيها «الشكر» إلى النظام السوري مؤمناً التغطية السياسية والأمنية لحملة الاغتيالات التي استهدفت السياسيين والإعلاميين الاستقلاليين، والتي لا بد أنه ساهم فيها، قبل أن يتكرس في حرب تموز (يوليو) 2006 التي أطلق شرارتها أملاً في تغيير المعطيات المحلية والإقليمية وتثبيت الدور الإيراني في المنطقة.

وهل غريب على من بدأ مسيرته بتصفيات داخل طائفته شملت ليبيراليين وعلمانيين وحتى متدينين يعارضون تحويلها إلى حزب مذهبي، أن يستنفر عصبيتها لتبرير قتال غالبية السوريين على أرضهم دفاعاً عن حكم مذهبي آخر؟

هل كان العرب يصدقون فعلاً دعوة الحزب إلى الحوار بين المذاهب؟ وهل كانوا يعتقدون أن هناك أملاً في أن يتحول يوماً إلى حزب لبناني ويسلم سلاحه إلى الدولة التي يهدم أسسها كل لحظة؟

لقد أثبت «حزب الله» بدخوله الحرب السورية على أكثر من جبهة، أنه لم يكن يوماً يخطئ في الحساب أو يقع في سوء التقدير، كما اعتقد بعض العرب الذين تبنوا بحسن نية وهْم إمكان تغيير قناعاته ومساره، بل كان ما فعله ويفعله نتيجة حسابات مدروسة وخطة مرسومة بدقة في طهران ودمشق لتمكينه من قضم سلطة الدولة اللبنانية تدريجاً والإمساك بمؤسساتها كما فعل آل الأسد في سورية. ولهذا لا يخلو خطاب لأمينه العام من هجوم على الدولة و «عجزها» و «تقصيرها».

سيظل «حزب الله» جزءاً من المنظومة الأمنية السورية الإيرانية المشتركة، ينفذ ما تتطلبه خدمة مصالحها الفردية والثنائية، طالما بقي خارجاً على الدولة اللبنانية وممتلكاً ترسانة تفوق تسليح جيشها وقادراً على ابتزاز السياسة بالأمن في أي وقت. وسينتقل بعد معركة القصير، بلا أي وجل، إلى الجبهات الأخرى في حلب ودمشق وسواهما، دفاعاً عن التحالف بين «حكمه» في لبنان والحكمين في سورية وإيران. أما الاستغراب العربي لسلوكه فيعني أن العرب لم يقرروا بعد خوض معركة الدفاع عن الشعب السوري.

الحياة

«حزب الله» والمعادلة المستحيلة

بشير هلال *

لم يكن الخطاب الأخير لزعيم «حزب الله» أقل من إعلان حربٍ شاملة لا توسط فيها ضد الثورة السورية تحت شعار الحرب الاستباقية ضد «التكفيريين» و «حماية ظهر المقاومة»، ومن انخراطٍ عضوي في حرب النفوذ والقوة الإقليميين المتداخلة مع توترٍ مذهبي متصاعد يغدو عنواناً رئيسياً لها، ومن اصطفافٍ في المحور الدولي الحليف لإيران. وهو إعلانٌ لا بد من أن يتجاوز في نتائجه كل ما عرفناه سابقاً من آثارٍ لسياسات الحزب ومسالكه في لبنان والتي أسفرت منذ 2008 عن استقرار هيمنته العمومية الفعلية ثم إشهارها (بتغيير الغالبية بالقوة وتأليف حكومة ميقاتي) من جهة وعن تدعيمه أداتها الرئيسية المتمثلة بالتهديد الدائم بالحرب الأهلية المُضمَرَة من جهة أخرى.

ولعل أولى النتائج لذلك هي اتجاه لوحة المشهد الامني – السياسي في لبنان الى مزيد من التعقيد الذي يهدد بنقلها الى مستوى أعلى من تلك السمة الموضعية والمناطقية التي رست عليها منذ بدء الثورة السورية والتي بدت حتى الآن قابلة للاحتواء عبر تسويات هشة جرى التعارف على اعتبارها تعبيراً عن عدم رغبة وانعدام مصلحة قوى النزاع الأهلي في المغامرة بدخول جحيم الحرب الأهلية ذات الطعم الشديد المرارة في ذاكرة اللبنانيين وعن توافقٍ إقليمي – دولي على ابقاء النزاعات مضبوطة بتهدئة قشورية مانعة للانفجار وعاجزة عن الحل صبَّت في النهاية لصالح استقرار نظام هيمنة «حزب الله».

والواقع ان الوضع السابق لإشهار نصرالله حربه كشف عن حقيقتين متناقضتَيْ النتائج:

الأولى عدم صحة الحسابات التي بالغت بقدرة النظام الاسدي على احتواء الثورة بالخيار الأمني في مرحلة أولى ثم بالحرب الشاملة تالياً. وهذا ما رأيناه في التدرج من إنكار أهمية الأزمة (على وزن قول نصرالله قبل سنة ونيِّف: ليش شو في بحمص؟) إلى ضرب المواعيد المتتالية لاستعادة النظام سيطرته دونما طائل. وهي حسابات كانت لا تزال تتيح للحزب وراعيه الايراني حتى وقتٍ قريب اتباع منهج تدخل عسكري محدود وسياسي مُعلَن تحت شعار حماية الشيعة اللبنانيين في قرى سورية و «المقامات والمراقد المقدسة»، ولكن تبيان خطئها أرغمهما على انتهاج سياسة اشهار وتوسيع التدخل كضرورة عملانية ضمن الهجوم المضاد للنظام العاجز بقواه الذاتية وحدها عن خوضه.

الثانية أن الحزب يعيش أصلاً حالة تداخل جزئي تكويني بالآلة العسكرية والأمنية الأسدية باعتبارها شرطاً طبيعياً لـ «مقاومته»، مما ساهم في تقديم تدخله المحدود منذ بداية الانتفاضة الشعبية السورية كأمرٍ عادي فيما كان يجري تقديم الدعم الذي تلقته الأخيرة من اوساطٍ شمالية بوصفه تدخلاً خطيراً وغير مشروع. ونجم عن ذلك ميلٌ لدى قوى لبنانية عديدة داخل وخارج الحكم إلى تصنيفٍ مصنوع لغاية المناورة أو التهدئة يضع السيد نصرالله بين شخصيات الاعتدال الاسلامية جنباً إلى جنب مع السيدين الحريري وبري كما فعل رئيس الجمهورية في حديثه الاخير إلى تلفزيون «المستقبل» رغم أن جانبه الأهم تركز على دعوته إلى «ان يعيد النظر بإقحام المقاومة في سورية ويعود الى لبنان»، وعدم التورط بفتح جبهة الجولان.

الا ان تحول التداخل إلى تلاحمٍ ميداني في هجومٍ تتوِّجْه قيادة ايرانية مباشرة لا بد أن يحرج الجميع ويكشف أن ما كان يُعتبَر عادياً لم يكن سوى مرحلة حضانة موضوعية للتدخل الهجومي المكشوف وأن الحزب مُعّدٌ ايديولوجياً وسياسياً للتحول بقرار من المركز الإيراني لـ «لأممية» الخمينية إلى جيشٍ وأجهزة أمنية عابريْن للحدود، وهي وضعية كان جرى اختبار بعضاً من صورها في العراق وغزة وعلى امتداد العالم.

والحال أن التوتر انتقل منذ إشهار «حزب الله» هجومه في القصير واشتراكه في اماكن اخرى بعيدة من المقامات والمراقد من المستوى السياسي – الاعلامي المتضمن محتوى أمنياً محدوداً (الشيخ احمد الأسير الصيداوي كأحد أبرز معالمه) إلى توتر أمني دائم يتضمن تظهير قدر محدود من السياسة والكثير من الاصطفاف المذهبي. وتقدم اللوحة اليوم المزيد من العناصر المقلقة:

– توترات مذهبية عسكرية الطابع في طرابلس التي يتواجه فيها رمزياً طرفا «الصراع السني – الشيعي»، وأخرى يغلب عليها الطابع الاعلامي المستدام في صيدا وتختزن احتمال نقلة أمنية خطيرة كمدينة حاجزة بين الجنوب والضاحية وكأحد أهم مراكز اللجوء الفلسطيني.

– توترات حدودية متداخلة مع الانقسام المذهبي ومُقحِمَة للأهالي واستطراداً للنازحين السوريين بينهم على جانبي الحدود شمالاً وشرقاً في عكار وعرسال والهرمل.

– توترات أمنية متقطعة يرشح منها توتير مذهبي مباشر في بيروت او جانبي (الجبل /الضاحية).

وضمن هذا الاطار شهدت الفترة الأخيرة جملة احداث على المستويات الثلاثة يختلط فيها المُدبَّر بالعفوي والعرضي. فجرى قتل ثلاثة جنودٍ لبنانيين في وادي الحميد قرب عرسال وتراوحت الاتهامات بالعملية بين النصرة وبين جنود النظام الاسدي. وقُبيل ذلك قُتِلَ ثلاثة جنودٍ آخرين بطرابلس في اشتباكات واسعة واجهت باب التبانة السُنية بجبل محسن العلوي وخرج فيها «قادة المحاور» على قرارات ممثلي طرابلس في حين ازدهرت الشائعات والتحليلات المتناقضة عن مصير الأخير في فرضية سقوط «القصير» السورية. وجرى إطلاق صاروخين من عيتات القريبة من بيروت على الضاحية ليُوحي معلقون «ممانعون» بنسبتها إلى جنبلاط في محاولة لابتزازه واستدراج ضغوط جديدة عليه بما وما يمثل في الموقف من الموضوع السوري وملف « تحالف الأقليات».

سياقٌ يجعل من اقتراح تساوي اللبنانيين الشكلي بالقتال في سورية وتقديمه بمثابة «حلٍ» يضمن الحفاظ على «السلم الأهلي» اللبناني لعبة تحجيبٍ لحفظ هيمنته وتقليل جبهاته والإنصراف إلى حربه المركزية. وهو عدا جانبه اللاأخلاقي وغير الانساني والفوقي المستهين بتضحيات السوريين وآمالهم، لا يفعل غير تهديد هذا السلم بصورة أخطر من أي وقتٍ مضى لأنه يضيف آلية جديدة لانتقال الحرب المُضمرَة ومكونها المذهبي إلى مرحلة التفجير الشامل وجعل لبنان مركزاً للحرب الإقليمية التي يهدد بها النظام الأسدي كأداة لخلاصه. إنه الجمع المستحيل بين حرب لبنانية في سورية وسلم في لبنان.

* كاتب لبناني

الحياة

الحسم الذي استبق اجتماع جنيف بساعات

    روزانا بومنصف

وضع “حزب الله” كل ثقله العسكري الى جانب النظام السوري من اجل استعادة مدينة القصير التي يخوض الحرب فيها منذ اكثر من شهر وكانت تحت سيطرة الثوار السوريين قبيل انعقاد اجتماع اميركي روسي في جنيف امس الاربعاء من اجل البحث في سبل انعقاد مؤتمر جنيف 2، في ما يفترض ان يعزز الموقف الروسي اكثر للضغط من اجل شروط لمصلحة النظام ولي ذراع القوى الدولية الداعمة للمعارضة السورية. لا تنهي معركة القصير الحرب في سوريا بل هي جولة من جولاتها الكثيرة تماما كما كانت معركة بابا عمرو في حمص بالنسبة الى النظام لدى محاولة اعداد اول قرار في مجلس الامن حول سوريا. لكن توقيت الحسم لا ينفصل اطلاقا عن الاجتماع التحضيري لمؤتمر جنيف 2 خصوصا انه كان مقدرا الا تأخذ معركة القصير كل هذه المدة مع جمع النظام والحزب قواهما العسكرية من اجل استعادة المدينة منذ انطلق الكلام على مؤتمر ثان حول سوريا. ويأتي هذا الحسم على اثر تصعيد روسي في الاسبوعين الاخيرين على نحو اكتسب دلالات كبيرة بالنسبة الى مراقبين ديبلوماسيين سجلوا استقواء روسيا على الولايات المتحدة والدول الغربية في هذا الاطار. اذ ان روسيا عطلت الاسبوع الماضي مشروع بيان عن مجلس الامن الدولي يدين حصار النظام السوري للقصير في عز الاتصالات والمساعي من اجل عقد مؤتمر جنيف 2 كما توج هذا التصعيد مواقف اعلنها قبل يومين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالذات على اثر نتائج القمة الروسية الاوروبية بدا فيها متحديا للغرب ولو في مواقف متناقضة كليا للقيادة الروسية. ولاعلان بوتين اهميته نظرا الى ما يظهره التزام الرئاسة الروسية المسألة السورية في مقابل عدم التزامها من الرئاسة الاميركية وترك وزير الخارجية جون كيري يقود الجهود من دون دعم ضاغط من ادارته مما يخفف سلطته او اتخاذه قرارات قوية خشية تعرضه لانتقادات من البيت الابيض. وهذه الخاصرة الاميركية الرخوة استفاد منها بوتين ليعلن “ان لا تراجع عن تسليم بشار الاسد صواريخ اس 300” مبررا الامر بالمعزوفة الروسية من ان “صادرات الاسلحة تجري وفق عقود شفافة ولا تنتهك القواعد الدولية” ومنتقدا بقوة القرار الاوروبي رفع الحظر عن مد الثوار السوريين بالاسلحة كما احتمال نقل صواريخ باتريوت الى الاردن. اذ تبيح موسكو لنفسها مد النظام باسلحة استراتيجية خطيرة، ولو ان ذلك يدخل في اطار المساومة مع الولايات المتحدة التي لن تقبل تسليم هذا النوع من الصواريخ الى سوريا كما رفضت تسليم روسيا صواريخ مماثلة لايران قبل اعوام خصوصا ان النفوذ في سوريا بات لايران ومن غير المستبعد ان تنتقل الصواريخ بين البلدين بموجب قانون الاوعية المتصلة بين البلدين. وذلك في الوقت الذي تتهم فيه موسكو الدول الغربية “بانها تكدس الاسلحة في منطقة متفجرة” تعليقا على تسليم الاردن صواريخ ارض جو من طراز باتريوت. وقالت الخارجية الروسية على نحو لافت “انه لا بد من ان نلاحظ ان الاسلحة تنشر على مقربة من سوريا التي تشهد نزاعا مدمرا منذ اكثر من سنتين” تزامنا مع ارسالها صواريخ استراتيجية الى سوريا نفسها.

وتستقوي روسيا اكثر بالتطور لمصلحة النظام في القصير ووصله الطريق الى حمص وحماه والمناطق التي يمكن ان ينكفئ اليها الرئيس السوري في حال اشتداد الضغط عليه وفق سيناريوات تحدثت عن انشاء كيانات مذهبية من اجل ارغامه على الرحيل بحيث يمكن ان تستخدم موسكو هذه الورقة المهمة من اجل تحذير الغرب من اجل عدم الدفع نحو التقسيم الذي يصبح محتملا في حال اضطر الاسد الى ذلك. وبما ان الولايات المتحدة والغرب لا يريدون التقسيم ولا يحبذون على الارجح انكفاء روسيا ايضا الى موطئ قدمها في طرطوس والمدن الساحلية السورية فان الامر يشكل عاملا ضاغطا على الغرب في المفاوضات في جنيف 2.

التطورات نفسها قد تحفز في رأي مصادر مراقبة الغرب في اتجاه تنفيذ قرار تسليح المعارضة السورية من اجل ارساء توازن على الارض بينها وبين النظام علما ان المواقف الاميركية والاوروبية بدت ضعيفة امام تصميم الروس وايران على مساعدة النظام واعتماده على “حزب الله” من اجل اعادة السيطرة على القصير. وهذا الضعف بالذات هو الذي اتاح للنظام تجاوز خط احمر بعد اخر من دون اي رد فعل رادع بما في ذلك الجدل الاوروبي الاميركي حول صحة استخدام النظام اسلحة كيماوية ضد شعبه في الايام الاخيرة.

النهار

من غيرنيكا إلى القصير

    هشام ملحم

للدول والاطراف الخارجيين دور مهم في الحرب الاهلية السورية، مماثل لدور الاطراف الخارجيين في الحرب الاهلية الاسبانية. اذا كان هدف قرار الاتحاد الاوروبي انهاء حظر الاسلحة عن المعارضة السورية تكثيف الضغوط على النظام السوري لارغامه على التفاوض في مؤتمر جنيف – 2، من الواضح الان انه أدى الى نتائج عكسية. ومن المؤكد الآن ان الدول التي كانت تلوح بتسليح المعارضة مثل فرنسا وبريطانيا لا تعتزم في أي وقت قريب، وقطعا ليس قبل مؤتمر جنيف، تزويد المعارضة بأسلحة. عمليا، موقف هذه الدول مطابق الان لموقف واشنطن في هذا المجال.

سياسيا، سهّل القرار الاوروبي على روسيا اتخاذ موقف أكثر تصلبا من تسليح النظام السوري، كما وفّر الغطاء لقوات النظام والعناصر العسكرية الايرانية ومقاتلي “حزب الله” لتصعيد هجماتهم العسكرية على مختلف الجبهات وتحديدا في القصير التي اكتسبت أهمية سياسية واستراتيجية ورمزية أكثر من أي مدينة او بلدة سورية زارتها الحرب بوحشية بالغة. ومن المرجح ان تكتسب القصير في الحرب السورية الاهمية السياسية والرمزية التي اكتسبتها بلدة غيرنيكا في الحرب الاهلية الاسبانية، والتي خلدها الرسام بيكاسو في احدى أهم اللوحات في القرن العشرين.

تفصل بين غيرنيكا والقصير مسافة شاسعة، ولكن يربطهما خط طويل من الدم. البلدتان دمرتا تماما، في قتال استهدف المدنيين. في غيرنيكا كما في القصير كان رأس الحربة طرف خارجي. الغارات التي شنتها طائرات المانية وايطالية (كجزء من الدعم الفاشي والنازي لليمين الاسباني) هي التي دمرت غيرنيكا في 1937 في غارات أولى من نوعها على أهداف مدنية. في القصير، قوات “حزب الله” اللبناني هي التي تحاصر المدينة وتدكها. في اسبانيا كان للدعم النازي والفاشي لقوات الجنرال فرانكو، واستخدامه المكثف للجنود المغاربة، دور محوري في كسبه الحرب. في سوريا، تضطلع ايران وحزب الله بدور عسكري محوري منع حتى الان على الاقل، انهيار النظام.

للحربين في اسبانيا وسوريا بعد “عقائدي” حولهما الى صراع وجودي. في اسبانيا كانت الحرب في المطلق بين اليمين واليسار (الكاثوليك والملحدين؟). وفي سوريا تكتسب الحرب مع كل يوم بعدا مذهبيا قبيحا يعكس الاستقطاب المذهبي في المنطقة بين السنّة والشيعة. الخطاب الاخير لزعيم “حزب الله” حسن نصرالله كان خطابا مذهبيا شيعيا بامتياز لم تخفه كل التوريات والفذلكات اللغوية. يوسف قرضاوي رد بخطاب مذهبي سنّي مماثل. صحيح ان العمامتين مختلفتان، ولكن الخطاب المذهبي واحد. حرب اسبانيا حرقت القارة الاوروبية. قريبا سوف نتحدث عن العنف المذهبي في سوريا والعراق ولبنان على انه عنف يدور على جبهة واحدة.

النهار

القصير بيد النظام

رند صباغ

بعد معركةٍ دامية، استمرت قرابة العشرين يوماً في مدينة القصير، ما بين كتائب المعارضة المسلحة وقوات النظام مع حليفه اللبناني “حزب الله”، أعلن صباح الأربعاء عن سقوط المدينة في يد الأخير، وتطهيرها “من الإرهابيين” عقب حصارها من أربع جهات وقصفها بمختلف أنواع الأسلحة والمدفعيات.

بعد وقف إطلاق النار مدة 24 ساعة سارع “حزب الله” والنظام للتصعيد العسكري، ليمطروا المدينة بما يزيد عن 2000 قذيفة وصاروخ من بينهم 12 صاروخ أرض- أرض، ما أدى إلى سقوط 1100 جريح.

يشير أبو المعتصم الحمصي الناشط الإعلامي في المدينة إلى أن عدد المدنيين المتبقين هناك يصل إلى 15 ألفاً، ويضيف “كنا مجبرين على الإنسحاب لتأمين الجرحى، حيث تم إيصالهم إلى شمال القصير (البويضة والضبعة) التي ما زالت محاصرةً حتى اللحظة فيما استمرت الاشتباكات والقصف على الريف الشمالي”، ويصف الحالة الإنسانية بأنها مخيفة لكثافة الجرحى والشح بالمواد الغذائية والطبية.

عن ذلك يقول أحد السكان، “في السابعة مساءً من ليلة الثلاثاء كان الهدوء نسبياً على الجبهة، لتبدأ بشكلٍ مفاجئ النيران، ويتم الاقتحام من ثلاثة محاور، الجنوب والشرق والغرب، حيث تم إخلاء طريق الضبعة عمداً ليتم الإيقاع بالمعارضة”.

واعتمدت قوات النظام وعناصر “حزب الله” مجموعة من المواقع لتسديد الضربات إلى القصير منها قرية آبل، ومطار الضبعة، وكتيبة أم الصخر، واللواء 72، وكتيبة شنشار. وكان سلاح الجو المفصل الأساسي في المعركة فمن خلال أربع غارات جوية تم قصف المدينة بقنابل نقلت المصادر أنها عنقودية، وكانت الشبكة السورية لحقوق الأنسان قد وثقت مقتل 273 شخصاً وإصابة أكثر من 2400 بينهم 1800 مدني و230 طفلاً و170 امرأة في القصير.

ألفا مقاتل من المعارضة المسلحة اجتمعوا في القصير (بحسب ما أفادت تنسيقية القصير) منهم ألف مقاتل كانوا ضمن الكتائب الموجودة في المنطقة، ومثلهم انضموا خلال الأيام الماضية إثر تعرض القصير للحصار والقصف المتواصل، وتشير الأنباء إلى مقتل أكثر من ربع هذا العدد، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى والمصابين، حتى أشار بعض المصادر إلى صمود ما لا يتجاوز الـ 400 مقاتل من المعارضة في الأسبوع الأخير كانوا يغطون الجبهات المختلفة لتغطية انسحاب المدنيين والجرحى.

وفي الوقت الذي تحدث فيه التلفزيون السوري الرسمي عن استعادة قواته السيطرة على كامل المدينة، أشارت أنباء من الداخل إلى أن عناصر “الحر” ومن بينهم عبد الجبار العكيدي أحد أبرز قادرة المعارضة المسلحة ما زالوا محاصرين في المدينة برفقة من تبقى من المدنيين في الحي الشمالي منها، وسط مخاوف من مجازر قد تحصل بحق السكان، بالأخص وأن النظام لم يسمح بإجلاء الجرحى من مناطق المعارك.

وأتى إعلان الجيش الحر الانسحاب من القصير بعدما وصفه بالمذبحة التي تم ارتكابها من قوات النظام ومقاتلي “حزب الله”، والتي أسفرت عن مقتل المئات بحسب وكالة “رويترز”، بعد ساعاتٍ من إعلان النظام استعادة قواته للمدينة،  كما أشار بيان الجيش الحر الذي نشرته رويترز أن الانسحاب أتى بسبب “نقص الإمدادات وتدخل حزب الله الصارخ وبقي عشرات المقاتلين في الصفوف الخلفية لتأمين انسحاب زملائهم والمدنيين”.

القصير التي خطفت ألاضواء، حتى بلغ الظن أنها تشكل المفصل الأساسي في الثورة وميزان نجاحها أو سقوطها، يصفها ناشطون ميدانيون بأنها إحدى معارك الثورة وأن ما جرى من تسليطٍ للأضواء عليها وإغفال نظيراتها من المناطق المشتعلة، ما هو إلا من جهة محاولة من النظام لتعظيم إمكانياته العسكرية، ومن جهة أخرى للتضليل عما يحصل في جبهة العاصمة الرئيسية (الغوطة الشرقية)، بينما يرى آخرون أن ما قدمته القصير كان عظيماً جداً وخاصةً في ما يتعلق بكشف الأطراف الخارجية التي تدخلت عسكرياً إلى جانب النظام.

المدن

القصير: نصر الله قلب المعادلة

عبد الباري عطوان

هذه ‘الاحتفالات’ التي جرت في الضاحية الجنوبية من بيروت وفي قلب العاصمة السورية دمشق، بعد الاعلان عن سيطرة الجيش السوري والقوات التابعة لحزب الله اللبناني على منطقة القصير بعد اسابيع من المعارك الشرسة، ربما تؤدي الى اطلاق رصاصة الرحمة على مؤتمر جنيف رقم 2، وزيادة احتمالات التدخل العسكري الغربي في الأزمة السورية.

الاستيلاء على مدينة القصير هو اكبر انجاز يحققه النظام السوري وحلفاؤه منذ انفجار الأزمة في سورية قبل عامين وشهرين، ولا بد ان قوات حزب الله التي تتمتع بخبرات كبيرة في حرب العصابات، والشق المتعلق منها بالانفاق على وجه الخصوص، لعبت دورا كبيرا في قلب معادلات الجغرافيا والتاريخ وترجيح الكفة لصالح النظام بعد ان مني بهزائم عديدة ادت الى خسارته مناطق عديدة في حلب وادلب ومعرة النعمان في الشمال الغربي، ودير الزور والرقة والحسكة في الشمال الشرقي.

الاستيلاء على القصير سيعطي جرعة كبيرة من الثقة للنظام وقواته النظامية، وسيوجه ضربة معنوية كبيرة للمعارضة المسلحة في المقابل، وهذا يتضح بشكل كبير في الاحتفالات المتواصلة في المعسكر الاول، وحالة الغضب المسيطرة على المعسكر الثاني، انعكست في بيان اصدره الائتلاف الوطني السوري اعترف فيه بالهزيمة ‘التي جاءت بعد 48 يوما من الصمود وبعد ملاحم بطولية قدمها الجيش السوري الحر في الدفاع عن المدنيين’.

وقال ان هذه الهزيمة ‘ناجمة عن الخلل الهائل في ميزان القوى’، ووجه اللوم الى اصدقاء الشعب السوري الذين خذلوا المعارضة ولم يقدموا لها الدعم اللازم بما يمكنها من اصلاح هذا الخلل.

‘ ‘ ‘

لا جدال بأن القوى الغربية والعربية التي دعمت وتدعم المعارضة السورية بالمال والسلاح تشعر بحرج كبير من جراء هذا الانتصار للنظام السوري وحلفائه، ولكنها كانت تريده وتؤيده في الباطن لان ضحايا المجازر التي وقعت وتقع في منطقة القصير بعد الاستيلاء عليها، هم من التنظيمات الجهادية وجبهة النصرة واحرار الشام على وجه التحديد، وهذا ما يفسر عدم الاهتمام الاعلامي المعتاد بهذه المجازر.

القوى الغربية تلتقي مع النظام السوري وحزب الله على ارضية تصفية هذه الجماعات الجهادية باعتبارها الخطر الاكبر العابر للحدود، ولذلك قليلة هي الصور والوثائق عن الضحايا واعدادهم وجثامينهم.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن ليس حول المكاسب الاستراتيجية لهذا الانجاز بالنسبة الى النظام السوري، فهي بلا شك ضخمة بالمقاييس السياسية والعسكرية، وانما حول رد الفعل المتوقع من قبل الدول الداعمة للمعارضة السورية؟

عودة الحديث وبشكل قوي من قبل كل من بريطانيا وفرنسا، وفي توقيت لافت، اي بعد ساعات من حسم المعركة في القصير، عن وجود ادلة قوية عن استخدام النظام غاز السارين في سورية، قد تعطي اجابة على بعض جوانب هذا التساؤل، وعلينا ان نتذكر ان البلدين هما اللذان قادا عمليات حلف الناتو في ليبيا، ومن قواعده في جنوب ايطاليا انطلقت الطائرات البريطانية والفرنسية لقصف طرابلس وسرت وبني الوليد وباقي المدن الليبية، تحت ذريعة حماية المدنيين الليبيين من مجازر كان يعدّ لها نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي.

الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها الدول الغربية والحكومات العربية الاخرى المحرّضة لها على التدخل في سورية هي سوء تقدير قوة النظام السوري والقوى الداخلية الداعمة له، وتماسك جيشه، والاطراف الاقليمية التي تعتبر سقوطه خطا احمر مثل ايران وحزب الله.

الحرب في سورية وعليها اصبحت حربا طائفية صرفة، فتحت ستار حماية الاضرحة والمزارات يتدفق آلاف المتطوعين الشيعة من العراق ولبنان وايران الى دمشق للقتال الى جانب النظام، والانخراط في كتائب اشهرها كتيبة ‘ابو الفضل العباس′، بينما يتدفق متطوعون سنة من لبنان والعراق والخليج وتونس وليبيا للقتال الى جانب الجماعات الجهادية المتشددة.

‘ ‘ ‘

الحرب في سورية ستطول حتما، والحديث عن سقوط النظام بات يتراجع بسرعة، ومعه ايضا المطالبات بتنحي الرئيس الاسد كشرط لأي حلّ سياسي يمكن التوصل اليه في مؤتمر جنيف ال، الذي تأجل موعد انعقاده الى شهر تموز المقبل هذا اذا انعقد في الاساس.

سقوط القصير في ايدي قوات النظام السوري نقطة تحول رئيسية فارقة في هذه الحرب، لا تقل اهمية عن قرار عسكرة الانتفاضة، او استيلاء قوات المعارضة على مدن رئيسية مثل الرقة والحسكة ومعظم مدينة حلب وريفها. وهذا ما يفسر مسارعة القيادة الايرانية للتهنئة بهذا الانتصار الكبير.

استراتيجية النظام السوري في الانتقال من مرحلة الصمود الى مرحلة الهجوم بدأت تحقق نجاحا ملموسا على الارض، ولا نستغرب، او نستبعد ان تتحول حلب الى المرحلة الثانية في هذه الاستراتيجية بعد سقوط مدينة القصير.

في بداية الازمة السورية كان النظام السوري قلقا على مصيره في ظل توحد 150 دولة ضده (اصدقاء سورية)، وتدفق اسلحة ومتطوعين ومئات الملايين من الدولارات لقتاله والتسريع بسقوطه، وزيادة المبشرين بأن ايامه باتت معدودة، الآن انتقل القلق بل والرعب الى هؤلاء، فدول الخليج الداعمة الرئيسية للمعارضة السورية، ترتجف مع كل يوم يصمد فيه النظام، ناهيك عن تحقيق انجازات عسكرية على الارض، وتركيا الخصم الاكبر تعيش انتفاضة شعبية تزداد اشتعالا يوما بعد يوم تذكر بنظيراتها في تونس والقاهرة وصنعاء ودرعا، اما الاردن فيعيش حالة ارتباك غير مسبوقة، بينما فضلت مصر مسك العصا من الوسط.

استطيع ان المح ابتسامة ربما هي الاولى منذ عامين على وجه الاسد، ولا اعرف ما اذا كانت ستتبعها ابتسامات اخرى في الاسابيع والاشهر المقبلة، وان كنا لا نرى حتى الآن ما يوحي بعكس ذلك!

القدس العربي

طريق فلسطين لا تمرُّ بالقصير

أمجد ناصر

مهرجان ‘الوعد الصادق’

أيلول 2006

‘كان بإمكان حسن نصرالله أن يلقي خطاباً متلفزاً على الجموع الغفيرة التي جاءت تحتفل بـ ‘النصر الإلهي’، فالجميع يعرف أن رأسه هي الأثمن على قائمة الأهداف الاسرائيلية التي لا تضم زعيماً عربياً، وكان بإمكان جمهوره أن يتفهّم اطلالة زعيمه المحبوب عبر شاشة تلفزيون. فالحرب لم تضع أوزارها. واسرائيل لم تشّف من جراحها. وقادتها حائرون في تقديم كشف مقنع بـ ‘انتصارهم’ لجمهورهم المصدوم بجيشهم الذي لا يقهر، سوى، طبعاً انجازهم الفضائحي في تدمير البيوت والطرق والجسور ومولدات الكهرباء والجوامع والكنائس.. وقنص أرواح النساء والرجال والأطفال.

كان بإمكان حسن نصرالله أن يظهر بالصوت والصورة على شاشة عملاقة.

وكان الجميع سيتفهم ذلك.

ولكنه لم يفعل.

فجاء الى مهرجان ‘الوعد الصادق’ المتوج بـ ‘النصر الإلهي’ بلحيته وعمامته وعباءته ولحمه ودمه .. وعرقه الذي تصبَّب من فرط التأثر بوفاء تلك الجموع التي لم يفتَّ في عضدها ما أنزلته اسرائيل بها من نوازل.

لم يظهر نصرالله علناً، رغم المخاطر الحقيقية على حياته، لأنه شجاع فقط، فالشجاعة في ميزان لحظة سياسية راعفة كهذه لا تعني إعطاء عدوك فرصة النيل منك، بل جاء الى المهرجان لأنه أراد القول، كذلك، إنَّ حياته ليست أهم من حياة الذين قدموا أرواحهم في جبهة القتال، ولا أغلى من حياة الأبرياء الذين انتقم الاسرائيليون منهم لعجزهم عن الاجهاز على مقاتلي المقاومة.

فهو ليس ‘بيكاً’ ولا ‘ابن بيك’ وإنما رجل طلع من بينهم، مثلهم، على صورتهم وهيئتهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.

هذا درس آخر من قيادة حركة مقاومة شعبية كحزب الله يضاف الى دروس أخرى في ترابط القول بالفعل والشجاعة بالتخطيط والايمان بالجاهزية والصلابة بالمرونة.

وكان بامكان حسن نصرالله، أيضاً، أن يستطرد في حديث النصر والانتصار مرصِّعاً كلامه بعشرات الاقتباسات من المعلقين العسكريين والسياسيين الاسرائيليين عن حجم الذهول الذي أصابهم من ضراوة قتال المقاومة وفرادة تكتيكاتها، والأهم من شجاعة مقاتليها، ولكنه لم يفعل.

قال ما كان ينبغي أن يقوله للرد، ليس على الاسرائيليين للأسف، ولكن على بعض اللبنانيين والعرب الذي سعى، أكثر من الاسرائيليين، لتجريد المقاومة من انتصارها في الميدان وتحميلها وزر الحرب وما أحدثته من خراب، ووضعها في مأزق سياسي لا يتوقعه المنتصرون عادة من ذويهم.

رجلٌ قويٌّ منتصرٌ ومؤيدٌ بجمهور كبير لم يخذله مثل حسن نصرالله كان بإمكانه أن يستقوي، بهذا الإرث الصلب، على خصومه الداخليين الذين لم يتوقف بعضهم عن (كشف ظهره سياسياً) حتى في أحلك الظروف ولكنه، أيضاً، لم يفعل.

إنه يعرف انقسامات ساحته السياسية المزمنة ولم يزد الانقسام حدة.

يعرف أن سلاح المقاومة لا يلقى إجماعاً سياسياً داخلياً في لحظة عربية مختلة فقدَّم حلاً له. قال إن الحل في حكومة وحدة وطنية تؤسس لدولة قوية عادلة تستوعب السلاح والمسلحين وتتمثلهم في برنامج وطني. أما تجريد سلاح المقاومة بالقوة، خصوصا بعد انجازها الأخير، فقد ذكَّرهم بقول وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني أن لا قوة في العالم تستطيع فعل ذلك’.

غزوة ‘القصير’

أيار 2013

كلا، ليس هناك خطأ. لا في الكلمات ولا في المناسبة. فتلك هي الكلمات التي كتبتُها عن السيد حسن نصر الله و’حزب الله’ بعدما وضعت حرب تموز (يوليو) مقاتلي ‘الحزب’ وأمينه العام في سواد عيون العرب. كل كلمة في الفقرة السابقة كنت أعنيها بالضبط. كان ذلك قليلاً على مقاتلين عربٍ شرخوا أسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر ولطخوا سمعته العسكرية الظافرة التي اكتسبها في حروبه مع أنظمة عربية مهزومة سلفاً. لم تكن حرب تموز 2006 خدعة كي نصل الى ما وصلنا اليه الآن. لا أحد يقاتل بتلك الضراوة في حرب ‘تكتيكية’ لها غرض آخر غير ما يبديه واقعها. وليس من العدل أن نفسر أهداف تلك الحرب بأثر رجعي: أي بصورة ‘حزب الله’ بيننا اليوم. وهي، للأسف، تتناقض 180 درجة مع صورته التي خرج بها منتصراً مرتين: الأولى عندما أرغم وزير الحرب الاسرائيلي باراك على الانسحاب من معظم المناطق المحتلة في جنوب لبنان ربيع عام 2000، والثانية عندما تمكن من كسر شوكة اسرائيل وتمريغ أنفها المتغطرس في وحول صيف 2006 الدامي.

الفقرة السابقة من هذا المقال تعكس، كما هو واضح، إعجابي منقطع النظير بـ ‘حزب الله’ وزعيمه ومقاومتهما التي سطرت درساً لا ينسى في مواجهة العدو الاسرائيلي. فما الذي تغير كي تكون الفقرة الثانية من هذا المقال نقيض الفقرة الأولى؟

بل من الذي تغير؟

‘حزب الله’ أم أنا؟

وقائع هذا العام الدامي في سورية تقول إن ‘حزب الله’ هو الذي تغير، على الأقل، كما كنت أتصوره وكما عكسته كلماتي الحماسية أعلاه، رغم أني أكاد أسمع من يقول وأنا أكتب هذه الكلمات إن ‘حزب الله’ لم يتغير قيد أنملة. فولاؤه الأعمى لولاية الفقيه لم يفتر له همَّة، وعلاقته العضوية بالنظام السوري هي نفسها، وبنيته الدينية المذهبية هي ذاتها، وتمويله من قبل إيران ودورانه في فلكها السياسي لم يطرأ عليهما أدنى تعديل أو تغيير. لا شيء إذن تغير في ‘جوهر’ حزب الله.

هذا زعم لم يكتسب أنصاراً ووجاهة إلا بعدما انخرط ‘الحزب’ علناً وبكل قواه في معركة بشار الأسد ضد شعبه. كان الزعم السابق موجوداً طوال الوقت، ولكنا كنا نرد عليه، نحن الذين آمنا بصلابة أرضية موقف ‘حزب الله’ ضد اسرائيل وتكريس نفسه لمقاومتها، بعشرات الأمثلة التي تدعم إيماننا ذاك. وهذا ما كان يهمنا. لم يكن لمثل تلك التوصيفات التي كانت تخلع على ‘حزب الله’ من قبل فريق عربي مهزوم من الداخل أصلاً، أية أهمية عندي (وكثيرين غيري) ما دامت بوصلة ‘الحزب’ السياسية وبندقيته تشيران الى جهة الجنوب.

أن يكون ‘حزب الله’ سنياً، شيعياً، علوياً، زيدياً، إسماعيلياً، أباضياً، درزياً، ليس أمراً مهماً في حدِّ ذاته ما دامت بندقيته مصوبة الى عدونا التاريخي الذي لا عدو لنا غيره. أنا العلماني اليساري من الذين يؤمنون، بكل جوارحهم، أن وجود مسيحيين ويهود وسنَّة وشيعة وعلويين ودروز وإسماعيليين وأباضيين ولا دينيين أغنى تراثنا في الماضي، وهو علامة غنى وتنوع في الحاضر.. أو هكذا يجب أن يكون.

إذن، لا شيعيِّة ‘حزب الله’ ولا إيمانه بولاية الفقيه، ولا حتى اعتباره نظام بشار الأسد ‘مقاوماً’ و’ممانعاً’ هي التي قلبت صورته عندي (وكثيرين غيري) رأساً على عقب، بل ولوغه في الدم السوري، والأسوأ تضليله لجمهوره بالقول إن حماية جنوب لبنان (والمقاومة) والطريق الى فلسطين يمران بالقصير وحلب وريف دمشق.

هذه هي المشكلة مع ‘حزب الله’ وهذا ما لا يمكن قبوله منه. فالسيد حسن نصر الله يعلم أن ‘الناقورة’ و’بنت جبيل’ و’مرجعيون’ و’الخيام’ أقرب الى فلسطين، بكل المعاني، من ‘القصير’ وريف دمشق وحلب. تلك طريق أقصر وأسلم وأكثر وطنية وهي طريق ‘المقاومة’، ولا طريق للمقاومة (أو فلسطين المسكينة التي طالما كانت دريئة للإستبداد والفساد) سواها.

يحق لي أنا الذي آمن، طويلا، بمقاومة ‘حزب الله’ وما سطره من دروس لا تُنسى على هذا الصعيد أن أعلن فجيعتي بولوغه في الدم السوري وتغطية جريمته هناك بقميص فلسطين.

تلك هي طريق فلسطين واضحة وضوح شمس الجنوب اللبناني وليس هناك من يسير عليها.

أما القتال في ‘القصير’ وغيرها من المناطق السورية فيؤدي فقط الى الجحيم.

وعلى الطريق الى الجحيم لا يسقط الشهداء.

القدس العربي

في ما بعد معركة القُصير

ساطع نور الدين

  الخاتمة الحزينة لمعركة القُصير تستلزم الاعتراف بان نظام الرئيس بشار الأسد أقوى بكثير مما كان يعتقد، وأقوى بما لا يقاس من جميع معارضيه. مقياس القوة ليس عسكريا فقط، وان كان الجيش السوري الذي يقاتل على جبهات عديدة منذ اكثر من عامين متواصلين يقدم صورة مذهلة ومخيفة في آن، عن آلة عسكرية لا تُهزم ، ولا ترحم.

    هي مفاجأة فعلا ان تكشف الحرب الأهلية السورية عن جيش متماسك شديد الانضباط والتنظيم، يعتمد على تعبئة سياسية مؤثرة وحوافز قتالية حاسمة، ويمتلك اسلحة فتاكة، وقوة نارية هائلة.. وقدرة على تحريك ألويته ووحداته على مساحة جغرافية واسعة، من دون اي خلل او حتى تعب في منظومة القيادة والعمليات.

  لم يعد هناك مجال للشك في المعلومات المتداولة منذ مدة عن ان هذا الجيش، الذي خرج من مغامرته اللبنانية الطويلة في العام ٢٠٠٥، معطوبا، قد أعيد بناؤه كليا وأنفقت  مليارات الدولارات على عملية إعادة تنظيمه وتسليحه وتدريبه.. بحيث يبدو اليوم وكأن النظام كان يترقب مثل هذه المعركة الداخلية، لا سيما وانه، كما يفيد الخبراء، لم يخصص الكثير من الميزانية العسكرية للأسلحة الهجومية التي تفيد في تصحيح بعض الخلل في موازين القوى مع العدو الإسرائيلي.

  لذلك كان الروس يؤكدون منذ اللحظة الأولى لتحول الثورة الشعبية السورية الى مواجهة مسلحة مع النظام، ان الجيش السوري لن يهزم في ميادين القتال مع اي قوة او قوى محلية. ولذلك ايضا كان الخبراء يجزمون في ان ذلك الجيش سيقاتل بضراوة، استنادا الى حرفيته العسكرية ، قبل عقيدته السياسية او عصبيته الطائفية.. التي ثبت أنها ليست جازمة في أدائه خصوصا وانه لا يزال يعتمد حتى اللحظة على غالبية مقاتلة من ابناء الطائفة الأكبر في سوريا، فضلا عن الطوائف الأخرى.

  العامل الوحيد الذي يثير الحيرة هو ان ذلك الجيش بتركيبته المتنوعة والصلبة، لا يتردد ولا يتورع عن استخدام مختلف أنواع أسلحته الجوية والبرية والصاروخية وقدراته النارية وحتى الكيميائية، بشكل مفرط وغير متناسب مع حجم التهديد، ضد مدن وبلدات وقرى يفترض أنها تمثل البيئات الحاضنة للمؤسسة العسكرية. وهو ما ساهم ويساهم في تأجيج الثورة وتجذرها، نتيجة العدد المرعب من الضحايا المدنيين. كان خارج التصور الى حد ما ان تشهد سماء سوريا يوميا هذا العدد من الطائرات الحربية والصواريخ البعيدة المدى.

  نسب الى الأسد مرة انه يفرط في استخدام القوة لانه يريد تصفية المعارضين خاصة وتأديب السوريين عموما. لكن الجيش الذي ينفذ مثل هذا الأمر بحماسة شديدة حتى الان، لا يبدو ان دافعه هو الخوف من قائده الأعلى كما يقال بين الحين والاخر .. مثلما لا يمكن ان يكون حافزه هو محاربة المشروع الاميركي الصهيوني الذي كان يمكن لذلك الجيش قبل سواه ان يعثر على معالمه وأدلته على جبهات القتال السورية. الإرهابيون والتكفيريون الذين كانوا حتى الامس القريب قلة قليلة، ليسوا سببا كافيا لاطلاق مثل هذه الحملة العسكرية الشرسة، ولا طبعا مبررا لها.

  كان الروس على حق منذ البداية. وكان الجميع على علم كما يبدو، عدا المعارضة السورية التي هزمت في القُصير.. لان انتصارها ما زال ممنوعا.

المدن

القصير الآن ومزارع شبعا وقرية الغجر ثم الأندلس في المشمش

نهاد إسماعيل

يبدو ان عضو مجلس الشعب السوري أحمد شلاش في عجلة من أمره حيث أنه قال في لقاء مع إحدى القنوات التلفزيونية بطريقة حماسية “طالما نحن تحت قيادة الرئيس بشار الأسد، نحن رايحين لآخر معمر الله، وما نستبعد بوجود رجال الله أن نسترجع الأندلس”.

على مهلك يا عضو مجلس الشعب لماذا الأندلس ولا تزال مزارع شبعا وقرية الغجر تخضعان للاحتلال الاسرائيلي. ونفس التساؤل موجه لحزب الله الذي برر الاحتفاظ بسلاحه لكي يحرر المزارع المحتلة.

وهناك العديد من السخافات المضحكة التي تفوه بها أفراد موالين للنظام السوري على الشاشات التلفزيونية ولعلّ أشهرها عندما وقف عضو مجلس الشعب السوري خالد العلي خلال أحد خطابات الرئيس بشار الأسد وقال له أمام استغراب المشاهدين: “الوطن العربي قليل عليك، وأنت لازم تقود العالم يا سيادة الرئيس”.

وقد نسي عضو مجلس الشعب الذي يريد تحرير الأندلس ان الجولان لا تزال محتلة ونسي أن الشعب السوري لا يزال ينتظر “الرد المناسب في الوقت المناسب” ضد الانتهاكات والغارات الاسرائيلية للأراضي السورية. وسأستبدل مصطلح في الوقت المناسب بمصطلح “في المشمش”. ومن لم يسمع بمصطلح في المشمش الدارج في بعض بلدان الشرق الأوسط تعني ان التهديد والوعيد كله كلام بكلام وسوف لا يتم تطبيقه الا في أذهان اعضاء مجلس الشعب السوري ومؤيدي بشار الأسد.

واسترجاع بلدة القصير يعتبر نصر كبير لنظام فاشل وجيش لا يتشاطر الا على اللبنانيين والمخيمات الفلسطينية وعلى الشعب السوري. وبدون مساعدة حزب الله وايران وخلفهما روسيا لسقط النظام والجيش منذ شهور.

انهيار سمعة وهيبة وشعبية حسن نصر الله:

قلت في مقال سابق قبل أسابيع انني كنت من المعجبين بالسيد حسن نصر الله وازداد اعجابي واحترامي له اثناء صمود مقاتلي حزب الله امام الآلة العسكرية الاسرائيلية في صيف عام 2006. وكنت من المؤيدين لتمسك حزب الله بسلاحه لسببين الأول عدم ثقتي باسرائيل التي قد تغدر بالحزب اذا ما تخلى عن سلاحه والثاني هو تواجد أراضي لبنانية لا تزال ترزح تحت الاحتلال الاسرائيلي وهي مزارع شبعا وقرية الغجر والتي تعرف الآن “بمسمار جحا” في أدبيات التهكم السياسي اللبناني.

هذا الاعجاب تلاشى وتبخر في مارس آذار 2008 عندما وجه حزب الله سلاحه للداخل حيث احتل الحزب بيروت عسكريا وانفضح الأمر ان سلاح المقاومة هو في الحقيقة سلاح لاخضاع لبنان لارادة ايران.

فقد حزب الله مكانته وفقد حسن نصر الله الاحترام والشعبية التي تمتع بها لعدة سنوات لأنه تحول الى اداة مطيعة لطهران. فحزب الله يحتل لبنان نيابة عن ايران وينفذ مطالب ايران ولا يستطيع الجدل والرفض. حسن نصر الله وحزبه وجيشه تحول الى آلة مستأجرة لقمع الشعوب ولا يستطيع ان يرفض أوامر ايران لأنه اذا فعل ذلك سوف يخسر التمويل الاقتصادي والدعم العسكري والمعنوي الايراني. فحسن نصر الله في موقف صعب جدا. ضميره مع الشعوب التي تريد التخلص من الظلم والقهر والعبودية ولكنه لا يستطيع رفض أوامر طهران لذا طغت المصلحة الطائفية فوق المباديء وتحول الى مرتزق وأجير لايران ليدافع عن طاغية ومجرم حرب واصبح نصر الله ذاته شريكا فاعلا في الجريمة.

لا غرابة ان حزب الله يستميت في الدفاع عن بشار الأسد لأنه اذا سقط بشار سقط حسن نصر الله وتقلص النفوذ الايراني في المنطقة بأكملها.

الآن بما ان جيش الأسد الباسل وجيش حسن نصر الله المغوار وبدعم ايراني وروسي تمكنا من تحرير القصير هل سيواصلا مسار التحرير ويحررا مزارع شبعا وقرية الغجر والجولان وبعد ذلك الأندلس؟ أم سيتم تحرير مزارع شبعا في المشمش.؟

فضح كذبة محور المقاومة:

تصريحات اسرائيلية نسفت أكذوبة المقاومة وآخرها ما كتبه رئيس الموساد الأسبق في مجلة أميريكة بتاريخ 10 مايو آيار الماضي: “لأربعين عام ورغم عدم وجود اتفاق سلام رسمي بين سوريا واسرائيل الا ان نظام دمشق التزم باتفاق الهدنة بحذافيره منذ عام 1974 وحتى اثناء الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 بقيت الحدود مع سوريا هادئة”. اسرائيل غير مستعجلة على سقوط نظام “سيأتي الرد المناسب في المشمش”.

وهل تصدقوا التهديدات الايرانية؟

بتاريخ 16 ابريل 2013: قال الجنرال محمد حجازي، مساعد رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، إنه إذا أقدم من أسماهم بـ”الأعداء” على ضرب إيران فإنها سترد بتدمير مدينتي حيفا وتل أبيب الإسرائيليتين في أقل وقت ممكن.

بتاريخ 17 نوفمبر 2012 قال العميد محمد رضا نقدي، قائد قوات التعبئة الإيرانية (الباسيج) إن قواته تنتظر بفارغ الصبر إصدار أوامر المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية لتحرير القدس.

“وتابع أن قوات التعبئة في إيران والعالم تنتظر بفارغ الصبر صدور أوامر من قائد الثورة الإسلامية (السيّد علي خامنئي) لتحرير القدس الشريف من المحتلين الصهاينة، مؤكداً أنه رغم العدوان على غزة فإن عملية القضاء على الكيان الصهيوني باتت قريبة جداً.”

وآخر كذبة: قال بشار الأسد لقناة المنار قبل أيام ان سوريا استلمت صواريخ س 300 وبعد ذلك بيومين نفى بوتين تسليم اي صواريخ س 300 لسوريا . وقال أنه سيرد على اي استفزاز اسرائيلي حالا. نقول حسنا وفي المشمش وبالنسبة للصواريخ نسأل أيهما الكاذب بوتين ام بشار؟ أرجح ان بشار ألأسد هو الكاذب المتمرس.

رحبت بسقوط معمر القذافي وسأرحب بسقوط بشار الأسد وعمر البشير فلا تمييز مذهبي او طائفي بل لأنهم طغاة ومجرمين.

لندن

ايلاف

حزب الله في حلب.. ستعني حرباً في بيروت

سعد محيو

هل كان زعيم حزب الله السيد حسن نصرالله “يمزح” حين دعا الأطراف اللبنانية المتنازعة إلى “القتال في ما بينها على الأرض السورية”؟

لايبدو الأمر كذلك. ليس الآن على الأقل، بعد أن تكشَّف المدى الضخم لانغماس حزب الله بكليته في الحرب السورية.

حتى قبل أسابيع قليلة كان العديد من المحللين، ونحن منهم، يعتقدون أن ثمة تبريراً عسكرياً- استراتيجياً لقيام حزب الله بزج آلاف من مقاتليه في معركة القصير. فهذه المنطقة تعتبر شرياناً لوجستياً حيوياً له، وعمقاً استراتيجيا لمواقعه وقواعده في البقاع الشمالي وصولاً إلى الجنوب.

بيد أن إرسال الحزب ألفين من مقاتليه إلى مدينة حلب، أثبت أن هذا الاعتقاد مخطيء من ألفه إلى الياء. فالحزب لم يعد يقاتل من أجل نفسه أو لتحصين مواقعه، بل بات جزءاً لايتجزأ من حرب النظام السوري ضد المعارضة بكل ألوانها وأطيافها الإسلامية المعتدلة والمتشددة، والعلمانية والوطنية. بات فصيلاً في الجيش السوري النظامي، وانفصل نهائياً عن دوره كمقاوم لأسرائيل وكمدافع عن المصلحة الوطنية اللبنانية، كما كان يُعلن.

“حملة حلب” أسقطت أيضاً وهماً نجح الحزب في إقناع قواعده الشعبية به، وهو أنه يقاتل “التكفيريين” (بعد ان وضع 120 ألف مقاتل سوري معارض في هذه الخانة) داخل الأراضي السورية، كحرب وقائية لمنعهم من الهجوم لاحقاً على شيعة لبنان. “ذهبنا إليهم، كي لايأتوا إلينا”.

هذا ماقاله الحزب لمناصريه.

لكن هذا المنطق يثبت الآن أنه لامنطق. إذ لو كان صحيحاً، لتعيّن على قوات الحزب أن تذهب أيضاً إلى الإسرائيليين داخل فلسطين المحتلة، لأن هؤلاء سيأتون بالفعل إلى لبنان إن عاجلاً أو آجلاً، أو حتى إلى الولايات المتحدة التي تشن حرباً شعواء على الحزب في كل أنحاء العالم.

الألفا مقاتل الذين توجهوا إلى حلب لـ”قلب المعادلات فيها”، كما قال أحد قادة حزب الله العسكريين، لن يوصفوا بما وُصف به زملاؤهم في القصير، أي على أنهم مقاتلون من حزب الله (أو حتى “حزب الشيطان” كما تنعته الآن فصائل المعارضة السورية)، بل سيُقال الآن أنهم غزاة شيعة مسلحون جاءوا لمهاجمة واحدة من أعرق المدن السنّية في التاريخ. وهذا سيفتح جرحاً سنياً- شيعياً عمره 1300 سنة ونيف، ليس فقط في سورية بل في كل المنطقة العربية.

تداعيات هذا الحدث بدأت بالفعل. فدول الخليج تتأهب لمعاقبة كل عامل أو موظف عربي شيعي يعمل لديها وتشتم (مجرد اشتمام) أنه يميل إلى حزب الله. وهيئة علماء المسلمين في لبنان أصدرت أمس فتوى تنضح بالخوف الوجودي “على الدم والعرض” من جراء “الهجمة الصفوية على سورية”، وتنذر السنّة الذي يتخلفون عن نصرة أخوتهم فيها بـ”غضب الله” . ومحاولة اغتيال الشيخ ماهر حمود في صيدا صباح اليوم تُنذر بأن ستكون بداية لانهاية لمسلسل تفجيرات واغتيالات جديدة. والحبل لايزال على الجرار.

لكن الأهم هم ماسيجري في لبنان.

فتطور حلب، إضافة إلى ماتردد عن إرسال مقاتلين من الحزب إلى دمشق وريفها، يعني عملياً أن حزب الله زج لبنان كله في أتون الحرب السورية وانقضى الأمر. و”رغبة” نصر الله في أن يتم التقاتل بين اللبنانيين على الأرض السورية بدل الأرض اللبنانية، لن تلق آذاناً صاغية من أحد، لا من معارضيه اللبنانيين ولا بالتأكيد من المعارضة السورية التي هددت مراراً (وآخرها أمس) بنقل الحرب إلى معاقل حزب الله في لبنان.

الخطر في هذا الموضوع أن الحزب كان يتوقع على الأرجح هذا التطور ويعد العدة له من فترة غير قصيرة، أي حتى قبل زج عديده وعتاده في الحرب السورية. فحالة الاستنفار على أقصاها في الضاحية الجنوبية، كما في بعض مناطق الجنوب والبقاع. والتقرير الاستخباري الذي نشرته صحيفة الأخبار قبل أيام واتهمت فيه “الأصولية الدزرية” (بزعامة أكرم شهيب على الأرجح) بالوقوف وراء قصف الضاحية بصواريخ غراد، وجد ترجمته الفعلية في ما تردد عن أن الحزب أرسل وحدات استطلاع إلى منطقة عيتات- عاليه لـ”تحصين” الضاحية الجنوبية من أي هجوم صاروخي آخر”. فهل يكون هذا “الاستطلاع” تمهيداً لاجتياح لاحق للمنطقة الدرزية، التي تشكّل مساحة عازلة بين الجنوب والضاحية وبين البقاع وصولاً إلى مثلث القصير وحمص وطرطوس؟

بكلمات أوضح: يبدو أن حزب الله كان يتوقع وهو يضع خطط التدخل في سورية، أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب أهلية، أو شبه أهلية، في لبنان، وأنه مستعد بالفعل لها.

بقي أن نعلم ما إذا كان الحزب سيتحرك في إطار دفاعي في مثل هذه الحرب الجديدة المحتملة، أم أنه سينتقل إلى الهجوم ليغيّر المعادلات العسكرية والسياسية الراهنة في لبنان، تماماً كما يحاول أن يفعل الآن في سورية بالاشتراك مع النظامين الإيراني والسوري.

فللنتظر لنر.

لكن الأرجح أن انتظارنا لن يطول!

حلوى الانتصار في الضاحية

 عبد الرحمن الراشد

توزيع الحلوى في الضاحية الجنوبية، حيث جمهورية حزب الله في بيروت، ورفع أعلامه احتفالا بتدمير القصير وتشريد أهالي البلدة السورية، لم يقل بشاعة عن منظر النساء والأطفال المشردين الهاربين من جحيم الحصار والقتل.

في عشرين سنة ماضية لم نعرف قضية ألهبت مشاعر الناس مثل بلدة القصير السورية؛ قصة فيها بطولة الصمود ومأساة أربعين ألفا معظمهم أطفال ونساء، وهمجية العدو الذي بعد أن فشل في مقاتلة أهلها لجأ إلى تدمير البلدة بالدبابات والصواريخ. عشرون يوما موثقة بالصور، والفيديوهات، وشهادات الأهالي عرّت همجية حزب الله وجوره، وفضحت تاريخه المزور. أخيرا وبعد أن فشل في القتال، استولى عليها بعد أن هدمها بصواريخ سكود وبمعاونة طيران الأسد بأكثر من ثمانين غارة جوية. نجح الغزاة في «تطهير» القصير وتشريد أهلها، هذا هو مجد حزب الله وفخره الذي احتفل به.

عسكريا، كانت خسارة القصير محتومة لمن يعرف جغرافيا المنطقة، البلدة تبعد فقط خمسة عشر كيلومترا عن حدود لبنان، حيث تربض ميليشيات حزب الله، المعززة بالأسلحة والمدربة دائما. وتحولت إلى معركة معنوية لقوات الأسد، وتحديدا لحليفه حزب الله، بعد هزائمهم المستمرة خلال العام الماضي.

القصير دمرت وشرد أهلها، إنما الثمن أغلى على حزب الله وإيران من الدم الذي دفعوه رخيصا هناك. الثمن انقلاب في المفاهيم السياسية في الشارع العربي. العدو اليوم هو حزب الله وإيران. والمشاعر أصبحت أقوى من أي يوم مضى لتحرير سوريا من نظامها ومن القوات المساندة له من إيرانية وعراقية وحزب الله. وإذا كان حزب الله يظن أنه أسدى خدمة كبيرة لبشار الأسد بأن يذهب وفده إلى مؤتمر جنيف معززا بانتصاره في القصير، فالحقيقة عكس ذلك. انتصاره في القصير بالهمجية التي شاهدها العرب، وتوزيع الحلوى في الضاحية، ودق طبول النصر في طهران، أضعف كل الأصوات التي كانت ترضى بالذهاب إلى جنيف، أو القبول بشيء من الحل السياسي.

هل سقوط القصير يعني بقاء الأسد ونهاية الثورة السورية؟

لا، أبدا. الثوار في سوريا ليسوا القوات الأميركية في العراق أو أفغانستان كان عليهم الرحيل يوما ما. هؤلاء أهل البلد وغالبية سكانه، إلى أين سيرحل أكثر من خمسة عشر مليون سوري، هم الغالبية الساحقة للسكان؟ كيف سيقضي حزب الله عليهم وهو الذي فقد المئات من القتلى، وأمضى يقاتل ثلاثة أسابيع من أجل بلدة مثل القصير؟

معركة سوريا ليست حربا سياسية، بين قوى إقليمية ودولية، رغم وجود هذه القوى على أرضها تقاتل برجالها. هذه حرب شعب حقيقية، لا يمكن مقارنتها إلا بحروب مثل الجزائريين ضد الفرنسيين، والفلسطينيين ضد الإسرائيليين. فهل ينوي حزب الله والإيرانيون البقاء في سوريا واحتلالها، وإلى متى؟

من أجل البقاء نظام الأسد يعيش على فيلق القدس الإيراني، وحزب الله اللبناني، وميليشيات عراقية، فهل هذه القوى مستعدة للمحاربة عنه إلى آخر بلدة في سوريا؟ وإلى متى؟ ستصبح سوريا أرضا جاذبة لكل المقاتلين من كل العقائد والأفكار، وما مأساة القصير إلا الملهم لمثل هذه القوى الغاضبة المنتشرة في عرض المنطقة العربية.

الشرق الأوسط

سقوط القصير “يُسقط” تردّد المجتمع الدولي

ربى كبّارة

يفتح سقوط بلدة القصير بيد “حزب الله” والنظام السوري باباً واسعاً لحسم المجتمع الدولي تردداً طال أمده في تقديم مساندة فعّالة للثوار. وتزايدت المؤشرات على هكذا احتمال ما إن بدأت تلوح في الأفق دلائل خسارة الثوار لهذا المعقل الذي يحول دون ربط العاصمة دمشق بمناطق النفوذ العلوي على الساحل السوري. ومن المحتمل أن تدفع نشوة الانتصار بمؤتمر “جنيف 2” الى الهاوية لأن القصير، ومن بعدها حمص، تسمح بوصل الشريط الممتد من إيران الى عراق المالكي الى منطقة نفوذ علوي الى منطقة شرق لبنان أحد معاقل “حزب الله”.

فمنذ أيام أطلق رئيس هيئة الأركان العامة لـ”الجيش السوري الحر” اللواء سليم ادريس صرخة استغاثة لإنقاذ القصير المحاصرة منذ نحو عام والتي اشتد الطوق حولها وعليها منذ ثلاثة أسابيع مع كشف “حزب الله” انخراطه الواسع في الهجوم ووعد أمينه العام بانتصار يوازي انتصاره على عدوان إسرائيل عام 2006، ذلك كله مقابل تخلٍّ واضح من المجتمع الدولي. وبوضوح كلّي أكد ادريس “أن بيانات الإدانة ليست كفيلة بتغيير الواقع المأسوي، بل يجب أن تقترن بفعل عملي على الأرض” مشدداً على “أن الوضع الميداني يستدعي تحركاً دولياً يشل قوة النظام الهجومية ويزود الجيش الحر بالأسلحة النوعية” ومتوجهاً الى الرئيس الأميركي وقادة البرلمان الأوروبي بالقول “نحن بحاجة لمساعدتكم الآن”.

تزامن ذلك مع توالي مؤشرات مراجعة المجتمع الدولي لتردده بدءاً من إعلان وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن بلاده تأخرت في التدخل، الى الحديث الفرنسي والبريطاني الواضح عن استخدام غاز السارين في الهجمات على الثوار، بما يفتح الباب لتحرك عسكري ما، بعد تأكيدات سابقة بأن استخدام الكيماوي يعني تخطي الخطوط الحمر.

وترافق ذلك مع زيارة السيناتور الأميركي جون ماكين الى شمال سوريا المحرّر وما سيؤدي اليه من ضغوط داخلية على تردد الرئيس باراك أوباما. كما ترافق مع تصريحات عسكرية أميركية عن تلبية طلب الأردن نشر مقاتلات “أف-16” ومنظومات باتريوت بعد انتهاء مناورات “الأسد المتأهب” الدولية التي يستضيفها ويشارك فيها 18 بلداً. وسبق ذلك كله رفع الاتحاد الأوروبي الحظر عن تزويد سوريا بالأسلحة وإن لم يترجم بعد في خطوات عملية.

وتوضيحاً لما توحي به هذه المؤشرات، جدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التأكيد أن موسكو ترى أن أي محاولة للتدخل العسكري في سوريا سيكون “مصيرها الفشل”.

من ناحية أخرى، من المرجح أن يقضي سقوط القصير على احتمالات تحقيق أي تقدم فعلي في مؤتمر “جنيف2″ للتوصل الى حل سياسي للأزمة، وهو المؤتمر الذي أُعلن تأجيل موعده من نهاية الشهر الجاري الى الشهر المقبل مبدئياً. فـ”انتصار” استعادة القصير سينعكس ولا بد تشدّداً في موقف الأسد الرافض أصلاً لأي مقاربة تقضي بنقل صلاحياته الى حكومة انتقالية وفق ما نص عليه إعلان “جنيف 1” الذي أنجز بين الأميركيين والروس قبل عام كامل. كما أن إيران تعيش حالتين متمايزتين: منتشية بدورها الإقليمي وضعيفة بدورها الداخلي بسبب العقوبات والأوضاع الاقتصادية السيئة. وهي بدعمها اللامحدود للنظام قبيل موعد المؤتمر تريد أن تحجز لها مقعداً على طاولته وتقدم نفسها للأميركيين باعتبارها شرطياً في المنطقة للقضاء على “الإرهاب التكفيري”، وباعتبارها تمثل العالم الإسلامي في المنطقة وهو الدور الذي تنافس فيه تركيا، فيما العرب منشغلون بربيع يلزمهم سنوات لتستوي أوضاعه.

ونشوة الانتصار التي يستشعرها الأسد لها ما يوازيها لدى “حزب الله”. وهي ستترجم عملياً بالسعي الى أزمة نظام يدفن في غبارها “اتفاق الطائف” سعياً الى “مؤتمر تأسيسي” خصوصاً إذا لم يخرج الغرب من موقفه المتردد بذرائع منها انقسام المعارضة السورية أو خشية “التكفيريين” الذين لم ينمو وجودهم إلا من جراء هذا التردد. فـ”حزب الله” يحتاج الى غياب الدولة للتفرغ في سوريا. وتحقيقاً لذلك يعمل لشلّ كل مؤسسات الدولة. فقد عمل من وراء الستار لمنع التوصل الى قانون انتخابات وبالتالي الى منع إجراء الانتخابات بسبب توتير أمني يملك وحده مفاتيحه في مناطق متعددة من شمال لبنان جنوبه وشرقه، كذلك يحول دون قيام حكومة جديدة. وذلك كله ليكون جاهزاً لإطباق سيطرته على لبنان إذا تحقق المخطط الإيراني متناسياً أن القصير معركة في حرب مفتوحة وأن استردادها لا يعني فعلياً أي تقدم في استعادة النظام سيطرته على البلد. ففي هذه الحرب المعارك هي كرّ وفرّ وما زال مثال باب عمرو في حمص ماثلاً في الأذهان: استعادها النظام لدرجة قيام الأسد شخصياً بزيارة ركامها لتعود وتسقط مجدداً بيد الثوار. أما التوافق الدولي فلا يزال عالقاً بين الأميركيين والروس من جهة وبين إيران والغرب من جهة أخرى..

المستقبل

ما بعد بعد… القصير

وليد شقير

تتدفق التوقعات عن مرحلة ما بعد سيطرة الجيش النظامي السوري و «حزب الله» على القصير، وعن مرحلة ما بعد ما بعد ما بعد القصير.

فتمكن النظام السوري والحزب من استعادة المدينة الصغيرة الواقعة عند عقدة طرق بين دمشق وريفها وحمص، وبين البقاع اللبناني الشرقي وبين حمص وريفها وهي طريق إمداد لجيش النظام مثلما هي طريق إمداد لـ «الجيش السوري الحر» والثوار ولجرحاهم الذين ينقلون من الأراضي السورية الى الأراضي اللبنانية، هو مجرد محطة في الصراع الدائر.

وإذا كان للعسكريين في الجانبين أن يتحدثوا عن المرحلة اللاحقة، فإن أصدقاء النظام في دمشق لا يتوقفون عن نقل السيناريوات العسكرية المقبلة. وكذلك وسائل الإعلام التابعة لـ «حزب الله»، وكلها سيناريوات لا تفيد إلا بأن الحرب مستمرة على الأرض السورية بمشاركة أكثر كثافة وتورطاً للحزب في أتون الأزمة السورية المديدة.

وإذا كانت المعارضة السورية التي رفعت الصوت عالياً مستنجدة بلا جدوى بالمجتمع الدولي ساهمت في جعل المعركة على المدينة مصيرية، فإن تعويل النظام و «حزب الله» على أهمية استرجاع القصير من الثوار والتعبئة العامة التي سبقت المعركة هذه جعلاها أشبه بمعركة «ستالينغراد». وهو تشبيه سرعان ما سيتلاشى حالما تبدأ المعارك التالية التي سينتقل إليها النظام مدعوماً من إيران و «حزب الله». فما يتوقعه التحالف الثلاثي المدعوم من روسيا هو أن يستفيد من السيطرة على القصير من أجل الإطباق على ما تبقى من قرى محيطة بالمدينة، ثم بدء معركة استعادة حلب التي يبشر إعلام الحزب بأنها ستحسم قريباً، على رغم أن القصير استغرق التغلب على مقاتلي المعارضة فيها أكثر من 3 أسابيع.

وإذ توحي الحلقة الضيقة المحيطة برأس النظام في دمشق بأن ما بعد القصير لن ينحصر بالسعي الى السيطرة على حلب، بل ستسبقه أو توازيه حملة عسكرية ضخمة لاستعادة كامل منطقة درعا الجنوبية، بعد إسقاط ما تبقى من ريف دمشق، لينطلق الهجوم على درعا من كل الجهات، بما فيها من محافظة السويداء، فإن كل ذلك لا يعني سوى أن القصير حلقة من حلقات المرحلة الجديدة في الحرب السورية التي ستتواصل بلا هوادة بعد تشكيل الجيش الشعبي الموالي للنظام (67 ألف رجل) دربتهم طهران قبل 3 أشهر على حرب المدن والشوارع، يضاف إليهم مقاتلو «حزب الله»، بعد اكتشافها عقم التكتيكات العسكرية للجيش السوري على مدى عامين من الأزمة.

لا يعقل والحال هذه، أن ينحصر هدف تغليب صوت المدافع والمجازر واحتلالات المناطق واستخدام غاز السارين… بتوظيف نتائج «الإنجازات» العسكرية في المفاوضات على عقد مؤتمر جنيف – 2 من أجل الحل السياسي والذي أطلق مشروعه الجانبان الروسي والأميركي قبل نيّفٍ وشهر. ولعل فشل المفاوضات التمهيدية على تمثيل الفرقاء السوريين والإقليميين في جنيف – 2 خير دليل على أن الهدف ليس الوصول الى «جهاز انتقالي تنفيذي يتمتع بصلاحيات كاملة»، كما نصّ عليه قرار جنيف الأول. فالعبارة التي بقي الاتفاق على تفسيرها وعلى ما إذا كانت تعني رحيل الأسد قبل بدء العملية السياسية أم في نهايتها متعذراً باتت تخضع لتفسير روسي وإيراني يقضي، بقوة التحولات العسكرية، بالاعتراف ببقاء الأسد في السلطة، وهو ما يجعل التوافق على جنيف – 2 مجرد مناورة روسية من جهة وتمرير أميركي للوقت لا أكثر، من جهة ثانية من دون إنهاء الأزمة، بل إبقائها تحت السيطرة قدر الإمكان كي لا تتسع إقليمياً…

وحتى لو عُقد جنيف – 2 فإنه سيكون استمراراً لمسرحية تغطي سعي موسكو وطهران ومن معهما الى استسلام المعارضة، وهو أمر يستحيل الحصول على توقيعها عليه، ويستظل بها السعي الأميركي إلى استمرار حرب الاستنزاف بين الجهات المحلية والإقليمية المتناحرة على أرض سورية، شرط ألا يمس ذلك أمن إسرائيل، وألا يطاول أمن المصالح الأميركية في المنطقة.

ما بعد القصير بعيد الأفق بقدر ابتعاد أي من فريقي الأزمة السورية عن حسم المعركة لمصلحته. حده الأدنى وقف اندفاعة المعارضة التي كانت تتطلع الى خوض معركة دمشق، بحيث يجري تقليص مناطق سيطرتها لإقامة طوق حماية على النظام، مع توزع مناطق النفوذ على المتصارعين وقيام خطوط تماس شبيهة بتلك التي شهدتها الحرب اللبنانية، طالما أنه يستحيل الحصول على الحد الأقصى أي استسلام المعارضة، أو سحقها بالكامل.

ومثلما سيستحيل على المعارضة السورية التنازل، سيكون ضربة مميتة لـ «حزب الله» أن يوقف اندفاعته العسكرية في سورية بعد التضحيات التي بذلها وعدد القتلى الذين سقطوا له وسيسقطون، لمصلحة تسوية مع المحور الأميركي – الإسرائيلي – التكفيري كما يسميه. فالحزب لم يعد قادراً على التراجع عن التعبئة التي قام بها لخوض الحرب، بل هو قد يضطر للاستدارة نحو الداخل اللبناني في هذه الحرب إذا شعر بأن هناك تسوية يمكن أن تحصل أو أن خصومه يستفيدون من تبدد قوته خارج لبنان.

الحياة

سقوط القصير وصمة عار على ضمير مجلس الأمن

راغدة درغام

الجمعة ٧ يونيو ٢٠١٣

تستطيع الأسرة الدولية أن تتلقى التهاني كالتي تلقّاها «حزب الله» من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمناسبة سقوط مدينة القصير السورية ذات الأهمية الاستراتيجية للأهداف الإيرانية ولنظام الرئيس السوري بشار الأسد.

ليت روسيا كانت وحدها المؤهلة للمباركة بسقوط القصير في أيدي حليفها السوري والإيراني واللبناني المتمثل في قيادة الحزب الشيعي، الذي سخَّر «مقاومته» لخدمة بقاء النظام في دمشق. الولايات المتحدة أيضاً تستحق التهنئة، ومعها كامل أعضاء حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. مجلس الأمن برمته يستطيع أن يتلقى التهاني، ومعه أيضاً الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فجميعهم تخاذل واكتفى بإجراءات رفع العتب المتأخّرة، فيما كان يشهد على معركة يعرف تماماً معنى انتهائها بانتصار المحور الإيراني/ الروسي/ الصيني/ نظام الأسد/ «حزب الله»، فالأسرة الدولية قرّرت مشاهدة المجازر وضحايا القصف الجوي، من أطفال ونساء ورجال، رافضة رفع صوتها بما يُسمّع أو يُذكر. حتى عندما توافرت لديها الأدلة على استخدام الأسلحة الكيماوية، فضّلت الأسرة الدولية ألاّ تلقي باللوم على أي من أطراف النزاع في سورية، النظام وحلفائه في محور الممانعة أو المعارضة وحلفائها في المحور المتفكك والعائم، الذي يضم دولاً غربية وتركيا ودولاً عربية، جميعها يستحق أحرّ التهاني على سقوط القصير، لأنه ساهم حقاً في سقوطها، بضمير حي أو بضمير ميت. ما حدث في القصير هو مسؤولية دولية، لأن الجميع هرب إلى الأمام، متظاهراً بأن ليس في اليد حيلة. إنها وصمة عار على ضمير مجلس الأمن الدولي وجبينه، هو الذي بات شاهداً راضياً على المجازر في سورية، يتظاهر بأنه في انتظار الحل السلمي، ذلك الحل الزئبقي الذي يُطبَخ بين الثلاثي الماهر «أميركا- روسيا- (الممثل الأممي والعربي) الأخضر الإبراهيمي» لإيجاد آلية اتفاق وتسلسلية تنفيذ لما سبق ولاقى إجماع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن قبل سنة في اتفاق جنيف. أسوأ من مجلس الأمن لربما، أولئك في «الأسرة العربية»، بما فيها جامعة الدول العربية، الذين لسان حالهم العجز واللجوء إلى مجلس الأمن اختباءً في ظل عجزه، وأسوأ أفراد تلك «الأسرة» أولئك الذين شجعوا المعارضة السورية بشقّها المتطرف وأضعفوا شقّها المعتدل، ثم تخلّوا عن الشقّين معاً، خوفاً من محاسبة الغرب لهم عملياً على دعم «جبهة النصرة» وأمثالها من «القاعدة». فماذا الآن؟ وهل محطة القصير حقاً مصيرية والخاتمة؟

«حزب الله» حقق انتصارين رهن الخسارة:

القصير، ذات الانتصار المبلل بالنقمة، وكذلك بالفتنة، التي تورّط الحزب وورّط فيها الطائفة الشيعية في لبنان.

وإلغاء الانتخابات النيابية اللبنانية، «الإنجاز» الذي يأتي وسط انهيار هيبة الدولة والحزب معاً، يرافقه «تعرية» المقاومة، في استخدامها لغايات لا علاقة لها بإسرائيل واحتلالاتها.

لبنانياً، كان واضحاً بالحساب والأرقام أنه لو تمّ إجراء الانتخابات النيابية في موعدها هذا الشهر، لخسر «حزب الله» الانتخابات خسارة فادحة، وهذا يعني أنه يخسر بذلك تشكيل الحكومة الجديدة، ويفقد سيطرته –قبضته- القاضية على البلد. وبلغة الأرقام، وطبقاً للحساب، لم يكن في وسع «حزب الله» الفوز في الانتخابات ليس فقط لأن الآلاف من رجاله كانوا يقاتلون في سورية بهدف الانتصار في معركة القصير تحديداً، وهؤلاء (بين 10 و15 ألفاً) لم يكونوا ليصوتوا في الانتخابات، ولكن أيضاً لأن الأصوات التي كان «حزب الله» يأتي بها من الشيعة في سورية على متن «الباص» للاقتراع، لم تكن لتتوافر بسبب الحالة السورية.

بالأرقام وبالحساب، لم يكن في وسع «حزب الله» الفوز بالانتخابات، ولذلك عزم على إلغائها بالتخويف وبالتهديد بنسف الاستقرار.

عباقرة المعارضة اللبنانية المتمثلة في تجمّع 14 آذار، أسرعوا إلى تقديم هدية التمديد الشنيع لمجلس النواب لسنة ونصف بلا تفكير أو مقابل. هم اشتروا «الاستقرار» بدفعة مسبقة، تستراً من التهويل. هكذا قدّم عباقرة 14 آذار إلى «حزب الله» وشركائه في تجمع 8 آذار، هديةَ إعفائه من الخسارة في الانتخابات، وحجبوا عن أنفسهم فرصة الفوز واستعادة زمام المبادرة واستعادة الحكومة.

الآن، الصورة واضحة تماماً: حقق «حزب الله» فوزه بالانتخابات من دون أن يخوضها، فيما كانت خسارة الانتخابات واضحة له وضوح الشمس. اشترى الوقت الذي يلائمه ويتماشى مع الروزنامة العسكرية السورية، لأنه واثق من الانتصار العسكري لحليفه نظام دمشق، ومن أن رئيس ذلك النظام بشار الأسد باقٍ في السلطة بلا عملية سياسية انتقالية الى ما بعد الانتخابات الرئاسية في سورية بعد سنة. أبقى على حكومة تصريف أعمال تناسبه، وأضعف الرئيس المكلّف تأليف حكومة جديدة تمّام سلام، الذي فشل في استخدام الزخم الذي رافق تعيينه وسقط في دوّامة فرّغته من القدرات الضرورية لإمساك المرحلة وإمساك البلاد. خلق الحزب بيئة في البرلمان والحكومة والطبقات السياسية تمكِّنه لربما لاحقاً من إسقاط رئيس الجمهورية ميشال سليمان عندما يحين موعد التمديد له.

وهكذا… وبضربة معلّم، ومساهمةٍ ثمينة من 14 آذار، تمكن «حزب الله» من امتلاك البلد، وجزء من الفضل في ذلك عائد إلى تزعزع قوى 14 آذار وفزعها، فهي تستحق التهنئة على «إنجاز» حزب الله، وغدت الآن كالذي بتر قدميه وهدد بالركض في سباق.

وعلى الرغم من كل هذا، فإن انتصار «حزب الله» في هذه المعركة ليس في صالحه، لأنه سيهيمن على بلد نصف شعبه على الأقل لا يثق به ولا يريده بحلّته الاستقوائية، هذا في أفضل الحالات، أما في أسوئِها، فإن رهن «حزب الله» لبنان ووضعه في خدمة إيران، ليس أمراً ثابتاً أو دائماً بالضرورة، وبالتالي لن يكون رهانه ضد نصف الشعب اللبناني على الأقل، بل ثلاثة أرباعه على الأصح، سوى مشروع للنقمة والفتنة، فلقد بات «حزب الله» طرفاً في الحرب السورية، بل في حرب مذهبية، ولم يعد عنواناً للمقاومة ضد إسرائيل كما سبق وزعم. ثم إن أسوأ ما يقدمه «حزب الله» في حلّته الجديدة هو ما يقدمه للطائفة الشيعية، التي يورّطها في سورية وفي لبنان على السواء.

حالياً، يحتفي «حزب الله» بانتصاريه في لبنان وفي القصير السورية، ويشعر أنه دخل حرباً وفاز بمعركة، وهذا يترك زهواً وثقة بالنفس، سيما وأن الأسرة الدولية شجّعته على الانتصار في ما صوّرته -وصوّره- حرباً على «القاعدة» و «جبهة النصرة» وأمثالها من التكفيريين.

لكن الانزلاق في مستنقع سورية يبقى هدفاً ينصبه الغرب -وفي مقدمه الولايات المتحدة وإسرائيل– لـ «حزب الله»، وكلاهما جزء من تلك الأسرة الدولية التي شجعت الانتصار في القصير وسمحت به، وهكذا يصبح انتصار «حزب الله» في القصير رهن الخسارة.

أما في ما يتعلق بإيران في معادلة القصير وما بعدها، فإن هناك مدرستين:

إحداهما تقول إن الرئيس الأميركي باراك أوباما يرى في سورية «فيتنام» إيران، ولا يمانع في استنزافها هناك، حتى على أيدي «القاعدة» وأمثالها.

والمدرسة الأخرى تصر على أن الولايات المتحدة وإسرائيل تريدان تحقيق «الهلال الشيعي»، الذي يربط إيران وإسرائيل عبر «حزب الله» في لبنان، ويعزز العلاقة التهادنية التاريخية بينهما، والتي تخدم هدفهما المشترك: تقزيم العرب في الموازين الإقليمية في الشرق الأوسط.

لعل الهدفين معاً هما المطلوب: المستنقع و «الفتنة»، وكذلك هلال التهادنية، وبالتالي كان لا بد من السماح بسقوط القصير في أيدي محور الممانعة.

وهناك رأي بأن الخطة الأميركية وراء إعطاء روسيا موقع القيادة في الورطة السورية، تقضي باستدراجها إلى المستنقع السوري بعد «أفغنته»، فكما في أفغانستان سقط الاتحاد السوفياتي، لربما في سورية تسقط روسيا، بالرغم من ثقتها العارمة اليوم بأنها منتصرة وتأخذ زمام القيادة بمباركة أميركية.

إنها السياسة! إنها استراتيجية الانسحاب والاستدراج.

واشنطن ربما ترى أن من مصلحتها الإيحاء لموسكو أن روسيا فائزة في المعركة السياسية في الحرب السورية، داخل مجلس الأمن كما خارجه، ولذلك ترضخ الديبلوماسية الأميركية للإملاء الروسي ولا ترفع إصبعاً في مجلس الأمن، وتتراجع الإدارة الأميركية أمام المطالب الروسية وتتوقف عن المطالبة بتنحي بشار الأسد وتعمل على مؤتمر «جنيف-2».

واضح أن السباق بين السكة العسكرية والسكة السياسية من حرب سورية مستمر ويستعر، وقريباً سنسمع أن الغرب قرر تمكين المعارضة المسلحة المعتدلة من التزود بالسلاح لأجل قلب الموازين العسكرية، تماماً كما سارعت روسيا وإيران إلى تمكين قوات النظام و «حزب الله» من قلب الموازين العسكرية في القصير… وهكذا يتم تمزيق سورية بمساهمة جميع اللاعبين، بمستويات مختلفة.

المرحلة المقبلة ستشهد مزيداً من ذلك «التوازن» أو استعادته، فيما مجلس الأمن الدولي سيبقى محيّداً قابعاً في ظل تفريغه من السلطة والهيبة. سيستمر علك الكلام الأميركي– الروسي- الأممي– العربي عن مؤتمر دولي لن يجدي، وستستمر المعارك الضارية امتداداً للاستيلاء على مواقع مهمة للربط بين إيران ولبنان عبر سورية بعد سقوط القصير، والهدف هو الربط بين الحليفين الإيراني والإسرائيلي.

أخطر ما يمكن أن تتورط فيه المعارضة السورية المسلحة هو نقل معاركها من سورية إلى لبنان مهما كانت حججها قائمة على ضرورة محاربة «حزب الله» في عقر داره بعدما أتى إليها لمحاربتها في عقر دارها. إنها بذلك تحفر لنفسها مستنقعاً وورطة تلهيها عن أهدافها الأساسية الرئيسية داخل سورية.

كلام رئيس أركان «الجيش السوري الحر» اللواء سليم ادريس، عن محاربة «حزب الله» داخل لبنان لأن «مقاتلي حزب الله يغزون سورية ولا تفعل الحكومة اللبنانية شيئاً لوقفهم»، يشكل موقفاً يشبه إطلاق النار على قدميه، فـ «الجيش السوري الحر» ليس في حاجة إلى عداء وغضب جميع اللبنانيين لقيامه بعمليات داخل لبنان مهما برّر أن البادئ كان «حزب الله» في بلاده، وهو كلام سيكون مرفوضاً، وسيمحو أي تعاطف وتضامن بين قسم من اللبنانيين والمعارضة السورية، فليكن الانتقام داخل سورية طالما «حزب الله» هناك، وليكن التركيز على المعركة السورية – السورية من أجل سورية.

الحياة

اسرائيل و”نصر” القصير

حسام كنفاني

 مع توارد الأنباء عن سيطرة القوات السورية على مدينة القصير في ريف حمص، لم تخف وسائل الإعلام المحسوبة على محور الممانعة فرحتها بـ “النصر الاستراتيجي”. وعمدت المحطات والمواقع إلى ضخ كمّ من التصريحات الإسرائيلية التي بدت أنها “متحسّرة” على سقوط القصير، أو هكذا أرادت وسائل الإعلام هذه إظهارها. “البوصلة لم تضع”، هذه كانت الغاية غير المباشرة من التركيز على المواقف الإسرائيلية مما يجري في القصير.

رسالة موجهة من مستويات أعلى لتبرير ما لا يمكن تبريره، وهو مشاركة حزب الله في المعارك في سوريا، وللإشارة إلى أن الحزب لا يزال في مواقعه صامداً. والدليل واضح في وسائل الإعلام الإسرائيلية وتعاطيها مع “الهزيمة” في هذه المعركة الاستراتيجية. حتى الجيش السوري، في بيانه الرسمي، أراد إيصال الرسالة نفسها، حين اعتبر ان “سقوط القصير هي رسالة إلى إسرائيل”.

لا رابط مفهوماً بين القصير وإسرائيل إلا في أذهان الممانعين، وخصوصاً بعد فضيحة فيديو الآلية الإسرائيلية في الأيام الأولى للحرب على القصير، والتي لم يخرج بعدها أي مسؤول إعلامي في هذه الوسائل ليعتذر علانية للجمهور، ولا سيما أن الكذبة لم تصمد أكثر من ساعتين. لا حاجة للاعتذار، فالجمهور يرفض تصديق التكذيب، هو مؤمن بأن الكذبة هي الحقيقة المطلقة، بغض النظر عن الأسئلة المنطقية التي أثيرت حول موضوع الآلية العسكرية: كيف وصلت، ولماذا أبقيت عليها الكتابات العبرية، وما علاقة مصلحة السجون الإسرائيلية بالدعم اللوجستي للمقاتلين في سوريا، هذا على افتراض أن الدعم قائم.

إنها البروباغندا الحربية، وهي لعبة قائمة من الطرفين، وتأتي في سياقها عملية تظهير المواقف الإسرائيلية من الوضع في القصير. لكن مراقبة هذه المواقف تثير الكثير من الاستغراب، وربما لا تخدم الفكرة التي يريد الممانعون الترويج لها، وهي “مواجهة المعارضة السورية هي مواجهة مع وكلاء إسرائيل في المنطقة”، على حد تعبير الامين العام لحزب الله حسن نصر الله. مثار الاستغراب في الكلام الإسرائيلي يكمن في العبارات المستخدمة، والتي يمكن القول إنها تبجّل “النصر السوري في القصير”.

على سبيل المثال، وصفت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي سقوط القصير بأنه “إنجاز كبير للأسد، وضربة قاسية جداً للمعارضة السورية”، ورأت أن “سقوط القصير هو أول الانتصارات المحققة لمحدلة الجيش السوري ومقاتلي حزب الله، الذين يعملون أيضاً على طرد المسلحين في ريف دمشق وحمص، وربما قريباً أيضاً، من مدينة حلب في الشمال”. أما القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، فاعتبرت أن “سقوط القصير هو تحوّل لا سابق له، وسيتسبب بانعكاسات واسعة النطاق على مجمل الساحة السورية، بما يشمل الجانب المعنوي وأصل القتال والحرب الدائرة في سوريا”.

عبارات وعناوين إسرائيلية ربما لم تستخدم في صحافة “البعث” للتدليل على حجم “النصر الاستراتيجي” الذي حققه نظام الأسد في القصير، أو هكذا أراد من نقل هذه العبارات وترجمتها من العبرية إلى العربية، ليسكر بنشوة النصر على “لسان العدو”. لكن التقديرات الإسرائيلية ليست واحدة، فأليكس فيشمان في “يديعوت أحرونوت” قدّم رؤية مغايرة للوضع في القصير ناقلاً عن الأوساط الأمنية الإسرائيلية قولها “إن معركة القصير لا تنطوي على نقطة تحول دراماتيكية في ما يتعلق بوقائع الحرب الدائرة في سوريا”.

تباين القراءات الإسرائيلية مستمد أصلاً من تخبط الموقف السياسي الإسرائيلي من الوضع السوري. تخبط بين الرغبة في سقوط الأسد أو إسقاطه والخوف، في الوقت نفسه، من سيطرة المجموعات المتطرفة أو التكفيرية على الأرض، وهو خوف مشترك مع ممانعين يقاتلون اليوم في سوريا. تقاطع مصالح مثير للاهتمام، على أساسه، يمكن القول إن “النصر” كان مزدوجاً، طالما أن الشعار المرفوع للمعركة في القصير كان محاربة “الإرهابيين والتكفيريين”.

لا يناقش أحد أن إسرائيل ترغب في إضعاف الأسد، وإسقاطه لاحقاً بعد ضمان البديل المناسب، وهو غير جاهز حالياً. ولعل ما حدث عند معبر القنيطرة يعطي مؤشّراً على طبيعة التعاطي الإسرائيلي مع الوضع السوري. فبعد سيطرة مقاتلي “الجيش الحر” على المعبر استنفرت قوات الاحتلال دبابتها في الجولان. استنفار لم يدم طويلاً بعد استعادة القوات النظامية للمعبر، لتعود “الحدود الآمنة” إلى سابق سكونها الطويل.

المدن

ماذا بعد سقوط القصير؟

رأي القدس

يتفق الكثيرون، ونحن من بينهم، على ان استعادة القوات السورية المدعومة بعناصر من حزب الله لمدينة القصير الاستراتيجية القريبة من الحدود اللبنانية تشكل نقطة تحول رئيسية، وعلامة فارقة، في الازمة السورية، لكن ما يمكن الخلاف عليه هو محاولة استشراف ملامح الايام والاشهر المقبلة في سورية والجوارين اللبناني والفلسطيني المحتل.

النظام السوري الذي حظي بنشوة معنوية انعكست من خلال تغطيات صحفه ومحطاته التلفزيونية، سيواصل حتما مساعيه لاستعادة مناطق اخرى، وفتح جبهات جديدة، وهذا ما يفسر سيطرته على مدينة الضبعة شمال القصير، واستعادة معبر القنيطرة بوابة هضبة الجولان بعد استيلاء قوات المعارضة عليه لعدة ساعات، وهناك انباء عن حشود عسكرية باتجاه مدينة حلب في الشمال ودرعا في الجنوب.

المعارضة السورية المسلحة التي اصيبت بنكسة قاسية بسبب خسارتها لمدينة القصير رغم دفاعها المستميت ستحاول امتصاص هذه النكسة المعنوية بكل الوسائل حسب ما تقوله بياناتها. ولكن من الواضح ان الاسلحة الحديثة التي انتظرت وصولها من الدول الغربية واوروبا وامريكا على وجه الخصوص لن تصل في المنظور القريب، لان هذه الدول تنتظر انعقاد مؤتمر جنيف الثاني في منتصف الشهر المقبل، ولا تريد حدوث اي تغيير في موازين القوى على الارض، وبما يؤدي الى افشال هذا المؤتمر، ولذلك على المعارضة ان تنتظر، اذا رغبت، حتى نهاية الشهر المقبل.

نكسة القصير لم تكن هزيمة للمعارضة السورية المسلحة بكل اطيافها بقدر ما هي هزيمة للدول العربية والغربية الداعمة لها، فقد صرح اكثر من مسؤول في المعارضة بان خذلان هؤلاء هو الذي ادى الى نقص الذخائر وبالتالي الهزيمة.

ولا بد من الاعتراف بان دخول عناصر تابعة لحزب الله اللبناني الى جبهة القصير، والقتال الى جانب الجيش السوري النظامي لعبا دورا رئيسيا في استعادة المدينة، واخراج مقاتلي المعارضة منها، فالجيش السوري الرسمي، لم يستطع وحده، نظرا لافتقاره للخبرة في حرب الشوارع، تحقيق انتصار كهذا، وبهذه السرعة في جبهات اخرى خسر فيها مواقعه مثل الرقة وادلب ومعرة النعمان والقائمة تطول.

استيلاء كتائب المعارضة على معبر القنيطرة ربما كان ردا سريعا ومباشرا على خسارة القصير، ومحاولة فتح جبهة مع الاحتلال الاسرائيلي، ولكن هذه المحاولة التي استعدت لها السلطات الاسرائيلية بحشد دباباتها تحسبا لاقتحام المعبر لم تعمر الا لساعات معدودة بسبب استنفار قوات النظام ونجاحها في استعادة المعبر.

من المرجح ان تحاول المعارضة فتح جبهات اخرى في لبنان خاصة للانتقام من حزب الله واصطفافه الى جانب القوات النظامية، فالسيد جورج صبره زعيم الائتلاف السوري بالنيابة هدد بنقل المعركة الى جنوب لبنان، والضاحية الجنوبية، وكرر الشيء نفسه اللواء سليم ادريس رئيس المجلس العسكري للمعارضة.

هناك سؤالان لا بد من محاولة البحث عن اجابة لهما اذا اردنا رسم خريطة للازمة السورية في مرحلة ‘ما بعد القصير’ الاول هو عما اذا كانت قوات حزب الله ستشارك في معارك اخرى الى جانب الجيش السوري، مثل حلب شمالا، ودير الزور والرقة شرقا، ودرعا جنوبا، ام انها ستكتفي بمشاركتها في القصير القريبة من الحدود اللبنانية؟

اما السؤال الآخر فهو يتعلق بموقف الدول العربية الداعمة للمعارضة، وقطر والمملكة العربية السعودية بالذات، ولا ننسى تركيا في هذه العجالة، من هزيمة المعارضة في القصير، وردود فعلها عليها؟

من الصعب اعطاء اجابات قاطعة عن هذين السؤالين، ولكن يمكن التكهن بان حزب الله قد يتشجع بدوره الحاسم في القصير للمشاركة في جبهات اخرى، وهذا قد يؤدي الى استنزافه وزيادة اعداد الخسائر البشرية في صفوفه مما قد يؤدي الى تزايد الانتقادات لدوره في اوساط انصاره في الجنوب اللبناني. ولا بد ان اتخاذ اي قرار بتوسيع دائرة مشاركة الحزب في الحرب السورية سيحتاج الى الكثير من البحث في مؤسساته قبل صدوره.

الاجابة عن السؤال الثاني لا يمكن التعاطي معها بمعزل عن قراءة الموقف الامريكي، فالدول الخليجية الداعمة للمعارضة ماليا وعسكريا، لا يمكن ان تقدم على اي خطوة دون التشاور مع الولايات المتحدة وقيادتها والتنسيق المباشر معها.

الرئيس باراك اوباما لا يريد التورط في اي حرب في سورية، ولذلك فشلت الجهود الفرنسية التي ارادت تغيير موقفه هذا بتقديم ادلة قالت فرنسا انها مؤكدة عن استخدام النظام السوري غاز السيرين ضد المعارضة، واصر المتحدث باسمه على ان هذه الادلة ليست كافية للتأكد من ان النظام السوري تجاوز الخط الاحمر الامر الذي اغضب القيادة الفرنسية.

ومن سوء حظ المعارضة السورية ان الداعم الاقليمي الاكبر لها، اي السيد رجب طيب اردوغان رئيس وزراء تركيا يواجه انتفاضة صاخبة مستمرة منذ اسبوع تحت ذريعة عزمه بناء مجمع تجاري في ميدان تقسيم السياحي في قلب اسطنبول مما يخالف مبادئ الحفاظ على البيئة.

لا نستبعد انتقال المواجهة الى لبنان، والضاحية الجنوبية تحديدا في محاولة للانتقام، مثلما لا نستبعد محاولة النظام في دمشق استعادة ما خسره في حلب واماكن اخرى لتعزيز موقفه التفاوضي في مؤتمر جنيف المقبل بعد ان اكد سيرغي لافروف ان السيد وليد المعلم سيمثله في هذا المؤتمر.

الازمة السورية ستستمر في احتلال العناوين الرئيسية في الايام المقبلة، ولا نمانع في تكرار الجملة التي تقول ان جميع الاحتمالات بل والمفاجآت واردة.

القدس العربي

تدمير القُصير … ومشروع حلف الأقلّيات

خيرالله خيرالله

 أقلّ ما يمكن أن يوصف به الوضع اللبناني هو كلمة الاهتراء. بلغ الاهتراء درجة صار فيها النائب المسيحي ميشال عون يحاضر في العفاف. ما أفصح ميشال عون حين يحاضر في العفاف والديموقراطية هو الذي تحالف مع ميليشيا مذهبية وصار اداة من ادواتها.

صار اداة لدى الادوات التي لا هدف لها سوى تفكيك البلد وتدمير مؤسساته، على رأسها مجلس النوّاب. ربّما لا يعرف الرجل غير ذلك. فتاريخ النائب عون، الذي قبل أن يكون «جنديا في جيش حافظ الاسد» من أجل أن يقبل به النظام السوري رئيسا للجمهورية ابان وصايته على لبنان، حافل بالمآثر. من بين هذه المآثر تهجير أكبر عدد ممكن من المسيحيين من لبنان وتمكين القوات السورية في العام 1990 من دخول قصر بعبدا، أي قصر الرئاسة اللبنانية ووزارة الدفاع.

لم يستطع احد في تاريخ لبنان تحقيق مثل هذا الانجاز الذي لا يليق الاّ بمجموعة من المسيحيين يتبعون شخصا لا همّ له سوى المتاجرة بهم من جهة والحاق اكبر كمية من الاذى بابناء طائفته من جهة أخرى.

صار ميشال عون يريد الآن المتاجرة بالتمديد لمجلس النوّاب. ليس هناك لبناني مخلص لوطنه مع التمديد. ولكن ما العمل عندما يستخدم «حزب الله» الايراني، الذي يعتبر عون ومن على شاكلته أقلّ من تابع له، السلاح، سلاح الفتنة خصوصا، من أجل فرض التمديد؟

الرجل، الرجل لا يقف ضد التمديد. الرجل، الرجل الذي يمتلك حدّا ادنى من التعقل والعقل والوطنية هو من يدين الميليشيا المذهبية التي فرضت التمديد وحالت دون التوصل الى قانون انتخابي يستند الى حد أدنى من التوافق بين اللبنانيين ويحول دون التفريق بينهم على أساس طائفي ومذهبي خدمة للمشروع الاسرائيلي في المنطقة لا أكثر.

تلك كانت المهمّة المطلوبة مما سمّي زورا وبهتانا «القانون الارثوذكسي» الذي لا علاقة به لطائفة عملت دائما من أجل وحدة اللبنانيين ومن أجل تجاوزهم كلّ الانقسامات. لم يتنكّر الارثوذكس يوما، بأكثريتهم طبعا، للعرب والعروبة بمعناها الحضاري، فكيف يمكن أن يضعوا أنفسهم في خدمة مشروع أقلّ ما يمكن أن يؤدي اليه هو اثارة النعرات الطائفية والمذهبية والغاء مفهوم المواطنة في بلد صغير، لكنه مهمّ، اسمه لبنان.

من حسن الحظ أنّه بقي في الوطن الصغير رجال يسمّون الاشياء باسمائهما ولا يتهربون من ذلك عن طريق الطعن بالتمديد. لا شكّ أن موقف رئيس الجمهورية كان سليما. كان الرجل صادقا مع نفسه أوّلا ومع الخط الذي انتهجه منذ البداية والذي يرتكز على احترام الدستور الذي يعتبر نفسه مؤتمنا عليه. لم يساهم في التمديد، بل عمل كلّ ما في وسعه من جل الحؤول دونه. تفادى المواقف الرخيصة التي هي من اختصاص ميشال عون وغيره…

لكنّ الرجل الذي استطاع تلخيص كلّ الوضع اللبناني بكلمتين، فكان الرئيس حسين الحسيني. اعتبر السيّد حسين، وهو سيّد بالفعل، ما شهدناه بمثابة «أزمة كيانية». نعم، انّها أزمة كيانية بكل معنى الكلمة. أكّد أن الوقت ليس للمتاجرة بالتمديد ولكن للتفكير في مستقبل لبنان في ظلّ التغيّرات التي تشهدها المنطقة. لذلك، من الضروري من الآن فصاعدا التركيز على كيفية حماية لبنان بعدما فقد احد أسباب وجوده، بل علّة وجوده، أي التجربة الديموقراطية التي تعني بين ما تعني التبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع.

كان يمكن تصديق أن ميشال عون ضدّ التمديد، لو لم يكن ماضيه يؤكّد عكس ذلك. ما فعله في اثناء وجوده في قصر بعبدا بين 1988 و1990 يشير الى أنه ليس أكثر من ضابط أرعن لا يفكّر الاّ في كيفية الوصول الى رئاسة الجمهورية بأي ثمن كان.

كان يمكن تصديق أن ميشال عون ضد التمديد لو استطاع اتخاذ موقف حازم من تطوّر في غاية الخطورة يتمثل في تورّط ميليشيا «حزب الله» المذهبية في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه. كان يمكن تصديق ميشال عون لو اتخّذ موقفا صريحا مما يتعرّض له أهل طرابلس الذين يعيشون في ظلّ تهديدات ميليشيا طائفية اخرى مدعومة من النظام السوري لاسباب لا تخفى على أحد، الاّ على الذين يعتبرون انفسهم ولدوا كي يكون اداة لدى الادوات.

ما نشهده اليوم في لبنان يتجاوز مسألة التمديد. ما نشهده هو تعبئة ذات طابع مذهبي تستهدف ربط الساحل العلوي في سورية بالبقاع الشيعي… وصولا الى جنوب لبنان.

وهذا يعني بكلام صريح تغيير حدود لبنان من جهة وتجييش طائفة لبنانية مؤسسة، كانت دائما رمز الوطنية والاعتدال في مشروع لا علاقة للبنان به من قريب أو بعيد. هذا ليس وقت الهاء اللبنانيين بلعبة التمديد. انّه وقت التفكير في كيفية تجميع اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب، على رأس هؤلاء الشيعة والسنة والمسيحيون والدروز، وذلك من أجل اتخاذ موقف صريح مما يجري في سورية.

مثل هذا الموقف لا يمكن أن يكون له أي معنى من دون ادانة الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري بدل المشاركة في هذه الحرب. من يشارك في هذه الحرب، حتى عن طريق السكوت عنها، لا يدري أنه ينقل التهديد الذي يتعرّض له الكيان السوري الى لبنان.

من لديه مصلحة في ذلك غير اسرائيل والمنادين بحلف الاقليات المتحالفين معها من حيث يدرون أو لا يدرون؟ الارجح أنّ هؤلاء يدرون. انهم يدرون خصوصا أن تدمير القُصير جزء لا يتجزّأ من مشروع حلف الاقلّيات في المنطقة. ولذلك، يذهبون الى سورية ويقتحمون القُصير ويقتلون ويدمّرون وهم يعرفون أن ظهرهم محمي، بل محمي أكثر من اللزوم!

الرأي

إيران وأذرعها في وُحول فيتنام السورية؟

راجح الخوري

عندما كان السيد حسن نصر الله يلقي خطابه معلنا دخول المعركة إلى جانب النظام السوري، كانت وزارة الخارجية الإيرانية تصدر بيانا تعلن فيه أنها لم ترسل قوات إلى سوريا. بدا الأمر مفارقة في غاية الغرابة، وخصوصا في ظل ما تردد عن أن طهران هي التي دفعت حزب الله إلى التدخل «بكل قوة ومهما كان الثمن» لمساعدة الجيش السوري المنهك، في وقت تزايدت فيه مؤشرات اندحاره عندما ترددت أنباء عن فتح معركة دمشق.

قبل ذلك كان حزب الله ينزلق تدريجيا إلى الرمال السورية المتحركة التي يبدو أنها ستتحول في النهاية إلى فيتنام قاسية جدا، سيتمرغ الإيرانيون وكل أذرعهم العسكرية، أي الحزب و«عصائب أهل الحق العراقية»، في وحولها، وقد بدأ التدخل عبر المناوشات في منطقة عكار الحدودية بذريعة الدفاع عن القرى الشيعية، ثم عبر «الدفاع عن المقامات الدينية»، رغم كل ما قيل عن أن هذه المقامات لها حرمتها واحترامها عند الجميع، ثم جاء الإعلان صريحا عن أن حزب الله يدخل المعركة بكل ما يملك من القوة بهدف «حماية ظهر المقاومة والحيلولة دون انهيار النظام السوري» الذي يشكل شرفة إيرانية مهمة لبقاء المسؤولين الملالي على تماس مع القضية الفلسطينية التي يتلبسونها لاختراق المنطقة العربية، ولإبقاء نفوذهم على شواطئ المتوسط، بما يدعم أوراقهم التفاوضية في المسألة النووية.

الرهان على تحقيق نصر سريع في مدينة القصير المحاصرة لم يكن موفقا؛ فاستعادة هذه المدينة المدمرة التي تشبه ستالينغراد كانت مكلفة، والقصير ليست أكثر من شجرة في غابة من النيران المندلعة، وهي بوابة إلى الوحول السورية المتحركة، وسوريا في المناسبة تساوي 18 ضعف مساحة لبنان، وستة أضعاف عدد اللبنانيين، فإلى أي رمال دموية متحركة دخل حزب الله، وخصوصا أن دخوله يؤجج علنا الأبعاد المذهبية التي كان الصراع قد بدأ يرسمها، أولا بسبب وحشية النظام الذي تمادى في التصفيات الجماعية وحمامات الدم، وثانيا بسبب التدخل الإيراني بالسلاح والرجال في وقت كرر فيه علي خامنئي أنه لن يسمح بسقوط الأسد، وصدرت تصريحات مستفزة تقول إن سوريا هي الولاية الإيرانية رقم 35!

بعد أقل من عشرة أيام بدا أن دخول حزب الله المعركة في سوريا لن يحمي ظهر المقاومة، بل يكشفها كما لم يكن من قبل، والدليل أنه بسبب استضعافه الدولة اللبنانية اضطر الحزب إلى اتخاذ تدابير احترازية وإجراءات أمنية في مواقعه في الضاحية والجنوب والبقاع، ليس بسبب بعد سقوط الصاروخين على الضاحية فحسب، بل لأن النار السورية اقتربت أكثر من الهشيم اللبناني، حيث تطل جبهة بعلبك بعد جبهة عكار، ويرتفع الاحتقان المذهبي في صيدا والبقاع الغربي، بينما تبدو طرابلس غارقة في حربها الأبدية التي شهدت حتى الآن انهيار 17 اتفاقا لوقف النار.

لست أدري إلى متى يمكن حزب الله الركون إلى بيئته الحاضنة ليحمي ظهره أولا إذا كانت إيران تناقض حديثه عن مسوغات التدخل، وثانيا إذا كان بشار الأسد لم يتردد في تحجيم أهمية هذا التدخل، عندما قال لتلفزيون «المنار» ما معناه أن سوريا ليست في حاجة إلى حزب الله ليتدخل، فهو فقط يحمي القرى الشيعية عند الحدود، وثالثا إذا كان معظم اللبنانيين يعارضون هذا التدخل لأنه سينقل الحرب السورية إليهم، وبين هؤلاء ضمنا وصمتا عدد كبير من أبناء الطائفة الشيعية.

لا أدري كيف يكون ظهر المقاومة محميا عندما تتشوه صورة حزب الله في العالم العربي وينظر إليه في العالم الغربي على أنه مجرد «أداة إيرانية تخريبية وإرهابية»، والأخطر من كل هذا عندما تؤكد دول الخليج أنها تعتبره منظمة إرهابية وتقرر النظر في اتخاذ إجراءات ضد مصالحه في أراضيها، وأنه «لا أحد يستطيع التغطية على ممارساته؛ فهو منظمة إرهابية، وهناك إجماع على أن تدخله السافر في سوريا هو إرهاب بما يكشف أنه كان يمارس التقية».

وليس خافيا أن الإجراءات التي ستتخذها دول مجلس التعاون الخليجي ضد ما تراه مصالح حزب الله ستصيب مصالح الآلاف من اللبنانيين الذين لم يحسب الحزب حسابهم، بل كشف ظهورهم، أو بالأحرى قد يتسبب في كسر ظهورهم بحجة حماية ظهر المقاومة، إلا إذا كان سيجد لهم استثمارات وعقودا ومصالح وأعمالا ومؤسسات ووظائف بديلة في إيران، وهو أمر مستحيل كما يعرف الجميع، وفي ظل حصول مثل هذه الإجراءات لا يكفي الحديث عن كسر ظهر هؤلاء فحسب؛ لأن ظهر لبنان سيكون مكشوفا، لكن ما الفرق إذا كان هذا الظهر أصلا مكسورا من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال؟!

الشرق الأوسط

محرقة القصير تكشف عار.. الانتصار

فاطمة حوحو

استفاق اللبنانيون والعالم أمس على حقيقة واحدة، وهي أن القصير سواء سقطت في يد النظام السوري و”حزب الله” المزدوج الجنسية (لبناني إيراني)، فإن قصة صمود بطولية عاشتها هذه المدينة الحرة وريفها سترويها الأجيال وستنتعش ذاكرة الجميع حين تحكي الجدات للأحفاد ما جرى ليلة الخامس من حزيران في العام 2013، من قصص عن المقاتلين الثوار الذين دافعوا عن أرضهم بوجه محتل غاصب قدم من دولة مجاورة لدعم ديكتاتور ظالم ضد ثوار أرادوا أن يكتبوا تاريخاً جديداً في بلادهم، ثوار من أجل الديموقراطية والحرية والكرامة، ستروي الجدات سيرة المجازر التي ارتكبت بحق الآمنين وعذابات الجرحى وأصوات الأنين التي لا تزال تلاحق أولئك الذين أعلنوا النصر في الصباح الباكر ووزعوا الحلوى في الضاحية الجنوبية تعبيراً عن نشوة مسروقة لا متعة ولا إمتاع فيها، وحيث تغلّبت مشاعر الجنون على كل ما عداها بعد أن تم الرقص على جثث دفنت تحت التراب أو حول أرواح أطفال صعدت الى السماء بعد بكاءات الألم من الأجساد الصغيرة.

إنها قصة القصير التي صمدت أسابيع ثلاثة أمام الهجومات المتكررة لـ”حزب الله” و”الحرس الثوري الإيراني” بمساندة روسية واضحة سياسياً وعسكرياً، ثم سقطت ولم تسقط، بل تحوّلت الى أرض ملغومة تفجر يومياً بطولات جديدة ضد القوى المحتلة، لقد كلّفت معارك القصير قوات النظام السوري و”حزب الله” مئات القتلى وآلاف الجرحى حتى الآن والحبل على الجرار، والأيام المقبلة ستظهر أن معركة القصير لم تنته بعد بل هي مستمرة ولن يكون لها نهاية إلا بانتصار أصحاب الأرض المقاومين الحقيقيين دفاعاً عن عائلاتهم وبيوتهم وممتلكاتهم ودفاعاً عن حلمهم بسوريا حرة وديموقراطية وإسقاط نظام “البعث” الذي كذب عليهم دهوراً، معركة القصير وحربها ضد “الحزب الإلهي” تؤكد أن لا شيء طوي، وما جرى تداوله من معلومات بعد انفضاح الصورة الإعلامية نفسها المكررة، أن الثوار في الميدان ولم يغادروا، وهم يخوضون معارك كرّ وفرّ ضد العدو ويؤكدون استمرارية الثورة وأن الجبهات ما تزال مفتوحة وجولات القتال ستتصاعد الى أن يصبح النصر نصر أصحاب الحق لا نصير مقنعي “المقاومة”.

بالأمس كانت حكايات القصير على صفحات “الفايسبوك” تنتشر بسرعة البرق، المشاعر الإنسانية تفيض تضامناً مع أهل القصير، الغضب يسطع حين تبث صور توزيع الحلوى وشعار “سقطت القصير” في الضاحية، التعليقات لا تتوقف على هذه المهزلة السخيفة ممن أصبح قتالهم في سوريا خطراً عليهم وعلى كل لبنان… يهرب البعض الى الشعر وآخر الى التحليل والبعض الى الاستقصاء والكل مشغول بحب المدينة والمنطقة، يؤكد أن الاحتلال لا يدوم…

“ستعود سنابلك أكثر انحناء

وريفك سيكون أكثر فرحاً يا قصير

غداً

بلابلك أكثر

فلاّحوك أكثر

زغاريد النسوة أجمل”.

يكتب جمال شحرور ليعطي أملاً مفقوداً بعد إعلان سقوط القصير بلحظات، ويؤكد علي سلامة “في القصير سيكون ليل عصابة القتلة طويل”.

يستنجد أحد شباب الضاحية الجنوبية المعارض بأبيه وأمه قائلاً: “أصبحنا مكروهين… هل من معين؟”. ويسأل آخر “بالله عليك كيف تحتفل منتصراً بقتل أخيك؟”، فيما يوضح أحدهم “حزب الله يعترف عملياً أنه وجيش بشار قوة احتلال في القصير، فعبارة “القصير سقطت” التي فاخرت بها زمر “حزب الله” في الضاحية الجنوبية، تعني أن القصير سقطت بيد الاحتلال وليس تحررت وتذكروا أن ما من احتلال يدوم”.

ويعلق صديقه “الشيعية السياسية من حديثي نعمة الانتصارات (مع انتصار الثورة في إيران)، وطبيعي أن يوزع “حزب الله” الحلوى بعد كل انتصار، ويقول للعالم: “شوفوني، نعم أنا أنتصر”.. تصرف مماثل لتصرف حديثي النعمة “شوفوني، نعم أنا آكل وأشرب وعندي شقة وسيارة فخمة”.

ويُعرب أحدهم عن اعتقاده أنه “من الحماقة الحديث عن أي شيء يتعلق بالتقارب والتسامح بين المذاهب لقرون عدة مقبلة، وهذا بالضبط ما كان يتمناه الغرب وحققته إيران وأذنابها”، بينما يسجل أحد الناشطين اللبنانيين قوله “لا أشعر بالحزن والقهر على احتلال القصير فالمعارك كرّ وفرّ.. أشعر بالقهر والحقد على من يوزع البقلاوة في شوارع الضاحية فرحاً، على من يقول أن زينب تزغرد في مقامها فرحاً… أشعر بالرغبة في الانتقام من هذه الوحوش”.

يستدرك أحدهم بالتذكير “منذ 1400 سنة والشيعة يتوارثون حقد ما حصل بهم في كربلاء وما يقوم به “حزب الله” في القصير وفي كل سوريا سيولد حقداً على الشيعة سيتوارثه السوريون لآلاف السنين”.

وعن سير المعركة في القصير، يجري بث المعلومات والتعليقات لا تنتهي والدعوات الى الصبر لاستجلاء الحقائق بعيداً عن إعلام “ولاية الفقيه” و”البعث”، يدعو أحدهم الى الانتظار “لم تسقط القصير بعد، الأرض التي يغزوها القتلة تلفظهم ولو بعد حين”، ويؤكد “الغريب ليس سقوطها وهي لم تسقط بعد.. الغريب هو صمود أبطالها كل هذا الوقت”. ويٍسأل آخر “لو كسب نظام العصابة وميليشيات الولي الفقيه الصراع عسكرياً فما هي نتائج هذا الكسب؟ هل يستسلم السوريون الأحرار لخامنئي والأسد ويركعون طلباً للعفو؟”، ويجيب “طبعاً لا هو كسب يشبه مكسب السارق موقت ولا معنى له”.

تشير مروى أن بعض الأغبياء يقولون “مبروك تحرير القصير”، وتسأل “هل يحتل السوريون بلدهم وحزب الله المحرر، القصير منطقة سورية وليست لبنانية لكي يحررها حسن نصرالله ثم ممن يحررها من هو العدو؟ الشعب السوري فعلاً هزلتم”.

يكثر الكلام… تزداد التعليقات وتبقى الحقيقة التي يقولها أحد الشباب المعارض من مجموعة “سلمية سلمية” المطاردون من قبل النظام والمشتتون في الداخل والخارج: “خسرنا مكاناً وربحنا مكانة.. ليس على الثوار دائماً البقاء في الجغرافيا، فيما هم يكتبون التاريخ، المعركة لا تنتهي لا بالقصير ولا في غيرها، يعترفون بخسارة معركة، لكنهم متفائلون بالمستقبل، لأن جدار الخوف إمحى ورهبة الموت تلاشت وإرادة الحياة مطلقة”.

نعم المعركة لم تنته. في السابق جرت معركة بابا عمرو وقيل أنها أم المعارك سقطت، لم تكن المعركة حاسمة ولم تتوقف الثورة والنظام لم ينتصر، القصير اليوم سواء سقطت كلها أم لم تسقط خسارة جولة في حرب.

المستقبل

مبادئ القتال في القُصير: تغيير النظام السوري لسير الحرب

جيفري وايت

ليست المعركة المحتدمة في مدينة القصير وما حولها في محافظة حمص في سوريا مجرد صدام آخر بين أطراف القتال، إنها معركة شاملة لها أثر جوهري كبير على الحرب، على غرار المعركة للسيطرة على حلب في صيف 2012. وعلى الرغم من المقاومة الحازمة من جانب الثوار، تعدُّ هذه المعركة من المعارك التي يجب أن يفوز بها النظام. وإذا عرفنا ما لديه من الأفضليات في الوقت الحالي، فإن النصر سيكون على الأرجح حليفاً لدمشق. فمدينة القصير تقع بالفعل تحت وطأة القدرات المتقدمة التي يحظى بها النظام وتلك التي يمتلكها حلفاؤه، وخاصة «حزب الله». وربما الأهم من ذلك، يبدو أن قوات بشار الأسد بصدد وضع مجموعة من “مبادئ القتال في القصير” من شأنها صياغة مسار الحرب خلال الفترة المقبلة.

أهمية المعركة

تتمتع المعركة للسيطرة على القصير بقدر من الأهمية لعدة أسباب؛ فالمنطقة تُشرف على الطريق الجنوبي المتجه إلى الساحل مروراً بمحافظة حمص، معقل أنصار النظام من العلويين الشيعة. كما أنها تسيطر على المسارات الجنوبية إلى مدينة حمص، حيث تستمر معاناة قوات النظام. وبالإضافة إلى تهديد القرى الشيعية في المنطقة، فإن سيطرة الثوار على القصير تعوق وصول النظام إلى وادي البقاع في لبنان، في حين تسهّل نقل إمدادات السلاح إلى الثوار عبر الحدود إلى المنطقة الغربية الوسطى في سوريا. إن النصر في هذه المعركة سوف يكون ذا أثر جوهري جيد على موقف النظام في محافظة حمص بوجه عام، وهو أمر ضروري للإبقاء على كل من إمكانية الوصول إلى الساحل وتأمين خط الاتصال الحساس من دمشق.

وتكتسب هذه المعركة أيضاً قدراً كبيراً من الأهمية على الصعيد السياسي والنفسي. فبالنسبة للنظام، تتوفر بمنطقة القصير فرصة مميزة لاستعراض قوته أمام الحلفاء والأعداء على حد سواء. كما أن النصر فيها من شأنه أن يعزز مرونته ويؤكد الالتزام من جانب مؤيديه. أما بالنسبة للمعارضة، فسوف تزيد الهزيمة من التوترات الداخلية وتثير الشكوك أيضاً، حيث سيلقي كل فصيل من الثوار باللوم على الفصائل الأخرى ويحملهم سبب الهزيمة بينما يتساءل كيف سيتمكنون من الصمود في وجه القدرات المتنامية للنظام. وإذا تمكنت قوات الأسد من مواصلة تحقيق المزيد من الانتصارات، فسوف تتضاعف هذه التأثيرات أيضاً.

وبناءً على ذلك، تتمثل أهداف النظام لخوض هذه المعركة في بسط النفوذ على المنطقة وتكبيد الثوار هزيمة عسكرية وسياسية ونفسية كبيرة. وعلى الرغم من أن تحقيق هذه الأهداف يخدم النظام بشكل جيد في جميع مؤتمرات السلام، إلا أن المعركة قد بدأت قبل انعقاد مؤتمر “جنيف الثاني” ببعض الوقت، ولا تزال دائرة لكثير من الأسباب الأخرى التي تفوق القوة التفاوضية أهمية.

مبادئ القتال في القُصير

تهدف استراتيجية النظام في هذه المعركة إلى دحر الثوار عن المنطقة الريفية جنوب مدينة القصير وشمالها، وعزل المنطقة لمنع انسحاب الثوار، ثم قصف المدينة وضواحيها لإلحاق خسائر وكسر المقاومة قبل الإغارة مباشرة على المدينة. ولتنفيذ هذا النهج، اتخذ النظام مزيج من الخطوات شملت استخدام قوات نظامية (يقال إنها تضم عناصر من “الفرقتين المدرعتين الثالثة والرابعة” و”الحرس الجمهوري”) وقوات غير نظامية (“جيش الدفاع الوطني”). وربما الأكثر أهمية، أن النظام يستعين بقوات «حزب الله» لتوفير قوات مشاة فعالة وجديرة بالثقة في هذه المعركة المكلفة والمستمرة. كما تفيد مصادر الثوار بأن النظام قد سحب بعض القوات النظامية من منطقة دمشق وحتى محافظة درعا في الجنوب لخوض هذه المعركة. وعلاوة على ذلك، دعمت قوات الأسد الجوية والصاروخية العمليات الأرضية بشكل مكثف، حيث أفادت التقارير بأنه تم تنفيذ ست عشرة غارة جوية وثلاث هجمات بصواريخ أرض- أرض في مدينة القصير في 29 أيار/مايو وحده. ويمثل هذا المزيج من القوات النظامية وغير النظامية وتلك الحليفة — المدعومة بكثافة من قِبَل القوات الجوية والمدفعية — الصيغة الحالية لخوض المعركة من جانب النظام.

وفي الوقت الحالي، يشارك حوالي 5000 – 6000 جندي من القوات الحكومية في المعركة، إلى جانب حوالي 2000 عنصر من مقاتلي «حزب الله». وقد تلقت كلتا المجموعتين بعض التعزيزات خلال الأيام القليلة الماضية، مما يعكس مدى صلابة المقاومة من جانب الثوار وحاجة النظام إلى نصر مؤزر. كما أن هناك تقارير غير مؤكدة من قبل المعارضة ادعت أيضاً أن مقاتلين إيرانيين يشاركون في القتال.

ويعدُّ الهجوم على القصير من التحركات التي تتم على مستوى العمليات التنفيذية: إذ تجمع قوات الأسد بين القتال والمناورة لتحقيق أهداف استراتيجية في ساحة المعركة في حمص. وتعتبر قدرة النظام على التفكير في مثل هذه العمليات وتنفيذها في هذه المرحلة من الحرب برهاناً على مرونته وقدرته على التكيُّف وعلى الدعم الوطيد من جانب الحلفاء — روسيا وإيران و «حزب الله». ولم تُبد قوات الثوار حتى الآن أية قدرة على التجاوب مع هذا النوع من التحرك، ويعود ذلك أساساً إلى أمور قيادية وتنظيمية تجعل من الصعب التركيز وتنسيق تواجد قوات كبيرة بين مختلف المحافظات.

وعلاوة على ذلك، فقد ثبت أيضاً صعوبة تعامل الثوار مع بعض التكتيكات المحددة من جانب النظام، على الرغم من تقديمهم أداء أفضل عند هذا المستوى. وقد استخدم النظام ميزته الكاسحة بالقوة النارية لتشتيت قوات الثوار وكسب الأرض ببطء. وعلى الرغم من أن تمتع المعارضين بميزة التضاريس والعزم الأكيد على القتال جعل ذلك عملية مكلفة، إلا أن تحركات النظام في الوقت الحالي تحمل حتمية معينة تجاههم. وببساطة، تواصل قوات الأسد تقدمها— حيث أن الغارات عادة ما تشمل القصف التمهيدي بقذائف المدفعية والقوات الجوية، والتسلل إلى منطقة الهدف، ثم تنفيذ هجمات المشاة المدعومة بالمدرعات. ويتم استخدام صواريخ أرض- أرض لقصف المناطق الخلفية للثوار بحيث يتم تدمير جميع الملاجئ حتى أكثرها عمقاً، وفقاً لمصادر المعارضة.

وبالنظر إليها معاً، فإن “مبادئ القتال في القصير” توضح كيف سيدفع النظام بمسيرة الحرب نحو الأمام:

· الدمج بين وحدات نظامية وغير نظامية وأخرى حليفة للتحول إلى قوة قتالية فعالة وجديرة بالثقة

· عزل مناطق الهدف للحيلولة دون وصول تعزيزات أو إمدادات جديدة إلى الثوار أو هربهم

· قصف مناطق الهدف بجميع الوسائل المتاحة لإضعاف الدفاعات وزيادة محنة المدنيين المحاصرين هناك

· عندما تحتوي إحدى مناطق الهدف على قواعد مركزية للثوار وأخرى نائية، يتم دفعها نحو الداخل بهدف الضغط على المدافعين

· تنفيذ غارات متكررة لبسط النفوذ على المناطق المحورية، وإلحاق الخسائر، وإجبار المدافعين على استهلاك مؤنهم

· الاستفادة من تميز النظام بالقوة النارية وقدرته على تنسيق العمليات ودعمها.

ويمكن توقع قيام الحكومة والقوات المتحالفة معها بتطبيق هذه المبادئ طالما تؤدي إلى النصر.

التداعيات

لقد تمكن النظام من إحراز تقدم بطيء لكن لا يمكن إنكاره في القصير، حيث كبَّد مقاتلي الثوار وقادتهم خسائر كبيرة على الرغم من خسائره الكبيرة هو نفسه، والنكسات المحلية التي أصابته في بعض الأحيان. وقد تم ضغط قوات المعارضة في المنطقة إلى جيبٍ آخذ في التضاؤل يمتد من محافظة حمص الشرقية إلى القصير والمناطق المحيطة المتاخمة لها. وربما لم يتم بعد عزل المدينة وتأمينها بشكل تام، لكن هذه النتيجة تبقى بين الاحتمالات الواردة خلال الأيام القليلة المقبلة. وبعدها، يصبح أمر سقوط المدينة مجرد مسألة وقت.

وتُخبرنا الاستراتيجية والتكتيكات التي تقود إلى هذه النتيجة بالكثير عن الطبيعة المتغيرة للحرب، لاسيّما القدرة الهجومية المجدَّدة للنظام واعتماده المتزايد على القوات غير النظامية والمتحالفة. وتلك عوامل من شأنها إجبار الثوار ومؤيديهم على إدراك الوسائل اللازمة للصمود أمام تحدي النظام.

ومع ذلك، ليست هذه هي المعركة الأخيرة أو الحاسمة بالنسبة لسوريا. وأحد أسباب ذلك، أن الثوار يحققون بعض النجاح في مناطق أخرى، من بينها محافظة حماة الشرقية ودرعا وحلب. كما أن المعارك في هذه الحرب تميل، بشكل أوسع نطاقاً، إلى التمخض عن نتائج غير تامة حيث تتآكل آثارها مع مرور الوقت. فكلا الطرفين يعاني من صعوبة تأكيد الانتصار، وغالباً ما يجدا بأنهما يقاتلان مجدداً على الأرض ذاتها، كما في مدينة حمص وريف دمشق ومحافظتي حلب ودرعا. وتبدو القُصير مختلفة في هذا الصدد، لكن يبقى أن نرى ما تحمله الأيام.

وأياً كان الأمر، فإن المعركة من أجل السيطرة على القصير مهمة في حد ذاتها وكذلك من أجل بيان الكيفية التي ستسير بموجبها الحرب خلال الفترة الحالية. وبمعرفة النتائج التي تم التوصل إليها حتى الآن، يجب على الثوار أن يقوموا بترتيب بيتهم السياسي والعسكري بسرعة. كما يلزمهم أيضاً أن يظهروا أن بإمكانهم إما هزيمة هذه العمليات أو جعلها باهظة التكلفة بحيث تجعل النظام يتخلى عنها. ولا بد، كذلك، من قيام تحرك سريع من جانب مؤيدي الثوار من الأجانب، على الأقل فيما يتعلق بتزويد قوات الثوار بالوسائل اللازمة من أجل مقاومة أكثر فاعلية. وربما لن ينعقد مؤتمر السلام المقترح أبداً، ويبدو أنه حتى في حال انعقاده، فإن مآله سيكون إلى الفشل، لذا فإن تأخير المساعدة العسكرية أكثر من ذلك يعتبر وصفة جيدة لتحقيق النظام للمزيد من الانتصارات.

جيفري وايت هو زميل للشؤون الدفاعية في معهد واشنطن وضابط كبير سابق لشؤون الاستخبارات الدفاعية.

«حروب الطوائف»

افتتاحية «الشرق الأوسط»

التطورات المتسارعة في الوضع السوري خلال الأيام القليلة الفائتة، إن على الصعيد السياسي أو الصعيد العسكري، كانت مهمة جدا بشتى المقاييس.

لقد كانت المقابلة التلفزيونية التي أجراها الرئيس السوري بشار الأسد مع محطة «المنار»، التابعة لحزب الله اللبناني، تعبيرا ناطقا عن عبثية أي بحث سياسي جدي معه في انتقال السلطة. وقبلها جاءت خطبة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في احتفال «ذكرى الانتصار والتحرير» لتثبت من جديد عمق تورط «الحزب» في حرب طائفية حقيقية، تؤسس مع مضي كل يوم لحروب طائفية تهدد بقاء الكيانات السياسية التي أبصرت النور مع نهاية الحرب العالمية الأولى.

بعد قرن تقريبا من تأسيس الكيانات الحالية في منطقة الشرق الأدنى، وتحديدا العراق وسوريا ولبنان، تثبت الولاءات الطائفية والمذهبية، بل وحتى الدينية والإثنية، أنها أرسخ من هذه الكيانات وأقوى منها مناعة. وبصرف النظر عن النيات المبيتة للقوى الإقليمية والدولية التي قد يرتاح البعض إلى جعلها مشاجب تعلق عليها إخفاقات التعايش والتفاعل الصحي بين شعوب المنطقة، تقضي الأمانة بالإقرار أن هذه الشعوب عجزت عن التصدي للأطماع الخارجية وإغراءات الانغماس في فتن فئوية، وعن محاسبة أنظمة تسلطية تفضل «التفاهم» مع مواطنيها بالحديد والدم على إقناعهم بمنجزات التنمية والاستثمار بمؤسسات النفع العام.

إن المسؤولية الكبرى في خطر تحول كيانات الشرق الأدنى إلى «دول فاشلة» لا بد أن يتحملها أبناؤها والقيادات التي قبلوا بها، وساروا تحت راياتها في مسيرة انحدار نشاهد اليوم بأم العين تبعاتها الكارثية. ولكن، هذا جزء من المشكلة. أما الجزء الآخر، فهو البعد الخارجي، على المستويين الإقليمي والدولي. ذلك أنه من الطبيعي أن يكون للقوى الإقليمية الأقوى تماسكا من جيرانها أطماع ومطامح على حساب جيرانها الأضعف. وأيضا من الطبيعي أن يكون الموقع الجغرافي لدول الشرق الأدنى ميدان تجاذب وتنافس في الحسابات الدولية العليا.

وهنا لا بد من القول إنه في ضوء ما تفرزه الأزمة السورية من مآس ودمار ومخاطر يذهب المراقب الساذج إلى التصور بأن الغرب سعيد باستمرار الأزمة بوتيرتها الراهنة. غير أن هذا التصور يغفل حقيقة أن في الدول الغربية جاليات مسلمة كبيرة تقدر بالملايين. وبالتالي، فإن حالات التطرف والراديكالية «الجهادية» التي تتغذى من أزمات شهدها ويشهدها العالمان العربي والإسلامي كالأزمة السورية، وقبلها الأزمة الفلسطينية والأزمة الأفغانية والأزمة العراقية، تنقل العدوى إلى دول الغرب لتجعل من هذا التطرف.. مشكلة غربية فعلية.

نعم، أدى تأخر الدول الغربية الكبرى عن حسم الوضع السوري عبر انتقال سلس للسلطة، في الوقت المواتي، إلى اندلاع ما نشهده اليوم من «حروب طوائف» غير محسوبة العواقب. ويمكن في هذا السياق التذكير بالتحذيرات اللافتة، وأبرزها تحذير خادم الحرمين الشريفين، من خطر خلخلة الثقة بالمؤسسات الدولية المولجة صيانة الأمن وحفظ السلام في العالم بعد استخدام كل من روسيا والصين «الفيتو» للمرة الأولى في شأن الأزمة السورية.

اليوم، بعد مرور أكثر من سنتين على تلك الأزمة التي حصدت أكثر من 100 ألف قتيل، تتأكد الحكمة من تلك التحذيرات. ويتضح أن الإهمال في إطفاء الحريق سيزيد كلفة إطفائه على الجميع.

الشرق الأوسط

الحرب الطائفية تقترب من لبنان والخليج ايضا

رأي القدس

كل يوم جديد من عمر الازمة السورية المتفاقمة يعني زيادة احتمالات امتداد ذيولها الملتهبة الى دول الجوار الاربع، اي لبنان والعراق وتركيا والاردن، وربما الى دول جوار الصف الثاني ايضا مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، لان اللون الطائفي للصراع بات يتضح ويتبلور بصورة اكثر وضوحا في طرفيه، او هكذا يراد له ان يكون.

الاعلان عن محاولة مقاتلين تابعين للمعارضة السورية المسلحة وحلفائها المنضوية تحت مظلة الجيش السوري الحر، نصب قواعد صواريخ في احراش منطقة بعلبك، وتدميرها ومقتل العشرات بعد هجمات لحزب الله اللبناني، يؤكد هذه النظرية، حيث من الواضح ان لبنان بات البلد الذي سيكون له فرس السباق في انتقال الازمة السورية الى اراضيه، خاصة بعد اعتراف السيد حسن نصر الله زعيم الحزب ان قواته تقاتل في جبهة القصير الى جانب القوات السورية.

الحرب الاهلية المذهبية في لبنان بدأت منذ فترة طويلة، ولكنها ظلت محصورة في مدينة طرابلس الشمالية واطرافها حيث شهدت المدينة صدامات دموية بين مقاتلين من اتباع الطائفة العلوية في جبل محسن وآخرين من انصار المعارضة السورية. وجميعهم من الطائفة السنية، في منطقة التبانة.

انحصار هذه الحرب الاهلية المصغرة في شمال لبنان لن يدوم طويلا، وانتقالها الى الوسط والجنوب بات مسألة وقت وتوقيت، فاللواء سليم ادريس رئيس هيئة اركان الجيش السوري الحر المدعوم سعوديا وتركيا وامريكيا، هدد بضرب معاقل حزب الله في الضاحية والجنوب اذا لم يسحب الحزب قواته من منطقة القصير في غضون 24 ساعة.

وجود مقاتلين تابعين للمعارضة السورية المسلحة في منطقة بعلبك ذات الطابع الشيعي، ومحاولة هؤلاء نصب منصات صواريخ يعكس امرين رئيسيين، الاول ان حزب الله متيقن، بل متأهب لوصول هؤلاء، والثاني ان هذه الصواريخ كانت موجهة الى القصير لمساندة القوات المعارضة المدافعة عنها والحيلولة دون استعادتها من قبل قوات الجيش السوري النظامي، ويمكن ان تستخدم لقصف اهداف لحزب الله في لبنان.

القوى الاقليمية والدولية المتورطة في الصراع على سورية، ارادت ان يظل لبنان في منأى عن اي امتدادات للحرب الطائفية السورية، حتى حزب الله نفسه، وعلى لسان السيد نصر الله في خطابه الاخير طالب الفرقاء اللبنانيين بالتقاتل على الارض السورية وليس اللبنانية، ولكن هذه كلها اضغاث احلام، فالمناشدة الكلامية شيء وما يجري على الارض شيء آخر.

الحرب الاهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975 وامتدت لاكثر من 15 عاما، ادت الى تدمير معظم البلاد وتهجير اكثر من مليون لبناني ومقتل عشرات الآلاف من الجانبين، ولكن الحرب الجديدة في حال اندلاعها ستكون اكثر خطورة، ففي لبنان مليون لاجئ سوري على الاقل، وفتنة طائفية جمرها متقد تنتظر من يصب عليها بعض الوقود لكي تنفجر اشتعالا، وما اكثر هؤلاء في الوقت الراهن.

السوريون لجأوا الى لبنان للنجاة بحياتهم وارواحهم، فالى اين سيذهبون اذا ما طاردتهم الحرب الاهلية في ملجئهم الجديد، ومعهم ضعف هذا الرقم من اللبنانيين؟

الشيخ يوسف القرضاوي رئيس هيئة علماء المسلمين فاجأ عشرات الملايين بفتواه التي كفرّ فيها ابناء الطائفة العلوية، وهاجم فيها السيد نصر الله وحزب الله بشراسة غير مسبوقة، وكان لافتا ان هذه الفتوى وجدت اصداء ترحيبية ومؤيدة في دول الخليج العربي على وجه الخصوص، مما يعني ان مجتمعات هذه الدول ربما تواجه اضطرابات مذهبية لقربها من ايران اولا ووجود اقليات شيعية في جميعها.

لبنان يظل الخاصرة الاضعف بسبب قيامه اساسا على اسس طائفية، وضعف حكومته المركزية، وهشاشة نسيجه الاجتماعي والوطني، ولكن الآخرين ليسوا في مأمن في الوقت نفسه.

القدس العربي

الخليج العربي و «حزب الله»

عبدالله إسكندر

مرة جديدة أخطأ «حزب الله» علناً بحسابه الموقف الخليجي منه على العلاقة بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة. ليس الخطأ في قراءة علاقة خاصة بين دول المجلس وأميركا، وهي علاقة قديمة تتناول السياسة والمصالح الحيوية، وإنما الخطأ -الذي ربما يكون مقصوداً- يكمن في جذر المشكلة بين حزب يعلن تمثيله للشيعة وارتباطه العضوي بإيران وعلاقته الاستراتيجية بالنظام السوري، وبين هذه الدول ذات الغالبية السنية والمشتبكة مع ايران والمناهضة للنظام السوري.

ويكون «حزب الله»، بإغفاله هذا الجانب الأساسي من صورته الحالية لدى الرأي العام العربي عموماً والخليجي خصوصاً، يعرّض العلاقة السنية-الشيعية المتزايدة التدهور إلى نقطة اللارجوع. علماً أن النوازع التكفيرية المتبادلة لا تحتاج إلى أكثر من الشحن المذهبي الحالي لتنفجر الانفجار الكبير.

لا حاجة للعودة إلى تاريخ تأسيس الحزب ومرجعيته الفقهية وآرائه في السياسة والحكم من أجل تحديد مسؤوليته في الموقف الخليجي منه. يعلن الحزب بكل السبل الممكنة، أنه حزب شيعي بكل ما في اللاوعي الشيعي، وصورته لدى الآخرين، من علاقة سلبية مع المؤسسة السنّية على مدى التاريخ. وعملت الثورة الخمينية على إخراج الشيعة من اوطانهم ودولهم. وشكل «حزب الله» النموذج «الناجح» لهذا الخروج، لأسباب ترتبط بالبقعة الجغرافية التي نشأ فيها والدور السوري في حمايته، في حين ظهرت نماذج أخرى «فاشلة» في الخليج. ولا يتردد مسؤولون خليجيون من ربط هذه النماذج الفاشلة مع شبكات إيرانية. ما ألصق بالشيعي صورة الخارج على وطنه ودولته والمرتبط بدولة غير عربية تسعى من أجل مصالحها إلى ضرب استقرار الخليج.

كان يُفترض بـ «حزب الله» أن يعمل على تغيير هذه الصورة التي تقوّض العلاقة المواطنية، مهما كانت النيات. خصوصاً انه لم يتوقف عن ترداد أنه يتجاوز الانقسامات المذهبية، وأنه يسعى إلى الحوار بين المذاهب. لكن الأهم من هذه كون الحزب نشأ في بيئة لبنانية متعددة دينياً ومذهبياً، بما كان يفترض أن يخلق لديه حساسية خاصة إزاء صورته لدى الآخرين.

لقد بدا أن الحزب، خصوصاً منذ 2005، لم يعد مهتماً بصورته كجماعة تقاوم الاحتلال الإسرائيلي لأرض لبنانية. وإنما اهتم بتعزيز صورته كجماعة شيعية مرتبطة بإيران، خصوصاً عندما أراد أن يرد على منتقدي تبعيته السياسية. لا أحد يعترض على اختيار مرجعية دينية ما، ما دام الأمر يبقى ضمن حدود الولاء للوطن ودولته، لكن المشكلة هي في أن تتحول المرجعية ولاء سياسياً لخارج الدولة والوطن. وفي هذا الصدد يمكن التذكير بتجربة الإمام اللبناني الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين في بلدان الخليج العربي، حيث كانت نصيحته لأبناء طائفته الشيعية التمسك بالولاء لوطنهم، وقام بأكثر من وساطة لدرء مخاطر «استيراد» الثورة الإيرانية.

على النقيض من ذلك، يلعب «حزب الله» دور المحرض للمواطنين الشيعة في بلدان الخليج على الخروج على الوطن والدولة، إضافة إلى الاشتباه بكونه يقوم بتدريب عسكري لعناصر منهم. وجاءت مشاركته في الحرب السورية والدوافع التي يقدمها لتبرير هذه المشاركة، لتعطيه صورة الميليشيا الطائفية العابرة للأوطان بامتياز… وفي هذا المعنى، قد تنسحب إجراءات ضد مصالح الحزب هدد بها مجلس التعاون على الشيعة في دول الخليج، والأخطر من ذلك، ما قيل عن أن الحزب «كشف حقيقته»، بما يؤكد الصورة التي أراد أن يعطيها لنفسه وللشيعة في هذه المرحلة الملتهبة في المنطقة.

الحياة

«حزب الله» والتمثّل بالعدو

زياد ماجد *

يحشد حزب الله منذ أسابيع حججاً كثيرة لتبرير تزايد تدخّله العسكري في سورية دعماً لنظام الأسد واحتلالاً لقرى محاذية للحدود اللبنانية ولأحياء في ضواحي العاصمة السورية. وتتراوح حججه بين حماية لبنانيّين مقيمين خلف الحدود، والدفاع عن مقام السيدة زينب، وقتال «التكفيريّين» استباقياً لمنعهم من دخول لبنان، والتصدّي للمؤامرة الدولية-الإقليمية على «المقاومة» وحلفائها، وتُعطف على الحجج الرسمية المذكورة مقولات تتردّد في أوساط الحزب الشعبية وفي بيئته الحاضنة وتُستخدم للتعبئة أو لترهيب الخصوم «الداخليّين»، وأمرا التعبئة والترهيب أساساً وثيقا الارتباط.

مِن هذه المقولات ما يستعير من أحداث «الفتنة الكبرى» في القرن السابع الميلادي بعض السرديّات التي بُنيت عليها انقسامات ومظلوميّات؛ ومنها ما يزاوج بين الماضي والحاضر على نحو تبدو فيه المعركة في سورية ثأراً من موقعة كربلاء، أو على الأقل، منعاً لتكرارها، ومنها أيضاً ما يستعيد بعض المشاهد والخطابات المضادة فيركّز على معالم الكراهية والتعصّب المذهبي فيها (وهي بالفعل موجودة وبغيضة بمعزل عن ملابساتها) ليحذّر من ترجمتها الميدانية إن لم يتصدّ لها قبل بلوغها دياره. وطبعاً، تبقى لأميركا وإسرائيل حصّة، إذ يصعب في مخيّلة «ممانعة» تصوّر أن لا مكائد لهما منصوبةً في القصير أو في الريف الدمشقي مثلاً.

ولا شكّ في أن الحجج الرسمية كما المقولات الشعبية هذه تهيمن اليوم في الجنوب اللبناني والبقاع الشمالي وفي ضاحية بيروت الجنوبية وبعض أحياء العاصمة. وهي تُبثّ في أجهزة إعلام وفي مدارس وجمعيات كشفية وشبابية ومن على منابر مراكز دينية وضمن حلقات حزبية، كما أنها تتردّد مع كل جنازة لمقاتل عائد من أرض المواجهة، وتتحوّل الى مسلّمات قد تصل مساءلتها إلى مرتبة «الطعن بدماء الشهداء» أو حتى «التشكيك» باليقين الديني ذاته.

على أن التدقيق في بعض الجوانب المحيطة بالحجج والمقولات إياها، وبالممارسات القائمة افتراضاً بموجبها، تظهر أن ماكينة حزب الله الإعلامية والعسكرية، بنَت فوق مقوّمات «الشيعية السياسية» اللبنانية، التي بدأ تبلورها أواسط الثمانينات، وبموازاة الأيديولوجيا والتنظيم «الثوري» الإيراني، منظومةً فيها من التشابه مع المنظومة الخطابية والعسكرية الرسمية الإسرائيلية الكثير. بمعنى آخر، ثمة تماثل يططحقّقه حزب الله اليوم مع جوانب عدّة في منظومة «الذرائع ومقتضياتها» التي أقامها عدوّ قاتله الحزب على مدى عقدين وأكثر من الزمن. وهذا يتخطّى الجانب العسكري وما فيه من تنظيم ومناقبية صارمة.

فعلى سبيل المثال، لا تختلف الاستباقية التي يدّعيها حزب الله في حوض العاصي السوري «بهدف تأمين سلامة اللبنانيين» عن مبدأ «سلامة الأراضي الإسرائيلية» التي اعتمدها الجيش المسمّى «جيش الدفاع الإسرائيلي» في معظم عمليّاته داخل الأراضي اللبنانية.

ولا تتمايز حجّة الأضرحة والمزارات الدينية والذود عنها عن حجج المستوطنين في مدينة الخليل، أو عن فلسفة الاحتلال بدعوى الدفاع عن تاريخ أو عن مقام يتهدّده الشرّ ويكاد يكرّر «مأساته الأولى».

ولا تفترق النظرة لدى حزب الله إلى العامل الديموغرافي الذي يدفع للتساؤل عن حكمة ذهابه إلى صدام مذهبي كبير في ظل أقلّويّته إقليمياً عن نظرة الـ «إستبليشمنت» الإسرائيلي، التي لم تر في العامل الديموغرافي العربي (خارج حدود فلسطين التاريخية) ما يخيفها فعلياً، ذلك أن القوّة المقاتلة وكفاءتها وبُنيتها التحتية وعصبية بيئتها الملتفّة حولها عُدّت كافية لحسم المعارك وكسب الوقت وتغيير المعادلات. وإذا أضفنا إلى ذلك أن كيان الحزب السياسي شديد الاتّكال على نواة الحزب المؤسّسة، أي بنيته العسكرية، لأمكنت إضافة عنصر مقارنة إضافي مع العنصر التأسيسي الإسرائيلي حيث تشكّلت الكيانية السياسية حول الجهاز العسكري وصار الجيش من يومها جهاز الدولة الصهيونية الأهمّ.

ويمكن طبعاً الحديث عن بناء القدرات الأمنية للحزب اللبناني وأذرعته الخارجية الكثيرة الفاعلية والانتشار، ويمكن كذلك البحث في تركيزه على صورته لدى الرأي العام «الخارجي» وديناميّته في هذا المجال، وتمكن أيضاً الإشارة إلى أن لدى جمهوره غرور قوّة يُساكن المظلومية التاريخية وسرديّات التهميش والقمع، فيبرّر أفعال الحاضر. وهذا كلّه يؤكّد أوجه تمثّل حزب الله بعدوّه في الموقف الذرائعي وفي أشكال المقاربات الصراعية المختلفة.

لهذه الأسباب، ولأُخرى مرتبطة بخصائص الاستقطابات والتحالفات والتوازنات القائمة في لبنان منذ 2005، لا يبدو اليوم انخراط الحزب في القتال السوري مدعاة خوف لديه على المدى القصير من تململ مريديه لبنانياً، ولا تبدو احتمالات الضغط الشعبي والإعلامي عليه كبيرة، خاصة أنها تأتي من خصومه الذين لا يعبأ بهم جمهوره أصلاً، والذين سبق له على مدى عقد كامل اتّهامهم بالتآمر عليه واستهداف من يمثّل (سياسياً ومذهبياً)، كما أن اندفاع شبّان من احتياطيّيه أو من عناصر الاختصاص لديه للقتال في سورية تلاقيها مشاعر لدى قسم كبير من مناصريه بالاعتزاز والتفاخر بقدرات تسمح لحزبهم بالتدخّل «الحاسم» في جبهات قتالية خارج حدود بلاده، لا بل في بلاد تكبرها بمرّات ومرّات. وهذا يعوّض ربما بعض الخيبة التي أحدثها تراجع شعبية الحزب عربياً بعد الثورات وعودة السياسة إلى مجتمعات كانت محرومة منها، وكانت تجد فيه نموذجاً مغايراً لما تعرفه من نماذج حزبية نادرة أو هزيلة عندها…

حزب الله يندفع اليوم إذاً نحو قتال يشبه في أسلوبه وشعاراته أسلوب عدوّه. ويبدأ معركة يملك توقيت بدئها وإدارتها الآنية، لكنه قد لا يملك، رغم قوّته وتماسك جمهوره، القدرة على إنهائها بالشكل الذي يناسبه، وهو يفتتح بذلك مرحلة جديدة تختلف أوضاعها كثيراً عمّا خبره حتى الآن من أوضاع، ولن تكون تداعياتها على الأرجح مقتصرة عليه، فهشاشة الأحوال اللبنانية الراهنة ووهن مؤسسات الدولة (وغياب -أو بالأحرى تغييب- بعضها!) مضافان الى الانقسام الحاد حول أدوار الحزب نفسه، قد تُدخل لبنان كلّه في حقبة يُخشى أن تكون من أسوأ الحقبات التي عرفها في العقود الأخيرة…

* كاتب لبناني

الحياة

بعد خراب القصير!

مرزوق الحلبي

هل تغيّر «حزب الله» أم أن الرائين إليه هم الذين تغيّروا؟ هل تغيّرت تفاصيل صورته أم أن الرائين أبصروا فيها ما لم يُبصروه من قبل؟ سؤالان يعكسان قوة السياق في تحديد المعايير والأحكام والإخفاق المألوف في التقاط التاريخ في لحظته. فقد أخطأ عرب وعجم، قوميون وشيوعيون، قريبون وبعيدون في قراءة وظيفة هذا الحزب وخطابه. وقد حصل هذا كجزء من إرث متقادم لنسق ثقافي في صلبه العوم على شبر ماء والميل الى تصديق أوتوماتيكي لكل من يُجيد بعض الجُمل عن «التصدي» و «الصمود» و «المقاومة».

وعزّز النسق تراكم الإخفاقات العربية وزوال مراكز عروبية، ما دفع الناس إلى «اختراع» المراكز الجديدة والمراهنة على ما تبقى. وفي رأينا أن التعاطي مع «حزب الله» داخل لبنان وخارجه كان إسقاطياً وليس موضوعياً. فقد أسقط القرّاء عليه أمانيهم وصوّروه كذلك لحاجة عندهم دغدغها بخطابه وأفعاله. وقد كانوا مرتاحين لهذا لصورة خلقوها له فلم يدعوا التفاصيل والمتغيرات تعطّل عليهم طمأنينتهم!

شكّلت الثورة السورية منذ انطلاقتها موضعاً مرتفعاً كحدث ذروة وزاوية رؤية تتم منه قراءة المُحيط والأحداث من جديد. وهو ما أتاح للكثيرين رؤية الصورة الحقيقية للحزب وعقيدته. أو لنقل رؤية تفاصيل أخرى كانت مستترة تحت أكوام الكلام وطقطقات السلاح وإغواء الصواريخ. صورة كانت له منذ البداية، لكن المعنيين آثروا رؤيتها كما اشتهوها وكما أرادوها في نفوسهم. لقد نشأ الحزب وترعرع على أيدٍ إيرانية ولأغراض إيرانية. أداة لتصريف أوراق طهران المتناثرة في المنطقة واللعب بها. لهذا الغرض بُذلت تلك التضحيات/الضحايا، وتدفقت أموال النفط الإيراني!

صحيح أن النشأة استندت إلى خطاب «الفئة المُقصاة والمهمّشة» في لبنان المتماشية مع الخطاب الشيعي في الإسلام. وصحيح أنها حاكت التطلع إلى تحقيق الرِفعة لهذه الطائفة المظلومة إلى ذلك الحين. ومن هنا اختلاط الأمور بادئ ذي بدء. فإيران التي دخلت على الخط اللبناني بقوّة، دخلت من الباب المناسب وبالخطاب المناسب. هذا فيما كان أصحاب الحل والربط يحاولون الخروج من حروب الطوائف عبر معادلة الطائف. وإذ ذهب غالبية اللبنانيين في مسار التخلي عن الميليشيات والسلاح، أبدى «حزب الله» نهماً غريباً للتسلّح، ليس دفاعاً عن لبنان، بل دفاعاً عن مشروع إيران في المنطقة. ونشأ توزيع جديد للأدوار في لبنان: أناس يرممون كياناتهم وشكل البلد ويلمّون ما تناثر من وطنهم، وأناس «يقاومون» العدو الإسرائيلي. قسمة رضيت بها الأطراف اللبنانية ردحاً إلى أن تمّ فقدان التوازن تماماً. تجلّت ولاية الفقيه بكامل جبروتها وحلّت مكان الولاء للوطن. العمل بموجب أحكام المصالح الإيرانية وإيقاعاتها وليذهب لبنان البلد وأهله إلى الجحيم! وإذ بالسلاح الذي يحمي المشاريع الإيرانية يوجّه أيضاً إلى الشركاء في الوطن كي يوسّعوا الطريق لهيمنة إيرانية مباشرة وغير مباشرة.

لقد خطف ««حزب الله» الطائفة الشيعية وخطف لبنان تماماً إلى فنائه الخلفي. وقد امتلك كل ترسانة الأسلحة اللازمة لذلك وإمكانيات الاستقواء بسورية وإيران وشيعة العراق وسذاجة العرب كي يفعل ذلك. وها هو يتمدّد بأمر خامنئي إلى سورية لتدمير ثورة شعبها وريفها ومُدنها. إنها الصورة التي تختزل التجربة مُذ بدأت. وهو ما يُدركه الكثيرون من العرب الآن بتأخير كبير وبعد خراب القصير! ويبقى البعض يهتفون طرباً أو سكراً أمام الشاشات وخطاب السيد!

الحياة

عن حماس وسوريا وإيران وحزب الله!

                                            مؤمن بسيسو

حماس والأزمة السورية

حول إيران وحزب الله

آفاق الحل

تختزن الأزمة السورية المتصاعدة في طياتها ملفات شائكة وقضايا معقدة تتداخل تفاصيلها وتتشعب مساراتها لتنتج حالة غريبة تشترك فيها الأضداد والمتناقضات، وتبدو فيها لغة الحسم أكثر كلفة قياسا بما تحمله إمكانات التسوية وفرص الوفاق.

حماس وسوريا وإيران وحزب الله، عناصر أساسية ضمن مكونات الحالة السورية الراهنة، ولا مفر من إعادة صياغة أفق العلاقة فيما بينها توطئة لإرساء حل سياسي توافقي ينهي الجرح السوري النازف الذي أدمى قلوب أبناء الأمة جمعاء.

حماس والأزمة السورية

بدا لافتا صدور موقفين عن حركة حماس بخصوص الأزمة السورية في الآونة الأخيرة، حيث كان الأول صريحا دون أي التباس، وفيه أعلن بعض قادة الحركة مثل خالد مشعل وإسماعيل هنية انحيازهم التام للثورة السورية ووقوفهم الكامل مع مطالب الشعب السوري العادلة، في حين صدر عن بعض قادة الحركة الآخرين، مثل د. موسى أبو مرزوق ود. محمود الزهار، تصريحات تدعو إلى حل سياسي وسطي للأزمة بما يجنب الشعب والدولة في سوريا ويلات الصراع الدامي.

في عالم السياسة فإن العمل التكتيكي الخالص يعني الميوعة وتسويغ الانخراط في ملاعب السياسة الموبوءة بكافة أمراض العصر، كما أن العمل الإستراتيجي البحت يعني التحجر والجمود والافتقار إلى مواكبة تطورات الحياة واحتياجات العصر. وهكذا فإن الحلّ النموذجي يكمن في اجتراح عمل سياسي مرن قابل لآليات المناورة والتكتيك، ومحصّن بالمبادئ الأصيلة والإستراتيجيات الكبرى لا غير.

وإذا ما أقررنا بأن موقف حركة حماس من الأزمة السورية الشائكة وتفاصيلها المعقدة هو موقف بالغ الدقة والحساسية بحكم احتضان النظام السوري للحركة منذ لحظة إخراجها القسري من الأردن أوائل عام 1999م وحتى خروجها الناعم من سوريا نهاية عام 2011م، فإن هذا يقودنا إلى الاعتراف بأن من الحكمة عدم ابتدار حماس لموقف قطعي من الأزمة السورية كون ذلك يشي بقطع الجسور مع النظام والاصطفاف الحاد مع قوى الثورة، وهو ما يجعل المخيمات الفلسطينية هناك عرضة للبطش والانتقام، ويضع اللاجئين المكلومين في أتون المحرقة والاقتتال.

وفي المقابل فإن التزام الصمت أو ما يسمى الحياد التام يشكل انفصاما سياسيا وأخلاقيا عن القيم والمبادئ الكبرى، وإقرارا ضمنيا بجرائم النظام بحق الشعب السوري وثورته المباركة في سبيل الحرية والكرامة الوطنية.

من هنا بدت الحاجة أشد ما تكون إلى تكامل الأدوار داخل الصف القيادي للحركة في إطار الجمع بين الإستراتيجية والتكتيك، والمزاوجة بين المناورة والمبادئ، في إطار صيغة تكاملية أملتها خطورة المرحلة وتعقيداتها الجسام.

فحين يخرج من بين صف حماس القيادي من يعلن الانحياز التام إلى ثورة الشعب السوري، فإن الحركة تنسجم حينها مع قيمها الدينية ومبادئها الأخلاقية وثوابتها الإنسانية وإستراتيجياتها الكلية التي لا تهاون في التعبير عنها والدوران معها والتزام محدداتها.

وحين يخرج –أيضا- من بين صفوف الحركة من يطلق لغة مرنة ويستخدم لهجة أكثر نعومة عبر الدعوة إلى إيجاد حل سياسي لمنع إراقة المزيد من الدماء السورية العزيزة دون أن ينكر فضل وصنيع سوريا الدولة في مضمار دعم المقاومة طيلة المرحلة الماضية، فإن الحركة تمارس حينها التكتيك السياسي المحسوب الذي تقتضيه ضرورات المرحلة وتعقيدات الأحداث.

باختصار، فإن ما قد يراه البعض تباينا في الرؤى والمواقف الخاصة بحماس إزاء الأزمة السورية ليس إلا شكلا من أشكال القدرة على التعاطي مع المساحات السياسية المتاحة برسم المزاوجة بين الثوابت والمتغيرات، والتكتيك والإستراتيجية، واجتياز حقول الألغام ومناطق الرمال المتحركة بأقل الخسائر الممكنة.

وعليه، ليس صعبا إنتاج مواقف سياسية متوازنة تتماهى مع المصالح والمكاسب المرحلية دون المساس بالمبادئ والإستراتيجيات الأصيلة، بما يُبقي على شعرة معاوية ولا يحرق السفن مع النظام، فالمبادئ ضرورة وللسياسة أحكام، والذكيّ من يُحسن تخليق المواقف في ضوئهما بأفضل الصيغ وأقل الخسائر.

حول إيران وحزب الله

ابتداء، ينبغي الإقرار بدور حزب الله وإيران في مواجهة كيان الاحتلال، والاعتراف بأن الكثير من العتاد العسكري الذي تم استخدامه في مقاومة الاحتلال، وخصوصا في الحرب الأخيرة نهاية عام 2012م، ذو ماركة إيرانية بحتة، ناهيك عن الخدمات الفنية التي تولت إيران تقديمها وتزويد المقاومة الفلسطينية بها طيلة المرحلة الماضية.

واقع الحال أن المعادلة الخاصة بإيران وحزب الله بالغة التعقيد، فهي تتشكل من أخلاط من العمل الثوري ضد إسرائيل الذي يعكر صفوه العمل الطائفي والاصطفاف المذموم إلى جوار النظام السوري الدموي، الذي يقترف المجازر ويسفك الدماء بدم بارد ضد الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء ليل نهار.

إن الحقيقة الأهم أن العمل الثوري المقاوم ضد إسرائيل، وامتلاك إرادة القتال ضد طغيانها في الأرض حتى النهاية، عملة نادرة هذه الأيام، ويجدر الحفاظ عليها ودعم آفاق استمرارها وتطوير آليات عملها دون كلل أو تقصير.

في ذات الوقت فإن توفير الغطاء السياسي والدعم العسكري لنظام استبدادي دموي، أيا كانت حسناته في مجال دعم واحتضان المقاومة، يشكل خطيئة كبرى لا تغتفر بأي حال من الأحوال، وصدمة قيمية ذات آثار عميقة وارتدادات عنيفة على مجمل المحيط السياسي، والدائرة الثورية والإسلامية على وجه الخصوص.

في حالة إيران وحزب الله التي تشكل نموذجا متقدما في مواجهة المشروع الصهيوني لا مجال للتضاد أو الافتراق التام، فلا معنى لذلك إلا ترك الطرفين يغرقان أكثر فأكثر في أوحال الأزمة السورية، ويذهبان بالآمال المعلقة على وحدة الأمة في وجه الكيان الصهيوني ومشاريعه العنصرية ومخططاته العدوانية.

من هنا فإن إعادة ضبط بوصلة إيران وحزب الله فيما يخص الأزمة السورية ممكنة وغير مستحيلة، ولن يتأتى ذلك إلا عبر استحداث مقاربة سياسية جديدة توقف شلالات الدماء السورية النازفة، وترسي حلا سياسيا يضمن إعادة هيكلة النظام والسلطة في سوريا بما يلبي كرامة وحقوق الشعب السوري، ويحافظ على دوره السياسي والإقليمي في مواجهة إسرائيل والهيمنة الأميركية على المنطقة.

لا شك أن أمواج النقمة والغضب على موقف إيران وحزب الله بخصوص الموضوع السوري عاتية للغاية، إلا أن مصلحة القضية الفلسطينية ووحدة الأمة العربية والإسلامية، تقتضي التعالي على الجراح والبحث عن أفضل الصيغ لتجاوز المحنة الراهنة التي توشك أن تطيح بالمقدرات الإستراتيجية للأمة، وتضع عناصر قوتها الأساسية تحت مقصلة الاصطفاف الحزبي والهوى الطائفي.

ينبغي أن نقر بأن سيناريو الافتراق عن إيران وحزب الله ليس حلا، فنحن بحاجة إلى كل جهد ضارب في وجه المشروع الصهيوني من جهة، فضلا عن حاجتنا إلى حماية الأمة وكياناتها من مشاريع التفتيت والتفسيخ والتقسيم من جهة أخرى.

قد يكون سيناريو التوافق والوفاق الأكثر نجاعة وجدوى لحل الأزمة السورية، ولا مناص من الدفع باتجاه بلورة جهد عربي وإسلامي واسع يضمن إرساء مقاربة سياسية جديدة مقبولة تنهي الجرح المفتوح في سوريا، وتضمن إبعادها عن يد التدخلات الخارجية الخطيرة التي تبغي سحق مقومات قوتها واستقرارها وتدمير حاضرها ومستقبلها.

آفاق الحل

باختصار، فإن أي مقاربة لاعتماد صيغة للحل أو رؤية لتسوية الأزمة السورية ينبغي أن ترتكز على قاعدة الحرص الأكيد على الوقف العاجل لشلالات الدماء السورية النازفة، والإسراع بوقف المجازر المفجعة التي تزهق فيها أرواح الأبرياء دون رحمة.

يبدو عنصر الوقت بالغ الأهمية في مضمار طرح أي مقاربة للحل، فهذه الدماء الغالية المهراقة التي تسفك على رؤوس الأشهاد، ويتم توثيقها في مشاهد مجلجلة تتفطر لها القلوب ويندى لها جبين الإنسانية، أمانة بالغة ومسؤولية عظمى في رقبة الجميع دون استثناء، وسيبوء كل من يعطل حل الأزمة السورية ويساهم في تأجيجها وإطالة أمد آلامها ومعاناتها بلعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

لكل ثورة سمتها وخصوصياتها، ولكل أزمة ظروفها ومعطياتها، وها هنا فإن المعطيات الخاصة بالأزمة السورية تؤكد أن الأوضاع تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، وليس من مصلحة أحد، باستثناء إسرائيل والإدارة الأميركية والدول الغربية، استمرار مفاعيلها وتواصل نزف الدماء فيها، مما يقتضي ضرورة توفير كل الأجواء والمناخات لإنجاح جهود حل الأزمة باتجاه تكريس صيغة سياسية مقبولة تلبي مطالب الشعب السوري المشروعة في الحرية والعدالة والكرامة الوطنية.

إن تفحّص معطيات وتضاريس الأزمة السورية يؤشر على توفر أرضية الحل على أساس إقليمي دولي، وإمكانية بلوغ تسوية مرضية للجرح السوري المفتوح، بما يحقن الدماء السورية، ويكبح آلة القتل والدمار المجنونة التي تطحن عظام الأطفال والنساء والشيوخ دون انقطاع، ويقي سوريا من مخططات التقسيم والتفتيت والتجزئة التي لا تسعد سوى إسرائيل وأعداء الأمة.

ولن نبالغ إذا قلنا إن مؤتمر جنيف 2 المزمع عقده شهر يونيو/حزيران الحالي للبحث في سبل وآليات حل الأزمة السورية برعاية إقليمية ودولية، وبمشاركة النظام والمعارضة السورية، والأطراف المؤثرة في الأزمة، وخصوصا إيران وروسيا اللتين تشكلان مربط الفرس في دعم النظام وحل الأزمة، يشكل فرصة كبيرة لطيّ ملف الأزمة، والتفرغ لمداواة الجراح وإعمار البلد المنكوب، وإعادة صياغة وترتيب البيت السوري الداخلي ومؤسساته السياسية والأمنية على أسس توافقية جديدة.

بين يدي مؤتمر جنيف 2 يتداول الوسط السياسي المختص بالأزمة السورية خطة تركية سيتم طرحها على المؤتمر، وتنص على جملة مقترحات من بينها تشكيل حكومة انتقالية مشتركة، ومن المنتظر أن يتم تسويقها عبر رئيس الوزراء التركي أردوغان من خلال جولة على العواصم المؤثرة قريبا، في ذات الوقت الذي قدم فيه رئيس ائتلاف المعارضة المستقيل معاذ الخطيب خريطة طريق تنص على إقامة نظام سياسي ديمقراطي ينبني على انخراط جدي في عملية سياسية حقيقية تبدأ بسحب الجيش النظامي إلى ثكناته، وإطلاق سراح كل المعتقلين، وفتح الأبواب أمام دخول المساعدات إلى كل المناطق السورية من دون استثناء، والسماح بالتظاهر السلمي، والبدء بعودة اللاجئين والمهجرين السوريين.

وعلى أية حال فإن إعادة الأمن والسلام إلى الشعب السوري الأصيل والربوع السورية العزيزة، ودوام استمرار سوريا في لعب دورها الإقليمي المشرف في وجه الكيان الصهيوني البغيض ومخططاته العدوانية في المنطقة، ومواجهة الأصابع الخارجية العابثة التي تستهدف تدمير سوريا ومقدراتها الإستراتيجية، تشكل كلمة السر وراء أي صيغة توافقية لحل الأزمة السورية وتداعياتها الخطيرة التي تمس الأمة جمعاء.

ومع ذلك فلا أحد إلا الله يمكن أن يتنبأ بمآلات الأحداث المفجعة في سوريا، فكل السيناريوهات تبدو مفتوحة على مصاريعها، ولا ثابت هناك سوى الدم العزيز المهراق الذي ينزف بغزارة بعيدا عن قيم الرحمة ومعاني الإنسانية.

ولعل أخطر السيناريوهات المطروحة تلك التي تتعلق بتوسع الأزمة وامتدادها إلى خارج الأرض السورية، وخصوصا إلى لبنان، ذلك البلد المضطرب المحكوم بفسيفساء السياسة ومعادلة التوازن الطائفي المعروفة.

فلا ريب أن الصاروخين اللذين سقطا على الضاحية الجنوبية في بيروت التي تشكل المعقل الرئيسي لحزب الله قبل أيام، والهجوم الدموي على إحدى نقاط الجيش اللبناني الحدودية مع سوريا الذي ذهب ضحيته عدد من الجنود، ومن قبلهما الاشتباكات الدامية التي جرت في طرابلس، وضعت لبنان بكامله على المحك، وشكلت نقطة تحول رئيسية في مسار الأزمة السورية المعقدة، المتشعبة الخلفيات والاتجاهات.

بين يدي هذه التطورات المتسارعة التي تحاول إشاعة الفتنة في الفضاء اللبناني، وتستهدف إضافة جرح جديد إلى جرح الأمة النازف في سوريا، لا يبدو في الأفق ما يشير إلى محاولات فرملة عكسية لمسار الفتنة والانزلاق إلى الهاوية، ولا يرشح من سيول التصريحات التي تحفل بها الساحة السياسية والإعلامية ذات العلاقة بالأزمة السورية ما يُنبئ عن جهد ما لدرأ الفتنة المذهبية وإعادة رأب الصدع الذي يضرب وحدة أمتنا ويهدد حاضرها ومستقبلها.

لم يفت الأوان بعد، ونزف الدم في سوريا ينبغي أن يتوقف في أقرب وقت، وينبغي أن يبقى لبنان بمنأى عن شبح الفتنة والتمزق والاقتتال، ويجب أن يُصار إلى بلورة أقصى الجهود عربيا وإسلاميا لاستنقاذ سوريا ولبنان، ومعهما وحدة الأمة وقواها الحية من خطر التفتيت والتشظي والانقسام.

صحيح أن الأوان لم يفت بعد، لكن الإيغال في تفاصيل اللحظات الدامية الراهنة قد يقطع خطوط الرجعة أمام الحلول السياسية المتوخاة، ويجعل من استمرار نزف الدماء أمرا واقعا خارج نطاق التسوية والمعالجات.

الجزيرة نت

جرحى القصير مقابل بعلبك

أيمن شروف

في القصير السورية، مئات الجرحى من المدنيين والجيش الحر. القصف المستمر والغارات الجوية المتواصلة، لا ترحم أحداً، ولا تُميّز بين مدني وعسكري. المطلوب سقوطها قبل أن تسقط الأساطير وتنتهي البطولات، في بساتينها وأحيائها وشوارعها التي تحوّلت إلى متاريس وأنقاض. كُتل إسمنت وراءها من يُقاتل ومن يحتمي من الرصاص ومن لم يستطع النجاة من النار. مئات من الجرحى في انتظار إسعافهم، مصيرهم بيد من يحاصر المدينة منذ أسابيع.

المعارضة السورية، تُريد إجلاء الجرحى، عبر تأمين ممر آمن لهم. هذا ما يرفضه النظام السوري، قال لحزب الله: لن يخرج من المدينة أحد. هذا الكلام سمعه الحزب بعد اتصالات مع النائب وليد جنبلاط بهذا الخصوص. لكن، جنبلاط حلقة من الحلقات الكثيرة التي تعمل عليها المعارضة من أجل منع تفاقم الأمور إنسانياً في المدينة، ومن أجل الحد من مخاطر ما قد ينجم عن رفض فتح خط إنساني أمام الجرحى.

يقول جنبلاط لـ”المدن”: (رئيس الائتلاف السوري بالإنابة) جورج صبرا اتصل بي وسألني إن كان بالإمكان القيام بشيء ما من أجل الجرحى في مدينة القصير، فتحدثت مع اللواء عباس ابراهيم والحاج وفيق صفا. لكن الأسد قالها بوضوح: يريد أن يتخلّص من الجميع في المدينة، مدنيين وعسكر وهو أبلغ (الامين العام للامم المتحدة) بان كي مون أنه يُخرج الجرحى شرط أن يخرج المسلحون معهم!. يضيف: أبلغت صبرا هذا الكلام، كما نقلت إليه ما قاله صفا من أن هناك طريقا “فلتانة”، يعبر منها المدنيون، فليستخدموها للجرحى. أمّا القول أني تحدثت مع النصرة فهو لا يستحق التعليق أصلاً. وموقفي واضح في هذا السياق. يختم جنبلاط.

المعادلة التي يتحدث عنها الجيش الحر أخطر بكثير، ولا تعني النظام بقدر ما تعني حزب الله. لكن، هل بيده حيلة؟ أو هل لديه النيّة أساساً؟. واقع الحال، لا يوحي بالإثنين معاً. إلا أن التهديد الذي وصل من الجيش الحر إلى الحزب، يفيد: تأمين معبر إنساني للجرحى مقابل تحييد بعلبك والهرمل عن هجمات مقاتلي المعارضة السورية المسلّحة. معادلة الحر: المدنيون وإلّا سننقل الصراع إلى العمق البقاعي!

 على هذا الأساس، تحرّك جنبلاط أولاً فلم يجد تجاوباً. وعلى هذا الأساس أيضاً، تحرّك صبرا تجاه رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي لم يرد على رسائل واتصالات صبرا (الذي عاد وأدلى بتصريح متلفز موجّه لبري بالتحديد ناشده التدخل إنسانياً في القصير). تقول مصادر المجلس، وتُضيف: الأمور ستخرج عن السيطرة وما حاول القيام به صبرا هو تلافي دخول البلدين في أتون صراع حدودي سيمتد وسيلحق الأذى بالجميع، لأي جهة انتموا. يكفي أن الحزب يقاتل في قلب سوريا، فهل يريدون الجيش الحر أن يقاتل في قلب لبنان؟ تسأل المصادر. وتشير إلى أن “الصليب الأحمر الدولي حاول التواصل مع النظام من أجل نقل الجرحى إلّا أن النظام لم يسمح لهم بالدخول لإخلاء الجرحى”.

 لم يقف تحرّك صبرا بعد رفض بري التجاوب معه والنداء الذي وجهه إليه. اتصل بقيادات سياسية عديدة، بعضها، الداعم للثورة السورية، أبدى أسفه لما يحصل وسأل عمّا يمكن القيام به في هذا المجال، فرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع استنكر سريعاً والرئيس سعد الحريري مُستعد لأي خطوة تصب في اتجاه تأمين الجرحى والضغط من أجل إنهاء معاناتهم.

البعض الآخر، المحايد، وعد بمتابعة الموضوع مع حزب الله. رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي يعود الأربعاء من الخارج، ليتواصل مع الحزب من أجل إيجاد حلّ لهذا الأمر. رئيس الجمهورية ميشال سليمان، عبر مصادر مقربة منه، وعد ببذل ما يُمكن من جهود كي “لا تتطور الأمور أكثر، خاصة وأن المطلوب من قبل المعارضة يأتي في الشق الإنساني ولا يدخل في السياسة والانقسام الحاصل حول الأزمة السورية”.

المعارضة السورية، أجّلت إصدار الجيش الحر لبيان يحوّل فيه القتال إلى داخل الحدود اللبنانية، كي تسلك الأمور الطرق السياسية تلافياً للمحظور. هذا لن يطول، طالما أن النظام السوري لا يريد “أحياء” في القصير. وطالما أن حزب الله، حاول ولم يفلح، إلّا بالإشارة إلى طرق آمنة يُمكن سلوكها.

عليه، المقبل من الأيام، على اللبنانيين لن يكون سوى أسوأ من واقع حالهم الآن. الضرائب، كبيرة جداً.

المدن

شماعة “التكفيريين

    عبد الوهاب بدرخان

“الامن في الواجهة، والاسئلة حائرة عن الهدف من الاصرار على استيراد الازمة من سوريا وتعميم ثقافة الإلغاء والشطب والقتل والاغتيال…”.

احزروا لمن هذه العبارة، ومن يتحدث عن الأمن واستيراد الازمة، وبالاخص من الاغتيال والقتل؟ لا، ليست لقناة “المستقبل”، ولا حتى لقناة “الجديد”. انها لقناة “المنار”! التي استضافت بشار الأسد لتوها، أو بالأحرى هو استضافها، ليقول عبر شاشتها ان “جنيف – 2” مجرد سراب.

ليس معروفا في اي خانة، استيراد ام تصدير، تضع قناة “حزب الله” المشاركة في معركة القصير والمعارك الاخرى وصولا الى حلب. لكن اتهام الغير بـ”استيراد الازمة” ينطوي على تضليل للذات قبل تضليل الآخرين. اما الضيق من “تعميم” ثقافة الإلغاء والشطب والقتل والاغتيال، فلأن “حزب الله” وجمهوره وحلفاءه اعتادوا منذ العام 2005 على ان تلك “الثقافة” يجب ان تقتصر على استهداف طرف واحد في لبنان، اما اذا خرجت من هذا الاطار فهنا، هنا فقط، يصبح الأمن في خطر.

لاقت محاولة اغتيال الشيخ ماهر حمود استنكاراً واسعاً. وهذا طبيعي وبديهي. لكن “حزب الله” نوّه بأن الشيخ استهدف “لأن له رأياً آخر”.

ردود في الاعلام ان إمام مسجد القدس في صيدا “قريب من حزب الله”، ويقصد “الحزب” ان حمود من اهل السنة لكن له رأيا آخر. مع ذلك، لا يعني هذا الرأي المختلف انه بارك الاغتيالات التي يعتقد اللبنانيون ان “حزب الله” متورط فيها، أو أنه يدعم “الحزب” في قتاله في القصير، بل أعلن انه “خطّأه بالاخراج الاعلاني”(!)، ومع انه يصف حسن نصرالله بـ”ناصر أمة محمد” فإنه يعتبر ان خطابه الاخير “لم يكن موفقا”.

من حاول اغتيال الشيخين؟ لا بد ان يكون هناك جواب عند الاجهزة اللبنانية، او اجهزة “حزب الله”. واذا كانت لا تعرف حقا، وهي لم تقل بعد مَن أطلق الصاروخين من عيتات على خط التماس في الضاحية، فهذا يعيدنا الى وقائع سابقة مماثلة حصلت عشية الحرب الأهلية وفي نهاية كل من هدناتها. القتلة هم “الطرف الثالث” الذي تحرك خيوطه الجهة الساعية الى الفتنة، المحتاجة الى الفتنة خدمة لمخططاتها او تغطية للمأزق الذي غرقت فيه.

في ظل التمذهب الحاد الذي يندفع اليه الصراع، خصوصا بعد خطابي حسن نصرالله ويوسف القرضاوي، وبعدما ايقن النظام السوري ان تخريب سوريا لم يضمن له الانتصار الذي يعيده حاكماً ومسيطراً ولاعباً إقليمياً، تزداد الاخطار على لبنان. وعندما يهجس “حزب الله” بالأمن فهذا لا يعني انه مهتم بسلامة اللبنانيين، او بالاستقرار، وانما بلغت الانظار الى حال تستوجب تدخله المباشر، خصوصا ان قادته باتوا حاليا يرددون كلمة “التكفيريين” وكأنهم اكتشفوا اخيرا شماعة يعلقون عليها اخطاءهم وخطاياهم في حق لبنان واللبنانيين.

“حزب الله” لاعباً في الساحة السورية:

ما الخسائر والأرباح وماذا بعد القصير؟

    ابراهيم بيرم

… طويلة هي الفترة التي استغرقتها عملية اتخاذ دوائر القرار في “حزب الله” قرار المشاركة ولو على نطاق محدود في المعارك والمواجهات الدائرة بضراوة في الساحة السورية منذ عامين ونيف، لذا كان القرار النهائي في عُرف قيادة الحزب واعياً لابعاده وتداعياته وتكاليفه العالية ولم يكن اطلاقاً قراراً تندم عليه في يوم من الايام.

وهكذا اتخذ الحزب قرار الانخراط في حرب متعددة البعد، تختلف تماماً عن جملة الحروب والمواجهات التي خاضها مع الكيان الصهيوني وشكلت رافعته، وهو يعي حجم التكاليف والاثمان المادية والمعنوية التي سيدفعها عاجلا ام آجلا، ويعي استطراداً انه يلج بذلك عتبة مرحلة جديدة في سيرته ومسيرته التي بدأت منذ مطالع الثمانينات من القرن الماضي.

وبناء على هذا الاعتبار الاساسي، اتخذ قرار الانخراط في المواجهة بعد طول نقاش وسجال داخلي، وكانت عملية الانخراط على مراحل، استوجبت مقدمات نظرية لتشريع الامر، وبلغت ذروتها في الخطاب الاخير الذي القاه الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله والذي استعاد فيه مصطلحات ورؤى تماهت مع المصطلحات والتعبيرات التي استخدمت ابان مواجهات حرب تموز عام 2006 ولا سيما حينما استخدم التعبير المثير لحماسة القاعدة الجماهيرية وهو تعبير “اعدكم بالنصر دوماً”.

انها إذاً مواجهة قرر الحزب خوض غمارها رافعاً مستوى تشريعها وتسويغها الى حد جعلها شكلا ومضموناً، برمزية مواجهة العدو الاسرائيلي، لا بل بقدسية بعض مصطلحاتها التي تدغدغ مشاعر الجمهور العريض للحزب، وثمة “عقبة” نظرية كبرى جهد الحزب لتجاوزها نفسياً ومعنوياً وتسويغاً سياسياً لحظة شاء الانخراط في معركة يدرك انها كونية وفي الساحة السورية، وهي عقبة انه ينتقل من حال الدفاع والكمون للمواجهة الى حال الهجوم، والاكثر اثارة للجدل هو ان الهجوم يتجاوز جغرافياً دائرة حدود البلاد الى حدود اوسع تسقط بالمبدأ حدود “سايكس – بيكو” وابعد من ذلك تضع الحزب قبالة “الاسلام السياسي” السني بوجهيه الرسمي و”الحزبي” وجهاً لوجه، لا سيما ان هذا الاسلام هو في حال توتر وتلهف لبسط سيطرته ومد بساط ظله على الشرق العربي عبر البوابة السورية بعدما نجح خلال الاعوام القليلة المنصرمة في تكريس حضوره على رأس هرم السلطة في دول عريقة مثل مصر وليبيا وتونس واليمن.

مدخل الحزب الى ميدان المواجهة في سوريا كان نظرياً في بداية الامر، وتجلى ذلك في كل الخطب السياسية التي القاها نصرالله منذ اندلاع الاحداث في سوريا عن ضرورة انقاذ الدولة في سوريا والحيلولة دون سقوطها وتشظيها من جهة وسقوطها بيد جبهة الاعداء من جهة اخرى، من خلال التجاوب مع الجهود والعروض التي يقدمها النظام لفتح ابواب الحوار فالحل قبل فوات الاوان.

ثم كان المدخل الآخر، الذي جسّد الدخول العملاني والميداني، وقد تجلى في ريف القصير حيث لسان القرى الشيعية التي هي امتداد للهرمل وقراها والذي صار مهدداً بالإجتياح من جانب المجموعات المسلحة. انه إذاً مدخل يكتسب في طياته “شرعية وطنية ودينية وانسانية”، فثمة تلبية لطلب نجدة من بضع آلاف من اللبنانيين صار وجودهم في عين العاصفة وتحت رحمة المجموعات المسلحة الزاحفة.

ومن البديهي ان خصوم الحزب وجدوا صعوبة نظرية في الرد على تبريراته للانزلاق التدريجي في اللعبة السورية، علماً ان ثمة طروحات ورؤى سرت في جبهة خصوم الحزب تدعو الى تركه يغرق أكثر فأكثر في اتون اللعبة القاتلة في سوريا، حيث برأيهم ان النظام السوري بلغ حد التداعي التدريجي، وحيث ردة الفعل السلبية على دخول الحزب ستكون عارمة في اوساط المسلمين والعرب عموماً الى الاكثرية السنية حيث الدخول غير المبرر الى ملعب ظن هذا الفريق انه ملعبه الحصري، وستكون ايضاً قاسية في داخل قاعدة الحزب العريضة خصوصاً عندما ستتوالى جنازات قتلى الحزب العائدة من الميدان بالعشرات لتدفن في القرى والبلدات.

كان الحزب متيقناً من ان قاعدته ستسير معه في كل خياراته وستخوض معه البحر ان اراد، في حين ان خصومه راهنوا على خلاف ذلك، اي راهنوا على نقمة عارمة ستأتي ساعتها على “مغامرات” غير محسوبة العواقب.

لكن الامور تغيرت وخطاب الحزب تحول لاحقاً اذ صار الخصم مثلث الاضلاع اسرائيل، والولايات المتحدة والتكفيريين الضلع المستجد الذي بات خطره قريباً، وبعدما قرر ان يستفز الحزب، ويعمل على اذلاله لحظة خطف الزوار اللبنانيين الـ11 في اثناء عودتهم الى بلادهم مشترطاً لاطلاقهم ان يبادر السيد نصرالله الى الاعتذار عن مواقفه فكان رده القاسي.

كانت هذه الذريعة الاولى، ثم توالت واحدة تلو أخرى، إذ كانت الهجمات المتكررة على مقامات لها قدسية عالية عند الشيعة في السيدة زينب والسيدة رقية في داريا وبعدها قبر الصحابي الجليل عدي.

وبالطبع كان الحزب قد تيقن بالبرهان العملي من رسوخ اعتقاده الاول ومفاده ان نظام الرئيس بشار الاسد قادر على الصمود ويملك قابلية المواجهة رغم انه بدا في مرحلة من المراحل منهكاً وفي حال تراجع أمام زحف المجموعات المتمردة، اضافة الى موجة عداء وقطيعة عالمية معه خصوصاً على المستوى العربي. وفي الحسابات الداخلية للحزب، ان الانتقال من حال الدفاع الكفائي الذي عاشه الحزب منذ أن وضعت حرب تموز عام 2006 اوزارها الى حال الهجوم صار مطلباً يعيد للحزب حيوياته ويخرجه من أسر القرار 1701، حيث كان الرهان على ان سلاحه سيصدأ في المخازن والترسانات وهو عاجز عن اخراجه ولا سيما بعدما اشتدت عليه وطأة الحملات الداخلية، خصوصاً بعدما صار حليفه في دمشق في حال انحدار ويوشك على السقوط.

والحسابات عينها ممتدة، “فالتدخل” في سوريا سيعيد الاعتبار الى دور الحزب وحجمه، ويصيّره بالبرهان العملي لاعباً اقليمياً، أي سيؤدي الى احباط كل الرهانات على محاصرته في الداخل اللبناني وجعله يندفع الى زواريب ومتاهات هذا الداخل.

 ثمة رمزية كبرى اذا لقتال الحزب في القصير وريفها، وصولاً الى الريف الدمشقي حيث السلسلة الشرقية التي تطل على بعلبك وتجعلها تحت مرمى الصواريخ. وعليه فالمشاركة ضربة استباقية، تستأهل أن تدرج في خانة “النصر الموعود” والمشاركة في المعركة ترقى الى مقام مواجهة العدو.

ولكن ألم يقرأ الحزب تداعيات انخراطه في اللعبة السورية القاتلة على علاقته بالسنة جمهوراً واحزاباً في لبنان وفي المحيط؟ واستطراداً ألم يكن قد حسب حساب هجمات مراجع سنية مثل القرضاوي وسواه عليه وهم الذين نظّروا للثورة في سوريا ودعوا الى مؤازرتها وبلغوا حد مباركة قتل علامة مثل الشيخ البوطي في محرابه كونه رفض الفتنة وأفتى بحرمة الخروج على النظام العام؟

لهذا الامر بالذات قراءة معمقة لدى الحزب كونه شغله الشاغل منذ زمن بعيد، ولكون خطر الفتنة السنية – الشيعية يتفاعل منذ اعوام وتوشك ان تأخذ في طريقها ما تراكم من رصيد للحزب لدى الجمهور العربي ابان سني قتاله ضد العدو الاسرائيلي.

القراءة مؤداها ان خوف الحزب المزمن من بروز هذا الخطر قد انتهى مفعوله وبالتحديد منذ احداث العراق خلال الفترة الممتدة بين عامي 2006 و2008 وأحداث ايار في 2008 في بيروت، فبعدها “انفرزت” الأمور نهائياً وانطوى الخطر الواسع للفتنة وبانت الذيول والتداعيات. ثم كانت الأحداث في سوريا والتي أسفرت عن معادلة اساسية ما زالت وستظل قائمة: ليس كل السنة ضد النظام في سوريا، وقسم من الذين أغرتهم “الثورة” قد تراجع.

هذا على المستوى العربي الأوسع، اما على المستوى اللبناني فان الحزب يقيم على قراءة فحواها ان الذين بنوا حساباتهم ورهاناتهم على أساس أن سقوط النظام السوري المحتوم مسألة ايام، يعانون خيبة ومغامراتهم في طرابلس وصيدا وسواها ارتدت عليهم.

ماذا بعد؟

لا شك في ان “حزب الله” يعيش بعد معركة القصير شعوراً بصحة حساباته وبدقة خياراته، فعديد الشهداء الذين قدمهم في سوريا كانوا اقل بكثير مما كان يتوقعه، والمحور الذي هو جزء اساسي فيه صمد وبدأ يجني ثمار صموده من بوابة سوريا الى العراق امتداداً الى اليمن وساحة فلسطين نفسها التي هو على اقتناع من عودتها اليه عودة الابن الضال. وبعد القصير ثمة اماكن وجبهات اخرى تحتاج الى وجود الحزب، لذا فهو ماضٍ في خياراته، ولو بلغت هذه الخيارات حد المغامرات، فهو ولا ريب غير متضايق اطلاقاً من مخاوف تل ابيب وهي تفصح عن هواجسها وتخوفها من أن تكون المواجهات التي يخوض الحزب غمارها في القصير وريفها جزءاً من رصيده في الاستعدادات والخبرات المكتسبة ميدانياً استعداداً لمعارك مع آلة الحرب الاسرائيلية لاسيما ان اسرائيل تدرك ان مساحة القصير الجغرافية هي ضعفا مساحة مستوطنة كبرى في الجليل مثل كريات شمونه.

النهار

انخراط “حزب الله” بقوّة في معركة القصير

استجابة لقرار إيراني له بُعد إقليمي

    اميل خوري

السلاح خارج الدولة يصبح أقوى من الدولة عندما تعجز عن نزعه أو التصدي له أو إيجاد حل له. فعندما كان الرئيس كميل شمعون رئيساً للجمهورية واللواء فؤاد شهاب قائداً للجيش، حصلت اشتباكات بين عشائر الهرمل عجزت قوى الأمن الداخلي عن وقفها فتقرر الاستعانة بالجيش، فطلب الرئيس شمعون وهو في مستهل عهده اثباتاً لهيبة الدولة أن لا يكون الأمن بالتراضي، واذا جاز ذلك لقوى الأمن فلا يجوز ذلك للجيش لئلا يفقد هيبته. لكن اللواء شهاب كانت له علاقات مع بعض زعماء العشائر ولا سيما منهم آل دندش فسعى الى وقف الاشتباكات بالتراضي لتجنب الاصطدام الذي قد يسقط فيه قتلى وجرحى لأنه لم يجد سبباً لذلك، وقد أحدث هذا التصرف فتوراً في العلاقات بينه وبين الرئيس شمعون، وكان شهاب يبرر تصرفه هذا في مجالسه الخاصة بالقول “إن القانون في لبنان” “يزمّ” كلما انتقل من الساحل إلى الجرد”.

وعندما وقعت أحداث 58 بحجة منع التجديد للرئيس شمعون وكانت تلك الاحداث تخفي بداية صراع بين النفوذ البريطاني والنفوذ الاميركي في المنطقة انطلاقاً من لبنان وقد أدى الى سقوط “حلف بغداد” الخاضع للنفوذ البريطاني ودخول الاسطول السادس الأميركي المياه اللبنانية لا لنجدة الرئيس شمعون بل لسد الفراغ الذي أحدثه سقوط ذاك الحلف.

وعندما لم تجد الولايات المتحدة الأميركية مرشحاً لرئاسة الجمهورية مضمون له الفوز سوى اللواء فؤاد شهاب، تفاهمت مع خصمها الرئيس عبد الناصر لأنه كان يمون على عدد من النواب اللبنانيين، لتأمين هذا الفوز الذي تلاقت حوله مصالح الدولتين من دون أن يتعارض ذلك مع التحالف المصري – السوفياتي في حينه. وحين واجه عهد الرئيس شارل حلو أول دخول فلسطيني مسلح إلى لبنان من طريق العرقوب، عقد مجلس الوزراء جلسة طارئة للبحث في الموضوع بطلب الوزيران بيار الجميل وريمون إده إخراج هؤلاء المسلحين فوراً بالحسنى أو بالقوة. لكن رئيس الحكومة يومذاك عبد الله اليافي والوزير الحاج حسين العويني رفضا إخراجهم بالقوّة. عندها طرح الموضوع على التصويت فجاءت النتيجة متعادلة (الجميل واده مع واليافي والعويني ضد)، عندها طلب الى الرئيس حلو ان يصوّت وكان لا يزال هذا من حقه، امتنع بدعوى أن الانقسام داخل الحكومة أخذ وجهاً طائفياً. اذذاك استقال الجميل واده احتجاجاً على عدم حسم موضوع خطير كهذا. ومن يومها انتشر السلاح الفلسطيني في لبنان وتحولت المخيمات ثكناً ومعكسرات، وصارت الكلمة للسلاح الفلسطيني في أي قرار تتخذه الحكومة ويعني الفلسطيني تجنباً للأصطدام معهم. ثم قبلت السلطة اللبنانية باتفاق القاهرة حرصاً منها على الأمن والاستقرار، لكن المسلحين الفلسطينيين تجاوزوا بنود هذا الاتفاق وصاروا دولة ضمن الدولة، فلم يعد ثمة مفر من حرب لبنانية – فلسطينية تحولت في ما بعد حرباً داخلية تدخّل فيها كل من له مصلحة فدامت 15 سنة خرج منها لبنان مدمراً تدميراً كاملاً.

وما ان ارتاح لبنان من السلاح الفلسطيني خارج الدولة وقد جعل ياسر عرفات يتباهى بالقول إنه حكم بيروت، حتى دخل سلاح “حزب الله” ليس إلى الساحة السياسية الداخلية، إنما الى ساحة تحرير الاراضي اللبنانية التي تحتلها اسرائيل وهي ساحة تجمع كل اللبنانيين ضد عدو واحد. لكن هذا السلاح ما لبث بعد تحرير جزء كبير من هذه الاراضي أن ارتد إلى الداخل فكانت أول مواجهة مع الدولة اللبنانية في 7 أيار الشهير، وقد انهزمت أمام سلاح “حزب الله” واضطرت الى التراجع عن قراراتها لتفادي الصدام مع الحزب. ومذذاك أخذت الدولة تفقد هيبتها وتتراجع عن كل موقف لا يرضي “حزب الله” بدءاً بانتخابات رئاسة الجمهورية، إلى انتخابات رئاسة مجلس النواب، إلى تسمية رئيس الحكومة وشكل الحكومة، الى قوانين الانتخاب، الى قرارات هيئة الحوار الوطني التي ظلت من دون تنفيذ، الى الاستراتيجية الدفاعية التي استمر الخلاف في شأنها لأن “حزب الله” رفض وضع سلاحه في تصرف الدولة رغم انه جزء مهم منها كي يظل محتفظاً بحرية تحريكه ساعة يشاء وحيث يشاء، وهو ما فعله في حرب تموز 2006 ووضع الدولة أمام الأمر الواقع فكان ذلك مكلفاً جداً للبنان مادياً وبشرياً.

واستبشر اللبنانيون خيراً عندما صدر “اعلان بعبدا” عن هيئة الحوار بالاجماع، وأملوا في أن يؤدي تطبيق بنوده الى وضع لبنان على طريق الأمن الدائم والثابت، لكن “حزب الله” ما لبث أن خرق هذا الاعلان بإرسال “طائرة أيوب” فوق اسرائيل من دون علم الدولة وعدم تقدير ما قد يكون لهذا العمل من أخطار على لبنان، وأسقط معادلة “الجيش والشعب والمقاومة”، ثم كان الخرق الكبير لسياسة النأي بالنفس، وهي سياسة حكومة الحزب لنفسه عندما أرسل عناصر منه للقتال في سوريا مع فريق ضد فريق آخر.

وما دام هذا هو الوضع على حقيقته بين الدولة و”حزب الله” فمن يكون إذاً الآمر الناهي في كل شيء؟ أليس “حزب الله” بحيث بات القرار له وحده وهو الذي يستطيع زعزعته وتقويضه عندما يرى له مصلحة في ذلك أو كان لايران أولاً مصلحة عملاً بالقول المعروف: “من يعطي يأمر”؟ وما دخول الحزب عسكرياً في معركة القصير في سوريا إلا استجابة لقرار إيراني له بعد اقليمي. وما دام القرار في لبنان بات لـ”حزب الله” فعليه أن يتحمل وحده مسؤولية قراره حيال لبنان واللبنانيين.

النهار

5 حزيران والقصير

حازم صاغيّة

لم تستطع الصحف ومعها معلّقون و «فايسبوكيّون» كثيرون مقاومة إغراء التزامن بين يوم 5 حزيران (يونيو) وبين سقوط مدينة القصير السوريّة في يد الجيش السوريّ و«حزب الله». وبين هؤلاء من ذهب أبعد، فتساءل عمّا إذا كان 5 حزيران 2013، أي احتلال القصير، هو الردّ على 5 حزيران 1967، حين احتلّت إسرائيل هضبة الجولان السوريّة وكان الرئيس الراحل حافظ الأسد وزير الدفاع.

والحال أنّ الربط بين الحدثين مُغرٍ بالمعنيين السلبيّ والإيجابيّ. فسلباً، ليس صحيحاً ذاك النقد السهل للنظام السوريّ من أنّه يفعل ما يفعله في القصير وسواها لأنّه لم يحرّر الجولان ولن يحرّرها. ذاك أنّنا إذا سايرنا تلك الفرضيّة وقلنا إنّ النظام حرّر الجولان، أو أعدّ فعلاً لتحريرها، جاز لنا أن نتوقّع من قمعه الهائل أضعاف ما شهدنا. فالنظام الذي يقوم على القمع وهو مهزوم، تتضاعف شراسته القمعيّة حين ينتصر أو يُعدّ للانتصار. وما الاستئساد على السوريّين الذي حصل بعد «انتصار» حرب تشرين الأوّل (أكتوبر) 1973 وتحويل حافظ الأسد الى موضوع عبادة سوى البرهان على ذلك.

المسألة إذاً ليست في تحرير الجولان أو عدمه، بل في طبيعة النظام الذي يستخدم ذاك التحرير ذريعة ثمينة وسمينة له. وهنا نصل إلى الوجه الإيجابيّ لارتباط الحدثين.

لقد بات واضحاً للعالم بأسره، ما خلا ماضغي أوهام الممانعة، أنّ تحرير الجولان، واستطراداً تحرير فلسطين، أشبه بنظام من المفاهيم والسلوكات والرموز التي تبرّر طريقة معيّنة في حكم القصير وفي «تحريرها» حين تستحيل ممارسة ذاك الحكم. فمن دون تحنيط التحرير الكبير ورفعه إلى مصاف «الطوطم»، يبقى التحرير الصغير ضعيف الشرعيّة والتبرير.

فإذا ما وافقنا على هذه المعادلة وتبعنا النتائج المنطقيّة المنجرّة عنها، جاز لنا أن نستنتج أنّ الثمرة الوحيدة لـ «حركة التحرّر العربيّة» هي قهر الشعوب العربيّة عبر مثال «التحرير» المعكوس مرآويّاً على الواقع. فحين يكون التحرير الموعود غير ممكن وغير مرغوب، وهو كذلك، يصير المطلوب تحويله امتيازاً سامياً، لفظيّاً ومعنويّاً، لأصحابه.

في هذا، ليس من المبالغة القول إنّ «اللاتحرير» صار رأس المال الرمزيّ الذي يشكّله «التحرير» في بلدان أخرى. وعلى قاعدة اللاتحرير هذا يُشيّد نُصب من المعاني الزائفة ويتوالى إنشاء أجهزة أخطبوطيّة تفتك بحرّيّات المواطنين وحقوقهم. وهذه خديعة ما بعدها خديعة تحوّل المكافأة على الفشل الذريع مهمّة وطنيّة نبيلة وعظمى.

هنا يكمن أحد الفوارق بين قمع كقمع ستالين، المدعّم بانتصار باهر في الحرب العالميّة الثانية، وبين قمع كالقمع الأسديّ المدعّم بهزيمة مدوّية يُراد إظهارها انتصاراً تاريخيّاً. في الحالة الأولى، المأساة تتبدّى مأساة محضة لا تداخلها الخديعة. في الحالة الثانية، تتجاور المأساة والملهاة والخديعة.

وفضلاً عن الكوارث كلّها التي تترتّب على نهج كهذا، ثمّة قدر غير قليل من إهانة العقول، قدرٌ يجدر بالعقل أن يردّ عليه احتراماً لذاته. أمّا الردّ الوحيد المقنع فلا يكون أقلّ من إبرام القطع النهائيّ مع نظام الأكاذيب التحريريّة.

فإذا كان الموقف الفعليّ للنظام أنّه لا يريد فعلاً إلاّ أن يحكم القصير، وجب أن يكون الموقف الذي يردّ عليه: ونحن لا نريد إلاّ تحرير القصير منك، قاتلتَ إسرائيل أم لم تقاتلها.

ما عدا ذلك أكاذيب تخدعنا: ألم يقل لنا «حزب الله» ألف مرّة أنّ سلاحه ليس للاستعمال في الداخل، لنكتشف أنّ السلاح هذا هو للاستعمال في الداخل السوريّ أيضاً، وليس الداخل اللبنانيّ فحسب! هذه هي المقاومة. هذا هو التحرير.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى