صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت معركة الساحل

م

احتجاج بعد فوات الأوان/ حسام عيتاني

الانقسام الحاد الذي أثارته معركة الساحل السوري ووصوله إلى صفوف المعارضين، يشي قبل كل شيء بالقصور الشديد الذي أولته المعارضة لمسألة الأقليات وتصوراتها المستقبلية للعلاقات بين مكونات الشعب السوري.

قد لا يتمكن المقاتلون المعارضون من الاحتفاظ بالأرض التي استحوذوا عليها في الأسابيع القليلة الماضية، ليكرروا ما جرى مع الهجوم السابق في العام الماضي، على رغم ظهور علامات قدرة على التمسك بالأرض والاستعداد لتطوير الهجوم نحو مناطق جديدة في الساحل. وعلى رغم الاختلافات بين المعركتين في الأجواء والقوى المشاركة ومستوى الإعداد والتخطيط، مع ما يقال عن دور تركي في العملية، تتعين ملاحظة أن الهجوم الجديد أعاد قرع كل أجراس التوجس الطائفي على جبهتي الانقسام السوري.

عليه، يبقى الجانب الميداني- العسكري أقل أهمية من نظيره «الأهلي»، أو الأساس الذي تتشكل عليه السياسات في هذه الناحية من العالم، جنباً إلى جنب مع المعطيات الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما يساهم في تفسير الصخب الذي رافق اقتحام عناصر المعارضة بلدة كسب وتقدمها صوب عدد من القرى المجاورة.

تتركز الاحتجاجات الصادرة من جانب معارضين بعضهم يحتل الصفوف الأولى، على أن معركة الساحل تمثل خطأ استراتيجياً ستدفع المعارضة ثمنه مزيداً من التهميش ومن الحصار الإعلامي والسياسي وتأخير توريد الأسلحة النوعية الموعودة. يضيف هؤلاء إن معركة الساحل سترفع مستوى التوتر الطائفي بما يعيق أي تسوية سياسية مأمولة.

أقل ما يقال في هذا الكلام إنه مراوغ ومنافق.

فالثورة معزولة ومهمشة على المستوى الدولي منذ أعوام. والأسلحة النوعية قد لا تصل أبداً، وإذا وصلت فالأرجح أنها لن تغير موازين القوى بعد إعادة الهيكلة التي خضعت لها قوات النظام بإشراف إيراني وروسي، والأخطاء الاستراتيجية وقعت وقضي الأمر وما يجري لن يزيد الأمور سوءاً لأنها بلغت أصلاً حضيض السوء.

الأهم من ذلك، أن المعترضين الحريصين على التنوع الطائفي والإثني في كسب والساحل، وأكثرهم وقف غير مبال أمام أطفال الغوطة وهم يختنقون بالغازات الكيمياوية وأمام تدمير حلب بالبراميل المتفجرة، رفضوا منذ الأيام الأولى للثورة فهم المعنى العميق للمجازر التي باشرها النظام في مناطق ذات أكثرية طائفية معينة. ويداني البداهة أن ما جرى في تلك الأيام يؤتي ثماره اليوم.

ذلك أن الإصرار على إطلاق عنف لا يقيده قيد، وتسعير الانفلات الإجرامي لشراذم الشبيحة وتحويل جنونهم إلى سياسة رسمية للقوات المسلحة الموالية بأسرها، كان لا بد أن يفضي إلى توليد منطق الحرب الشاملة. حرب الكل ضد الكل، في معزل عن كل حساب تكتيكي أو استراتيجي أو أخلاقي.

وعندما جاءت التحذيرات من خطر ممارسات النظام، لم تكن لمجرد التنبيه إلى أبعاد المعاناة الإنسانية التي ينزلها بالسكان، بل أيضاً لانطوائها على بذور ردود فعل من الصنف ذاته، لن تتمكن معارضة مفككة قليلة التماس مع جمهورها في الداخل، من ردعها والحيلولة دون انتشارها.

عليه، تبدو من السذاجة القريبة من البلاهة تلك المواقف الداعية إلى عدم المس بالأقليات واحترام التنوع الإثني والثقافي وكأن سورية معرض حضارات في إحدى الضواحي الدنماركية. لقد فات الأوان، ووحش التطهير العرقي الذي أخرجه النظام، واعياً وعن قصد من قمقمه، لن يختفي قريباً. وفي وسع المحتجين الاحتفاء بمساندة السيدة كيم كرداشيان لـ «قضيتهم العادلة»، لكن الإعصار سيدمر الجميع.

الحياة

معركة كَسَبْ: لماذا؟ ما لها وما عليها!/ أسعد حيدر

الرئيس بشار الأسد في مأزق حقيقي. انتظر الهجوم العسكري في درعا، فوقع في كسَب. لو لم تكن كسَب «البوابة الخلفية» للجبل العلوي، والطريق الى البحر، لكان المأزق عادياً. في سوريا لا يجب استبعاد المفاجآت. يبدو أن الأسد كان مطمئناً الى مربّعه الجبلي، فتركه مكشوفاً فوقعت ما يشبه الكارثة. لم تكن عملية كسَب استعراضاً مسلّحاً. كانت عملية عسكرية مدروسة جيداً. لذلك كانت المفاجأة كبيرة وصاعقة، فارتبك النظام الأسدي كلّه.

الخسائر الفادحة التي وقعت في الأيام الأولى للهجوم تؤكد أن الأسد كان مطمئناً. اطمئنان الأسد يعود الى أن منطقة الساحل كلها وبكل تعدّديتها الطائفية من سنّة وأرمن وعلويين خاضعة كلّياً لقبضة آل الاسد الحديدية. كل الساحل عملية استثمارية غير محدودة العائدات لآل الأسد. لكل فرع في العائلة مرفأه الخاص الذي يستثمره، ضمن ترتيبات «مافياوية» حقيقية.

سنّة اللاذقية دخلوا في آلة آل الأسد أكثر من سنّة دمشق، لأن القرداحة تمسك بمفاتيح السلطة. مجرد وصول المعارك الى هذا «المربع الأسدي»، اعتبر خللاً خطيراً يجب التخلص منه بسرعة.

«الجيش الحر» ومعه «النصرة» نجحا فوراً في إحداث اختراق عسكري عميق. يكفي أنهما سيطرا على النقطة 45، وقصفت القرداحة، وعملت للوصول الى «البسيط». جغرافياً كسَب تبعد عن اللاذقية 60 كلم وعن القرداحة 80 كلم. إذا استطاع «الجيش الحر» الوصول الى «البسيط» تسقط اللاذقية عسكرياً. حصول المعارضة المسلحة على منفذ بحري يعني أن تحوّلاً استراتيجياً في الحرب قد حصل.

النظام الأسدي، وجّه خيرة قواته من المشاة ومن سلاح المدرعات المدعومة بالقصف الجوي والمدفعي الكثيف الى المنطقة لاستعادتها. من الصعب جداً استعادة المنطقة كلّيًّا حتى ولو أخذ التلة 45، لأنها جبلية ومليئة بالكهوف والغابات. سياسة الأرض المحروقة تنفّذ بأعلى درجاتها الأسدية من كسَب الى اللاذقية.

من الآن وصاعداً، لا يستطيع النظام الأسدي ترك المنطقة خصوصاً من القرداحة الى باقي القرى العلوية، بدون قوات عسكرية قوية. معركة كسَب أجبرته على سحب قوات مهمة من باقي الجبهات، والاعتماد أكثر فأكثر على «حزب الله» وباقي الميليشيات الشيعية العراقية وغيرها إضافة الى تزايد في الحضور الايراني كما اعترف قائد من الأركان الايرانية. هذا التحول يشكل تغييراً مهماً لتأكيد سحب القرار العسكري من الاسد وتجييره للجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الايراني. الارتباك العسكري الأسدي ليس موقتاً لينتهي مع يوميات معركة كسَب. استرداد كسب قد يقع في أيام وربما في اسابيع، لأن الأسد لا يستطيع ترك «مفتاح الجبل» بيد «الجيش الحر» وغيره، لكنه حتى ولو استردها فماذا عن الغد؟ ماذا يمنع من وقوع هجوم آخر في وقت لاحق بعد تراكم الخبرات عسكرياً؟ وماذا لو كان الهجوم على كسب تغطية للهجوم على درعا بعد أن تأخر لأسباب كثيرة منها إقليمية؟.

نقطة واحدة أنتجها الهجوم على كسَب وسجلها الاسد في خانته. الهجوم أنتج استنهاضاً للشعور الطائفي العلوي بقوة كبيرة. أكثر من 15 ألف شاب علوي تركوا منازلهم وانضموا الى «الباسيج» الأسدي للدفاع عن قراهم ومنازلهم، لا شيء يضمن عدم وقوع انتقامات طائفية. والنظام الأسدي استثمر بنجاح هذا الخوف. معركة كسَب وان كانت مهمة جدا، إلا أنها في جانب آخر وبسبب النصرة وداعش، «جيّشت» المشاعر العلوية بقوة، وحوّلتها الى خزان الحشد الميليشياوي الأسدي.

أمام ما يحدث، فإن كل تهويلات الانتصار في سوريا تبقى وهمية. في معارك الشياح عين الرمانة، لم ينتصر أحد رغم تقدم هنا وتراجع هناك. سوريا، شياح عين رمانة واسعة وشاملة. الانتصار في معركة لا يعني ربح الحرب والبناء عليها سوريًّا ولبنانيًّا… حتى ينعقد «الطائف» السوري.

المستقبل

معركة كسب تربك الأسد وحلفاءه/ حسان حيدر

كلما هلّل نظام بشار الأسد لتقدمه العسكري في بعض المواقع ظناً منه انه سيكون له وقع «الدومينو» الذي يجعل المعارضين ينهارون ويستسلمون، احبطت المعارضة آماله، ودفعته الى تعديل حساباته. وكان آخر الضربات التي وجهتها اليه الهجوم على كسب في منطقة اللاذقية الذي اشاع الذعر في صفوف بيئته الحاضنة ودفعه الى استقدام قوات من مناطق تحتاجها، لدرء الخطر عن المعقل الذي يُعتبر ملاذه الجغرافي الاخير.

فعلى رغم حال التمنع الاميركي والدولي، والتخلي العربي، عن دعم المعارضين بما يمكنهم من اقامة بعض التوازن مع آلة النظام العسكرية الهائلة الموصولة بمخازن الجيشين الروسي والايراني، لا يزال المقاتلون يفاجئون العالم بقدرتهم على الصمود بوسائل الحد الادنى، وبإظهارهم ان ارادة التغيير لم تخبُ جذوتها على رغم التفاوت الفادح في عوامل القوة. وهم بذلك يثبتون ان ثورتهم التي لم تكن وليدة عوامل خارجية كما يدّعي النظام، ترى في مساعدة الخارج وسيلة لتسريع عملية التغيير وليس شرطاً لها.

وكانت الولايات المتحدة وجهت قبل ايام صفعة جديدة للمعارضة عندما سارعت بعد ساعات من زيارة باراك أوباما الى الرياض وتناولها المسألة السورية بإسهاب، الى طمأنة روسيا بأنها لن تزود المقاتلين السوريين صواريخ مضادة للطائرات، ودوماً بذريعة الخوف من وصولها الى «الايدي غير المناسبة»، في تأكيد للسياسة التي تتبعها منذ بدء الانتفاضة السورية، والقائمة على منح الاولوية لمحاربة الارهاب على ما عداها، حتى لو أخلّ ذلك بالمعايير والقيم الدولية التي تكرر اعلان التزامها بها.

والدليل الاوضح على نجاح الهجوم المعارض على شمال اللاذقية كان اسراع موسكو، التي تعرقل منذ ما يزيد على ثلاث سنوات عمل مجلس الامن وهيئات الامم المتحدة في اصدار قرار بوقف مذابح النظام السوري او تقديم المساعدات الى النازحين داخل سورية من دون موافقة دمشق، الى طلب اجتماع لمجلس الامن ذاته والطلب منه بحث قضية الهجوم، ولو كان ذلك بذريعة حماية الاقلية الارمنية.

ومع ان من البديهي ادانة اي تجاوزات بحق الأرمن او أي اقلية اخرى في سورية، كما من البديهي ان تكون المعارضة ضنينة بإظهار حرصها على كل السوريين بجميع طوائفهم وإثنياتهم، وإثبات ان هدفها اطاحة نظام لا يميز في قمعه بين مكونات المجتمع السوري، بمن فيهم العلويون انفسهم، فإن تلطي روسيا وراء تجاوزات محدودة لتحفيز المجتمع الدولي، يعني ان تقدم المعارضة في كسب آذى النظام كثيراً وأربكه.

وإذا كانت معركة كسب اظهرت ان ما حققه نظام دمشق بدعم من حلفائه في الميليشيات اللبنانية والعراقية، في منطقة القلمون الحدودية مع لبنان، لم يكن بالأهمية الحاسمة التي روج لها، كما اثبتت عقم الخيار العسكري الذي تبناه رداً وحيداً على مطالب شعبه، فإنها تعني في الوقت نفسه ان ما تقدمه ايران وروسيا من سلاح ومال الى نظام دمشق لا يفيد سوى في اطالة الحرب وحصد المزيد من الضحايا والتسبب في مزيد من الدمار، من دون ان يحسم المعركة لمصلحته، وأن رهانهما عليه لم يعد خياراً ناجحاً وليس امامهما سوى قبول الحل الذي تقترحه المعارضة والعالم، لمرحلة انتقالية لا دور للأسد فيها.

الحياة

حرب الساحل والدور التركي يغيّـران طبيعة الصراع/  عبدالوهاب بدرخان

طرأ تغيير كبير على مزاج النظام السوري وحلفائه. تفاجأوا فعلاً بهذا الانتقال النوعي للحرب الى الساحل. كان يطيب للنظام أن يدمّره، إسوة بالمناطق الأخرى، لكنه منطقته وعماد مشروعه البديل. له مصلحة في تسليم سورية مدمَّرة كلياً، أما الساحل فلا. حتى دمشق التي أحاطها بحزام من الأرض المحروقة لن يتوانى عن تخريب معالمها حين يشعر بأن نهايته اقتربت. وكما أعطت الأرض مؤشرات لمصلحة «الجيش الحرّ» بعد اشتعال معركتي حلب ودمشق (2012)، ثم لمصلحة النظام أو بالأحرى لمصلحة ايران و «حزب الله» والميليشيات العراقية بعد معارك القُصَير (2013) امتداداً الى القلمون، فإن المؤشرات الحالية تنبئ بأن مرحلة جديدة قد بدأت.

إنسوا الولايات المتحدة وروسيا، فهما تعملان بالمعطيات التي توفرها الأزمة لهما وتبيّن أن لديهما اهدافاً يمكن أن تتطابق (أمن اسرائيل، تدمير المخزن الكيماوي، محاربة الارهاب «القاعدي»…) أو تتنافر (تغيير نظام بشار الأسد، هزيمة ايران في سورية…). إنسوا هذا النظام، فهو برهن أولاً أنه مجرد آلة للقتل ووسيلة في خدمة العائلة والطائفة، وثانياً أنه مجرد حجر على لوحة الشطرنج الايراني. فكّروا فقط في أن الجميع، بمن فيهم المعارضة ومن دون علمها، وحتى مجموعات الارهاب، يلعبون في اطار الاستراتيجية الايرانية الجهنمية التي توصلت الى ادارة الارهابيين فيما هي تشيطن السنّة عموماً تحت اسم «التكفيريين» أو سواه. ولم يعد خافياً أن تقسيم سورية ليس مجرد فكرة زرعها النظام ورعاها طويلاً، بل بات هدفاً رئيساً لما يُعرف بـ «المشروع القومي الفارسي» الذي عسكر الطائفة الشيعية وفروعها حيثما استطاع، وتُعتبر هيمنته على العراق وسورية ولبنان وتغلغله في اليمن والبحرين وفلسطين من معالم نجاحه.

لا يشبه هذا المشروع الفارسي سوى نقيضه إحياء الخلافة الاسلامية أو إعادتها، مع فارق أن الثاني يحلم به تنظيم أو تنظيمات لا تزال تعيش في زمن غابر ولم تأخذ علماً بنشوء الدول وتمايز الأقوام. أما الأول فاعتمدته دولة هي ايران وجنّدت له طائفة وعرفت كيف تخترق دولاً اخرى لتثبت أن حكم الأقلية للغالبية ممكن بالسيطرة على المؤسسات أو شلّها بطرق مختلفة: تحالف مع النظام في سورية، علاقة تنظيمية وعقائدية مع الحزب المفترض أن يبقى حاكماً في العراق، ميليشيا مذهبية مسلّحة ترهب الطوائف المتعايشة وترتكب اغتيالات في لبنان، ميليشيا مماثلة يتصاعد دورها في اليمن فضلاً عن تواصل عسكري وتمويلي مع انفصاليي الجنوب وتنظيم القاعدة، مجموعات تخريبية في البحرين، علاقة تمويل وتسليح وتواصل مع غزّة ومجموعات سيناء وأخيراً مع ميليشيات ليبية، عدا العلاقة مع أنظمة اخرى مجاورة لاستكمال الأطواق حول الدول العربية المحورية.

أنظروا الى الخريطة السورية، فتلك الزاوية الصغيرة في أقصى الشمال الغربي، حيث تقع كَسَب، قد تقلب كل معطيات الحرب. هي منطقة لا يقطنها سُنّة عرب بل تركمان وأرمن، والأخيرون يوصفون بأنهم «شبّيحة» مزمنون لدى النظام لأن حقدهم التاريخي على تركيا وقربهم منها لا يتركان لهم خياراً آخر. أما التركمان فبدأوا يُسمعون أصواتهم مستوحين ما حصل لشبه جزيرة القرم في اوكرانيا، وثمة حزب واحد على الأقل (حزب الوطنيين الأحرار السوريين) جهر بالدعوة الى «انضمام جبل الأكراد والتركمان والمدن المحررة الى تركيا»، بل أعلن أن اتصالات تُجرى بهذا الشأن. من الطبيعي أن تسلّط معارك كَسَب وجوارها الضوء على دور تركيا، اذ نجحت للمرّة الأولى في فرض «منطقة حظر جوي» – ولو محدودة – بحكم الأمر الواقع، وبالتالي عززت إمكان السيطرة الدائمة لمقاتلي المعارضة على منطقة حساسة واستراتيجية، خصوصاً في سعيهم الى انتزاع رؤوس التلال التي تستخدمها قوات النظام للقصف على مختلف المناطق. وكان اسقاط «تلة المرصد 45» بعملية انتحارية عيّنة عما بلغه تصميم مقاتلي المعارضة.

في المقابل، ظهر الارتباك لدى الطرف الآخر، فما كان أهم نقطة قوة للنظام يبدو كأنه خاصرته الرخوة، اذ إن أنصاره هم اليوم الأكثر استغراباً لتركه المنطقة لـ «جيش الدفاع الوطني» كما لو أنه لم يتوقع أن تُهاجَم. وترافق الانهيار المفاجئ للمعنويات بردود فعل خطيرة – غبية كتلويح مندوب النظام باحتمال السلاح الكيماوي، أو لا إنسانية – غبية كإلقاء جثث القتلى الشيعة من الطائرات الى ذويهم في نبّل والزهراء المحاصرتين من دون احترام لمشاعر مؤيدين له، أو ثأرية – غبية كما في هجوم «الشبيحة» على الأحياء السُنّية في اللاذقية للتنكيل والتهديد والتوعّد. وفيما تفجّرت فضيحة التنصّت في تركيا لتكرّس الشأن السوري في الصراع السياسي الداخلي، تتداول دوائر دولية معلومات عن اتصالات متشنجة أجراها الإيرانيون بأنقرة، منذرين بأنهم مستعدّون لمزيد من التورّط في سورية اذا لم ينسحب مقاتلو المعارضة من المواقع التي دخلوها، لكن أوساط المعارضة تقول إن الهجوم لن يتوقف إلا بعد حصولها على أفضلية استراتيجية في المنطقة تمكنها من تشكيل تهديد ردعي للنظام وحلفائه. ولا بدّ من الاشارة أيضاً الى أن معركة الساحل انعكست ايضاً على جبهات عدّة لمصلحة المعارضة، خصوصاً في ادلب امتداداً الى ريف حماة الشمالي.

هل هذه اللحظة مناسبة لمعاودة البحث في «الحل السياسي»، أم أن جولات القتال مستمرة الى حين ارتسام معادلة ميدانية جديدة؟ عندما ذهبت المعارضة الى جنيف لم تكن موحّدة الرأي ولا في أحسن حالاتها على الأرض لكنها خاضت المفاوضات بجدّية، أما النظام فأراد استخدام تحسّن وضعه العسكري لإملاء شروطه وأجندته ولم ينتهز المفاوضات لفتح صفحة جديدة في الأزمة. لا أحد يفكّر حالياً في العودة الى جنيف، لأن الحل السياسي يعني على الأقل قبول الآخر وتبادل التنازلات حقناً للدماء والمحافظة على وحدة البلد والشعب، ولم يبرهن النظام في أي لحظة أن هذه من أهدافه، بل إن اقتلاع أكثر من عشرة ملايين سوري من بيوتهم لا ينمّ عن رغبة في صون التعايش. يضاف الى ذلك أن المواجهة الدولية المحتدمة حول اوكرانيا وانشغال الولايات المتحدة وروسيا بها فرضا على الأزمة السورية نوعاً من الوقت المستقطع الذي يستغلّه الطرفان لتحسين موقعيهما استعداداً للمرحلة المقبلة. وإذا أتيحت للأميركيين والروس العودة قريباً الى إحياء مفاوضات جنيف، فقد يجدون المهمة أكثر صعوبة بسبب متغيّرات الوضع السوري، لكن من المتوقع أن تكون «تفاهماتهم» وخياراتهم أكثر وضوحاً هذه المرّة في ضوء الحل الديبلوماسي الذي سيتبلور في اوكرانيا.

هناك ترقّب لما بعد زيارة باراك اوباما للسعودية، ولما يوصف بأنه سياسة اميركية «جديدة» بالنسبة الى سورية. فهناك نتائج لترك الأزمة من دون حل نبّه اليها وفد «الائتلاف» خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، وهناك نتائج لأي «انتصار» ايراني نبّهت اليها السعودية وأطراف عربية اخرى، وكلّها يُفترض أن الولايات المتحدة لا تحبذها سواء تمثّلت بصعود التيارات الارهابية أو بهيمنة مشروع ايراني يربك الحلفاء العرب ويشكّل خطراً عليهم. أما السياسة «الجديدة» التي أملاها التطرّف الروسي فلا بدّ من أن تعلن موقفاً من تدخل ايران واتباعها، ولا بدّ من أن توفّر للمعارضة الإمكانات المناسبة لمساعدتها على الصمود في مواقعها الحالية. لا شك في أن هذا المتغيِّر الاميركي المتأخر سيتطلّب من فصائل المعارضة أن تعيد تنظيم صفوفها سياسياً وأن تجنح أكثر الى توحيد قيادتها العسكرية وتتمايز عن المجموعات المتطرفة. فهذا هو الخيار المتاح لا لمواجهة أكثر فاعلية للنظام وحلفائه بل حتى لدفع موسكو نفسها الى تعديل موقفها.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

أرمن كسَب يعيشون فيها قبل النزوح الأرمني… وحمايتهم مسؤولية المعارضة/  فيكين شيتيريان

في 21 آذار (مارس) الماضي، دخلت مجموعة من مقاتلي المعارضة السورية إلى بلدة كسب التي تقطنها عائلات أرمنية في شمال غربي سورية والتي تحدّها تركيا من ناحية الشمال والبحر الأبيض المتوسط من ناحية الغرب، وذلك عقب الانتصار الذي حقّقه النظام السوري في مدينة القلمون ومحاولته إحكام السيطرة على الحدود السورية-اللبنانية.

ومرة أخرى، أظهرت التطوّرات العسكرية المزدوجة أنّ الحقائق السورية على المستويين الداخلي والدولي، أنشأت توازناً معيّناً، ما يجعلنا نستبعد حصول انتصار عسكري لجهة على جهة أخرى في المنظور القصير والمتوسط. كما ساهم مؤتمر «جنيف-2» والتحضيرات لإجراء انتخابات رئاسية جديدة بنسبة 99 في المئة في إقصاء الحلّ، فيما البديل المتبقي الوحيد هو استمرار الحرب المدمّرة.

وتسبّبت عملية كسب باندلاع حرب دعائية جديدة بين النظام والمعارضة من خلال إدخال العنصر الأرمني إليها. لا يزال الوضع الميداني غامضاً وتتحدّث وسائل الإعلام الموالية للنظام عن قيام جهاديين بشنّ هجوم على المسيحيين وتدمير الكنائس ونهب الأملاك الخاصة مع نشر صور مخيفة وأفلام مصوّرة التُقطت في مكان آخر. كما أنها اتهمت تركيا بتنظيم الهجوم الذي وصفته بأنّه اعتداء آخر معادٍ للأرمن إلى جانب التشديد على السلوك العدواني الذي تُبديه تركيا تجاه سورية نفسها. وتمّ أخيراً تسريب معلومات مفادها أنّ مسؤولين رفيعي المستوى في تركيا يبحثون إمكان القيام بعمل استفزازي لتغطية التدخّل العسكري التركي المباشر، الأمر الذي يعطي صدقية للرواية الرسمية السورية. وأدت هذه الفضيحة الأخيرة إلى حجب موقع «يوتيوب» في تركيا. كما نشر الثوّار السوريون مشاهد تبيّن وجود حركة طبيعية في كسب على رغم الشوارع الخالية حيث يحرس الثوّار الكنائس ومن تبقّى من السكان. ويجدر بالثوار اليوم أن يبرهنوا أنهم قادرون على حماية حياة السكان والأملاك وألا يتكرّر في كسب ما حصل في الرقة.

من الناحية العسكرية، كان في وسع مقاتلي المعارضة الاستيلاء على كسب منذ سنة بعد أن احتلوا الجبال شرق البلدة. إلا أنّهم لم يدخلوا إلى البلدة لعدم التسبّب للحكومة التركية بإحراج دولي. محرّر صحيفة «آغوس» الأسبوعية في اسطنبول، روبر كوبتاش، رأى أنّ حزب العدالة والتنمية الحاكم كان بحاجة إلى إظهار انتصار في سورية لناخبيه نظراً إلى اقتراب موعد الانتخابات البلدية، علماً أنّ هذه الحاجة باتت ملحّة عقب الخسارات التي تكبّدتها المعارضة وسط البلد. وفي مقال نشره في صحيفة «آغوس»، أشار كوبتاش إلى أنّ عدداً كبيراً من المنظمات الأرمنية في سورية وفي تركيا أيضاً تعتبر أنّ الهجوم لم يكن ليحصل لولا موافقة تركيا ولولا الدعم اللوجستي الذي قدّمته. وتسلّطت الأضواء على التدخّل العسكري التركي بعد إسقاط طائرة حربية سورية، الأمر الذي لم يقم به الجيش التركي عام 2012 حين أسقطت سورية طائرة تركية من طراز «أف 4 فانتوم»، ما أدى إلى مقتل قائديها.

التاريخ ليس الماضي!

حين ترعرتُ في بيروت في سبعينات القرن الماضي، كان الحديث المهيمن يدور حول النضال الوطني العربي مع التركيز على فلسطين. وفي هذا الإطار، كان الأرمن مواطنين ضحايا يناضلون من أجل حقوقهم الوطنية فيما وقفت تركيا إلى جانب العدوّ، أي حلف شمال الأطلسي وإسرائيل. وفي السنوات الأخيرة، تغيّرت الأمور ورحتُ أجد على شبكة الإنترنت خطابات عنيفة معادية للأرمن عند حصول سجال سياسي بين المنظمات الأرمنية وتركيا حول مسألة الإبادة. إذ يكون ردّ فعل الرأي العام العربي معادياً للأرمن في معظم الحالات. لا شكّ في أنّ منطقة الشرق الأوسط شهدت تغيّرات تكوينية أدّت إلى حصول هذا التغيير. فتمّ إحباط النضالات الوطنية وتجريدها من معناها ليبرز مكانها خطاب إسلامي جديد طائفي يفتقر إلى عالمية الإسلام. وساهم وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا عام 2002 في إغضاب الشرائح الواسعة للرأي العام العربي، لا سيّما عقب عملية «مافي مرمرة» الهادفة إلى كسر حصار قطاع غزة والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة وفي كشف مدى تشتّت الرأي العام العربي ومدى الحاجة إلى منقذ خارجي. وفي الروايات التي برزت، بات الأرمن دخلاء.

لكنني أظن أنّ مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المفكرين الأرمن في الشرق الأوسط. فما حصل عام 1915 ليس معاناة أرمنية فحسب، بل ألم يجدر بنا الحداد عليه وحدنا. تحظى التجربة الأرمنية بقيمة عالمية مع العلم أنّ البشر لم يستخلصوا العبر الضرورية بعد 99 سنة. وأظن أنّ التجربة الأرمنية مرتبطة بالنضال الحالي في سورية.

ومن شأن ردّي فعل برزا عقب استيلاء المعارضة على كسب إيضاح وجهة نظري. نُشر، في صحيفة موالية للمعارضة، مقال قصير حمل عنوان «الأرمن الأميركيون يشوّهون صورة الثوار السوريين من أجل تصفية حسابات قديمة مع تركيا». ويلفت المقال إلى أنّ الأرمن يعتبرون أنّ تركيا تدعم «المجموعات الإرهابية» في سورية وأنها مسؤولة عن تدمير الكنائس في إطار آلية تأخذ طابعاً وطنياً للثأر الطائفي وهو نتيجة ضغائن دفينة وعميقة تعود جذورها إلى المجازر العثمانية التي ارتُكبت ضد الأرمن في العقد الثاني من القرن الماضي».

ثانياً، أعلن المعارض السوري فوّاز تللو في معرض التعليق على التطوّرات في كسب أنّ بلدة كسب هي بلدة سورية وليست أرمنية. فالأرمن هم ضيوف استقبلناهم منذ مئة سنة على أراضينا السورية وها نحن اليوم نحرّر أرضنا». وفي المقابلة نفسها، ذهب تللو إلى حدّ مهاجمة فكرة الفيديرالية معتبراً أنها تقسّم البلد إلى خطوط طائفية.

ليس أرمن بلدة كسب «ضيوفاً» قدموا إلى سورية منذ مئة سنة. إذ كان أرمن كسب وسكان القرى الأرمنية في جبل موسى الواقع على الحدود الشمالية موجودين على أرضهم على مدى ألف سنة. كما كانوا جزءاً من مملكة كيليكيا الأرمنية (1198-1375) على رغم وجود تقارير أخرى تشير إلى أنّ أرمن جبل موسى موجودون هناك منذ قرون خلت. والجدير ذكره أنّ لهجتهم المختلفة تؤكّد هذا الواقع.

يعدّ تاريخ بلدة كسب وجبل موسى مثيراً للاهتمام كما تبيّنه رواية فرانز ويرفل بعنوان «الأيام الأربعون لجبل موسى». لكن يجب نشر هذا التاريخ في مكان آخر. فقد صمدت قريتان فقط إلى اليوم يتحدّث سكانهما اللغة المحكية في جبل موسى، الأولى هي عنجر في لبنان التي تضمّ قرويين فضّلوا الرحيل عن أرضهم بعد أن قررت فرنسا تقديم أنطاكية إلى تركيا في عهد كمال أتاتورك عام 1939، والثانية هي فاكيفلي التي تضمّ 135 شخصاً وهي القرية الأرمنية المتبقية الوحيدة في تركيا من أصل آلاف القرى والمدن التي كانت موجودة على الأراضي الأرمنية التاريخية قبل إبادة عام 1915. ولو اطّلع السياسيون السوريون على التجربة التاريخية الأرمنية، لأدركوا أنّ القوى العظمى لن ترسل أبداً قواتها لإنقاذ الناس من المجازر. خلال حقبة المجازر الحميدية بين عامي 1894 و1896 والتي قضى فيها 300 ألف أرمني عثماني، ندّدت القوى الغربية التي كانت تحظى بواجبات قانونية للدفاع عن أقليات الإمبراطورية العثمانية، بالجرائم فقط لا غير. وخلال الحرب العالمية الأولى، حين رحّل الأتراك الشباب السكان الأرمن برمّتهم في «مسيرات الموت»، وعدت القوى العظمى بسوق الأشخاص المسؤولين عن ذلك إلى العدالة. لكن، بعد انتهاء الحرب، تعاونت هذه القوى مع تركيا بقيادة كمال أتاتورك لمواجهة بروز روسيا البلشفية وسرعان ما تمّ نسيان الضحايا الأرمن.

يظهر التاريخ الأرمني كيف أنّ مفهومي «أقلية» و «أكثرية» هما تركيبات سياسية تتغيّر مع الوقت. كان السلاطين العثمانيون يقدّرون الأرمن فيما كان النبلاء الأرمن أصحاب مصارف ومهندسين وصناعيين يعملون لحساب السلطان. وفي شرق الأناضول، كان الوضع مختلفاً بما أنّ المزارعين الأرمن المحليين وسكان القرى شاركوا في نضال ضد القبائل الكردية المسلحة. وعقب معاهدة برلين التي أُبرمت عام 1878 والتي طلبت بموجبها القوى العظمى من السلطان العثماني إجراء إصلاحات في المحافظات الأرمنية، قرّر السلطان عبد الحميد إلغاء قضية الأرمن من خلال ارتكاب المجازر، مستخدماً أحياناً القبائل الكردية لتنفيذ هذه العملية. وأخذ الأتراك الشباب هذه السياسة إلى مستويات جديدة من خلال ترحيل السكان الأرمن كلّهم وقتلهم. ومن أصل 2.2 مليون أرمني عثماني عام 1914 بقي 250 ألف أرمني في تركيا عام 1923 و60 ألفاً اليوم فقط. لكن حين تمّ إلغاء «الأقلية» الأرمنية جسدياً، بات الأكراد في تركيا «الأقلية» الجديدة وضحية السياسات القمعية، مع العلم أنّ هذا النزاع لا يزال بحاجة إلى حلّ. والخلاصة الأولى من ذلك كلّه هي أنّ المشكلة لا تكمن في وجود «أكثرية» و«أقلية» تغيّر المفاهيم السياسية بل في إلغاء العنف كوسيلة لصناعة السياسة. والخلاصة الثانية هي رفض الفيديرالية كشكل من أشكال «الانفصالية» فيما ليس التركيز على الدولة المركزية، كما يفعل السيد تللو، هو الحلّ الأفضل.

والخلاصة الثالثة هي أنّ القتال من أجل العدالة لا يزال مستمراً بعد انتهاء الحرب. لن يتوانى المدافعون عن النظام المجرم عن اتهام الضحايا وتبرير أفعال المجرمين. سيعتبر البعض أنك «تسعى إلى الثأر» وبأنّ النضال ينمّ عن «ضغائن دفينة وعميقة». بالتالي، من المهمّ اليوم توثيق كل الجرائم التي ترتكب في سورية. ففي حالة الأرمن، لا يزال النضال من أجل العدالة مستمراً منذ 99 سنة وحتى اليوم

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى