صفحات المستقبل

قالب حلوى تحت القصف/ جنا سالم

 

 

منتصف شهر حزيران عام 2013، الساعة الرابعة عصراً. حي القابون خالٍ تقريباً من المارة، فالجميع التزموا منازلهم بعد ساعات القصف العنيف التي تبدأ عادة مع الصباح، لتتوقف بشكل جزئي عصراً. أنا ومعي أحد الأصدقاء نبحث عن أي دكان يمكن أن يبيعنا ظرفين من «البيكنغ باودر».

«هل هذه المادة ضرورية؟»، يسألني الصديق وهو متوجس من سماع أصوات القصف البعيدة والقريبة.

«نعم، لا يمكن أن ينجح قالب الحلوى من دونها».

يتابع صديقي قيادة سيارته القديمة وسط أزقة ضيقة لا تخلو من آثار القصف وركام المنازل يميناً ويساراً، الحي يبدو كئيباً لا حياة فيه، والحر الشديد يزيد من معاناة الآلاف من سكانه. يحاول صديقي ثنيي عن المضي قدماً: «لا أفضّل أن نصل للشارع الرئيسي فهناك سنصبح عرضة أكثر للقذائف العشوائية».

لا أشعرُ برغبة في الإجابة، أشيحُ بنظري إلى لجهة الأخرى وأنظرُ من النافذة نصف المغلقة إلى البيوت القديمة المتداعية التي لا يمكن لها بأي حال أن تحتمل قصفاً أو حتى هزة أرضية خفيفة، وأفكر كم أن الحياة والموت باتا متساويين. لم يكونا كذلك قبل بدء الثورة، فحينها كان الموت من أكثر الأفكار رعباً بالنسبة لي، وكانت الحياة بخياراتها الكثيرة الملونة متاحة أمامنا فاتحة لنا ذراعيها. أما اليوم، وبعد كل ما عايشناه ورأيناه، وبعد أن أمضيتُ أياماً بأكملها تحت القصف وأنا أرى أصدقاءً يتحولون إلى أشلاء، وآخرين يودعون أحبتهم ويدفنونهم بصمت، باتَ كل ما يمكن أن يحدث سياناً بالنسبة لي. جلّ ما أتمناه أن تنتهي الحرب، ولأنني أعلم بأنها أمنية ذات مقاس كبير علينا، فكثيراً ما كنت أحاول تركيز أمنياتي على شيء أبسط، كأن تتوقف أصوات القصف ليوم واحد فقط.

منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة السورية، تحوّلت أنظارنا نحن سكان العاصمة دمشق بكل اندهاش نحو القابون، وهو الحي الفقير المهمش الواقع شرق العاصمة على طرفي الطريق الدولي الواصل بين دمشق وحمص، والمؤلف بمعظمه من عشوائيات وبيوت فقيرة متداعية، والذي ما كنا نعرف منه سوى بعض نقاط العلام: سوق التهريب، مسبح «التروبيكانا»، الشرطة العسكرية، الوحدات الخاصة، معمل سيرونيكس للالكترونيات. نجح الحي في لفت أنظارنا إلى حراكه السلمي ومظاهراته ومسيرات تشييع شهدائه الحاشدة والضخمة والتي استقطبت الآلاف من دمشق ومن مدن وبلدات الغوطة الشرقية المتاخمة. كثيراً ما حاولت تلك المظاهرات اختراق الطوق الأمني للعاصمة والوصول إلى ساحة العباسيين، وهي أقرب ساحات المدينة للريف الشرقي، دون أن يتكلل ذلك بالنجاح، ومن أشهر تلك المحاولات مظاهرة الجمعة العظيمة يوم 22 نيسان 2011 التي حشدت الآلاف من شباب الريف في محاولة للوصول إلى دمشق، لتُستقبَل برصاص قوات الأمن السوري عند بداية حي الزبلطاني ويقع العشرات بين قتيل وجريح في أكبر مجزرة عرفتها الثورة حتى ذلك التاريخ. كذلك اشتُهِرَ الحي بلافتاته المميزة في المظاهرات، وبمجلة «آبونا» التي أسسها ناشطوه الإعلاميون وأخذوا بطباعتها وتوزيعها كعمل رديف للحراك المدني الناشئ.

مع سقوط الحي بيد مقاتلي المعارضة عام 2012، تعرّض القابون لحملات عسكرية وحالات من الحصار اشتدت حيناً وخفّت وطأتها أحياناً أخرى، وككل المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري خلال سنوات الثورة، صبّت قوات النظام عليه وعلى سكانه جام غضبها، محيلةً حياتهم إلى جحيم بكل ما أوتيت من وسائل الحرب القذرة، فكان نصيبهم القصف اليومي بشتى أنواع الأسلحة، واحتمال الاعتقال أو الاختطاف على حواجز النظام في حال الرغبة بالمغادرة نحو مناطق مجاورة أكثر أمناً وأقل عنفاً.

كان قُربُ حي القابون من مركز العاصمة، وسهولةُ الوصول إليه في كثير من الأحيان إما عبر المدخل الأساسي الذي يتحكم به حاجز يتغير مزاجه بحسب الأيام، أو عبر طُرُقٍ فرعية أُغلقت جميعها فيما بعد، عاملاً مشجعاً لكثير من المنخرطين في الثورة للتوجه إليه باحثين عن أي مجال لعمل مدني ما عاد ممكناً داخل دمشق، بعد سيطرة النظام المطبقة عليها وحملات الاعتقال التي طالت معظم الناشطين وتسببت بتهجيرهم واعتقال واستشهاد كثيرين منهم خلال الأعوام الثلاثة الأولى للثورة، فتحوّل الحي إلى مقرٍ للعديد من النشاطات المدنية المناهضة للنظام السوري خلال العامين 2012 و2013.

استمرت المظاهرات بالخروج فيه على نطاق ضيق، كما تأسست مشاريع تعليمية وطبية وتنموية من قبل عشرات الناشطين الذين حاولوا أن يشكّلوا بديلاً عن غياب مؤسسات الدولة داخل المنطقة «المحررة»، وأن يقدموا نموذجاً لسوريا التي يحلمون بها، دون نظام الأسد، في بقعة صغيرة لا تتجاوز مساحتها بضعة كيلومترات مربعة، لكنها كانت كافية بالنسبة لهم لإنعاش إحساسهم بحريةٍ لم يعرفوها يوماً.

على مدار أشهر طويلة في تلك الفترة، اعتدتُ الذهاب من دمشق إلى القابون بشكل يومي مع أصدقاء آخرين، حيث كنا نُهرِّبُ ما تيسر لنا من مواد طبية وغذائية، كنا على يقين بأنها تساهم ولو بشكل جزئي في رفع المعاناة عن آلاف الأهالي الرافضين للتخلي عن منازلهم وحياتهم والخضوع لرغبة النظام في تهجير سكان المناطق الثائرة، أو الخائفين من المغادرة والتعرض للاعتقال أو الخطف. ويوماً تلو الآخر، تحوّل ذلك الفعل اليومي إلى صلة وصل بين حياتنا «شبه الطبيعية» في دمشق، حيث لا قصف ولا حصار ولا جوع ولا معاناة من غياب أدنى شروط الحياة الإنسانية، وبين حياة أولئك المحاصرين في المناطق الثائرة الخارجة عن سيطرة النظام؛ وأحياناً إلى تكفيرٍ عن ذنبِ «حياتنا الطبيعية» مقابل «موتهم اليومي». اعتادت إحدى الصديقات أن تقول لي: «ليست العدالة في أن نموت ونحاصر جميعاً، بل العدالة الوحيدة التي علينا المطالبة بها هي انتهاء الحرب». ورغم يقيني بصحة ذلك، إلا أنني لم أكن أملك سوى الرغبة في أن أكون هناك، رغم خطر القصف والموت، وكأنني بذلك أحقق قسطاً من العدل الذي ننشده.

بم. بم. بم. بم.. «راجمة.. أربع صواريخ»، يصرخ صديقي مع سماع هذا الصوت المخيف الذي اعتدناه منذ أشهر، ويحاول البحث عن زاوية يمكن لنا أن نحتمي بها قبل انفجار الصواريخ الأربعة بعد ثوانٍ قليلة.

«كفانا جنوناً ولنعد للمنزل، وغداً سأشتري لك أكبر قالب حلوى».

«لا.. لن أسمح للنظام أن يسلبنا حتى أفراحنا الصغيرة، لقد وعدتُ آلاء وشام بأن نُعدّ الحلوى اليوم، ولن أغادركم وأعود لمنزلي مساءً قبل ذلك».

كانت رحلتنا اليومية إلى الحي تبدأ صباحاً، مع أكياس مملوءة أطعمة وأدوية ومخبأة تحت مقاعد السيارة. وكانت لنا شبكة من العلاقات والاتصالات تسمح في كثير من الأحيان بمعرفة مزاج «حاجز أول القابون» كما كنا نسميه، وهو عبارة عن مجموعة من الجنود التابعين لأحد التشكيلين العسكريين الواقعين على مدخل الحي الغربي: الشرطة العسكرية والوحدات الخاصة. «الشباب اليوم رايقين»، أو «اليوم ما مناسب وفي تدقيق كبير». وبحسب ذلك المزاج، كنا نعرف إن كان بإمكاننا تجاوز الحاجز بالسيارة دون أن نتعرض لتفتيش دقيق قد يتسبب لنا بمشاكل نحن في غنى عنها، أم أن علينا أن نركنها في أول الحي، لندخل سيراً على الأقدام دون المرور بالحاجز، وهو طريق أصبح مكشوفاً لقناصة النظام فيما بعد.

خلال تلك الرحلات اليومية، بات لدي كثيرٌ من الأصدقاء داخل الحي، ومنهم عائلة شام وآلاء اللتين لم تتجاوزا العاشرة من عمرهما، واللتين لم أكن أدخر جهداً لإسعادهما. أصدقاء أزورهم، ويرحبون بي بكل حفاوة رغم أنني غريبة عن الحي، وكثيراً ما شعرت بأننا، نحن الزوار، نشكّل بالنسبة إليهم نافذة على العالم الخارجي. يسألوننا كل يوم: «كيف الشام؟ كيف الشوارع؟ كيف عايشين؟» وكأن دمشق مدينة في بلد آخر، وليست حارات وأزقة وأبنية لا تبعد عنهم أكثر من عشر دقائق بالسيارة أو بأي وسيلة نقل عامة. الناس هناك طيبو القلب، لا يريدون الحرب، ولا يريدون ذل النظام. ما عادوا يقبلون أن يعيشوا على هامش الحياة كما اعتادوا لعقود مضت، لكن ثمن ذلك يبدو كبيراً بالنسبة لهم ولأطفالهم.

يعود الهدوء ليلف أرجاء الحي، فأقترح على الصديق أن نجرب بقالية تبعد عشرات الأمتار عنا: «هي المحاولة الأخيرة، وإن وجدناها مغلقة نعود أدراجنا إلى المنزل». يهزّ رأسه باستسلام وهو يعلم أنه لن يتمكن من ثنيي عما أريد فعله، وينعطفُ يميناً. لم يستغرق الأمر سوى بضع ثوانٍ حتى أشرقت عيناه وهو ينظر إليّ: «ها هو العم أبو أحمد يجلس وحيداً داخل الدكان وكأنه ينتظرنا، لنرَ إن كان يبيع البيكنغ باودر اليوم».

أقفز من السيارة والمشهد يرتسم أمامي بكل غرابته، وبكل تناقضات الحرب والموت والحياة: أبو أحمد، البائع الستيني، يجلس على كرسيه الصغير مرتدياً شروالاً أسوداً وقميصاً سكرياً نظيفاً ومكوياً، وممسكاً سبحته زيتية اللون دون أن يحركها. ينهض أبو أحمد من كرسيه ليرى من هذا الزبون الذي قرر الخروج تحت القصف والمجيء إليه، وتلوح في عينيه ابتسامة النصر. لا شكّ أن قدومنا أكّد له أنه ليس المجنون الوحيد في الحي اليوم، وأن جلوسه في دكانه في هذا التوقيت بالذات لم يكن عبثاً.

نخرج من دكان أبو أحمد ونحن نحمل ظروف البيكينغ باودر كمن عثر لتوه على كنز ثمين، ونتجه نحو المنزل حيث نمكث حتى مغيب الشمس. مع ساعات المساء الأولى يحل هدوء غريب على الحي، ما يدفعنا لإطلاق نكات حول جنود النظام الذين لا شكَّ يتناولون عشاءهم ويعدون أباريق الشاي والأراجيل في هذا الوقت، غير آبهين بالحرب التي يتوجب عليهم مواصلتها، وهي استراحة تمنحني بعض الوقت كي أركب السيارة وأعود أدراجي إلى منزلي البعيد عن القصف والموت.

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى