صفحات العالم

قبضة الغرب تضعف… وعالم جديد يرتسم/ شارل فيليب دافيد وأوريلي كامبانا

 

 

يدور الكلام من جديد على نهاية التاريخ، وانعطاف العالم، وانبعاث الجدران والحدود، وأفول الإمبراطورية الأميركية. ويبدو أن العصر الذي افتتحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ساهم في تسريع وتيرة هذا الانعطاف وانزلاق صفائح العالم التكتونية إلى صورة أو هيئة جديدة. وتشير سلسلة من المؤشرات إلى أن نواة العالم تنزلق من الغرب إلى أوراسيا. فتحديات الأمن الدولي تفلت أكثر فأكثر من قبضة الغرب، وصار، اليوم، الكلام على «العودة عن تغريب العالم» جائزاً. وسيجد الغرب نفسه، وفي المستقبل القريب، في الخلفية أو المكانة الثانوية وليس في قمرة توجيه دفة العام.

فعلى المستوى العسكري، يتربع لاعبون جدد محل القدامى. وتحل المملكة السعودية في المرتبة الثالثة من الدول الأكثر إنفاقاً على الدفاع. فموازنتها العسكرية في 2017 تفوق موازنة بريطانيا العظمى التي حلت في المرتبة الخامسة في لائحة الأكثر إنفاقاً على الدفاع. والهند تقدمت على فرنسا، وحلت في المرتبة السادسة. والصين في المرتبة الثانية. وعلى رغم أن هوة الإنفاق العسكري شاسعة بينها وبين الولايات المتحدة، تتمدد قوتها العسكرية أكثر فأكثر، سواء في بحر الصين الجنوبي أو في جيبوتي في القرن الإفريقي حيث قاعدتها البحرية. وتعد بكين لافتتاح قاعدة بحرية جديدة في فانواتو في قلب المحيط الهادئ.

وعلى المستوى التجاري والبيئي، يبدو أن القطار يفوت الغرب. فمن يلتزم خطاب الانفتاح الاقتصادي اليوم هو الصين. ومن يعلن الحرب التجارية هي أميركا ترامب. وفي وقت تسعى الرياض إلى تغيير وجه اقتصاد بلادها وتعدّ لمرحلة ما بعد البترول، تنكر الولايات المتحدة التغيرات المناخية وتتمسك بفوائد الفحم وحسناته. وتُقدم بكين نفسها على أنها المدافعة عن الاتفاقات الدولية. وعلى مستوى آخر، ترجح كفة روسيا، وهي المخرب في العلاقات الدولية، في سورية، وتعود إلى أفغانستان، وتعزز قدراتها العسكرية في آسيا الوسطى، وتسعى إلى المرابطة من جديد في إفريقيا. وهي تساهم في انحسار الديموقراطية وقيمها ونظامها السياسي، وتنتصب نموذجاً يلفت أنظار الدول الباحثة عن «طريق آخر» مشرّع الأبواب أمام شعبوية جديدة أو استبداد جديد. والمفارقة أن النموذج الروسي أكثر ما يستقطب ويجذب دول أوروبا الشرقية. وهذه الطموحات تهز النظام العالمي وترسم وجه التراتبية فيه على صورة جديدة.

ولكن من سيحدد وجه النظام الدولي؟ يهيمن الغرب، وهو متكئ إلى غالبيته في مجلس الأمن، على خطاب العلاقات الدولية منذ قرون، وهو الفيصل في السلم والحرب. ولكن لا طاقة له بعد اليوم بتدبير شؤون العالم، ولا رغبة في مثل هذا التدبير. واليوم العالم أمام واقع مستجد: تفتتح الإستراتيجيا أو الجغرافيا السياسية، في غياب هيمنة الغرب أو استعماره أو ما بعد استعماره، عهداً جديداً لم يستقر بَعد يعيد رسم وجه المؤسسات الدولية، في وقت تجلس الدول التي درجت على توجيه دفة العالم، في مقاعد المشاهدين وتشاهد العجلة تتحرك من دونها وتنطلق. ويجب احتساب هذا الواقع، حين لا يعود دور الغرب ريادياً. وينفخ بروز الشعبوية في أميركا وأوروبا في النازع إلى التقوقع والانطواء، وتصل إلى مراكز القرار قوى قومية وحمائية متقوقعة. وسلط إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، الضوء على إخفاق تعدد الأقطاب، على نحو ما روجت أميركا له وجسدته، في خطابه أمام الكونغرس الأميركي.

واليوم، يدور السؤال على من يسعه إدارة الجانب الديبلوماسي من العلاقات الدولية لجبه تحديات قد تترتب على الانتشار النووي في كوريا الشمالية أو على نزع سلاحها النووي. والأغلب على الظن أن تؤدي الصين وكوريا الجنوبية واليابان دوراً حيوياً في نجاح القمة بين الزعيمين الأميركي والكوري الشمالي، في غياب حل عسكري أميركي أحادي في هذا الملف على نحو ما هي الحال في الملف الإيراني. ويبدو أن الملف الإيراني هو محك شد الحبال المقبل والصدام بين الغرب وروسيا والصين.

ويعود، إلى حد ما، هذا التغير في النظام الدولي إلى سلسلة الإخفاقات في الأعوام الأخيرة. فأفغانستان والعراق وليبيا وسورية هي نماذج تظهر حدود اللجوء إلى القوة والتدخل العسكري الغربي. ولا شك في أن في وسع الدرون والقصف المركز والعمليات الخاصة القضاء على خصم مثل داعش، ولكنها أدوات عاجزة عن تذليل المشكلات في الميدان ولا ترسي حلولاً مستدامة. والقوى الغربية الكبرى عاجزة عن تغيير واقع الأمور، شأن الأمم المتحدة. ويجوز الكلام على وهن كل مكتبسات ما بعد الحرب الباردة في مجال حفظ السلام و «مسؤولية الحماية»، والحق في التدخل، وإرساء الديموقراطية وعمليات إرساء الاستقرار والأمن. ولم يسع أي مراقب توقع أن يقف العالم موقف المتفرج في ميانمار، وأن يعيش ما سبق أن خبره في البلقان أو رواندا، بعد سيل الوعود بعدم وقوع مثل هذه المجازر بعد اليوم.

وتلوح في الأفق سلسلة توترات تتردد أصداؤها في نزاعات تسمى طرفية، مثل تلك الدائرة في سورية واليمن. والطعن في النظام العالمي القائم، وسعي دول بارزة أو «صاعدة» مثل الصين إلى صوغه من جديد، يشرع مرحلة غامضة تستغلها روسيا التي أضافت إلى ترسانتها العسكرية الهجمات السيبرانية ضد الديموقراطيات. وعليه، يبدو أن مرحلة «العودة عن تغريب» الأمن الدولي بدأت.

* مديرا الجولة الرابعة من منتدى سان لوران حول الأمن الدولي، عن «لو دوفوار» الكيبيكية الكندية، 28/4/2018، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى