صفحات الرأي

قبّعة الإسلام السياسي «المعتدل» وأرنبها ذو الرأسين/ ثائر ديب

 

في العام 2001، بينما كنتُ على وشك ترجمة كتاب «أوهام ما بعد الحداثة» لتيري إيغلتون، أدهشني أنَّ كثيراً من المواد التي أظهرها البحث في «غوغل» عن مادة «postmodernism» كان لمرجعيات دينية غربية تحاول القول، بصوت يكاد يكون موحَّداً، إنَّ المسيحية لا تتعارض مع هذه الفترة التاريخية الموسومة «ما بعد الحداثة» وإنّها قادرة على التكيّف معها. وهي الفترة ذاتها التي شهدت أيضاً بروز «لاهوت التحرير» الذي طرح تصورات جديدة للمسيحية تتمشّى مع النضال من أجل الاشتراكية.

أستحضرُ هذا بدفعٍ من قرار «حزب النهضة» في تونس مؤخّراً فصل الدعويّ عن السياسيّ، وتصوير هذا الفصل – على ما يستحقه من اهتمام – على أنّه إصلاح ديني جذري، مع أنّ الدلائل تشير إلى أنّ الإسلام السياسي في منطقتنا، ومنه «النهضة»، يتّخذ وجهةً معاكسةً تقول، بصوت يكاد يكون موحَّداً، إنّ هذه الفترة التاريخية، شأنها شأن الدهر كلّه، لا تتعارض مع الإسلام ويمكنها أن تتكيّف معه.

والحال، إنَّ السؤال «مَن سيتكيّف مع ماذا؟» يصلح أن يكون محكّاً لنوع الإصلاح المزعوم ومداه، بدلاً من الضياع في دهاليز الألاعيب اللفظية. ذلك أننا بتنا في عصر لم يعُد يكفي فيه لإصلاح الإسلام السياسي القائم قياسٌ أو اجتهاد، وصار بحاجة إلى إبداع وتحوّل جذري، هذا إن كان لنخبه وللفئات الاجتماعية التي يمثّلها مصلحة في الإصلاح أصلاً. وهو هنا يتشابه نوعاً ما مع حركات غير دينية، مثل الشيوعية التي لا تستطيع أن تمر مرور الكرام أمام الظاهرة الستالينية أو البول بوتية وما شابه، ومثل القومية العربية التي لا تستطيع أن تشيح النظر عن مآلاتٍ لها استبدادية وفاسدة وقُطرية، على الأقلّ.

ليس لدى «النهضة» استعداد للمسّ بما يدعوه رجالاتها بـ «الثوابت». والأمر، كما يقولون، لا يعدو كونه «تخصصاً وظيفياً» أو «فصلاً وظيفياً»، يخصّ «السياسيّ» بالدولة ويترك «الدعويّ» للمجتمع المدني، أي للطرف الثاني من المجال العام وليس للمجال الخاص والفردي. ولا يعدو الأمر أيضاً ما حاوله الشيخ الغنّوشي مراراً من وضع الديموقراطية الحديثة في قالبٍ لا تتعارض فيه مع حكم الله والشورى، إذ إنّ الديموقراطية لا تعدو كونها شورى حديثة، كما قال مؤخّراً. وهذا الضرب من «الديموقراطية» ينحو، بالطبع، وربما في أحسن الأحوال، إلى ما نجده من «ديموقراطية» إيران، حيث لا يتعدّى الأمر توازن السلطة المغلق على تيارات اللون الواحد وأطيافه.

خاطب مرسي أمّة المصريين الحديثة الخارجة من المشهد الأول الظافر لثورتها بأنّهم «عشيرته». ولم تمرّ أشهر قليلة على سيره المتعرّج في صراط الديموقراطية التي أعلته سدّة السلطة، حتى شرع بأَخْوَنَة الدولة، أي بإعادتها إلى الاستبداد. وهذا يشبه ما يفعله أردوغان في تركيا التي لم يتردد رئيس وزرائها الجديد في القول: «حزبنا سيعمل وحده على كتابة الدستور التركي الجديد بنظام رئاسي». وهذا يعني في جوهره تنصيب إردوغان سلطاناً أبدياً لا يكتفي بدورة أو أكثر من دورات تداول السلطة التي تقتضيها الديموقراطية. ولا يختلف الإسلام السياسي السوري عن ذلك بل يبزّه بكثير حتى قبل أن يمسّ السلطة.

ينسى هؤلاء الذين عادةً ما ينقذون الدكتاتوريات أو يمهّدون لها، أنّه حين يتعلّق الأمر بالاستبداد وإعادة إنتاجه، عادةً ما يُثبت العسكر وانقلاباتهم أنّهم أنجع بكثير.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى