صفحات سورية

قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!


سوريا ومرحلة تحطيم الذات

ياسين عبد اللطيف

– سأل علي بن أبي طالب بعض أصحابه المعترضين على حرب معاوية بن أبي سفيان في صفين، قال: هل تخرجون من بيعتي؟! قالوا: لا والله، ولكنا نكره معك قتال أهل القبلة.

لم تقع في نفسي عبارة ذات دلالة سياسية عميقة كما وقعت هذه العبارة! وهي تمثل موقفا دينيا وسياسيا انهزم أمام من تأول تشددا وشرع للحرب متذرعا بالحق المستمد من المشروعية؛ فضاعت الأمة بحرب الحزبين!

وعليه، سأكمل استتباعا حديث أهل صفين، فقد سأل عمار بن أبي سلامة  الدالاني عليا عن أمر أهل الشام وهم في الرقة في موقع القتال، قال: “… فما حالنا وحالهم إن ابتلينا بقتال غدا؟” قال علي: “إني أرجو ألا يُقتل أحدٌ نقي قلبه منا ومنهم إلا أدخله الله الجنة”.

ثم قال علي وهو يصف عقيدة المتقاتلين: “لقد التقينا وربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله، والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، والأمر واحد؛ إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان…”.

إذن هي حرب بين أهل القبلة الواحدة؟!

نعم! حرب رمت بالأمة في مهاوي البلاء. وبانتهائها أصبح الملك عضوضا إلى يومنا هذا، حتى أن أبا جعفر المنصور في أول أيام خلافته، وقبل أن ينازعه أحد ملكه المطلق، قال: والله لو نازعوني زر هذا القميص لقاتلتهم عليه. قال “زر قميص” ولم يقل كرسي الحكم!

وما زالت الأمة تعيش ثقافة “والله  لو نازعوني… لقاتلتهم عليه” حتى لو قامت الساعة “وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها”!

هذا الاسترجاع الإحيائي للتاريخ مشروع في التناول والقياس، تدعمه عندي فلسفة علمية مساندة، وظفت مضمونها في فصل من روايتي الجديدة “السجين الصغير”، تقول: “فينا، لا في المقابر يسكن الأموات”.

من المنظور التاريخي للفتنة الكبرى في عصر الخلافة الراشدة، ومن نظرية خبرة الأجداد الحديثة هذه، أنظر إلى قتلى السوريين بعين تلك الأهوال التي جرت وتجري بوحشية سافرة، ثم أمضي مستنبطا بدلالة الاهتداء: بأن الشهداء الذين يسقطون اليوم والآن على التراب الوطني السوري -على يد جنودنا- يدفنون في النفوس لا في المقابر، ونحملهم معنا كشفرة وراثية نورثها للأجيال، إذ لا شيء يموت، لأننا ورثة أمة تعيد إنتاج تاريخها في كل حين، وتختلف عليه، وتشن حربا عقدية على الذات التي تعيش على نبش الدفائن كالطيور على القمامة.

من هنا أرى أن فقه السلطة السورية “القديم” قد تغير، إذ أخذت تخوض حربا نهائية لتحطيم ذاتها، وهي مغتبطة بالانتصار على نفسها! والفقه الجديد هذا يعتمد على ثقافة غنوصية حديثة، يختلط فيها  الديني بالسياسي، شعارها على الأرض في كل يوم: “قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار”! وبهذا التعامي، وهذه القطبية الحادة، تقود معركتها الأخيرة مع الشعب.

“قتلانا.. وقتلاكم”! إنها مفارقة محزنة حين لا ترى السلطة أن الأمر بينها وبين الجمهور الثائر واحد؛ إلا ما يختلفان عليه بشأن احتكار السلطة منذ عقود من قبل فئة ساحقة تغولت على الدولة، لأنها في أصل نشأتها أكبر من الحكومة وأعلى من الدولة التي يقودها -بالاسم- حزب عقائدي أصبح نافلة وفضولا، ليضفي مشروعية باهتة على الأوليغارشية وقائدها الأوحد، ويمكن تسمية حزب البعث بنسخته الحالية بـ”عشيرة السلطة”، ورأس السلطة هو شيخها وفتاها!

وهذا الخطاب الهوسي الجديد نسمعه كل يوم مع صياح الديكة على لسان مريدي السلطة والناطقين باسمها على المنابر، كأنه استعادة لهوية مفقودة! كما نسمع بعضا منه على لسان بعض دعاة السلفية السنية المعارضة المنفية منذ عقود؛ كرد فعل على استعلاء السلفية الشيعية المتدخلة في الشأن السوري، المتمددة في المحيط السني الواسع.

ويتمثل هذا الاستعلاء في الجهرية والاستعراض المهرجاني والخطب التي تحمل في لغتها ومؤداها خيالات سياسية ذات شكل ديني مذهبي غير متسامح، لأنها عقيدة موقوفة على ولاية الفقيه لا الولاء للدولة التي لا تراها إلا حالة شفوية، ورحما مستعارا لمشروعها الشيعي السلفي الجهادي، في ظل الدعم الإيراني السوري.

ويمثل هذه الإمارة السلفية الشيعية حزب الله في لبنان، وهي إمارة استلائية وفق مصطلحات التاريخ الإسلامي لولاية الحزب الكاملة على الإقليم مع وجود الدولة، وهي أول إمارة تقوم في جزيرة العرب في العصر الحديث، وهي تستحضر -استنساخا دون بريق- تجربة قلعتي ألموت، ومصياف، أعني حسن الصباح، وشيخ الجبل سنان راشد الدين.

“قتلانا وقتلاكم”.. منطق قسمة، وانقسام على الذات العامة. منطق حرب ومصاولة! وقد اختلط الأمر على السلطة التي ردت على الحراك السياسي الشعبي بحرب ميدانية مثل التي تدور رحاها بين الدول وجيوشها المتطاحنة في الحروب المشهودة، ومرد ذلك:

عجز سلطة البعث والأوليغارشية المتنازعة بلا انقطاع -من الأب وصولا إلى الوريث- عن خلق مدنية اجتماعية لها مظاهر ومعايير حقيقية، يمكن تلمسها في حياة الجمهور المحروم الذي يعيش بلا مال ولا آمال. ولا حكومة سياسية لها فلسفة وهوية، بل نشأ بدلا منها -بعد حركة عام 1970- كيان “بطركية”عسكرية محافظة من لون واحد، تحكم أمة من العبيد تحولت بالتدريج إلى أوليغارشية عائلية احتكرت السلطة والجاه والثروة، يقابلها مجتمع أمة ضاع جهدها هباء في التاريخ المعاصر، وهي نائمة تستكين!

كما لم تسمح السلطة العائلية -لطبيعتها المحافظة المغلقة- بتشكيل نخب تصون مشروعها السياسي طوال عقود، لأنها تزدري النخب وتراها فضل قيمة أوجهدا ضائعا لا نافعا. وهكذا مرت عقود وهي تمسك بالبلاد بنظام طوارئ تحرسه مؤسسات أمنية وعسكرية نوعية متغولة مهمتها الأساسية ردع الداخل، وقد حدث هذا بين (1979-1982) ويحدث الآن (في عام 2011).

 وقد أوضح أرسطو في كتاب السياسة وجود صلة وثيقة بين شكل السلطة وحال المجتمع الاقتصادية والذهنية والخُلقية.

لذا، لم تنتج سلطة العائلة تنمية، بل أوجدت -انسجاما مع حالة الطوارئ- نشاطا اقتصاديا بسيطا لخدمة قضية الممانعة المفترضة والصمود والتصدي. ويمكن أن نسميه اقتصاد التعبئة، وتعليم التعبئة، وثقافة التعبئة، وصحافة التعبئة. ما زلنا نرى مظهرها الشعبوي في تعبئة جماهير السلطة في وجه جماهير الشارع الغاضب.

لقد منيت سوريا خلال أربعة عقود بالفشل الذريع، نتيجة الفوضى والفساد المنظم الذي أصبح اقتصاد البلاد الرسمي! ابتليت سوريا بالجوع والإفقار والبؤس والحرمان وإسقاط الطبقات إلى تحت. أما كبار رجال السلطة والحزب، والحكومة التي تأخذ دور وكيل السلطة -وفي أحسن وصف لها “بلدية السلطة”- راحوا جميعا يسرقون المجتمع والدولة بافتضاح! يغتنون ويحتكرون ويراكمون المال الملوث ويرتكبون الفواحش ويهدمون قيم المجتمع المديني، الذي تريف عنوة وضاعت هويته كما حدث لروما التي اختفت فجأة من الوجود 476 م.

 لم يتركوا شيئا للناس يكسبون به رزقهم سوى قطاع النقل الداخلي الفردي، إذ أصبح أغلب السوريين “شوفيرية تكسي عمومي”. وأحسن وصف للسادة الجدد أقول: إنهم إنكشارية جديدة، مارست النهب المنظم للدولة والمجتمع. وهي مؤلفة من مجموعات من اللصوص والسماسرة والأشرار الجدد، يمكن أن نطلق عليهم لقب الإنكشارية القديم “حاجي بكتاش أوغلي”، أي: أولاد الحاج بكتاش. وهم خليط من “اليرليه” التي بلا أحساب ولا أنساب.

 وجملة القول: إن المجتمع السوري -خارج سلطة الأسرة القوية- صار مفككا اجتماعيا وسياسيا ونفسيا، لأن السلطة أكلت الدولة فلم تزرع ولم تحصد ولم تصنع، ولم ترق إلى مستوى المجتمعات المتقدمة في المعنى والمبنى.

 و قد عبر اللورد أكتون عن هذه السلطة بعبارته المشهودة: السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

 وعليه نؤسس القول بأن ما يجري على الأرض في سوريا هو حرب السلطة وحدها ضد شعب أعزل لا يملك إلا صوته الذي يرفعه في وجه القوة العمياء، من أجل الحرية والمساواة!

 قلت “السلطة” ولم أقل “الدولة”، لأن السلطة المتغولة اختطفت الدولة وحبستها حبسا مديدا دخلت فيه سجل المفقودين. فهل سيأتي علينا يوم نرى فيه الدولة وقد عادت من غيبتها القسرية في ظلمة السرداب التي امتدت عقودا؟!

 على السلطة أن تعترف أن الأمر بينها وبين الشعب واحد، تأسيسا على ما ذكرناه، وأن ما تختلف عليه مع  الجمهور هو حق ضائع ودور مسروق.

حق تكفله الشرائع السماوية والدساتير الوضعية، ولا يمكن للسلطة المطلقة أن تحتفظ بمشروعية مسروقة من جمهور مغيب ترعى مصالحه بالوكالة لأنه فاقد الأهلية. كما لا يمكن للسلطة المطلقة أن تختطف الدولة.

وعلى السلطة أن تدرك أن حربها الجارية هي بين الأهل والإخوان، وأن دم السوري على السوري حرام، وأن الدم يورِّث الدم، والأمة العظيمة لا تورِّث الأجيال ثارات وذاكرة من فنون القتل والسحل والتمثيل وقطع الأوصال وحرق الزرع والضرع والمستقبل.

الشام ليست رواندا، وشعبها ليس “التوتسي والهوتو”.

تبجحنا عقودا ونحن نتشدق نثرا ونغني شعرا بأن سوريا أهدت البشرية حروف الأبجدية وأهدتها حضارة، وهي مهد الديانات. وأن دمشق -عاصمة الديار السورية- هي أول مدينة مأهولة في التاريخ، و.. و.. و.. إلخ. وأخشى عليها في حاضرها أن تكون أول دولة في الألفية الثالثة تمارس الإبادة لتلحق بالدول الفاشلة.

عندها لن نغني أبدا مع الذي قال حينذاك وأحسن:

أمويون فإن ضقـت بهم … ألحقوا الدنيا ببستان هشام

أي هشام هذا، وأي بستان ونحن نهيل التراب على الشام ونحولها إلى مدافن؟!

إن سفك دم مظلوم يساوي الخريطة بحدودها ومداها وحضارتها المجازية.

إن الانقسام على الذات جعل السلطة الراعية تتحول إلى طرف منفعل معاند في الصراع الدامي، وقد حسمت موقفها من الشارع الثائر بيقين حاسم: “قتلاكم في النار”.

إن قتلى السلطة وقتلى المعارضة في الجنة؛ لأنها حرب بين الأهل والإخوان، وإن لم تنته سنكون من الأمم التي تقتل نفسها بيدها، وتطوّحُ بزغاريد النصر لأنها قتلت نفسها وراحت تنثر الغار والرياحين فوق مواكب الإخوة المقتولين.

أقول هذا لأننا لا نريد أن نترك أولادنا في مستودع الأمانات، بل في أوطان ذاكرتها خالية من الدم والثارات التي ستنتقل بالعدوى الذاتية الكريهة من جيل إلى جيل، وستطرق هذه الثارات باب السوريين في كل عام وليلة كالدائن الوقح يريد استيفاء الدم الذي سلفناهُ للتاريخ، وحان سداده! وفي كل حين ومكان ستنوح البواكي الثكالى على أطلال وطن تحت الرماد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى