صفحات الثقافة

قتلُ الأبّ والأخوةِ الشعريين/ محمد المطرود

 

 

 

لوقدّر لي أنْ آخِذ مثالاً نافعاً، سآخذ الشاعر الألماني هاينريش هاينه والذي يعدّ في الدرجة الثانية من غوتِه، متقدماً على مواطنه شيلر والذي حاز شهرة أكثر على الأقل عربياً. هاينه قال عنه صديقهُ بلزاك:” جسّد في باريس روح الشعر الألماني كما جسّد في ألمانيا روح النقد الفرنسية البناءة”، إلّا أنَّ الأهمَّ في حياةِ هذا الشاعر قدرته على قتلِ أرواحاً تبهتُ في داخلهِ. جورج لوكاتش وهذا مايثبته الباحث العراقي ماجد الخطيب في كتابهِ عنه هو الثناء الشديد بوصفهِ شجاعاً في قطيعتهِ مع الرومانسية وانتقالهِ إلى الحداثةِ مع كلّ الألق الذي يَمتثل له كرائد رومانسية ومدافع شرس عنها في وقت من الأوقات، وفي الوقت ذاتهُ يذهب لوكاتش في تعنيفهِ لموقفه الإنساني المتمثل في عدمِ الامتثال والطواعيةِ( للبروليتاريا)، في محاولة من ناقدِ الواقعية المجري ومبلور فكرتي” التشيؤ”و” الوعي الطبقي” بأن يردَّ الشعرية إلى ماهو إنساني في الدرجة الأولى رغم اعترافهِ بريادة هاينه وجسارته في تجاوز نفسهِ ومدرسته وآبائهِ الشعريين، حينَ يقطع علاقته مع الرومنطيق باتجاه شعرية أكثر حدة بوجوبِ كل الغنائية والإيقاع العاليين في شعرهِ.

الأبّ والأخوة الشعريون:

يحضرُ الأبُّ الشعري بقوة، ويتملصُ بعضهم من سطوته وعصاه الغليظة بالإعلان عن انتمائهم لهُ، أو أنَّ مايفعلونه لايعدو كونهُ تأثّراً وبما يسمحُ هذا التأثُر الذي لايلغي جماليات الابنِ البار، في حين يذهبُ الابن العاق إلى ماهو أبعد بالمبالغة في التجريب متماهياً مع مشهدِ الأبّ وحضورهِ ولكن بطريقة ذكية تظهرهُ ندّاً، وأقلّ “احتراماً” في خلافٍ مع الأخّ المطيعِ الذي يبدو مقلّداً ومستعيراً صوتَ أبيه، كما لو أنَّ عمارة نصّه الجمالية ستفقدُ تماسكها وتنهار أمامَ نصوص أخرىَ ترىَ في النصّ الآخر قوتهُ وفعلهُ وأهميتهُ في تشكيل الذاكرة الشعرية والمدرسة، غيرَ أنَّ هذا الناص ينظرُ إلى الأبّ الذي تبدو علاقتهُ معه قائمة على الاحترام وليس الطاعة، يأخذُ منهُ مالايجعلهُ منصاعاً إلى تحتِ عباءتهِ، ويعرف ضمنياً أنَّ التقنع باللثامِ الذي يضعهُ الأخوة الشعريين في محاولة طمسِ السطوة والتعالي عليها ماهوَ إلّا إكسسواراً وشكلاً نافلين، ويصبحُ هنا لزاماً أخلاقياً الذهاب إلى النصّ الأصل بدلاً من النسخةِ المقنّعةِ. لعلّ قتلَ الأب هنا مستوجبٌ شرطهُ، وقتلِ الصوت ليأخذَ الصدى مكانهُ الذي يستحق وهو يرتدّ عن صخرة كتيمة، وعلى الأخوة المتقاتلين فهم ذلك، غير أنَّ مايحدثُ يظهرُ حرباً ضروساً بينَ ثلاثةِ فروع أحدهما يقتربُ من الأصلّ، ولا أقصدُ بالأصل هنا النسب الجمالي مع الأبّ وإنما الاقتراب من الأصالةِ، من الفعلِ الذاتي/ الفرداني، حينَ يظهرُ المختلف مع البارّ والضال عميقاً وجذرياً ومشتغلاً في مساحةٍ تبدي جلداً كبيراً في التحمل، لتأخذَ مشروعيتها خارجَ العباءةِ والأقنعة باعتبارها كياناً مستقلاً، ليس هامشياً، جسداً وليسَ ظلاً.

لاتتوقفُ الحربُ والأخوةُ يستبسلونَ في استعارةِ الأصوات والانتماء لها، إذ لاصعوبة في هذا، بل يبدو الأمر سهلاً، وتمثّل الجاهز أخيّرُ من النحتِ في الغامضِ والغائب والجديد، كذلك رومُ هذا الجديد يتطلبُ المغامرة وهذا أيضاً فعلٌ آخر لايحبذهُ السائرونَ تحتَ العباءة، طالما أنّ الاسم الأيقونة يحقق لهم الطمأنينة ويجلب قارئاً كسولاً، فلا شأنَّ لهم إلّا التقليلِ من المغايرةِ والاختلاف باعتبارهما نحتاً في المجهول بحسبهم، لايبقىَ هذا الشأنُ شعرياً بقدر ماينعكسُ على ذاتِ الناصّ ليلوّثها، فنكونُ والحال هذه أمام حربٍ بالمعنى الحقيقي وليس المجازي، ثمةَ لا أخلاقيةَ، فكما في السياسةِ والاجتماع يتمُّ نفيَّ الآخرِ المختلف، هنا والحالُ معَ الشعرِ في العلاقة بين الأب والأخوة وبين الأخوة أنفسهم يكونُ نفي الآخر وارداً وبقوة.

الصوتُ والصدى:

ثمة ظاهرة صوتية تتجاوزُ البعدَ الحقيقي، سأغيّب مقولة:” العربُ ظاهرة صوتية” فلها معنى وشآن آخرين، أقصدُ رفعِ شأن الأيقوناتِ وشأنَّ المريدين، بحيث يصبحُ الصوتُ المنطوقُ عنِ الشخصية/ الشاعر مربكاً لذائقة التلقي أو معطّلا لها، فلايعودُ المتلقي قادراً على تلمسِ المواضعِ الجمالية بذاته، إنّما يتكئ في كسلٍ شديدٍ على تلكَ الأصواتِ والمقدمات والسيّر التي تقدّم الشخصية، وهذا مايضعفُ فعاليةِ القراءة والتلقي معاً. هذا التعتيم صوتاً بإهدارِ الفوضى المخرّشة للذائقة نتيجةٌ طبيعية للحربِ البعيدةِ عن المنافسةِ والقريبةِ من اللاأخلاق. لو أخذتُ على سبيلِ المثالِ الشاعرين نزار قباني ومحمود درويش، كلاهما شاعران غنائيان أعليا من شأنّ الإيقاع، الشأنّ الذي تحرّر منه درويش، لكنَّ هذا لايعني أنَّ قباني لم تكن لديه ومبكرا الحساسيةِ التي كتبها درويش متأخّراً، فقط شعبية نزار ورهانهُ على ذلك وذكاء درويش في تخليص نصه من الشعبي والذهاب بهِ إلى مصافِ النص” المثقّف” والمغيّب للإيقاع الفالت في” أوراق الزيتون” و”العصافير تموتُ في الجليل” مثلاً، جعلَ هذا نصّ قباني أشبَه برسائل، وامتطىَ المعجبونَ الإيقاعَ وكتبوا مايكتبهُ نزار بما لايبيح لهم إلّا في حدودِ الوزنِ والقافية والروي، في حين مع درويش اختلفَ الأمر كثيراً فقد وجدَ المردةُ مايمكنُ البناءُ عليهِ من الإيقاع والرؤى وتمثّل الموضوعات، وصارَ الصدىَ قريباً، مرتدّا عن قرب، ولايتبددُ في الفضاء خالقاً صوتاً آخر،َ لاخصوصيةَ ولاكيانية.

إذا كانَ من جهد شعري يستحقُ الإشادةَ وله حظوظه في المداومةِ سيكون الناهلُ من الشعرية وظروفها، أي الجهدِ الذي يشكّل ذاته خارجَ وجود الأب، ولايستعيرُ صوتهُ، ولايطمئنُ للمنجز بقدرِ مايختار المغامرة شكلاً من أشكالِ التواجدِ، المغامرةِ المسنودة بالفهم العميق لجوهرِ التحولات على كلّ الصُعد وليس شعرياً فحسب، ولهذا صارَ النصّ الذي يراهن الشاعر على موسيقاه أو فكرته أو التجريب فيه غير كافٍ، ثمةَ علاقة تفترضها انهيارات السواتر العاليةِ بين الأجناسِ الأدبية وجميع الحقول المعرفية.

*شاعر وناقد سوري، يقيم في ألمانيا

ضفة ثالثة

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى