صفحات سورية

قراءة تاريخية لأسباب الثورة السورية


نجاح دمشقية

يميل المجتمع الدولي إلى اعتماد نظرة سطحية وخاطئة لتفسير الثورة السورية التي اندلعت في مارس من عام 2011 وما زالت مستمرة حتى اليوم، فالعديد من المراقبين والمتابعين للوضع السوري يصفون الوضع القائم في البلاد بأنه حرب أهلية مشتعلة بين طوائف وفئات مختلفة، مع ما يعنيه ذلك من تورط المدنيين في حرب لا علاقة لهم بها تؤججها الصراعات الطائفية والمذهبية في سوريا.

والحقيقة التي يبدو أنها غائبة عن أذهان البعض أن السوريين يدفعون ثمناً باهظاً بسبب محاولتهم الجريئة وغير المسبوقة للتخلص من نظام شرير وظالم حكم البلاد لسنوات طويلة وأذاقها كل صنوف القمع والتنكيل، ذلك الشعب الذي ظل صامتاً لفترة ممتدة حتى هبت رياح الحرية من تونس وباقي البلدان العربية التي نجحت في إزاحة أنظمتها الظالمة لتنعش آماله في التغيير ومطلقة حركته السلمية، التي سرعان ما قابلها النظام بالعنف المفرط والقمع الشديد.

ولفهم ما شهدته سوريا من أحداث جسام على مدى السبعة عشر شهراً الماضية لا بد من العودة إلى التاريخ الحديث للبلاد والتأمل في كيفية وصول حزب “البعث” إلى السلطة قبل أربعين عاماً.

فخلافاً لما كان في ليبيا، أدى استقلال سوريا عن الاحتلال الفرنسي عام 1946 إلى انبثاق حياة سياسية ميزتها الانتخابات الحرة وحركة حزبية نشطة، حيث سُمح للنساء بالتصويت منذ عام 1949 حتى قبل العديد من الدول الغربية، كما وُضعت اللبنات الأولى للدولة المدنية من جهاز قضائي مستقل وبرلمان وأحزاب سياسية نشطة انخرطت فيها فئات المجتمع السوري، وفي الخمسينيات لمع نجم عدد من الأحزاب العلمانية التي حازت شعبية كبيرة بما فيها حزب “البعث” الذي انقض على السلطة في عام 1963.

وفي عام 1971 عين حزب “البعث” حافظ الأسد رئيساً لسوريا، هذه الأخيرة تحولت في عهده من دولة يقودها حزب يحمل أجندة اشتراكية واضحة إلى دولة خاضعة لحكم ديكتاتوري، حيث قام الأسد مدعوماً بقادة الجيش وكبار ضباطه بتهميش المؤسسات المدنية وتنحيتها جانباً، وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، كان الأسد قد سلم البلاد كلياً للأجهزة الأمنية التي تعاونت مع نخبة صغيرة من رجال الأعمال والمستفيدين لإحكام السيطرة على الدولة وخنق المجتمع السوري، وقد تشكل النظام من ائتلاف ضم السُنة والعلويين وباقي المجموعات، وفيما استفادت عائلة الأسد من بعض الامتيازات المرتبطة بالحكم ورسخت نفسها بقوة في المجتمع فقد انسحبت الامتيازات أيضاً على بعض الفئات المنتمية إلى الطائفة العلوية، وهو ما خلق انطباعاً بأن العلويين وحدهم يتولون الحكم والسيطرة على مقدرات البلد.

أما الجيش الذي يفترض أن يكون وطنياً يدين بولائه للمصلحة العامة، فقد دُرب منذ البداية على الولاء لعائلة الأسد، وبأوامر من النظام ارتكب الجيش طيلة السنوات الماضية سلسلة من المجازر كان أبرزها ما حدث عام 1979 بعد محاولة انقلابية فاشلة ضد الأسد، ثم أعقبها ما بات معروفاً في حماة التي تعرضت في 1982 لحملة تنكيل واسعة سقط بسببها ما بين 20 و40 ألف مدني، وبالطبع ساهم القمع الأعمى للنظام في ترسيخ وجوده وضمان استمراره في السلطة، وكما علق على ذلك أحد المحللين في الثمانينيات “لم يعد الأسد يحكم سوريا، بل الخوف هو من يفعل ذلك”.

وبحلول 2000 اعتقد البعض أن ساعة التغيير قد جاءت بصعود بشار الأسد، الرئيس الشاب، إلى السلطة، لا سيما في ظل الحديث المتواتر الذي استخدمه بشار عن الإصلاح وإطلاق الحريات، وتعهداته بإحداث تغييرات سياسية واقتصادية لم تتحقق قط، كما أن الأرقام المضللة عن النمو الاقتصادي الذي تحقق في عهده حجبت الحقيقة المرة بأن فئات صغيرة فقط من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام هي من استفادت من بعض مظاهر الانفتاح الاقتصادي فيما ظلت غالبية المواطنين ترزح تحت الفقر والمشاكل الاقتصادية.

وعندما بدأت تتعالى بعض الأصوات السورية المطالبة بتسريع وتيرة الإصلاح قوبلت بالقمع والتشويه، ولجأ النظام لخطابه القديم حول القومية العربية ومقاومة إسرائيل لتبرير قبضته الحديدية وتعطيل مسيرة الإصلاح السياسي.

وسرعان ما تبين للشعب أن نظام الأسد الابن لا يختلف عن والده حتى جاء عام 2011 بما حمله من أجواء التفاؤل، وما أنعشه من آمال في قلوب السوريين بعدما رأوه في أقطار عربية أخرى، لكن عندما شرعت الاحتجاجات السلمية في النزول إلى الشارع والتظاهر ضد النظام قابلها الأسد بعنفه المعهود، بل اعتمد النظام أسلوب ضرب مكونات المجتمع بعضها ببعض من خلال تسليح بعض مؤيديه من العلويين وغيرهم بحجة مواجهة “الجهاديين” السُنة المصممين، حسب رواية النظام، على سحق الأقليات وإقامة حكم إسلامي متشدد في سوريا.

ومع تفاقم العنف الذي مارسه النظام على المحتجين وتوسع دائرة القمع المسلط على الشعب فقد العديد من المثقفين المنتمين إلى كافة الطوائف السورية ثقتهم في قدرة النظام على قيادة عملية إصلاح جدية، لا سيما بعدما أبداه النظام من استعداد منقطع النظير لتدمير البلد وإدخاله في دوامة من العنف الأهوج مخيراً السوريين بين البقاء في السلطة، أو الانتقام بتخريب سوريا ونسف مؤسساتها.

وأمام هذا الوضع بالغ الخطورة والتعقيد لا تستطيع الثورة الانسحاب، أو التراجع لأنه لو فعل الثوار ذلك، فإنهم سيواجهون دولة بوليسية أكثر شراسة وتصميماً على تجنيد المجرمين وتمكينهم للانتقام من المدنيين وترويعهم.

كاتب ومحلل سياسي سوري

ينشر بترتيب خاص مع خدمة “إم. سي. تي. إنترناشونال”

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى