صفحات سوريةمنذر خدام

قراءة سياسية لمقابلة فاروق الشرع

 

منذر خدام

من الصعوبة بمكان تجاهل ما صرح به السيد فاروق الشرع إلى السيد إبراهيم الأمين ونشرته جريدة الأخبار اللبنانية بتاريخ 16/12/2012. فهو، أي السيد فاروق الشرع، لا يزال يشغل من الناحية الرسمية نائب أول رئيس الجمهورية في سورية أي أن تصريحه المشار إليه يصدر عن شخصية رسمية لا تزال على رأس عملها هذا أولاً.

وثانيا كونه ركن من أركان النظام السياسي على مدى يزيد عن ثلاثة عقود، وكان في النصف الثاني من فترة رئاسة حافظ الأسد من صناع السياسة السورية تجاه ملفات وقضايا عديدة.

وثالثا كونه أيضا من الذين عملوا على صعود الرئيس بشار الأسد إلى السلطة، وتولى بنفسه تحجيم طموحات عبد الحليم خدام وغيره في مؤتمر الحزب في عام 2005 ليصار لاحقا إلى إزاحتهم.

ورابعاً، وهذا مهم من الناحية الوجدانية على الأقل، كونه المعلم الذي كلف بتدريب الرئيس بشار الأسد على السياسة بعد وفاة أخيه، وبالتالي بقي سنوات إلى جانبه يعلمه شؤون السياسة وإدارة الدولة.

وخامسا توقيت المقابلة مع الصحفي المعروف إبراهيم الأمين المحسوب أساساً هو وجريدته على النظام، وهذا يثير تساؤلات حول السماح بالمقابلة أصلا، وحول نشر بعض ما صرح به الشرع رغم انه يقارب الفضيحة للنظام. إذا لكل هذه الاعتبارات وغيرها، من قبيل الحديث عن تفاهم روسي أمريكي لحل الأزمة في سورية، وكذلك إعلان تركيا لأول مرة وكذلك إيران عن مبادرتيهما لحل الأزمة ذاتها، لم يكن من الممكن تجاهل تصريحات الشرع.

وأخيرا لا يمكن إلا القبول بصدق ما صرح به الشرع الأمر الذي قد يكلفه غالياً، أقله العزل من منصبه وربما التصفية، هذا على افتراض انه وحيد في تصريحاته، وليس تعبيرا عن تبلور تيار جديد وفاعل في داخل السلطة ذاتها.

يقول الشرع” في بداية الأحداث كانت السلطة تتوسل رؤية مسلح واحد أو قناص على أسطح احد البنايات، الآن السلطة وبكل أزرعتها تشكو_حتى إلى مجلس الأمن الدولي- كثرة المجموعات المسلحة التي يصعب إحصاؤها ورصدها”. بعبارة أخرى فإن الشرع في تصريحه الواضح الذي لا يقبل التأويل يؤكد على سلمية الثورة في أشهرها الأولى. بالطبع كان رئيسه قبل ذلك قد اعترف بهذه الحقيقة ليتنصل منها لاحقا.إذا لم يكن خيار الثوار منذ البداية العنف بل التظاهر السلمي وإن الذي دفع المتظاهرين إلى حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم هو النظام ذاته. ويؤكد الشرع على هذه الحقيقة في قوله ” إن تراجع أعداد المتظاهرين السلميين أدى بشكل أو أخر إلى ارتفاع أعداد المسلحين” الذين باتوا اليوم يسيطرون على أجزاء واسعة من البلاد، بل نقلوا المعركة إلى قلب دمشق. وإذ يقر الشرع بواجب الدولة “توفير الأمن للمواطنين”، لكن ذلك يختلف عن” انتهاج الحل الأمني للأزمة”، وأنه” لا يجوز الخلط بين الأمرين”. لكن النظام خلط بينهما، بل نستطيع القول بان النظام لم يكن في حساباته أصلاً حماية المواطنين بل قتلهم. إن من يرحب بالمعركة إذا أرادوها(أي الشعب المتظاهر سلميا في البداية)، ومن يعتبر نفسه في معركة تحدي، لا يمكنه أبدا أن يقبل بالحلول السياسية، لأنه في هذه الحالة سوف يكون مضطرا للاعتراف بحقوق الشعب عليه وعلى نظامه، وهذا لا يستطيع تقبله. فهو حتى اليوم “لا يخفي رغبته بحسم الأمور عسكرياً..”بحسب ما صرح به الشرع، رغم الدمار الذي تسبب به لسورية ورغم سقوط عشرات الآلاف من الشهداء واعتقال أكثر منهم من الناشطين السوريين وتهجير ملايين السوريين عن أماكن سكنهم وعملهم. عن أي حل سياسي إذا يتحدث قادة النظام؟ هل هو الحل الذي يحلم به بعد حسم الأمور عسكريا؟.من الواضح أن المتحكمين بالقرار في السلطة السورية لا تزال تتحكم بهم أوهامهم، فالواقع يقول ويفعل غير ما يحلمون.

وفي جواب عن مسؤولية النظام عن كل ما يجري في سورية، وخصوصا عن دفع الحراك إلى العسكرة يجيب الشرع بأنه” لم تشكل لجان تحقيق ذات مصداقية منذ بداية الأحداث، وإذا شكل بعض منها فإن نتائج التحقيق لم تنشر..”.بالطبع لن تنشر لأنه عندئذ سوف يعرف القاصي والداني مسؤولية السلطة عما يجري في سورية وعن دفع الأزمة نحو مزيد من التعقيد. ففي كل يوم يمر ” يبتعد الحل عسكرياً وسياسياً”، الحل الذي ينقذ سورية، فالمعركة اليوم هي معركة وجود سورية وليس معركة ” وجود فرد أو نظام” كما يقول الشرع بمنتهى الصراحة والمباشرة. ومع أن الشرع يقر بتعقيدات الأزمة اليوم في سورية والذي يتحمل مسؤوليتها النظام، لكن لا يمكن ” عودة عقارب الساعة إلى الوراء” فالأمور تسير “من سيئ إلى أسوأ” بحسب الأخضر الإبراهيمي الذي يقتبس الشرع منه قوله. والغريب في الأمر أن الشرع رغم أنه يراقب الخط البياني للأحداث وكيف أنها تنتقل من “سيئ إلى أسوأ”، فهو يعترف بأنه من موقعه ” لا يعرف تماما إلى أين سيفضي الخيار الراهن” فليس لديه “جواب شاف”. والأخطر من ذلك بحسب قوله ” أن رئيس الجمهورية شخصيا قد لا يعطيك الجواب الشافي، مع انه يملك في يديه كل مقاليد الأمور في البلد”. بالطبع لن يعطيك الجواب الشافي طالما هو ينظر إلى ما يجري في سورية على أنها مؤامرة كونية عليه وعلى نظامه أدواتها” إرهابيون ورعاع ومهربون” وليس انتفاضة شعب متعطش للحرية وللكرامة. ويذهب الشرع في بوحه إلى حد فضح آليات اشتغال النظام برمته إذ يقول ” هناك مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية مسؤولة مباشرة عن إدارة شؤون الدولة، وهذه المؤسسات لديها رؤساء ومديرون عامون، ومجالس إدارة يعملون، أو يزعم بعضهم انه يعمل، وفق التوجيه، وأحيانا يحسمون قرارهم عندما يشيرون بأصابعهم إلى الصورة المعلقة فوق مكاتبهم، مما يعني أن التوجيه لا نقاش فيه”.

لقد ذكرني هذا القول للسيد فاروق الشرع بقصة كنت نشرتها قبل بضع سنوات بعنوان ” شي بحط العقل بالكف” تدور أحداث القصة الواقعية التي استغرقت نحو ثلاثة أشهر من مخاطبة متعهد العمل المسؤولين بدءاً من المسؤول في الغرفة، وصولا إلى المحافظ مرورا عبر كل المراتب القيادية في إحدى مؤسسات الدولة التي جرت الأحداث فيها، وعبر أجهزة الأمن المختلفة، وتتعلق برفع صورة عن جدار أحد الغرف لبضع دقائق فقط من أجل تمرير خط كهرباء تحتها، فلم يجرؤ أحد على اتخاذ القرار، لكن أخيرا يجيب المحافظ ” لتنزع الصورة باحترام وتعاد إلى موضعها باحترام بعد إنجاز العمل”. بربكم هل هذه دولة تحكمها الصورة؟.

يعترف الشرع بأن جميع أجهزة السلطة تشتغل بقوة العطالة المكتسبة لتقادمها وترهلها، وإذا كان ذلك يمكن القبول به نسبيا في ” حال الاستقرار والأمن” بحسب رأيه، فإنه في ظروف الأزمات الكبرى لا يمكن القبول به.” فتدمير البنى التحتية والبيوت .. وتصاعد وتيرة النزوح الداخلي والخارجي ناهيك عن اعتقال الآلاف الذين لا يحالون إلى القضاء وكأن الأحكام العرفية ما زالت سارية المفعول” ليست سوى نتاج سلطة جهازية معدة للقمع فقط، ولحشد الناس بالإكراه في مسيرات التهريج والدبكة والهتاف بالروح والدم..وإلى الأبد… أو نحرق البلد…ولذلك كان من الطبيعي أن لا تمتد لها يد التغيير أو التطوير فهي قد اكتسبت بالتعود خبرات لا يجوز التضحية بها.

وفي جوابه عن سؤال يتعلق بالحل الذي يتوقعه الشرع يجيب ” الحل لا يكون واقعيا إلا إذا بدأ بأعلى المستويات. فرئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، وهو الذي يعين رئيس مجلس الوزراء، ويقود الحزب الحاكم، ويختار رئيس مجلس الشعب ..” وربما لو أن السيد الشرع فتح دستور نظامه وقرأ فيه عن صلاحيات الرئيس لوجد أن هذه الصلاحيات تطال كل صغيرة وكبيرة في الدولة والحكم والمجتمع، مع ذلك فإننا نسجل له شجاعته في قول ما قاله، فليس مطلوبا منه في مقابلة محددة الوقت وربما الأسئلة أن يضع الدستور أمامه ويقرأ منه. نعم التغيير لا يمكن أن يتم باستثناء موقع الرئاسة والرئيس، ولا بديل عن حصول التغيير المطلوب بدءاً من قمة هرم السلطة ليشمل جميع أجهزتها، فالشعب السوري لم يعد يقبل أن يحكم بالطريقة السابقة، إنه متعطش إلى الحرية والديمقراطية، لقد أعادت الثورة السورية إنتاج مفهوم الشعب ذاته بصورة مختلفة جذريا.

وإذ يؤكد الشرع بأن لا أحد في المعارضة سواء السلمية منها أو المسلحة ” تستطيع أن تدعي أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري” وهذا يمكن موافقته عليه، لكن من جهة أخرى “الحكم القائم بجيشه العقائدي وأحزابه الجبهوية وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي” هو الأخر لا يمثل الشعب ولم يكن يمثله في سم من الأيام. وإذ يقر الشرع بالحاجة إلى ” تغيير ذي مغزى..”وأن هذا التغيير” أمر مفروغ منه” وإذا لم تأخذ السلطة ” زمام المبادرة لتحقيقه مع الآخرين فإن التغيير سوف يحصل بإملاءات أحادية منهم”. ويقترح أن يكون الحل ” سورياً ولكن من خلال تسوية تاريخية تشمل الدول الإقليمية الأساسية ودول أعضاء مجلس الأمن، هذه التسوية لا بد أن تتضمن أولاً وقف العنف ووقف إطلاق النار بشكل متزامن وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة” .

نعم التغيير صار حتميا، وإذا كان لا بد من أن تتعاون المعارضة مع بعض مكونات النظام من أجل الخروج من الأزمة التي تعصف بسورية مهددة وجودها بالذات فلا بد أولا أن تعترف السلطة بمسؤوليتها عن الأزمة فتبادر بالرحيل مفسحة المجال لعناصر وقوى جديدة من أجهزة الدولة على غرار الشرع مثلا لكي تتعاون مع المعارضة الوطنية الديمقراطية لإنقاذ سورية.

فما يحصل في سورية اليوم بحسب الشرع ” يتماهى في مستوى أكثر تعقيدا مع ما حصل في مطلع تسعينات القرن الماضي في بلدان أوربا الشرقية” رغم تأخره لعقدين من السنين، إنه سؤال التاريخ للاستبداد الذي له جواب واحد وهو حتمية الرحيل.

بقي أخيرا أن نقول أن الشرع في أجوبته على أسئلة إبراهيم الأمين بدا رجل دولة على خلاف كثيرين من زملائه في السلطة، يشعر المرء من خلال كلماته عمق التأثر بما وصلت إليه أوضاع سورية من جراء النهج الأمني العسكري الذي اتبعه نظامه في مواجهة ثورة شعب يطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً. ومهما كانت نتيجة ما صرح به السيد فاروق الشرع عليه شخصيا، وعلى مسار الأزمة ثانيا،

فإننا في هيئة التنسيق الوطنية لا يسعنا إلا أن نكبر فيه جرأته وشجاعته وصدقه أيضا، ونعلن تضامننا معه ضد أي مكروه قد يصيبه انتقاما لما باح به رغم تأخره

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى