مراجعات كتب

قراءة في «العولمة والديمقراطية والإرهاب» لإيريك هوبزباوم: التحولات البنيوية في التاريخ وتلاشي الإمبراطوريات/ رامي أبو شهاب

 

 

ينطوي زمننا المعاصر على العديد من الإشكاليات التي تنبغي إعادة مراجعتها من الناحية التاريخية، لكونها تفسر الكثير من القضايا المستمرة التأثير على حاضرنا، كما مستقبلنا أيضا، ولعل هذا الدافع يعدّ السبب الرئيس الذي دفع أحد أهم المؤرخين الإنكليز إيريك هوبزباوم لمقاربة القرنين: العشرين والواحد العشرين في عدد من الفصول في كتابه الموسوم «العولمة والديمقراطية والإرهاب»، الذي نقله إلى العربية أكرم حمدان ونزهت طيب. وفيه يكتنه الباحث البريطاني الأحداث التاريخية الكبرى، وما نتج عنها، ولكن من منظور تحليلي عميق، بغية الخروج بنتائج شديدة الأهمية، ولاسيما في ما يتعلق بمسار الأحداث، وتداعياتها، ضمن عشرة فصول تتناول الوقائع المفصلية في تاريخنا المعاصر، ولنكن أكثر تحديدا، تحيل هذه العناوين إلى نتائج توصل لها الباحث، غير أنها تبدو أقرب إلى أسئلة في بعض الأحيان، بحيث تطال التحولات البنيوية العميقة في تكوين بعض الممارسات التاريخية التي تميزت بها بعض الدول الكبرى، وما انطوت عليه من وجهات نظر في التعامل مع الحدث، والإنسان، وبوجه خاص في تكوين علاقاتها التي اتسمت ببعد مهيمن، كما في الإمبراطوريتين: البريطانية، والأمريكية، فضلا عن البحث في مفهوم القوميات، وما أحدثته من نتائج على الشعوب، من ناحية تموضعها في الوعي التاريخي، وهذا ينسحب أيضا على الديمقراطية، والإرهاب، والعنف، والإمبراطوريات بشكل عام: انحسارها وتقديمها.

ولعل هذه المفردات تعكس الكثير من قلقنا الحالي، الذي لا يقتصر على الدول الهامشية التي تتعرض للتأثر، إنما هذا يشمل كافة الدول في العالم، حيث لم يعد التاريخ يرتهن إلى قوة عظمى أو إمبراطورية متفردة، إنما أصبح للمجموعات الصغيرة والهامشية دور في التأثير على مسارات التاريخ.

في الفصل الأول من الكتاب يناقش هوبزباوم قضايا الحرب والسلام في القرن العشرين، ومن ثم ينتقل إلى الفصل الثاني إلى الموضوع عينه، غير أنه يناقشه في السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، ضمن وضع تنبؤي. ولكن ما الفرق من ناحية المفهوم والممارسة بين هذين القرنين، في ما يتعلق بقيم الحرب والسلام؟ تنهض القراءة المركزية للكتاب على ما يؤسس للحرب والسلام في القرن المنصرم، حيث كانت الحدود واضحة المعالم بين حالتي الحرب والسلام، خاصة في النصف الأول من القرن، إذ كانت تنطلق حينها من استراتيجيات تؤسس لعلاقات بين دول تنهض على النصر أو الهزيمة، التي تنتهي باستسلام.

ثمة إذن وضوح في التفاصيل التي تستلزم كيانات سياسية، تحدد أهدافا واضحة من شن الحرب التي انتشرت في قطاعات كبيرة من العالم، ونموذجها الحربان العالميتان، وهنا تبدو حالة الحرب من الوضوح بمكان، فمنطق الحرب ينتهي عبر استسلام واضح ومشروط من قبل المنهزم، ولكن هذا سرعان ما بدأ يتغير حين تحولت الحرب إلى نسق جديد، إذ لم تعد حالة الحرب تختلف عن حالة السلم، أو لم يعد هناك خط فاصل شديد الوضوح، ولاسيما في منتصف القرن العشرين، حيث تلاشت هذه الحالة إلا من بعض الاستثناءات التي لم يكن من الممكن أن يعول عليها، كونها محصورة في حروب بين دولتين، أو في مناطق هامشية من العالم، أو أنها أمست حروبا أهلية نتيجة تلاشى وجود السيطرة التي كانت تتميز بها الحكومات قبل ذلك، وهذا ما يحيل إلى فهم جديد في ميكانيزم الحرب في القرن العشرين، ولكن آثارها تتضح من كم اللاجئين نتيجة النزاعات الأهلية، أو الحدودية بين تلك الدول، كما أن مصطلح الحرب أصبح في نطاق غير عسكري، ومن ذلك الحروب التي تشنها الحكومات على تجار المخدرات أو شيء من هذا القبيل، ما يعني أن الدول الإقليمية فقدت قوتها واحتكارها للقوة المسلحة، وبات مرهونا في حكومات تقليدية، ما أطال أمد الحروب التي أصبح من الصعب أن تنتهي، ولعل هذا الدافع ينعكس على بعض الدول العربية. هذا التحليل الذي يتبناه هوبزباوم يبدو قريب الصلة مما يمكن أن تؤول إليه الأمور في المستقبل، ولكن لنتأمل ما يحاول أن ينقله لنا هوبزباوم في الفصل الثاني، حيث يرى بجلاء أن الدول المستقرة والكبرى، التي تتمتع باقتصادات كبرى، وتوزيع عادل للثروة ستكون أقل عرضة للانهيارات أو للاضطرابات الاجتماعية والسياسية، ما يجعلها تقترب أكثر من مفهوم السلم، في حين ستقبع الدول التي لا تتمتع بنظام قانوني، وتوزيع عادل للثروة في خانة حالة الحرب.

في هذا الفصل ثمة اكتناه معمق للتّحولات العميقة التي تحكم القرن الواحد والعشرين، بحيث تلقي ظلالا جديدة على عالمنا نتيجة انحسار التكوين الريفي والزراعي للمجتمعات، وتطور النموذج الصناعي، فضلا عن التطور في التعليم، ولكن هذا التطور أفرز حكومات غير قادرة على خوض حروب، كما كان في السابق، فقط ثمة نوع من المراقبة على المواطن في معظم دول العالم، لقد فقد الكثير من الدول قدرته على خوض حروب نتيجة هذه التحولات التي اجتاحت العالم، ولا سيما في العالم المتطور، إذ تخلص من المنظورات التقليدية التي ميزت الحقبة الاستعمارية ومفاهيم القوة العسكرية التقليدية، ولكن هل هذا سوف يمنع من وقوع حروب كبرى؟ الجواب لدى هوبزباوم يتأتى من خلال تحليله لتموضع الدول، ولاسيما التي تعاني من حروب داخلية، أو نزاعات، حيث إن تدخل الدول الكبرى سوف يؤدي إلى اتساع دائرة الصراع، الذي يمكن أن يتحول إلى نزاع عالمي، ما يعني أن توقع حروب كونية ما زال قائما، بل إن تحليل هوبزباوم يكاد يطال بعض الدول التي تعاني من حروب أهلية، ومنها على سبيل المثال سوريا نتيجة التدخل الأجنبي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كتاب هوبزباوم نشر في عام 2007، وهنا نعاين تحليلا تنبؤيا لما يمكن أن ينطوي عليه القرن العشرين من إشكاليات في تكوين فهم نشوء الحروب وانتشارها، ثمة أيضا عامل يتحدد بفعل العولمة التي أطلقت شياطينها في عقول البشر، والشعوب كما الدول، ومع ذلك، فإن الكاتب يرى أن زمن تفكك سيطرة أقطاب تقليدية، ومنها الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي على العالم، يعد من العوامل الرئيسة، فثمة ما تحتاجه هذه الدول يتجاوز القوة العسكرية، ولاسيما الولايات المتحدة، كالتأثير الاقتصادي، والثقافي والإعلامي بما في ذلك السينما. ولعل أفكار رامسفيلد في شن حروب سريعة وخاطفة، قد جلب الدمار كما يقول هوبزباوم، حيث لم تنجح خطط اليمين الجديد، بل أدت سياسته إلى الفوضى والاضطراب في العالم، وعواقب مدمرة، ولعلنا نتأثر ببعضها الآن.

يفتتح هوبزباوم فصله الثالث متناولا الفرق بين الهيمنة الأمريكية والأوروبية، وبعبارة شديدة العمق والتأثير، حيث يقول «التاريخ هو الخطاب، ذلك أنه لا يمكن فهم التاريخ إلا بفهم اللغة التي يفكر بها الناس»، فالخطاب يؤدي بتكوينه اللغوي إلى نسق تصادمي بين من يروج لفكرة الإمبراطورية، ومن يحاول أن يرفضها، ولكن ثمة خلف الدعوة إلى هذا التفوق الأمريكي، باعتبارها إمبراطورية، الكثير من الإشكاليات التي تصاحب هذا المسعى، ومع أن ثمة حاجة لقوة عظمى، كي تحافــظ على النظام في العالم، كما يرى هوبزباوم، اســـــتنادا إلى ما كان يتمتع به القرن التاسع عشر إبان سيطرة الإمبراطورية البريطانية، ولكن هذا سرعان ما يتعرض للنقد، كون السلام ينحصر في حدود الإمبراطورية، وليس في العالم، وبالتالي فإن النصر والهزيمة يمكن أن يضرا الإمبراطورية أيضا.

إن القوة التي تمتعت بها بريطانيا وأمريكا: الأولى في المجال البحري سابقا، والثانية في القوة الجوية حديثا، قد تعرضت للانتهاك مع بروز القوى الجديدة التي نتجت بفعل العولمة والانفتاح الاقتصادي، بحيث لم تعد الإمبراطوريات على هذا القدر من القوة، في ظلال بروز قوى اقتصادية أخرى، ففي السابق كانت لهما السيطرة المطلقة اقتصاديا وثقافيا، كما تمت الإفادة من هيمنة اللغة الإنكليزية، ولكن ثمة فروق بين الهيمنة بتكوينها الثقافي والاقتصادي، ومع ذلك، فإن هذه هي شروط القوى الإمبراطورية التي ميزت هاتين المستعمرتين، كما ثمة فروق تبنى على التكوين السكاني، وفكرة التخوم، عــــــلاوة على عدم وجود تنافس استعماري، أو أفكار حول التفوق الناتـــج في عقل المرجعية المسيحية، والتكوين الاقتصادي القائم على أن العالم ســوق للقوى البريطانية، ضمن مبدأ عضوي، كل هذه النقاط لم تكن تتوفر بشكل مباشر لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإن الوجود الأمريكي «استعماريا» مختلف عن شكله البريطاني، وعلى أمريكا أن تتعلم بعض الدروس كما ينهي هوبزباوم فصله.

يسرد الكتاب في الفصل الرابع نماذج من الإمبراطوريات التي تفككت، وتلاشت، وهذا يمتد ليشمل عدة قرون، وحقبا تاريخية متعددة، وكأن مصير الإمبراطوريات مرتهن بالزوال والتلاشي بوصفه قدرا حتميا، ولكن مع زوالها، فإن ذلك لا يعني تلاشي الدول، حيث يبقى بعضها قويا، ولكن أسباب الزوال متعددة، حيث يبدو العامل الحضاري والأخلاقي من أهمها، وما الدعوات التي حملتها تلك الإمبراطوريات بوصف الفعل الاستعماري كان يهدف إلى تصدير الحضارة يعد مشكوكا فيه، بل إن المبدأ كان فقط يستند إلى الحكم العسكري، والتحكم. فالتغريب لم يعد أمرا مقبولا من أجل عودة الإمبراطوريات الكبرى، مع الالتفات إلى أن دول الهوامش باتت قادرة على الحصول على السلاح، وتهديد هذه القوى، إذ لم تعد الشعوب تقبل هذا النهج، ويسرد لنا الكتاب نماذج من غزة، وبلفاست، وكشمير، وسريلانكا، وغيرها الكثير.

في الفصل الخامس ثمة توجه إلى مفهوم القومية، وفيها نجد أن الباحث يشير إلى أن عام 1998 كان مفصليا، فمع انهيار مفهوم القوتين المسيطرتين، وفشل النظام العالمي الجديد، ازدادت القوى التي تسعى إلى الاستقلال، والتمترس حول القومية، ومن ذلك الحروب في البلقان، والشرق الأوسط، ورواندا، وغيرها، فبغياب القيم الإمبراطورية، تلاشت الموانع من انهيار الحدود، ما دفع إلى المزيد من الحروب، فضلا عن عوامل العولمة، وحرية التنقل، وبروز رهاب الأجانب، ومشكلة اللاجئين ما ضاعف من أزمات هذا العصر.

في الفصل السادس هناك بحث في مفهوم الديمقراطية بوصفها مفهوما جدليا، فهو لا يحتمل الكثير من التجانس في دول تدعي تبني الديمقراطية، وتمارسها بمنطق حقيقي، ولكن بعض هذا الدول يمكن أن تحكم بمبدأ القانون، ولكن ليس ثمة ديمقراطية حقيقية، فالديمقراطية يمكن أن تقود إلى كوارث، على الرغم من أنها تحتكم إلى مبدأ استشارة الشعب، لقد خاضت أمريكا حرب العراق بكل ما حملته من نتائج كارثية بذرائع الديمقراطية، ولكن خلف تلك الحرب كان هناك قرار اتخذته مجموعة صغيرة بالخفاء، كما يقول هوبزباوم.

وبينما ينطلق الكاتب لمناقشة موضوع الإرهاب، إذ يعتمد على بعض الأسس التي لا يمكن أن تتسق، ولاسيما بين مفهوم العنف الاجتماعي والعنف السياسي، فثمة دول تتميز بالأولى، وأخرى بالثانية، ولكن هوبزباوم يشير إلى نماذج الإرهاب، ومنها النموذج الانتحاري القائم على مبدأ الشهادة، وهذا ما يقودنا إلى الفصل اللاحق، الذي يتمحور حول مفهوم العنف، حيث بات الحفاظ على السلم من أصعب المهمات التي تواجهها الحكومات نتيجة ضعف قوتها، ولانتشار الأسلحة ما أسهم في انطلاق هذا العنف على كافة المستويات، وهذا ما نكاد نشهده حاليا في قطاعات كثيرة من العالم، وطبعا بالدعم من وسائل الإعلام التي أسهمت في نقل الأفكار، والمبادئ التي ينهض عليها العنف الذي أصبح متحركا بشكل جلي.

وفي الختام، يشير الفصل الأخير إلى تحليل عميق للإمبراطورية الأمريكية التي تنطوي على عدد من العوامل التي تجعلها نموذجا متفردا نظرا لتكوينها الجغرافي والسكاني، ومبدأ الهجرة، أضف لذلك ممارستها الاستعمارية التقليدية القليلة الاتساع، غير أن من آفات هذه الإمبراطورية ما تسعى لأن تمارسه من تموضع في السياسة العالمية عبر التدخل السريع الذي لم يكن ليحفل بالكثير من الإيجابيات، إنما على العكس من ذلك، ففكرة التفوق العسكري لا يمكن أن تتسق أو أن تكون مقبولة تاريخيا، كونها باتت مكشوفة على المدى القريب أو البعيد، فضلا عن تآكل ما تتمتع به من أصول ثقافية، بالإضافة إلى التقييم الحضاري الذي سبق، وإن أشرنا إليه في معرض تحليلنا لهذا الكتاب الذي اتسم بالكثير من التنبؤ والعمق في فهم بعض التكوينات التاريخية التي ميزت هذين القرنين.

٭ كاتب فلسطيني / أردني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى