صفحات مميزة

قراءة في المشهد السياسي السوري


علي صالح العبد الله

من المسلم به أن ما يجري في سوريا الآن هو ثورة شعبية نمت عوامل تفجرها وترعرعت داخل فضاءات القهر والظلم والتمييز والقمع، وداخل أسوار الخوف على المستقبل الذي ابتلعت إرهاصاته قوى النظام ورجالات السلطة، أطلقها احتقان دام عقودا ويأس عميق ساوى بين الحياة والموت في نظر المتظاهرين، تكثفا وانطلقا في لحظة تاريخية مهدت لها  ثورات عربية أعطت المثال، وصلف سلطوي لم ير في الثورات العربية إلا ذاته ورؤاه مما أجج حنق المواطنين وقاد إلى تفجر غضبهم.

 وقد دخلت المواجهة بين الثورة والنظام مرحلة كسر عظم، كما يقال، ولم يعد للعودة إلى الوراء مكان، فالشعب يريد الحرية، والنظام يريد البقاء في السلطة بنفس الصيغة والآليات، الشعب بات على قناعة بأن العودة إلى الوراء تعني دمارا وليلا سيطول، والنظام استنفر قوى السلطة وسخر إمكانيات الدولة العسكرية والمالية والإعلامية للبطش بالمواطنين لإعادتهم إلى القمقم، أصبح القتل المباشر أداة النظام لدفع المواطنين للعودة إلى القمقم، وأصبح تقبل الموت أداة المواطنين لقهر السلطة وكسر صلفها وعنجهيتها.

أفرزت الثورة معادلة سياسية جديدة عناصرها قوى شعبية تريد الخروج من حالة الاستبداد إلى فضاء الحرية ونظام يصر على البقاء في السلطة رغم الرفض الشعبي الواسع وعلى الضد منه، وكتلة شعبية كبيرة صامتة ومعارضة حزبية وثقافية تبحث عن دور.

 عند دراسة الواقع القائم نجد أن المعارضة الحزبية والثقافية تواجه حالة دقيقة ومعقدة وتواجه تحديات ومصاعب حقيقية، فالثورة التي انطلقت في سوريا ليست ثمرة نضالها الذي طال وتعمد بالتضحيات الجسام، دون أن نغفل دورها الإيجابي في إبقاء جذوة المعارضة متقدة وتغذيتها بالرؤى والتصورات، بل فجرتها قوى شبابية وغذتها قوى اجتماعية متضررة من النظام السياسي الذي يحكم سوريا منذ قرابة الخمسة عقود، مما رتب وجود خطين معارضين متوازيين في نقاط ومتقاطعين في نقاط أخرى، خط قوى المجتمع، وخاصة الشباب، الذي يخوض مواجهة مباشرة مع النظام وأدواته القمعية ويقدم التضحيات: شهداء بالآلاف، ومعتقلين ومهجرين بعشرات الآلاف.

وخط المعارضة الحزبية والثقافية التي جعلها موقعها -ناهيك عن حساباتها السياسية والأمنية- شريكة من الخارج، وقاد بعضها على خلفية جدية موقفه من التغيير، إلى السعي، وبطرق متعددة، ليصبح “شريكا من الباطن” -كما يقال في عالم التعهدات- بأخذ دور في الثورة عبر نسج علاقات، أو في بعض الحالات الشاذة ادعاء وجود مثل هذه العلاقات، مع قوى الثورة، والسعي للعب دور سياسي أو لوجستي فيها.

 وفي هذا السياق يمكن أن نقول إن قوى المعارضة الحزبية والثقافية قد قدمت في سياق نضالها المديد أساسا للثورة برفعها شعار التغيير الشامل، والدعوة إلى الانتقال بالبلاد إلى نظام ديمقراطي والمعبر عنه بلغة الثورة السورية بـ”الشعب يريد إسقاط النظام”، وسعت في إطار تفاعلها مع الثورة إلى دعم خيار سلمية الثورة، الذي تبنته قوى الثورة إلى الآن، مؤكدة على ضرورة المحافظة على سلمية الثورة ورفض العسكرة والتركيز على التظاهر والاعتصام والإضراب والعصيان المدني والعمل من أجل تأمين ضغط عربي إقليمي دولي للحد من بطش النظام بالمتظاهرين وتقييد قدرته على استخدام القوة، كوسائل للمطالبة بالتغيير الديمقراطي.

 لكنها لم تنجح إلى الآن في تبني قراءة موحدة للثورة وقواها السياسية والاجتماعية، كما لم تنجح في تبني موقف موحد من النظام وطرق التعاطي معه ومع المواقف العربية والدولية منه ومن الأزمة التي ترتبت على خياره الأمني في مواجهة الشعب، حيث تعددت الرؤى والقراءات وتباينت الخيارات والتكتيكات التي جسدتها المؤتمرات والهيئات والائتلافات التي تشكلت، فهناك من يسعى -لاعتبارات السلامة الذاتية- إلى مهادنة النظام والترويج لفكرة الحوار مع النظام بذريعة الحفاظ على البلد والخوف من حرب أهلية أو حرب طائفية متوهمة أو الخوف من البديل المجهول على مصير الأقليات الدينية والمذهبية والتعاطي مع الأزمة على خلفية هذه الهواجس

وهناك من يقبل ببقاء النظام بشرط إشراكه في السلطة، لأنه يعكس على نحو ما رؤاه العقائدية والسياسية وحنينه الدفين لماض “جميل” ينتمي إليه ويريد استعادته، وهناك من يسعى للاتفاق مع النظام على حل وسط خوفا من الخطر القادم الذي يجسده -كما يرى- السلفيون الذين “يهيمنون” على قوى الثورة، ويرى أن خطرهم أكبر من خطر النظام، فهو يقبل بقاء النظام معدلا، أو دون تعديل إن لزم الأمر، على وصول قوى سلفية إلى السلطة.

 وهذا حدّ من قدرتها على تشكيل ائتلاف واحد أو جبهة سياسية واحدة من جهة، وحدّ من قدرتها على التفاعل العميق مع قوى الثورة الشبابية والمجتمعية من جهة ثانية. علما بأن أي دور يمكن أن تلعبه المعارضة أو تفكر في لعبه مرتبط بحل عقلاني وعملي لهذا التفارق والتفاضل.

أما المطلوب لخروج سوريا من المأزق الراهن وتحاشي أخطار وعواقب وخيمة سوف تترتب على استمرار الأزمة وعلى مواصلة النظام لخياره الأمني فجملة عوامل، لعل أولها نجاح المعارضة الحزبية والثقافية في تبني قراءة موحدة للحظة السياسية والتخلي عن القراءات الذاتية وعن التقديرات الخاطئة، مثل التخوف من سيطرة القوى السلفية على الثورة وعلى الحياة الوطنية بعد انتصار الثورة، إذ من المعلوم أن القوى السلفية في سوريا لا تشكل ظاهرة سياسية كبيرة وهي ليست موحدة، فهي مجموعات صغيرة يتجمع عناصرها حول أشخاص/شيوخ، وليس لديها رؤية موحدة وخلافاتها مع بعضها أكبر من خلافاتها مع القوى غير السلفية من جهة، وقد أثر مناخ الثورة وتداعياتها وضروراتها العملية بهذه المجموعات وغير مواقفها من الآخر غير السلفي من جهة ثانية، ناهيك عن ما فعلته الثورة في الواقع الشعبي من نهوض إنساني واجتماعي وما أشاعته في المواطنين من ثقة بالنفس، جعلها لا تعول على غير قواها الذاتية وتتخلى عن مواقفها السابقة في المراهنة على قوى بعينها للثأر لها وتحقيق مطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا واضح في تلاشي التعاطف الشعبي مع تنظيم القاعدة وتبني مواقفه وتصوراته في الصراع.

 وتبني -المعارضة- لموقف موحد من الثورة والنظام وإقامة شكل من أشكال التعاون أو الائتلاف أو التنسيق يتيح لها لعب دور شريك قد يبدأ من الباطن ثم يتحول إلى دور شريك حقيقي بعد أن يعطي الشراكة كل استحقاقاتها ويوفر كل مستلزماتها، وخاصة إقناع قوى الثورة، حيث هناك حذر وشك في قوى المعارضة الحزبية والثقافية، بصدقية الخيار وجدية التوجه، وهذا سيعيد تشكيل المعادلة بتغير علاقات أطرافها لتصبح معارضة/ثورة في مواجهة النظام، وكتلة صامتة تنظر جلاء الموقف لتنحاز إلى جانب المنتصر.

 إن نجاح المعارضة الحزبية والثقافية في تحقيق هذا التحول في المعادلة، وتشكيل المجلس الوطني السوري بداية فعلية لهذا التحول، وبدء العمل المباشر في تكثيف الضغوط على النظام ميدانيا وسياسيا ودبلوماسيا لكسب التأييد العربي والدولي وإعلاميا لإخراج قطاعات من الكتلة الصامتة من صمتها وإقناعها بالمشاركة في الثورة على طريق الوصول إلى الهدف المنشود.

 وأما العامل الثاني لإخراج سوريا من المأزق الراهن فمرتبط  بالطرف الثاني: السلطة والكيفية التي ردت بها على الحراك الشعبي والكيفية التي سوف تستجيب بها لتحرك المعارضة الحزبية والثقافية/الثورة ومطالبتها للنظام بقبول التغيير الديمقراطي وحقن دماء السوريين من جهة، وتحول الموقف العربي والإقليمي والدولي الذي سيلعب دور القوة المرجحة في حال استخدم إمكاناته في لجم النظام وشل حركته العسكرية بحيث يسمح للحراك الشعبي بالتظاهر الحر مما يسمح بإبراز مدى الرفض الشعبي للنظام، من جهة ثانية.

لقد اختار النظام البقاء في السلطة بغض النظر عن الثمن الذي يمكن أن يدفعه المواطنون والبلد، وبتجاهل تام للكوارث الداخلية التي ستنجم عن الرد العسكري الذي اختاره لمواجهة حركة الاحتجاج التي انطلقت منذ حوالي السبعة أشهر، بما فيها تدويل الملف السوري واستدراج تدخل دولي غير معروف النتائج، بالإضافة إلى التعقيد الذي يضفيه تداخل الملف السوري مع ملفات إقليمية: قضية الصراع العربي الإسرائيلي، الدور الإيراني في الإقليم وتداعيات الملف النووي الإيراني، الاستحقاق الأميركي في العراق وأفغانستان، الصراع الدولي على الحصص والأدوار التي تسعى قوى دولية (روسيا والصين بشكل خاص) للعبها في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى مما يقودها لعرقلة تحركات دولية لإدانة النظام السوري على خلفية الربط بين الملفات أو المساومة على ملفات أخرى، الأزمة المالية التي تهدد الاقتصاد الأميركي والعالمي مما يجعل الإدارة الأميركية راغبة عن القيام بخطوات قد تزيد في حدة أزمتها الاقتصادية.

 بالإضافة إلى شبكة العلاقات التي يقيمها النظام السوري مع حركات “جهادية” ومسلحة، وقدرته على توظيفها لخدمة أجندته مما يثير مخاوف دول عربية وإقليمية وحتى دولية، ويجعلها تتبنى خيارات حذرة إزاء الملف السوري وتبطئ في خطواتها إزاء هذا الملف، وهذا يجعل الاستنتاج الأولي: استمرار الثورة واستمرار بطش النظام وعدوانيته، واستمرار المواجهة وامتداد الأزمة لفترة ستطول ما لم يحدث متغير غير مرئي أو تغير فجائي في العوامل التي تحكم معادلة الصراع محليا وعربيا وإقليميا ودوليا.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى