صفحات مميزةعبد السلام اسماعيل

قراءة في كتاب الانتفاضات العربية على ضوء الفلسفة والتاريخ: عبد السلام إسماعيل

 

عبد السلام اسماعيل

انتهيت من قراءة كتاب الانتفاضات العربية على ضوء الفلسفة والتاريخ، لمؤلفه هاشم صالح، وهو سوري مقيم في فرنسا منذ سنوات طويلة، يعمل بالترجمة والتأليف.

لا يزال الحديث عن الربيع العربي حديث غير ناجز لتجارب غير مكتملة وعليه لن يكون أي كلام يقال عنها إلا رصد لحظي ومجزوء لثورات لا تزال في سيرورتها ولم تثمر بعد نتائج واضحة أو نهائية تصلح للحكم الموضوعي عليها. الثورات العربية أجدها اليوم في مرحلة تحطيم القيود وتحرير الظروف الموضوعية التي ستجعل الشعب يواجه حاضر تعصف به مشاكل الماضي، بعضها له جذور عميقة في التراث الجمعي، وبعضها الآخر نتاج أنظمة القمع العربية، وبكل الحالات كانت الأنظمة تعمل على تجميد كل المشاكل ومراكتمها دون حل، لذلك نراها اليوم تتفجر اليوم كما تتفجر البراكين والزلازل.

يحاول هاشم صالح، تناول الربيع العربي من منظور الفلسفة والتاريخ، لكن جهده لم يرقَ إلى مستوى العنوان رغم المحاولة. ومع ذلك، أجد أن الكاتب شخص حالة موضوعية تعيشها كل ثورات الربيع العربي، وهي أن الثورة بدل أن تضعنا على طريق الدول المتحضرة نراها أعادتنا إلى الوراء وأغرقتنا بمشاكل ماضوية وصراعات طائفية مع عودة قوية لتيارات الإسلام السياسي والتي لا تزال على قطيعة مع المفاهيم الحداثية من مساواة ومواطنة، رغم أن بعضها يعلن تأييده لهذه القيم لكنه تأييد لا يستند إلى ركيزة فكرية صلبة قدر ارتكازه على الضرورة الواقعية. وبعض تلك التيارات نراه يعود بحمولة الماضي كله حتى على مستوى الشكل السياسي للدولة، أي حلم إقامة دولة الخلافة. حتى الشعب السوري أظهر قدرا كبيرا من التشبث بالماضي ورموزه، وهو ما نلمسه في أسماء الجمع والكتائب المسلحة.

هناك ثقل كبير للماضي والتراث في وعينا، وهو أمر لا يمكن القفز عليه بالشعارات  أو بالأماني. قد يبدو لكثيرين أن الثورة انحرفت عن مسارها، أو أنها ثورات زادت حدة السعار الطائفي وأغرقتنا بمشاكل كنا في غنى عنها، ولم تثمر سوى عن وصول الأحزاب الإسلامية إلى الحكم.

غير أن المؤلف يحاول تفسير هذه الظاهرة بالعودة إلى هيغل وفلسفته عن التاريخ، هيغل يرى أن حركة التاريخ تسير إلى الأمام لكنه يضطر أحيانا إلى العودة للوراء لكي يقفز إلى الأمام، العودة إلى الوراء ضرورية لتصفية الحسابات التاريخية، ولتفكيك الإنغلاقات التراثية الضخمة المتراكمة على مدى العصور، لا يمكن تخطي الطائفية مثلا، مالم نواجهها ونشتبك معها وندفع الثمن اللازم لذلك.  وهو ما يحدث اليوم في عموم الدول التي حصلت فيها ثورات، وهو أيضا ما يفسر سيطرة التيارات الإسلامية، أي العودة إلى الماضي لمواجهته وتفكيك الهالة المقدسة له باختباره على أرض الواقع وتركه يحكم وفق منظومته الفكرية. وهو ما سيفضي إلى انحساره في حال كان غير مثمر وبناء، وبذلك نتخلص من سطوة المقدس باكتشاف بشريته وقصوره الهائل عن تلبية متطلبات العصر، وهو ما يعرف “بمكر التاريخ” أو العامل السلبي. إذ أن العقل يحقق أهدافه في التاريخ باستخدام العوامل السلبية المعيقة للتقدم من أجل التقدم ذاته. أمر يبعث على التفاؤل مهما بدى لنا سوء الحاضر.

تاريخنا عبارة عن تاريخ من الكبت والحقن والهروب من المواجهة مع الذات، ولا يمكن لنا التقدم ما لم ينفجر هذا الكبت والإحتقان، الثورات العربية ومكر التاريخ وضعتنا في المواجهة مع كل ذلك.

يتعامل المؤلف بمرونة مع الإسلاميين ويعتبر وصولهم إلى الحكم في مصر وتونس وسيطرتهم في سورية على أنها تجسيد لثقل التراث في التاريخ، ويدعو للتعامل معهم بإيجابية وإعانتهم على النجاح، لأن نجاحهم في النهاية هو نجاح لنا جميعا، وأيضا حثهم على تطوير تأويل عصري للإسلام يتخطى التأويلات القديمة لمواكبة مشكلاتنا الراهنة وإيجاد حلول ناجعة لها، وإذا لم ينجح الإسلاميون في ذلك فسيتخطاهم الشعب ويلفظهم، فحركة التاريخ لا ترحم أحد. إذ أن فشل التأويل القروسطي للإسلام سيفسح المجال لظهور التأويلات المغيبة وهنا يكمن مكر التاريخ أيضا.

ثمة مشكلة أخرى يشير إليها الكاتب، وهي أن التنوير في أوربا حصل بداية من خلال التنوير الفكري الذي قام به الفلاسفة العظام من كانط وهيغل وفولتير وجان جاك روسو وغيرهم، هؤلاء اشتبكوا مع مشكلات عصرهم بقوة وفككوها وبالنهاية حصل الإنفراج السياسي بعد تحققه على المستوى الفكري. غير أن ما يحدث لدينا، يحدث بطريقة معكوسة، إذ أن التنوير الفكري أو الفلسفي لم يحدث بعد، رغم وجود بعض الإضاءات هنا وهناك على مدى القرن الماضي، لكنها إضاءات لم تحقق نهضة فكرية شاملة. لا يزال أي شيخ دين قادر على حشد الرأي العام أكثر مما يقدر أي فيلسوف أو مفكر بمرات كثيرة، المؤثرين في الوعي الشعبي لدينا ليسوا مفكرين أو فلاسفة بل مجموعة من الوعاظ، لا يقدمون سوى تكرار ممل لفكر ديني منغلق على ذاته يعيش في عصور قديمة. وهنا لب المشكلة.

ما يحدث اليوم، تحرر سياسي دون أي يرافقه تحرر فكري، لذلك لا تزال أمامنا مسيرة طويلة من الصراع مع الذات والفكر التقليدي. لن نتقدم ما لم نخوض هذه المعركة وننتصر فيها. الثورة الفرنسية جاءت حصيلة مئتي سنة من التنوير الفكري وانتظر الفرنسيون مئة سنة بعدها حتى تحققت لهم الدولة المدنية التي قامت لأجلها الثورة.

وأعتقد، أن مرورنا بالتحرر السياسي قبل التحرر الفكري كان مسارا حتميا، لأن السلطة السياسية والدينية كانت تطبق كليا على الفضاء العام، وتحتكر التعليم والإعلام وكل شيء، لذلك لم تكن هناك أي بيئة تساعد المثقفين والمفكرين على التنوير. على عكس ما كان في أوربا، إذ أن السلطة السياسية والدينية مهما بلغت استبداديتها إلا أن وسائلها في السيطرة كانت أقل إحكاما مما لدينا اليوم. لذلك أجد أن التحرر السياسي في دولنا العربية شرط لازم للتحرر الفكري. وتاليا وبحركة جدلية نستطيع التقدم على طريق التنوير.

يتطرق المؤلف إلى آراء المستشرقين بالربيع العربي، ويستعرضها بشكل مسهب، وكثيرا ما وقع المؤلف في مطب تكرار نفس الأفكار على مدار فصول الكتاب، إضافة إلى البون الشاسع بين أفكاره الخاصة وأفكار الفلاسفة الكبار، وأقول وانا مطمئن إلى أن القارئ يكفيه من الكتاب مطلعه الذي يتناول شطرا من فلسفة هيغل. وهو القسم الذي اعتمدت عليه فعليا في كتابة هذه المراجعة.

ثمة أفكار أخرى تصلح للنقد والنقاش أوردها المؤلف، لكن المقال لا يتسع لها . . بالنهاية أنصح بقراءة الكتاب، فهو يعطي جرعة من التفاؤل ويحفز “هيغل من يفعل” على النظر للأمور بمنظار أوسع من منظار الذين لا يرون في الثورة السورية وبقية الثورات سوى الحرب الطائفية وسيطرة التيارات الإسلامية . . الربيع العربي قادم لكن بعد 30 وربما 40 سنة أخرى، على نحو ما يقول المؤلف، غير أن بداية المسيرة انطلقت مع شرارة البوعزيزي.

خاص – صفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى