صفحات العالم

قراءتان للمشهد السوري

 


عريب الرنتاوي

تتباين القراءات وردات الفعل المتصلة بالحدث السوري، من متحدث عن ثورة شعب “داخلية” ضد النظام، لن يهدأ إوارها إلا بإسقاط رأس الأخير…إلى قائل بمؤامرة “دخيلة” على الشعب والنظام معاً، تستهدف صمود سوريا و”ممانعتها”…وما بين القراءتين “الأقصويتين” ثمة مروحة واسعة من القراءات المتفاوتة، التي تجنح بهذا الاتجاه أو ذاك.

من جهتنا نرى أن الأحداث التي شهدتها كثير من المدن والقرى والبلدات السورية على نحو مُتزامنٍ ولافت، هي مزيج غير متجانس من هذا وذاك…فما يجري في سوريا في جوهره، هو “انتفاضة شعب يريد إصلاح النظام”، ولن يتردد عن المطالبة بتغييره إن لم يستجب النظام لمطلب إصلاحه…على أن ذلك لا يسقط “نظرية المؤامرة” التي تتعرض لها سوريا، ومن قبل لاعبين معروفين، محلياً وعربياً ودوليا، لم يكفّوا عن التآمر على سوريا لا الآن ولا غداً ولا أمس ولا بعد غدٍ… حتى وإن كلّف الأمر، اللعب على “وحدة سوريا” والتلويح بورقة تكوينها الطائفي والمذهبي والقومي المتعدد.

كل الأسباب التي أخرجت المصريين والتونسيين واليمنيين والليبيين والأردنيين والجزائرين والعُمانيين والبحرينيين والعراقيين عرباً وكورداً للشوارع والساحات والميادين، متوفرة في سوريا، وكفيلة بإخراج شعبها الذي اشتهر تاريخياً بثوراته المتعاقبة، إلى شوارعه وساحاته وميادينه، ولا يقلل من أهمية هذه الأسباب و”راهنيّتها” أن سوريا تنتمي لغير “معسكر الاعتدال العربي” الموالي للغرب والتابع له…انتماء سوريا لما أسميّ بـ”معسكر المقاومة والممانعة” كان يمكن أن يساعد نظامها على تخطي استحقاق الإصلاح بأقل درجة من الأكلاف والأضرار، لكنه للأسف ما زال يضيّع الفرصة تلو الأخرى، حتى كدنا نخشى أن تكون الأحداث في سوريا قد بلغت نقطة “اللاعودة”.

المؤسف أن النظام في سوريا، لم ير فيما جري ويجري سوى “الوجه التآمري”، وغَفِل عن رؤية مطالب الناس والالتقاء معها وتلبيتها، وسواء فعل ذلك عن قصد أو من دونه، فإن النتيجة واحدة، وما جَهِدَ الرئيس بشار الأسد في بنائه خلال السنوات العشر الأخيرة، من “صورة مغايرة” لصورة النظام القديم، خسره في غضون أسبوعين فقط، وهو مرشح لخسائر أكبر إن لم يُحدِث الإستدارة المطلوبة في سلوكه وأدائه، وإن لم يُحِدث هذه الاستدارة سريعاً، “هنا والآن”.

نحن نتفق مع النظام بأن هناك مؤامرة عليه وعلى سوريا..لكننا نختلف معه في كيفية مواجهة هذه المؤامرة، هو يرى أن المواجهة تتم بمواصلة تكميم الأفواه وإدارة الظهر لمطالب الشارع، والاستمرار في ممارسة الأعمال اليومية كالمعتاد

“Business as usual”…ونحن نرى أن أقصر الطرق لمواجهة “المؤامرة” وقطع الطريق على “المتآمرين” تتمثل في الإصغاء لصوت الشعب والإسراع في تلبية مطالبه المحقة والمشروعة…هكذا يفقد المتآمرون ورقتهم الأقوى، ويُحَال بينهم وبين الشارع السوري، بدل أن تتوفر لهم فرص امتطائه لتحقيق أهدافهم الشريرة.

الفاسدون يتدثرون هذه الأيام بثياب الإصلاح ولبوسه، كـ”الثعلب الذي بزر يوماً في ثياب الواعظين”، من عبد الحليم خدام إلى رفعت الأسد وأنجاله…هؤلاء الذين حكوا سوريا بالحديد والنار وسرقوا ثروات شعبها وتآمروا عليها طوال السنوات الأخير، وتحالفوا مع كل شياطين الأرض ضد بلادهم…هؤلاء هم رأس جسر “الثورة المضادة” في سوريا، وليسوا جزءا من الثورة أو قواها المحركة، من دون أن ننسى بعض جماعات المعارضة التي نشأت في أحضان اللوبي اللبناني المتصهين في واشنطن، من “أحمد الجلبي” في طبعته السورية غير المزيدة وغير المنقحة، إلى بعض المثقفين المُعتاشين على “فتات” أو “فتفت” تيار المستقبل وجماعة 14 آذار…هؤلاء لا شأن لهم بمستقبل سوريا وتطلعات شعبها الوطنية والديمقراطية…هؤلاء جزء من مشكلة سوريا وليسوا أبداً جزءا من الحل والخلاص.

نحن أعلم بروابط هؤلاء بمدرسة “المحافظين الجدد” في واشنطن، وأيتامها المبثوثين في “مدن الرمل والملح” و”شرق المتوسط”….نحن أعلم بملايين “البترودولارات” التي تغدق عليهم…نحن أعلم بأهداف “تمسّحم” بالحرم المكّي الشريف، وأسباب مواظتهم على أداء فريضة الحج وسنن العمرة والزيارة…نحن أعلم بشبكة روابطهم التي انتعشت على “دم الحريري” و”واقعة استشهادة” و”قانون محاسبة سوريا وتحرير لبنان” و”القرار 1559″ إلى آخر المعزوفة الجنائزية إياها…لهؤلاء “ويكيليكسهم” التي تفوح منها رائحة الخيانة الوطنية والتعامل مع الأجنبي على حساب الوطن وبالضد من إرادة المواطن.

هؤلاء لا يمثلون سوريا ولا هم جزء من مستقبلها…هؤلاء لا يجب بحال من الأحوال، أن يؤخذ الشعب السوري بجريرتهم…هؤلاء لا ينبغي إعادة السماح بـ”تدويرهم” وبعث الحياة في عروقهم المتيبّسة فإذا بهم من الأجداث إلى سوريا يرجعون…هؤلاء خبرهم الشعب السوري و”ذاق الأمرين” جراء حكم وتحكمهم، فسادهم وإفسادهم.

إن التمييز بين تحرك هؤلاء المشبوه، وحراك الشعب السوري النبيل المتطلع للكرامة والحرية والديمقراطية، هو المقدمة الأولى لـ”كتاب التغيير والإصلاح” في سوريا…لا يجب السماح لهؤلاء بامتطاء صهوة التحرك الشعبي السوري المبارك…لا يجب أن يُعطى هؤلاء الفرصة للزج بأنوفهم في “بوتقة” الثورة والانتفاضة.

مثل هذه المهمة، تقع على عاتق النظام أولاً، الذي يبدو أنه أو بعض أركانه، يسعون في “شيطنة” أو “أبلسة” الحركة الشعبية السورية، بتقزيهما إلى مجرد “رجه صدى لتآمر المتآمرين”…وهي مهمة تقع تالياًً على كاهل قوى الحراك الشعبي السورية، والتي كلما ميّزت نفسها عن “قوى المؤامرة والتآمر” كلما كانت في وضع أقوى في مواجهة السلطة، وكلما كانت أقرب إلى لحظة الحقيقة والاستحقاق، وكلما نجحت في إنقاذ البلاد والعباد من خطر الوقوع في الفتنة التي لن يتردد “المتآمرون” عن النفخ فيها وتأجيج أوارها..إنها منتنة، لعن الله من أيقظها.

مركز القدس

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى