صفحات الناس

قصة عائلتين من الرقة.. اختلفت الأقدار والمعاناة واحدة/ أحمد العجيلي

 معركة تحرير الرقة مستمرة من منذ أكثر من خمسين يوما والمدنيون يدفعون ثمنا باهظا بحياتهم وممتلكاتهم أمام تجاهل الراي العام المحلي والإقليمي والعالمي لفظائع “داعش” والقصف العشوائي لقوات التحالف الدولي.

في الطابق السفلي في القبو تحت الأرض، تتوزع ماكينات الخياطة وكرات من الخيوط غابت ألوانها بفعل الغبار وما ينتشر في الأجواء من دخان القذائف المتساقطة ليل نهار على محيط المنزل. في ركنٍ آخر تناثرت أكياسٌ من الخبز اليابس، وبعض الأرز وقليل من الخضار الذابلة سقط عليها نور الشمس من إحدى الفجوات في الجدار المقابل، حيث سقطت قبل يومين قذيفة تركت أثرها في المنزل المتهالك.

يجول أبو محمد في أرجاء الغرفة وهو يسجّل مشاهد فيديو على هاتفه النقال، ويصف ما يجري داخل أحد أحياء مدينة الرقة المحاصرة بالقول: “خرج عناصر داعش قبل يومين من المنطقة، وطلبوا من سكان الحي إخلاء المنازل. أجبرونا على الانتقال إلى منطقة الفردوس التي يسيطرون عليها”. يسكن أبو محمد في الرقة منذ ثلاثة أعوام بعد أن نزح من حلب، استأجر منزلاً في المدينة، وأصبح هذا المنزل هو مسكنه ومشغل الخياطة الخاص به.

تدمير وتخريب وانتقام

يصف أبو محمد الوضع داخل المدينة بالكارثي. تتساقط القذائف يومياً، وتخلّف العشرات من الضحايا المدنيين بينما قام عناصر “داعش” سابقاً بتهريب عائلاتهم خارج المدينة. يقول أبو محمد: “انتشرت (البرك) التي تنقل عناصر “داعش” مع سياراتهم التي حمّلوها كثيراً من المؤن والمسروقات من ممتلكات المدنيين، وعبروا باتجاه الضفة الأخرى باتجاه مدينة الميادين”. وأكّدت ذلك السيدة آمنة، وهي قاضية من مدينة الرقة خرجت منذ يومين ووصلت مناطق قوات سورية الديمقراطية، حيث ذكرت أنّ المدخل الجنوبي لمدينة الرقة عند الجسر الجديد تسيطر عليه “داعش”، أمّا مدخل الجسر القديم فتسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية، وتضيف: “قصف طيران التحالف الجسور، واضطر المدنيون إلى استخدام سلالم من الخشب تربط بين أجزاء الجسر القديم المتبقية كي يصلوا إلى الضفة الأخرى من نهر الفرات، بينما يتنقل عناصر “داعش” بكل حرية”.

وحسب روايات من خرجوا من الرقة، فإنّ عناصر “داعش” يمنعون المدنيين من الخروج، ومن يمسكونه يتم إعدامه أو سجنه. فيما يواصل أبو محمد سرد قصته: “بعد خروجنا من الحي قام عناصر “داعش” بتفجير كنيسة سيدة البشارة، وزرعوها بالألغام”. لا يخفي أبو محمد علاقته المتوترة مع عناصر “داعش”، فهو كغيره من المدنيين يعاني من المعاملة العنصرية من قبلهم، وحسب وصفه فإنّ الأهالي اضطروا إلى النزول إلى نهر الفرات لجلب الماء، وكثيراً ما قضوا تحت القصف كما حصل مع عائلتي القصّاب والشعيب.

الهرب من الموت إلى الموت

بعد أن غادر منزله متوجهاً إلى حي الفردوس، يفقد أبو محمد شقيقه جرّاء القصف، فيتركه ويهرب بباقي الأسرة، ويقول: “وضعت جثة أخي على جانب الطريق، وهربنا جميعاً كي أتمكن من إنقاذ الأطفال، على أمل العودة إليه ودفنه”. لا يجد أبو محمد مكاناً لعائلته المكونة من أربعة أطفال وزوجته وزوجة أخيه وطفليه، فيتركهم في أحد المنازل المهدّمة، ويعود ليلاً كي يدفن أخيه. لا يخفي أبو محمد دموعه وهو يصف الدمار الذي حلّ بالحي بعد قيام “داعش” بتفجير الكنيسة. أمّا صباح فقد بدت على محياها المتعب علامات الارتياح وهي تصف رحلة هروبها مع زوجها بالمعجزة.

مشهد لانفجار في الرقة

قرروا الخروج من المدينة بعد أن تنقلوا داخل أحيائها لمدة أسبوعين، وفي النهاية وجدوا من يوصلهم إلى الضفة الأخرى من نهر الفرات، لتستمر رحلة العذاب يرافقهم فيها الموت. يعبرون من داخل البيوت المهدمة كي يصلوا ضفة الفرات خوفاً من القناصة المنتشرين على أسطح المباني، فيتحول صوتها إلى بكاءٍ ونشيج وهي تتذكر رحلتها، تقول: “بعد أن عبرت سور أحد البساتين دوى انفجارٌ هائل خلفنا، وعلت غمامة سوداء وكثبانٌ من الرمال غطت الجو، فشعرت أنّ الموت لن يمهلنا أكثر”، في تلك اللحظة ينفجر أحد الألغام بجوار زوجها فتصرخ عالياً، ولكن صوت زوجها يأتي من بعيد فيهدئ من روعها.

يجلسون داخل البستان يتفقدون أنفسهم، ليكتشفوا إصابة زوجها بإصاباتٍ بليغة. يصلون ضفة الفرات، حيث تنتظرهم العبّارة وهي لوح خشبي يجذف به شبّان من المدينة امتهنوا هذ العمل مقابل المال، ولكنّهم مع مرور الوقت، باتوا يساعدون الناس بلا مقابل، وتضيف: “وصلنا ضفة النهر، فركبنا العبّارة، باتجاه الضفة الأخرى حيث استقبلنا شبابٌ مسلحون قالوا إنهم من قوات سوريا الديمقراطية، حينذاك فقط شعرت بالراحة”. تصفهم بالأبطال، حيث قدموا لهم الماء البارد، وأسرعوا بإسعاف زوجها، ونقله إلى مشفى الطبقة. كان الخوف هاجسها الوحيد، فالحظ هو من أخفاهم عن أعين قناصة “داعش”، والحظ مرّة أخرى من نجّى زوجها من انفجار اللغم، ولا تريد ان تراهن كثيراً على الحظ. فمن لم يمت بالقصف مات بالألغام.

تحرير أم تهجير؟!

يتساءل أبو محمد عن ذنب أهل الرقة كي تتم معاقبتهم بهذه الطريقة، يقول: “من بقي داخل المدينة لا حول له ولا قوة، أمّا من انتسب لداعش فغالبيتهم من أبناء الريف الذين سارعوا مؤخراً إلى الاستسلام والانضمام إلى قوات سوريا الديمقراطية”. آمنة كان لها رأيٌ آخر، فهي ترى أنّ عناصر “داعش” استخدموا سياسة الترغيب والترهيب، فمن ينتسب لهم يحصل على مائتي دولار، ويحظى بإعانات من المواد التموينية والطبابة، ومن انتسب لهم من أبناء الريف كان مكرهاً بسبب الحاجة إلى المال، وبالطبع هذا ليس مبرراً على حدّ تعبيرها.

مخيم للفارين من جحيم الرقة

ووتتابع: “استقبلنا أبناء الريف حين خرجنا من المدينة، وقدّموا لنا الطعام والشراب، ورافقونا حتّى تمكنّا من قطع الطريق باتجاه مناطق قوات سوريا الديمقراطية”. إلا أنّها ترى أنّ أكثر ما يثير استهجان أهالي المدينة هو القصف العشوائي الذي لا يميز بين المدنيين وبين عناصر “داعش” وتقول: “لا أدري لماذا قصفوا الجسور ومحطات المياه والهاتف، بينما يتمتع عناصر “داعش” بوفرة الماء وحرية التنقل واستخدام هواتفهم اللاسلكية”.

كما عبّرت عن استيائها هناك من الممارسات المجحفة بحق المدنيين، المحررون يحملون حقداً على أهل المدينة بسبب ما ارتكبه عناصر “داعش” من مجازر بحقّ الإيزيديات وأهالي كوباني _ (عين العرب)، تقول: “ينتقمون منّا بسبب ما حلّ بكوباني، ولكن ما دخلنا نحن؟ فنحن سبايا أيضاً لدى “داعش” ولكن دون أن يصورنا الإعلام أو يهتم بمعاناتنا، يموت كل يوم العشرات من أبنائنا دون أن يتم ذكرهم في نشرات الأخبار؟!”

ما ذرفته آمنة من دموع تُضاف إلى دموع أبي محمد وصباح وغيرهم من أبناء الرقة المغلوبين على أمرهم، حيث يعاندهم القدر في أمنياتهم التي انتظروها طويلاً بتحرير مدينتهم من سواد “داعش”، فتختفي فرحة التحرير مع مشهد الموت اليومي، وقسوة الواقع التي تمحي ملامح الفرح المأمول في المستقبل..

دويتشه فيله

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى