صفحات الناس

قصة مهرّب/ إبرهيم الزيدي

لكل أزمة ضحاياها، وتجّارها أيضاً. ثمة أحيان يتحوّل بعض الضحايا إلى المتاجرة بمأساتهم؛ والبعض منهم يتاجر بمآسي الآخرين. الحال السورية ليست بعيدة عن المتاجرة. فالمواطن السوري أصبح سلعة، تتداوله أسواق متعددة، بعضها علنيّ، والبعض الآخر سريّ. بعضها على مستوى دولي، والبعض منها على مستوى محلي طائفي. ثمة أسواق للنزعات الفردية، والرغبات الشخصية. أسواق لمن ارتضى لنفسه دور القاتل، وأسواق لمن وجد نفسه في دور المقتول. بين هذا وذاك، ثمة فئة وجدت نفسها خارج هذا المسرح، أو أنها اعتذرت عن دورها المفترض، والبعض استقال من دوره الواقعي أيضاً. الكل يبحث عن فرصة حياة، بعيداً من هذه البقعة من الأرض، التي لم تعد بالنسبة إليهم وطناً، فاحتضنتهم مخيمات اللجوء، ومساكن البؤس، واحتلت تطلعاتهم أحلام الهجرة.

الهجرة هاجس السوريين منذ زمن بعيد. الاختلاف الآن في الدوافع. لم تعد أحلام الغنى والرفاهية تراود خيال السوريين، أصبح البحث عن ملاذ آمن، ولقمة سائغة، هاجسهم الممض، ودافعهم الرئيسي. وقد أدرك ذلك تجّار الأزمات، فأبدعوا، وابتدعوا طرقاً لتهريب الناس عبر كل المنافذ المعروفة برّاً وبحراً وجوّاً. عدد المهرّبين وسماسرتهم، أخذ يتناسب طرداً مع عدد الحالمين بالهجرة! سوق التهريب هذه ، وجدت مراحها في حوض البحر الأبيض المتوسط، من المغرب إلى تركيا، فالحلم يتمثل في الضفة الأخرى من المتوسط.

المشكلة أن الذي يفصلني عن حلمي، هو البحر. منذ أمد طويل، هذا البحر يفصلني عن أحلامي. تغيرت الأحلام، أما البحر فهو البحر. حين كنت طالباً على مقاعد الدراسة، كان هذا البحر يفصلني عن أهم الجامعات التي حلمتُ بارتيادها. وحين أصبحتُ صحافيّاً مختصاً بتغطية الأخبار الرياضية، كان هذا البحر يفصلني عن أهمّ المباريات الدولية في كرة القدم. وها إن البحر، بعدما أصبحت لاجئاً، يفصلني عن حلمي باللجوء إلى أوروبا. إلا أنني لا أزال على يقين من أنني سأجتاز هذا البحر ذات يوم، وقد هيأتُ نفسي لتحقيق هذا الحلم، فلم أرتبط بزوجة، تقيّدني بطفل بعد حين، ولم أشتر بيتاً أو سيارة، أو أقدم على أي مشروع. فمن َيَملك، يُملَك. “هذي الحقيبة عادت وحدها وطني”.

أبو أحمد

تعرفتُ على أبي أحمد، حين كان التهريب مقتصراً على الحالمين بحياة أفضل. آنذاك كنت أساومه على رحلة تستغرق أياماً بعينها من شهر أيار 2011 لحضور نهائي دوري أبطال أوروبا. المهم في تلك السفرة، بالنسبة إليَّ آنذاك، هو حضور المباراة النهائية بين برشلونة الاسباني، ومانشستر يونايتد الإنكليزي، على ملعب ويمبلي في لندن. كنت أحلم بسبق صحافي من أرض الملعب، وإجراء حوارات مع كبار نجوم كرة القدم، ليس إلاّ. من جميل المصادفات، أنه كان هو الآخر مغرماً بكرة القدم، فتوثقت الصلة بيننا، علماً أننا لم نتفق في شأن السفرة، وأصبحت العلاقة بيننا، تشبه إلى حد ما علاقة الأصدقاء، مما أتاح لي حضور الكثير من مساوماته مع الزبائن الراغبين بالهجرة من طريق التهريب. كثيراً ما كنت أشارك في الحوارات، وكأني أحد العاملين لديه، وهذا ما جعله يكتشف موهبتي، وقدرتي على إقناع الزبائن، فنشأ بيننا هذا التفاهم الضمني. وصار ينسحب أمام بعض الزبائن، تاركاً الفريسة لي، مع صلاحيات محدودة بعقد الاتفاق الأخير مع الزبون. إذ الكلمة الأخيرة كانت له. وكان في كل مرة أُظهر براعةً في الصيد، كما الصياد الذي يرمي لكلبه رأس الأرنب حين يحضره، كان يدلس لي ما يشجعني على الاستمرار معه. لم يكن المبلغ يتجاوز 100 دولار، وغالباً ما كنت أصرفها عليه، في عزائمي المتكررة له. إلى أن وصلت سوريا إلى ما وصلت إليه. صار أبو أحمد بحاجة إلى أكثر من مساعد، فهاتفه الذي لا يتوقف عن الرنين، وحده أصبح بحاجة إلى عامل سنترال. آنذاك قرر أن يرحل إلى تركيا، بحيث يكون في المحطة التي ينطلق منها الحالمون بأوروبا، وأن يترك لي إدارة السوق اللبنانية، مقابل أن أحصل على 1000 دولار، عن كل فريسة. كان يعتقد أنني استسغتُ هذا العمل، ولم يكن يدري أنني إحدى فرائسه المتريثة في إظهار رغبتها باللجوء إلى أوروبا. كان قد ابتدع طرقاً جديدة في التهريب، لم يطلع عليها أحد سواي. فالطرق السابقة صارت معروفة لأغلب المهرّبين، والسماسرة أيضاً. لذا تحوّل الكثير من السماسرة مهرّبين، يشتغلون لحسابهم الخاص، علماً أن نسبة الذين ينفذون إلى أوروبا من طريق المهربين، لا تتجاوز 25 في المئة في أحسن الأحوال. إلا أن أبا أحمد لم يكن كالبقية التي غلبت عليهم صفة نصّاب، ولم يكن يلهث وراء 1000 أو 2000 دولار، كان رجل الصفقات، لذا كان دائم الابتكار لطرق جديدة في التهريب. فهو يعرف أن الفريسة قبل أن تقع في شباكه، مرّت بشباك كثيرة، وصار عندها إلمام بطرق التهريب، وأسعارها أيضاً. لذا كان يتحاشى أن يتحدث بحتميات أو يقينيات، دائما كان حديثه ينتهي بقوله: “انشالله، الله ييسر”، أو “نحنا نعمل اللي علينا، واللي على الله، على الله”. لم يكن يضع الزبون بصورة الطريقة التي سيهرّبه بها، إلا إذا أيقن أنه جادّ في مسعاه نحو الهجرة، آنذاك ينفتح عليه، ويعرض عليه طرقاً لم يسمع بها من قبل، ويظهر حرصه على مصلحته من خلال الضمانات التي يعرضها عليه. فهو لا يأخذ سوى سلفة 2000 دولار، من أصل 8000 دولار، وما تبقى يودع لدى مكاتب مختصة بتركيا، تُعتبر طرفاً ثالثاً، وحين يصل الزبون إلى أوروبا، يتصل بالمكتب، فيسلم المكتب أبا أحمد ما بقي من المبلغ. هذه الطريقة يعتمدها السماسرة النصّابون، فهم أيضاً يأخذون ربع المبلغ، ولكن من دون طرف ثالث، وبذلك ثمة إغراء للزبون.

بعض طرق التهريب المبتكرة

يحصل الزبون على فيزا إلى تنزانيا، يتكفلها أبو أحمد، ويقطع له تذكرة درجة أولى في الطائرة، على أن تكون الرحلة ترانزيت، بحيث تكون إحدى محطاتها في أوروبا، وهناك ينزل الزبون ويتلف أوراقه الثبوتية.

أحيانا يتفق أبو أحمد مع من يعرفهم من العرب الأوروبيين، على فيزا “شنغن” يسافر خلالها صاحب الجواز إلى إحدى الدول الأوروبية، في رحلة ترانزيت، تكون تركيا إحدى محطاتها، وفي تركيا يأخذ أبو أحمد جواز السفر، مقابل مبلغ من المال، ويضع عليه صورة الزبون بدل صورة صاحب الجواز الأصلي، ويكمل الزبون السفر إلى أوروبا، ويتقدم صاحب الجواز في ما بعد إلى سفارة بلاده بطلب للحصول على بدل من ضائع، مدّعياً أنه فقد جواز سفره، أو سُرق منه. هذه العملية تكلف 9000 أورو. ثمة طرق تكلفتها أقل، يدّعي أبو حمد أنها آمنة، أو أكثر أماناً من غيرها، وهي السفر في يخت سياحي، من تركيا إلى اليونان، وتُعتمد طريقة في الأعياد، والمواسم السياحية. فكثرة المسافرين، تجعل التدقيق أقل.

مركز تجمع المهربين، في محافظة إزمير التركية، منطقة أكسراي، إلا أن الزبون قبل أن يصل إلى المهرّب الحقيقي، غالباً ما يكون ضحية لأحد السماسرة النصّابين، وهؤلاء هدفهم الحصول على الدفعة الأولى، التي لا تزيد على 2000 دولار. بعدها لن يعثر له على أثر.

تلك هي حالتنا يا صديقي، فنحن والزبائن، كمثل فرويد، وذاك الرجل الذي سأله: ما هو عملك؟ فأجاب فرويد: أنا أفسر للناس أحلامهم. وأنت؟ فأجابه الرجل: أنا أجعل الناس يحلمون. أيقظ لفافة تبغ بين شفتيه، ونظر إليَّ باسماً. فسألته: وأنت؟ إلى أين وصلت أحلامك بالهجرة؟ أجاب: لديَّ الآن 7 زبائن، سأسافر معهم غداً إلى تركيا، وهذا يعني أن لديّ 7000 دولار، سأحاول الاتفاق مع أبو أحمد، على أن أكون عرّابه في أوروبا، وأعتقد أن ثقته بي، ستجعله يختار لي الطريقة الأكثر ضماناً.

هل ستستمر فعلاً في هذا العمل؟

ضحك محدثي، وقال: نحن سلعتنا الأحلام، وهل ثمة أحلام بعد اليقظة؟! الأحلام المؤجلة تُميت القلب، ولقد تأجلت كثيراً. تأجلت حياتي، تأجلت ذاكرتي، وتأجلت أحلامي أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى