صفحات سوريةميشيل كيلو

قصص أخرى من عالم الأشباح!


ميشيل كيلو

مأساة «أبو الهدى» إلياس

كان يجلس دوما في زاوية المهجع الداخلية البعيدة وسبحته بيده وجلابيته مربوطة إلى خصره وقد بان تحتها شرواله الناصع البياض، بينما كانت لحيته السوداء الكثة تحجب فمه وتغطي عنقه. عندما رأيته لأول مرة خلته «إرهابيا» ألقي القبض عليه في خلية ما داخل زقاق ما من أزقة حماه. لكن سجينا أخبرني أنه من جماعتي، فتساءلت إن كان يساري الهوى، فقال لي: يا رجل، أقول لك إنه من جماعتك فتقول لي يساري ويميني، إنه من جماعتك، مسيحي مثلك، فأطلقت عليه لقبا شاع في المهجع هو: «الشيخ أبو الهدى إلياس».

كان أبو الهدى ضابطا برتبة ملازم ثان في لواء دبابات يعمل على القطاع الشمالي من الجبهة. خلال الحرب كان كعنترة ابن شداد أو كالزير سالم، يتقدم بدبابته وحدته الصغيرة ويتجه للقتال حيث تشتد المخاطر ويتكثف إطلاق الصواريخ والمدافع، وقد تنقل وقاتل إلى أن اكتشف نقطة ضعف في جبهة العدو اخترق ومجموعته من خلالها دفاعاته وصار وراءه، ثم تقدم إلى أن شاهد وجنوده بحيرة طبريا، من المشارف الشرقية الشديدة الانحدار لهضبة الجولان. صرخ طيلة ساعات في جهاز اللاسلكي طالبا تعزيزه بمعدات تمكنه من مواصلة هجومه، وأعلم القيادة بالثغرة التي أحدثها وحدد موقعها وإحداثياتها وطلب التقدم من خلالها بقوات كافية للالتفاف على ميمنة العدو وميسرته، ولكن دون جدوى. حين علم بعد ساعات أن كتلة الجيش الرئيسية دمرت وأن الصهاينة اخترقوا الجبهة السورية وصاروا عند بلدة حان أرنبة، بدأ يشتم ويتحدث عن خيانة. بعد الحرب، احتفى الجيش بإلياس حنا ومنحه أرفع الأوسمة، ونال شرف الوقوف إلى جانب مثله الأعلى حافظ الأسد، كما ظهر في التلفاز الرسمي، حيث قدم كبطل من أبطال الوطن. لكن أحد رجال الأمن كتب تقريرا ذكر فيه أنه سب القيادة واتهمها بالخيانة، فاعتقل وأرسل إلى المخابرات العسكرية في دمشق، ثم قدم بعد تحقيق دام شهرا كاملا إلى محاكمة عسكرية بتهمة التخاذل والجبن والتصرفات غير المنضبطة خلال الحرب، وأدين وحكم بالسجن لمدة عشرة أعوام. أذكر أنني رأيت ذات مرة ونحن في حمام السجن الجماعي علامات الكي بالنار على ظهره وفخذيه، على الرغم من مضي سبعة أعوام على وجوده في المزة.

كان أبو الهدى على وشك الزواج عندما اعتقل. بعد مرور خمسة أعوام حاول إقناع خطيبته بالتخلي عنه؛ لأنه لا يعرف متى سيخرج من السجن أو إن كان سيخرج منه. لكن الفتاة أصرت على علاقتها به وأخبرته أنها ستنتظره إلى آخر العمر، فكان ذلك يزيده عذابا وقهرا وشعورا بالعجز.

مضت الأعوام العشرة، فلم يخرج أبو الهدى من السجن، بل مدد حبسه عرفيا سبعة أعوام أخرى، حاول خلالها جاهدا إقناع خطيبته بالتخلي عنه، دون جدوى. أخيرا، خرج الرجل من السجن وهو في السادسة والأربعين من العمر، فرجاه والد الفتاة أن يسكن معه إن كان يريد الزواج من ابنته أو أن يتركها له؛ لأنه لم يبق لديه من يعتني به في شيخوخته غيرها، بعد أن ماتت زوجته وذهبت أختها الكبرى للعيش في مدينة بعيدة مع زوجها.

عاش أبو الهدى في بيت عمه؛ حيث أنجب ولدين من زواجه المتأخر، وأنشأ في قريته مزرعة خيول وأبقار، واستعاد بعض صداقاته القديمة وصار نجاحه حديث الناس في منطقته كلها، وحتى في قرى لبنان القريبة من قريته.

خلال شهر تشرين الأول الماضي، قبل قرابة عام من اليوم، دخل الأمن قرية أبو الهدى واجتاح مزرعته التي تقع إلى الشرق منها؛ حيث قتل جميع خيولها وأبقارها، وهدم عنابرها، ثم قتل ولديه، اللذين حاولا منعه من قتل حيواناتهما وحماية مزرعتهما، وقتل أخيرا أبا الهدى وزوجته، عندما خرج عليهم ببندقية حربية وقتل وجرح العشرات منهم. في اليوم التالي، بث تلفاز حكومي سوري نبأ مقتل «زعيم تنظيم إرهابي أصولي» في ضواحي القصير، ونشر «دليلا» يؤكد أصوليته وانتماءه إلى تنظيم القاعدة هو: صورة جثته المرمية على الأرض وقد ظهرت فيها لحيته البيضاء التي تغطي ذقنه وعنقه!

حكاية ليلية

فجأة، فتح باب زنزانتي. كانت الساعة تقارب الثالثة فجرا. أمرني رجل الأمن أن أخرج وأتبعه. بعد قرابة خمسين خطوة، فتح باب زنزانة سبقني إلى داخلها وهو يمسك بيدي ويجرني وراءه. رفع الغطاء عن عيني وقال لي هامسا: سأعود بعد ساعة لإعادتك إلى غرفتك (يسمون الزنزانة المنفردة في السجون السورية غرفة) أشار بأصبعه إلى زاوية فارغة وقال لي: اجلس هناك واحك حكاية لهذا الطفل. كان في المكان الضيق (مترين بمترين) سيدة في نحو الثلاثين من العمر. خرج الحارس وأغلق الباب وراءه وهو يأمرني أن لا أتحدث بصوت مرتفع كي لا يسمعني أحد من زملائه فتقع الكارثة ونذهب معا إلى تدمر. ألقيت التحية على السيدة، فلم ترد. كانت خائفة ومتكورة على نفسها كمن يتقي خطرا داهما. قلت لها مطمئنا: لا تخافي يا أختي فأنا سجين مثلك. بعد صمت قصير سألتها: كم مضى عليها من الوقت هنا؟ فقالت ستة أعوام. نظرت إلى الطفل، الذي كان في الرابعة ففهمت أنها حملت به وولدته في السجن. سألتها عن سبب وجودها في الفرع، فقالت وقد بدأت حبات الدموع تنساب من عينها: رهينة.

جلست أمام الطفل، سألته عن اسمه، فلم يرد. قالت: إنها لم تطلق عليه اسما بعد؛ لأنه لم يسجل في أي قيد، لكنها تسميه أنيس. قلت وأنا أمسك يده الصغيرة: سأحكي لك الآن حكاية يا أنيس. كان هناك عصفور صغير كثير الألوان حسن الغناء، فسأل: شو العصفور؟ صمت قليلا، ثم قررت تغيير القصة وقلت: كانت الشمس تشرق على الجبل، فبدت على وجهه علامات الاستغراب وعدم الفهم. قالت الأم: لم يخرج أبدا من هذه الزنزانة، فهو لا يعرف عن أي شيء تتحدث، وانفجرت بنحيب لم تعد تستطيع السيطرة عليه. جلست حائرا لا أدري ما علي فعله: رواية حكاية للطفل هي استحالة لا سبيل إلى تحقيقها، أم مواساة أم منتهكة الكرامة تضيع عمرها في هذا المكان الخانق، بصحبة طفل لا تدري من أبوه، ستخرج معه ذات يوم تجهل متى يأتي إلى عالم لن يرحمهما!

تسمرت في الزاوية البعيدة عنها. لم يعد لساني قادرا على قول أي كلمة، فقبعت هناك متكورا على نفسي. بعد قليل جاء الحارس لإعادتي إلى زنزانتي، عندما فتح بابها واطمأن إلى أن أحدا من زملائه لم يشاهدنا، سألني إن كنت حكيت حكاية للطفل. عندما رأى الدموع على خدي، أغلق الباب وراءه وانصرف.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى