صفحات مميزة

قصف دوما بالاسلحة الكيماوية، والضربة الثلاثية الغربية التي جاءت كرد فعل لذلك -مقالات مختارة-

انتظار سوري مديد/ عمر قدور

ليس المقصود انتظار السوريين الضربة الثلاثية التي حدثت قبل أيام، لكن مع ذلك يمكن اعتبار ذلك الانتظار كناية عن انتظار آخر متصل به. حدوث الضربة، في الحدود التي حصلت ضمنها، كان أمراً متوقعاً لأن الرسالة أصلاً لا تهدف إلى تغيير المعطيات الأساسية على الأرض، بخلاف انتظار السوريين لما ستثمر عنه تلك المعطيات. بعبارة أخرى؛ نحن إزاء قوى دولية وإقليمية تمسك بالملف السوري، وتقسيم مناطق النفوذ يشوبه عدم استقرار، مثلما قسم من التحالفات والعداوات الموجودة الآن لا يبدو راسخاً بما يكفي للبناء عليه.

مثلاً في التعقيب على الضربة كان هناك اختلاف بين ما أعلنته أنقرة والموقفين الروسي والإيراني، وقبيل الضربة ظهرت تباينات بين الموقفين الفرنسي والأمريكي، فضلاً عن إحجام ألمانيا عن دعمها. الحديث عن الانسحاب الأمريكي من سوريا يبدو أنه سيبقى متأرجحاً بين رغبة ترامب في الانسحاب ورغبة صقور إدارته في البقاء، مع تلميح البيت الأبيض إلى إمكانية البقاء في حال قرر الحلفاء المشاركة بقواتهم وأموالهم. أيضاً الحديث عن رغبة غربية في فك الارتباط بين موسكو وطهران يبرز إلى العلن ليتراجع بعدها، والضغط الإسرائيلي أو الخليجي في هذا الاتجاه لن يكون مثمراً من دون إسناد أمريكي قوي، مع الاحتفاظ بقدرة إسرائيل على إشعال الحرب عندما يناسبها ذلك.

إننا نتحدث عن لاعبين خارجيين فحسب، بينما لا يملك السوريون سوى انتظار ما ستسفر عنه التجاذبات التي ليسوا سوى أداة لها. قد توحي الصورة بأن تنظيم الأسد في منجى من التهميش التام، وهو كذلك قياساً إلى المعارضة، إلا أنه في ما يخص القرارات الكبرى “بما فيها القرار المتعلق بمصيره” لا يملك سلطة فعلية يتشارك فيها مع حُماته. في كل الأحوال هذا لا ينطبق على موالي الأسد الذين يدركون أنه باقٍ بموجب الحماية الدولية، ولا يملكون يقيناً حول مدة الحماية هذه، بل من المرجّح أن يدرك قسم كبير منهم أنه سيكون موضوع صفقة دولية وإقليمية في وقت ما من دون أن يمتلك قدرة على مقاومتها.

يتوقع الزميل ساطع نور الدين أن تمضي “سوريا نحو النمط الكوري الشمالي” بإشراف روسي-إيراني، وأن الثورة الثانية محكومة في انتظار ذلك. وتستحق فكرة الانتظار وقفة مستقلة لأن ما يفعله السوريون لا يتعدى الانتظار المرافق للعطالة، على الأقل منذ بدء التدخل العسكري الروسي الذي قوبل برضا غربي. وجود هيئات معارضة لا يعني شيئاً يُذكر في هذا الميزان، بما فيها هيئة التفاوض التي شُكّلت بإرادة دولية ناجمة عن تفاهمات فيينا، والمسألة لم تعد في إطار وجود معارضة تخضع لضغوط دولية أو إقليمية، أو حتى وجود معارضة مُستلبة تماماً إزاء الدول الراعية لها. إننا إزاء معارضة لا تفعل شيئاً على الإطلاق، ولا يُؤخذ رأيها من أية قوة تتدخل في الشأن السوري، وأقسى من ذلك أنها ميؤوس منها تماماً في نظر الغالبية الساحقة من مؤيّدي الثورة.

من دون أن نأخذ بالحسبان حالة الانتظار سيصعب فهم وجود هذه المعارضة، وعدم وجود تحرك للانقلاب عليها، فالمسألة لا تتوقف فقط عند التسليم بخروج الملف السوري من أيدي أصحابه الأصليين. هما بالأحرى وجهان لمعضلة واحدة، لكن شدّة إمساك الملف السوري خارجياً، وعدم وصول هذا الإمساك إلى مقاصده النهائية، يمنعان تفكيراً سورياً في المبادرة ما دامت هذه المبادرة ستصطدم بعدم وضوح اللاعبين الخارجيين. على سبيل المثال؛ سوريا اليوم ليست تحت الاحتلال الروسي-الإيراني-الأسدي فحسب، ولا يخضع ما تبقى منها للاحتلالين الأمريكي والتركي فحسب، هذه القوى الخارجية جميعاً ليست متفقة على صيغة لبقائها، وغير متفقة أيضاً على صيغة لرحيلها أو على صيغة لتقاسم النفوذ في ما بينها.

حتى ما يشاع عن إعادة تدوير الأسد يبقى في حيز التوقعات العامة، فهذه العملية ضمن إشراف روسي-إيراني تعني تطبيق نموذج شبيه بالنموذج الكوري الشمالي، من حيث عزلة الأخيرة لا من حيث بطشه ووحشيته اللذين لا يحتاج تنظيم الأسد لمعلّم فيهما، ومن المستبعد قبول دول الخليج بدعم مخطط تشارك إيران في إدارته. أما إعادة التدوير بمشاركة الغرب فتعني اقتراباً من المعايير المقبولة غربياً، ولو على صعيد بعض المظاهر أو مشاركة شكلية لبعض “المعارضة” في السلطة، هذا ما يُرجّح أن يكون أيضاً في حال المشاركة التركية في تسوية من هذا القبيل، لأن أنقرة ستحاول ضمان حصة للمعارضة المقرّبة منها بحيث لا تخرج الأولى وكأنها فعلت كل شيء خدمةً لبقاء تنظيم الأسد على ما هو عليه.

الفارق بين الحالتين السابقتين أن إعادة تدوير الأسد روسياً وإيرانياً فقط ستُبقي على جبهة خصومه كما هي، بينما سيتكفل المستقبل بفرز سوريين إضافيين كانوا موعودين بهذا النصر، وسيكتشفون أنهم دفعوا ثمنهم من دون أن تكون لهم حصة في ثماره، أو بالأحرى سيكتشفون أن ثماره ستُقبض من حسابهم أيضاً؛ هذا لا يعني تلقائياً نشوء جبهة جديدة من الخصوم تضم السابقين واللاحقين. أما في الحالة الثانية فمن المرجح أن تتخلخل الجبهة الحالية لخصوم الأسد، إذ سينضم قسم منها لتسوية برعاية غربية أو برعاية تركية، وفي حالة الرعاية التركية قد يعني ذلك استئنافاً لوساطة أنقرة القديمة بين بشار الأسد والإخوان المسلمين وبعض التنظيمات الإسلامية الذي نشأ بعد الثورة.

قد تكون القضية السورية معرّضة لوجه شبه بنظيرتها الفلسطينية، من حيث وجود كتلة ضخمة جداً في الخارج من ضحايا التهجير والتغيير الديموغرافي، إلا أن التشبّه بتجربة منظمة التحرير الفلسطينية “مع حفظ فوارق عديدة من بينها التوقيت” يقتضي علاقة وثيقة بالداخل السوري، تحديداً بالمتضررين من الوضع المستجد. انتهاء سوريا التي نعرفها يستوجب استكشاف سوريا الجديدة، مع أنها لم تتشكل بعد، ولم تأخذ طريقها إلى الاستقرار الاعتيادي القسمةُ بين المنتصرين حقاً والمهزومين ضمن موالاة الأسد نفسه. ولئن كانت هذه العوامل تتقصى دوافع العطالة الحالية فهي بطبيعة الحال ليست تبريراً للعطالة، إذ يمكن دائماً، بل تقتضي السياسة دائماً، عدم انتظار المستقبل وإنما وضع تصورات استباقية ومحاولة التأثير فيها. هذا ما يبدو مستحيلاً الآن، على الأقل مع وجود هيئات المعارضة الحالية.

المدن

 

 

 

 

العبث الغربي في سورية/ برهان غليون

لم تنقذ الضربة التي قام بها تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا السياسة الغربية في سورية، ولم تخرجها من الطريق المسدود والفشل المستمر منذ سبع سنوات. وما ضاعف من تهافت الرد الغربي على كيميائي الأسد وروسيا إصرار ممثلي هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، على تأكيد أن الضربة المشتركة لا تهدف إلى التدخل في “الحرب الأهلية” السورية، ولا إلى تغيير النظام، ولا حتى إلى معاقبة الأسد الذي استخدم السلاح المحرّم، وإنما تقتصر على “إنزال العقاب” بالمؤسسات والمواقع والبنى المرتبطة بإنتاج الأسلحة الكيميائية واستخدامها. أي باختصار، ما أريد لها أن تكون ضربة تقنية ترد على استخدام وسيلة حربٍ محرّمةٍ، لا على مضمون هذه الحرب ومجرياتها.

لكن تجدّد الحديث، في اليوم التالي مباشرة، عن مبادرةٍ فرنسيةٍ لإيجاد حل سياسي، والإعلان عن الإعداد لمشروع قرار جديد في مجلس الأمن يؤكد على ضرورة وقف الأعمال القتالية والدخول في مفاوضات جدية من دون شروط، والدعوة إلى تسليم المقاتلين من المعارضة أسلحتهم، يشير إلى أنها لم تكن بريئة سياسياً، كما أراد أن يصورها الفاعلون. كانت بالأحرى رسالةً موجهة بشكل واضح للروس الذين يقودون اللعبة في سورية، ويملكون زمام المبادرة فيها، أن الحرب لا يمكن أن تنتهي كما تريدها موسكو وحلفاؤها، بفرض الأمر الواقع بالقوة، وإنهاء أي مفاوضاتٍ سياسية جدية، كما لا يمكن لاحتلال المناطق وتفريغها من سكانها، كما حصل في الغوطة الشرقية أن يكون نهاية المطاف. هي ضربةٌ على الطاولة، تعبّر عن رفض الثلاثي الغربي طبيعة الحل الذي يريد أن يفرضه ثلاثي أستانة، ويكرّس فيه تقاسم الاحتلال الروسي الإيراني السيطرة على البلاد، من وراء الواجهة الواهية لنظام الأسد الذي لم يعد موجوداً أصلاً من دون دعم الروس والإيرانيين. العودة إلى المفاوضات التي عمل التحالف الروسي الإيراني الأسدي المستحيل لتقويضها، وفرض الحل العسكري هو كلمة السر الوحيدة لهذه الضربة الرمزية، ومن ورائها رفض الحل الأحادي أو الانفراد الروسي بالحل، خصوصاً إذا كان يعني الشراكة مع النظام الإيراني.

لكن، ليس مؤكداً أن تقنع هذه الضربة الاستعراضية الروس والإيرانيين، وتابعهم الأسد، بالكف عن المناورة للانفراد بحل المسألة السورية لصالحهم، أي بإخراج كل الأطراف الأخرى الدولية، وقبل ذلك، الشعب السوري نفسه، من المعادلة. وإذا لم يكن الطابع الرمزي للضربة جزءاً من تفاهم مشترك روسي غربي على إيجاد مخرج من الحرب، يمكن لها، بالعكس، أن تزيد من مخاطر تقويض صدقية هذه الدول، وتثبيت عجزها عن مواجهة تحدّي مجموعة أستانة لها، وفشلها في إحداث أي تغيير أو تأثير في مجرى الحرب الدائرة منذ سبع سنوات.

لا يوجد في نظري أي سبب كي يتخلى الروس والإيرانيون بمحض إرادتهم عن الأسد، أي أن يقدموه من دون مقابل للغرب الذي وضعه في السلطة ورعاه، قبل أن يتمرّد على أسياد أمره، ويستنجد بطهران، ثم يسقط بين أيدي موسكو، بسبب أخطائه السياسية، ورفضه أي إصلاح، ويتشبث بالسياسة الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة السورية، والأزمة الدولية التي نجمت عنها. فالأسد يشكل، في وضعه الراهن، “رئيساً” لسورية، معترفاً به في الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه، دمية فاقدة للسيادة والمقدرة والأهلية، يحرّكها حُماتها من الخارج، وغير قادرة على حماية نفسها، أفضل ستارة يمكن للروس والإيرانيين العمل من ورائها لتحقيق مآربهم، من دون تحمل أي مسؤولية عن الجرائم الكبرى التي تجري، بمساعيهم الشريرة وتحت أنظارهم في سورية المنكوبة، فهو ورقة التوت التي تغطي على عورة سياستهم وأهدافها الاحتلالية غير المشروعة، ومخلب القط الذي يستخدمونه فزاعةً لرفع تكلفة التنافس على سورية. وبينما يعزّز وجود الأسد وإصراره على البقاء في الحكم موقف الروس والإيرانيين الذين يتحكّمون بتقرير مصير سورية وشعبها، اليوم، ويزيد بالتالي من رصيدهم الاستراتيجي، يشكل استمراره، وما يرافقه من مجازر دموية، واستهتار متعمد بقرارات مجلس الأمن، ورفض للمفاوضات أو التسويات الداخلية، تحدياً كبيراً للعواصم الغربية، ودليلاً على فشلها الدائم، وعجزها عن التأثير في الأحداث، وتقويضاً لمركزها السياسي القيادي في المنظومة الدولية.

لا يحتاج الأسد إلى أرضية أخلاقية أو سياسية لتطبيق مشروع الإبادة الجماعية، وقتل الشعب وتشريده وتدمير بلاده للإبقاء عليها مزرعة شخصية عبودية، فمشروعه قائم أصلاً على انعدام الضمير وإعدام السياسة وتجفيف ينابيعها. كما لا يحتاج بوتين وخامنئي إلى أي أخلاقيةٍ إنسانيةٍ أو قانونيةٍ لاستخدام سورية ورقة ضغطٍ ومسرح استعراض للقوة في مواجهة الدول الخصم المنافسة. فمثل هذا المشروع لا يتحقق أصلاً إلا بشرعنة الاحتلال، ومصادرة حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وتجريده من حقوقه وسيادته على وطنه، وفرض نظام دميةٍ عليه يخدم الاحتلال، ويبرّر أعماله.

لكن الغرب الذي يدّعي رفض مشروع الاحتلال هذا، ويدافع عن حكم القانون وميثاق الأمم المتحدة، كما يدّعي التمسك بالمسؤولية عن فرض احترامهما وردع منتهكيهما، وفي مقدمهم بشار الأسد الذي لا يكفّ الروس عن التأكيد، على حق، بأنه كان رجل واشنطن والغرب، قبل أن يكون رجلهم، يحتاج إلى حد أدنى من مطابقة الأقوال مع الأفعال، لنيل الصدقية والمحافظة على الاعتبار والاحترام. فلا ينتظر أحد من طهران المتمرّدة على النظام والتقاليد والأعراف الدولية، ولا من موسكو التي لا تخفي الطابع الانتقامي لسياستها الغربية، لكن الوضع يختلف مع الدول الغربية التي بنت هيمنتها العالمية على التأكيد على مبادئ الحق والقانون، وأعلنت تأييدها التحولات الديمقراطية وحرية الشعوب، في الوقت الذي تنظر فيه مكتوفة اليدين إلى مأساة السوريين المستمرة، في أكثر صورها بشاعةً وشناعة، منذ سبع سنوات متواصلة، مع الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية وتجويع المدنيين وحصارهم، وقصف المشافي والمرافق العامة، وتفجير المدن وتهديمها على رؤوس ساكنيها، لإجبارهم على إخلائها، وتحطيم حاضنة الثورة الاجتماعية.

ليس لدى الأسد أي حافز يحثه على أن يتراجع عن خياراته الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة والأزمة الدولية التي نجمت عنها، فهو يعرف أنه انتهى، ولم يعد قادراً على البقاء إذا ما اختار العودة إلى الحالة الطبيعية، وأن استمرار الحرب، الداخلية والإقليمية والدولية، هي فرصته الوحيدة لكسب الوقت، وتجنّب الموت الحتمي السياسي أو المادي معاً.

وليس لدى الإيرانيين أيضاً، وهم يسعون إلى مشروعٍ لا يقل جنونيةً عن مشروع الأسد في البقاء في الحكم إلى “الأبد”، وهو تحويل سورية إلى منصةٍ خاصة لبسط هيمنتهم الإقليمية، أي مصلحة في وقف الحرب، أو العمل على تسويةٍ سورية داخلية، أو حتى الحد من الاستخدام المتكرّر للأسلحة المحرّمة دولياً، وفي مقدمها الأسلحة الكيميائية التي ليس لها مثيل في ترويع المدنيين، ودفعهم إلى النزوح عن أراضيهم ومدنهم، وتفريغ المناطق من سكانها وإعادة هندستها الديمغرافية والسياسية، ففي هذه العملية وحدها تكمن فرصة طهران لتثبيت وجودها المادي في بلدٍ يبعد عنها آلاف الأميال، ولا تملك فيه أي مرتكز ثابت للنفوذ والقوة.

أما الروس، فليس لديهم أفضل من الأسد الفاقد للسلطة والشرعية، والمحكوم بالإعدام السياسي مع وقف التنفيذ، ممسحةً للجرائم التي يرتكبونها ضد الإنسانية، وشبحاً يواجهون من ورائه الدول الغربية التي لا يستطيعون مواجهتها مباشرة، وليس من مصلحتهم الدخول في مواجهةٍ شاملة معها.

لن تنتهي هذه المأساة الدموية، ما لم يُزح الستار عن مسرح هذه اللعبة الجريمة. وليس الستار هنا سوى الأسد الذي يتخفّى وراء شبحه اللاعبون الحقيقيون، ويستخدمون وجهه الشاحب، قناعاً يخفون تحته أهدافهم ورهاناتهم الحقيقية، أي ما لم تنكشف حقيقة اللعبة، وتُعرَّى الأدوار التي تقوم بها جميع الأطراف. من دون ذلك، سوف يحتاج الغرب ضربات مستمرة كثيرة، وربما فقدان ما تبقى له من صدقيةٍ استراتيجية، قبل أن ينجح في وضع حد لهذه اللعبة الدموية التي هو الشريك الرئيسي فيها.

السؤال: هل يريد الغرب بالفعل وضع حد للعبة الموت الدموية هذه؟ من المحتمل أن لا يكون لدى الغرب اليوم سياسة بديلة لسياسة مهاوشة موسكو ومناكفتها، لنقل مركز اهتمامها من أوروبا إلى الشرق، واستنفاد طاقتها التوسعية هناك، فالبديل الوحيد عن سياسة إشعال الحروب والنزاعات وإدارتها هو إزالة أسبابها، وتغيير الشروط التي تولدها، ما يقتضي التعاون على صياغة جدول أعمال مختلف للسياسة الدولية، يتصدى، قبل أي شيء آخر، لمعالجة مشكلات الفقر والمرض والتخلف والتهميش الجماعي وتدهور البيئة وتنامي الجريمة وتدهور شروط الحياة السياسية والقانونية على امتداد المعمورة، وفي إثرها انحسار الثقة وفقدان الأمل واليأس من العالم والشك بالمستقبل.

من الواضح أن هذا ليس جدول أعمال الرئيس ترامب. وهو ليس، بالتأكيد، جدول أعمال بوتين أو خامنئي. وإذا استمرت الأمور في العالم على هذا المنوال، يخشى أن لا يتأخر الوقت كثيراً قبل أن يصبح كيم جونغ أون، رئيس كوريا الشمالية الذي يعيش في جزيرة منعزلة من صنعه، ولا يهمه مستقبل أحد، ولا مصير المجموع، أي المعمورة بأكملها، هو النموذج السائد والمحتذى في معظم أصقاع العالم.

العربي الجديد

 

 

 

صواريخ “إنسانية” بلا هدف/ راتب شعبو

استهدف، فجر الرابع عشر من إبريل/نيسان الحالي، هجومٌ صاروخي (أكثر من مائة صاروخ)، المواقع التابعة للنظام السوري التي استخدمت أو يمكن أن تستخدم في إعداد هجمات كيميائية وتنفيذها، رداً على هجوم كيميائي نفذه نظام الأسد في الغوطة الشرقية قبل أسبوع من ذلك.

بديهي أن لا علاقة لحسابات الدول الثلاث، صاحبة الضربات الصاروخية (أميركا وفرنسا وبريطانيا) “ضد” نظام الأسد، بحسابات السوريين الذين رحبوا بها، أو الذين ندّدوا بها. من الواضح أنها إجراء له حساباته الغربية المستقرة على دور روسي حاسم في سورية، وهو إجراء لا يخرج عن الخط العريض الثابت للصراع السوري، وفق المنظور الغربي منذ ظهور التنظيمات الإسلامية الجهادية فيه، خط يقوم على منع وصول بديل إسلامي، بوصفه الاحتمال الأوفر حظاً في حال سقوط النظام عسكرياً، مع عدم الرغبة في تبلور بديل وطني وديموقراطي. هذا النهج الذي اعتمده الغرب طوال فترة الصراع يجعل الغرب في موقع التابع للخطة الروسية فعلياً، ويجعل من سورية عراقاً ثانياً، أي بلداً مثقلاً بنظام سياسي مهترئ الشرعية وتابع، ويقوم على إرهاب الداخل، وعلى فساد نخبته، وعاجز عن حماية سيادته الوطنية.

منذ البداية، لم يكن هناك ما يشير إلى أن أميركا تريد تغييراً جذرياً لحدود الصراع السوري

المذكور وآلياته. معروفٌ أن الرئيس الأميركي اقترح قبل “كيميائي دوما” بقليل أن يسحب قواته من سورية “في أقرب وقت”. وسيكون من السذاجة الافتراض أن الاستراتيجية الأميركية سوف تنقلب بهذا الشكل البهلواني بين الاستعداد للانسحاب وتغيير قواعد الصراع وقلبها جذرياً. وقد عاد الأميركان إلى تأكيد قرارهم بالانسحاب السريع من سورية بعد الضربة، وبعد ساعات قليلة من تأكيد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في مقابلة مطولة له، مساء 15 إبريل/نيسان الحالي، بمناسبة مرور عام على ولايته، على أنه أقنعهم بالبقاء الطويل الأمد في سورية.

من نافل القول أيضاً إنه لم تكن الدول الثلاث المهاجمة مدفوعة بالحرص على من قتلهم الغاز في دوما أو في خان شيخون أو في غيرهما من قبل، لأن القتل غير الكيميائي يجري ليل نهار أمام عيون هذه القوى، ويطاول أيضاً نساء وأطفالاً ومدنيين باتت المراصد ووسائل الإعلام تمل من إحصائهم.

على الرغم من إصرار معارضين سوريين، في فترة التحضير الغربي للعمل العسكري ضد نظام الأسد، على رفض تسمية هذا العمل “ضربة” لصالح تسميته “عملية”، نوعا من التميمة اللفظية التي تقي مما لا يُراد حدوثه، وهو أن تكون ضربةً عابرة. كانت الضربة عابرةً، وأكد أصحاب الضربة لفظياً ما قالته “الضربة” عملياً. قال الرئيس الفرنسي “لم نعلن الحرب على بشار الأسد”. وفي اليوم التالي، أكد رئيس وزرائه بصورة أوضح: “لا نية لنا في إسقاط الأسد”. وقالت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، “إنها ليست عملية لتغيير النظام”. وأكدت الولايات المتحدة أنها عملية محدودة، وسماها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، “ضربة” ممتازة وحققت هدفها. هذا ما حدا بنظام الأسد للاحتفال بعد الضربة، ولسان حاله يقول: “لا يهم الخسائر المادية أو البشرية، المهم أن أبقى”.

وصفت الصحف الأميركية الضربة بأنها “وخزة دبوس”. ولكن، هل يتعلق الموضوع بحجم الضربة ومداها؟ الضربة العسكرية التي تأتي معزولة عن استراتيجية أو خطة محدّدة، وفيها قدر كاف من العدالة لإنقاذ سورية والسوريين من هذه المأساة، هي في الحقيقة بلا أي معنى سوري، إنها مصدر جديد للدمار لا أكثر. ويُشك، إلى حد بعيد، في قدرتها على ردع “الكيماويين”. وهي على هذا ليست في صالح سورية وشعبها. إنها مجرّد تفاخر “إنساني” فارغ على حساب الدم السوري. “إن ليلة من القصف ليست بديلاً عن استراتيجية واضحة وشاملة تجاه سورية”، قالت، محقة، زعيمة الديموقراطيين في مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي. سوى ذلك فإنها تبقى عملية معزولة عن أي سياق سياسي، يعطيها معنى وقيمة في خلاص سورية.

تحرّك الثلاثي من خارج مجلس الأمن، ومن دون انتظار معلومات مؤكدة حيال الهجوم الكيميائي، ففي حين أكد ماكرون أن لدى فرنسا تأكيدات على استخدام النظام للسلاح الكيميائي في دوما، قال وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، إنه لا يملك معلومات مؤكدة (حتى بعد تنفيذ الضربة، لا تزال الصحف الأميركية تتكلم عن الشك في هجوم كيميائي). ليس غرض

هذه السطور أن تشك في مسؤولية النظام أو في استخدامه السلاح الكيميائي، فهو نظام كيميائي ومجرم حتى لو ثبتت براءته في هذه الحادثة، ولن تثبت. لكن الغرض هو القول إن التحرك الثلاثي الذي جرى من خارج مجلس الأمن، وبدون أدلة كافية، يدل بوضوح على أن الـ 12 “فيتو” التي اتخذتها روسيا فيما يخص الصراع في سورية كانت مرغوبة من أميركا، كما أشار مرة، محقاً، وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف. على هذا، كان الفيتو الروسي المتكرّر ستاراً “شرعياً” لتقاعس أميركا حيال واجبها “الإنساني” (كما يقولون) في حماية الشعب السوري الذي يتعرّض لقتل يومي، ويموت عشرات الآلاف منه في سجون النظام، وفي سجون الجماعات الإسلامية، ويعاني الحصار وقصف المرافق الحيوية في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد.. إلخ.

لا تأتي فاعلية المجهود العسكري الروسي، قياساً على نظيره الغربي، فقط من كثافة وجوده على الأرض السورية، بل لأنه يأتي ضمن إطار استراتيجية روسية واضحة، تقوم على دعم صريح لنظام الأسد، لنصرته عسكرياً ثم إعادة تأهيله سياسياً. غياب الخطة لدى الأوروبيين والأميركيين حيال الصراع السوري، ووقوفهم في منطقةٍ عديمة الفاعلية ومتردّدة سياسياً، يجعل من وجودهم العسكري، مهما عظم، قليل الأثر، قياساً بالوجود الروسي. بكلام آخر، التفوق الروسي في سورية سياسي، قبل أن يكون عسكرياً.

إصرار الرئيس الأميركي على الانسحاب من سورية نتيجة منطقية لغياب الخطة الأميركية في سورية، الغياب الذي كشفته تغريدة “ارتزاقية” له، حين قال إنه جاهز لتمديد الوجود الأميركي في سورية إذا دفعت السعودية التكاليف، أي إن هذا الوجود العسكري ليس ضمن أي خطة أميركية محددة، خارج القضاء على “داعش”.

الخلاصة، بالقراءة السورية، لا قيمة سياسية أو عسكرية مهمة للضربة الصاروخية الغربية المذكورة. أما في الغرب فيمكن أن تقرأ بوصفها انتصاراً للقيم الإنسانية، وهي في هذا قراءة انعزالية لفعلٍ منافق.

العربي الجديد

 

 

 

الابتهاج بـ”العدوان الثلاثي” على سورية الأسد/ بكر صدقي

يبدو أن الجميع قد ابتهجوا بالضربة الصاروخية الأميركية – الفرنسية – البريطانية على بعض مواقع النظام الكيماوي، باستثناء فلاديمير بوتين وبعض التيارات الهامشية يساراً ويميناً متطرفين عبر العالم. فقد كانت الضربة “إهانة لبوتين” على ما قالت الناطقة باسم الخارجية الروسية زاخاروفا (لا نعرف، حالياً، أي مصير ينتظرها بعد هذه السقطة الفظيعة، فبوتين لا ينسى ولا يسامح).

السوريون المعارضون للنظام الكيماوي أصيبوا، بالأحرى، بخيبة أمل من محدودية الضربة وأهدافها التي لا علاقة لها، من قريب أو بعيد،

بمأساتهم المديدة، ونتائجها الهزيلة بالمعنى العسكري. فالمواقع التي تم استهدافها سبق للنظام أن أفرغها من كل ما له قيمة عسكرية، فاقتصرت الأضرار على المباني. ومن حيث الأهداف المعلنة، أرادت الدول الثلاث المدعومة بتأييد معظم الدول الغربية، بما في ذلك حتى تركيا، أن توجه رسالة قوية لروسيا بشأن السلاح الكيماوي حصراً الذي لا يسمح بتحويله إلى سلاح عادي كما يريد فلاديمير بوتين.

وبصرف النظر عن “هزالة” الضربة، بالقياس إلى التوقعات السابقة على وقوعها، فقد حققت الدول الثلاث نجاحاً سياسياً يفوق بكثير معناها العسكري. فقد جردت سلاح الفيتو الروسي من فعاليته، إضافة إلى كشف عجز روسيا عن حماية نظام الأسد الكيماوي حين يجد الجد. وبذلك أظهرت أيضاً هشاشة الإمساك الروسي بمصير سوريا، وقدرة التحالف الغربي على تخريب كل ما عمله الروس منذ سقوط حلب في أواخر العام 2016، في مسارات أستانا وسوتشي.

بكلمات أخرى: صحيح أن الدول الثلاث ليست لديها أي خطط خاصة بها بشأن سوريا، وهي مسلمة لروسيا بتقرير مصيرها، لكنها غير راضية عن كيفية التصرف الروسي بهذا التفويض المفتوح، وبخاصة فيما يتعلق بإباحة استخدام السلاح الكيماوي.

أما الابتهاج الكبير فقد أظهره النظام الكيماوي نفسه، حين اكتشف محدودية الضربة والخسائر الطفيفة الناتجة عنها. هي ردة فعل شبيهة بذلك التلميذ الذي كان يتلقى الضرب على يديه بالمسطرة من معلم الصف، ثم يعود إلى مقعده ضاحكاً وهو يخبر زملاءه عن أن “الضرب لم يوجعه”! هذا نوع من إعلان انتصار على المعلم الشرير، شبيه بمسيرات النصر وحلقات الدبكة التي أقامها مؤيدو النظام الكيماوي صبيحة “العدوان الثلاثي الغاشم” الذي جرح بنتيجته ثلاثة أشخاص فقط!

ثلاث دول وأكثر من مئة صاروخ كروز، وخرق للمواثيق الدولية، بفاتورة لم تتجاوز ثلاثة جرحى، مقابل ستين قتيلاً ومئات المصابين في دوما بنتيجة هجوم كيميائي واحد قام به النظام قبل أسبوع! أليس هذا انتصاراً مجلجلاً على “العدوان الثلاثي الغاشم” يستحق الابتهاج والرقص في شوارع المدن السورية، وبشار الكيماوي يذهب إلى “عمله” صباحاً كأن شيئاً لم يكن، على ما نشرت وسائل إعلام النظام لتدعيم الانطباع بأن كل شيء طبيعي، و”الرئيس” نام ليلته ملء جفنيه، وربما لم يسمع بالضربة الثلاثية إلا بعد وصوله الروتيني إلى مكتبه.

في حين أن الحقيقة مناقضة لكل هذه الهمروجة الانتصارية. فقد أكل النظام ومؤيدوه نصيبهم من الرعب، طوال الأسبوع الفاصل بين مجزرة الكيماوي في دوما و”العدوان الثلاثي”. لقد تذوق النظام ومؤيدوه، خلال هذا الأسبوع، ذلك الرعب الذي طالما أذاقه للسوريين، طوال السنوات السابقة، وهم ينتظرون قصفاً جوياً هنا وبالصواريخ هناك وبالغازات السامة هنالك، كما في المعتقلات بانتظار جولة تعذيب جديدة أو الإعدام. إن انتهاء أسبوع الرعب هو ما قد يفسر البهجة الحقيقية لدى أنصار النظام الذين “ولدوا من جديد” بعد انقضاء الأمر، وفوق ذلك بثمن زهيد.

روسيا بوتين هي الطرف الوحيد المتضرر والغاضب حقاً، وبوتين مهان شخصياً على ما قالت الناطقة باسم خارجيته. بعض المحللين يحاول التخفيف من هذا الوضع بالقول إن الضربات تجنبت أي موقع روسي في سوريا. في حين أن هذا مدعاة لمزيد من المهانة بحق بوتين،

لأن الدول الثلاث لم تعلن قط أنها بصدد توجيه ضربات للوجود العسكري الروسي في سوريا، بل المرجح أنها أخبرت الروس بالمواقع المستهدفة للنظام، ويكفي إذلالاً لروسيا أنها ضربت بالفيتو الروسي في مجلس الأمن عرض الحائط، كما ضربت بكل تحذيرات روسيا، ونفذت تهديداتها غير آبهة بالوجود الروسي كله في سوريا.

وزاد الروسي نفسه من إهانة نفسه حين دعا إلى جلسة جديدة لمجلس الأمن بمشروع قرار لـ “إدانة الضربة العسكرية”. فهذا ما يفعله العاجزون.

يمكن القول، الآن، إن السلاح الكيماوي لن يستخدم في سوريا، ولا في أي مكان آخر، بعد الضربة الثلاثية. قد لا يعني هذا الشيء الكثير بالنسبة للسوريين الذين سيستمر النظام في إبادتهم بكل الأسلحة غير الكيميائية. لكنه يضع حداً للعربدة الروسية، في موضوع تطبيع استخدام هذا السلاح على الأقل.

أما كيف يمكن للضربة الثلاثية أن تنعكس على المسارات السياسية بشأن مصير سوريا، فهذا ما سنراه في الفترة المقبلة، وهو يتوقف على مجموعة معقدة من العوامل، بعضها معلوم وبعضها الآخر لا يمكن التنبؤ به.

تلفزيون سوريا

 

 

الضربة الثلاثية/ سلامة كيلة

حدثت الضربة العسكرية الأميركية البريطانية الفرنسية ضد مواقع  للنظام في سورية تتعلق بالأسلحة الكيميائية، سواء بالبحوث أو التصنيع أو التخزين، أو المطارات التي خرجت منها الطائرات التي ألقت صواريخها المحملة بالأسلحة الكيميائية، فقد أصرَّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولحقته رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، وكذلك لحقه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على “معاقبة” النظام لاستخدامه الأسلحة الكيميائية. انتهت الضربة، واُعلن أنها استهدفت السلاح الكيميائي، حيث إن هذه الدول لا تريد تغيير النظام، ولا التدخل في “الحرب الأهلية”، وحتى لا تريد إضعاف النظام عبر تدمير ما تبقى من قدراته العسكرية (سلاح الطيران).

شهدنا في دمشق الرقص والفرح، وإعلان الانتصار، على الرغم من أن المواقع التي ضُربت بدت مدمرة. وكان النظام، كذلك روسيا، قد أعلنا عن إسقاط عدد من الصواريخ التي أُطلقت، من دون الاتفاق على عددها. بالتالي ظهر أن السلاح الروسي القديم يستطيع إسقاط صواريخ من نوع كروز، ربما هذا يفيد روسيا لتصدير هذا السلاح، ما دامت سورية باتت سوق استعراض للسلاح الروسي، لكن هذا ما قدّمه النظام لمشايعيه لكي يقول إنه انتصر، وأن يسمح لهم بالفرح والرقص. وكما حدث بعد ذلك، حيث أعلن التلفزيون السوري إسقاط ستة صواريخ أُطلقت على مطار الشعيرات، ثم تبين أنه لم تكن هناك صواريخ حسب ما أعلن النظام ذاته. وبالتالي سيكون الإسقاط السابق نتيجة التوهم ذاته، لكن في وضعٍ كانت هناك صواريخ كروز تدك بعض مواقعه.

بغض النظر عن هذه الجزئية، فإن الرقص والفرح وإعلان الانتصار ستكون “أموراً طبيعية”، ليس لأنه قد تم إسقاط صواريخ، فهذه هي ملهاة، أو وسيلةُ تلهٍ للمشايعين، بل لأن النظام وتابعيه فهموا أن هذه الدول التي قامت بـ “العدوان الثلاثي” لا تريد تغيير النظام كما فعلت في العراق، وحتى لا تريد تدمير طائراته التي تقصف بالكيميائي، ولا زالت تقصف الشعب كل يوم. وهذا جيد بالنسبة له ولهم، لأنه يعني أن هذه الدول تُطلق يده في قتل الشعب السوري، وهي بالأساس لا تستهدفه، فلا تريد تغييره عبر القوة التي خاف منها. هذا يستحق الفرح والرقص وإعلان الانتصار، بالضبط لأن النظام باقٍ ومشرَّع له قتل الشعب السوري، ليس فقط من إيران وروسيا وعصاباتهما، بل من هذه الدول التي قامت بـ “العدوان الثلاثي” لكي تُعلن انتصاره على شعبه.

سمحت هذه الدول للنظام بأن ينقل طائراته إلى مناطق آمنة، كما فعلت أميركا حينما قصفت مطار الشعيرات، ولم تتعرّض للمطارات إلا التي يُعتقد أن فيها سلاحا كيميائيا. وهي بذلك أبقت قوة القتل التي يستخدمها، وظهر أنها حريصةٌ على ذلك. ويعني هذا الأمر أنها لا زالت تريد من النظام أن يقتل أكثر، وأن يدمر أكثر. لهذا قال وزير خارجية بريطانيا، بوريس جونسون، إن “الحرب في سورية ستستمر”. بالتالي، كانت الضربة الصاروخية تتعلق بأسباب أخرى، تمثلت في “رفع الإحراج” عن ترامب الذي لا يريد أن يكون مثل سلفه باراك أوباما بإعلانه خطوطا حمرا ثم عدم الالتزام بها. لهذا قصف مطار الشعيرات قبل عام، وكان لا بدّ له أن يقصف الآن بعد استخدام الكيميائي في دوما. كما أنه يريد إظهار أنه المقرّر في سورية وليس روسيا، وهذا في إطار “المكاسرة” بينهما، حيث ترى أميركا أن روسيا “تتنمَّر”.

ما هو مهم هنا أن أميركا بالتحديد حريصةٌ على استمرار النظام، وعلى استمرار قصفه وتدميره وقتله، لأنه يقوم بما كانت تريد أن تقوم به هي، أي أنه ينفذ إرادتها هي. وهذا يعني أن أميركا لم تكن بحاجةٍ، من هذه الزاوية، لقصف النظام، ما دام يفعل ذلك، لكنه أحرجها باستخدامه السلاح الكيميائي. لهذا ضربته من دون أن تضعفه.

بالتالي، كل حديث عن فبركة تتعلق باستخدام السلاح الكيميائي لا معنى له. لقد فعلها النظام.

العربي الجديد

 

 

 

 

حقائق كرستها الضربة العسكرية الغربية للنظام السوري/ أكرم البني

يصح القول بأن الضربة العسكرية التي نفذتها واشنطن بمشاركة باريس ولندن وطالت مواقع للنظام السوري، كرست مجموعة من الحقائق المؤلمة والمفجعة التي وسمت المحنة السورية طيلة سنوات، وذلك بدل أن تحدث تحولاً في مسار الصراع القائم، كما توهم البعض، أو تغيراً في توازنات القوى.

أولاً، تشريع المباح من أسلحة السلطة السورية كي تفتك بشعبها، حيث اقتصرت الضربة، كما صرح أصحابها، على تدمير ما سمي الركائز اللوجستية لإنتاج السلاح الكيماوي وليس أي شيء آخر، ما يعني الاستمرار في إطلاق يد النظام وحلفائه لاستخدام كل ما عدا ذلك من وسائل القتل والتدمير، كالقصف بالصواريخ والقنابل الفراغية والبراميل المتفجرة، ولا ضير حينئذٍ إن طال القصف العشوائي والكثيف مروحة واسعة من المدنيين المحاصرين، وإكراههم على الانتقال إلى الشمال السوري، كما حال أكثر من نصف مليون هجّروا مؤخراً من بيوتهم وأراضيهم في الغوطة الشرقية، حيث تنتظرهم، تحت سمع وبصر الغرب ذاته، مقتلة ومجازر جديدة! والأنكى حين يتذاكى بعض المسؤولين الغربيين ويقرنون شدة الرد بطابع السلاح الكيماوي المستخدم في «مجزرة دوما»، وهل هو غاز السارين أم غاز الكلور؟ وهل الأخير مصنع محلياً بوسائل بدائية ومتخلفة، أم مستورد خصيصاً للأغراض العسكرية؟ وذلك كمحاولة لتمييع الحدث والتهرب من واجبهم الإنساني في ردع هذا الفتك المقزز بالمدنيين العزل.

ثانياً، مكنت هذه الضربة المحدودة وغير الموجعة، نظاماً ضعيفاً ومرتهناً، من تفعيل كفاءته الديماغوجية كي يعلن نجاعته في الصمود والتصدي، وانتصاره على خصومه، وبالأحرى على شعبه! وأظهرت قدرة إعلامه المتمرس بالأضاليل في استثمار ما حصل لتنشيط شعارات التعبئة الوطنية ضد «العدوان الثلاثي الغاشم»، وللطعن بشعارات الحرية والكرامة وبسمعة المعارضة «التي تقف مع الأجنبي ضد بلادها»، كما يتهمها النظام! وأساساً لتحويل الأنظار عن المأساة الداخلية وما خلفه عنف السلطة المفرط من ضحايا وخراب، ما يحررها من المسؤولية ويحمّل مسؤولية ما جرى ويجري للآخر المتواطئ، بما في ذلك إعادة شحن المشهد بالمؤامرة «الكونية» التي تتعرض لها البلاد بسبب موقفها المقاوم والممانع، وبأولوية فضح ومواجهة دول استعمارية لفقت قضية الكيماوي كي تسوّغ مشاركتها المباشرة في الصراع حين استشعرت تحول ميزان القوى لمصلحة النظام وحلفائه!

ثالثاً، وضوح استباحة غير مسبوقة للوطن السوري تستخف بدماء أبنائه ومصيرهم ومستقبلهم، ويمكن النظر من هذه القناة إلى الحضور المتنامي عسكرياً لروسيا والميليشيا الإيرانية، وإلى الاجتياح التركي لمدينة عفرين، ثم تمدد التحالف الغربي في شرق البلاد، وتواتر الغارات الإسرائيلية ضد مواقع إيران و«حزب الله» في الأراضي السورية، وأيضاً إلى ما يصح اعتباره، وبعيداً عن النظرة التآمرية، تناغماً أو تواطؤاً دولياً وإقليمياً للتلاعب بالحرب السورية وإطالة أمدها وليس إخمادها، متوسلاً استمرار نهج خاص لإدارة البيت الأبيض تجاه سوريا، يتقصد السلبية وعدم الاكتراث واعتماد مواقف مبهمة ومتناقضة، لترك ساحة الصراع مفتوحة لتصفية الحسابات ولاستنزاف الآخر وكورقة لتحسين الموقع والنفوذ، والعنوان، النيل من الجماعات الجهادية، كـ«داعش» وتنظيم «القاعدة».

والحال، فإن التصعيد اللفظي الغربي والسقف المرتفع لتصريحات الرئيس الأميركي عشية الضربة العسكرية، لم يخدع إلا قلة أخذتها أوهامها ورغباتها بعيداً في الرهان على دور عسكري خارجي يقلب توازنات القوى في سوريا رأساً على عقب، بينما تدرك الغالبية أن لغة التهديد والوعيد الأميركية لم تكن في أصعب محطات المحنة السورية وأشدها إيلاماً، سوى زوبعة في فنجان، وأنها كانت ترتفع عادة لامتصاص الضغط الأخلاقي الناجم عن صور مروعة لضحايا مجزرة أو سلاح كيماوي سبق واعتبر خطاً أحمر.

لكن ما سبق لا يعني أبداً التقليل من الدور الأميركي والاستهتار به، بل يؤكد، على العكس، أهميته وحيويته، ويشجع على استخلاص نتيجة تقول إنه ما لم تتجاوز واشنطن حالة الإحجام والتردد وتتخذ موقفاً فاعلاً وحاسماً من الحدث السوري بما وصل إليه، فلن يحصل أي تحول نوعي في مسار الصراع واتجاهات تطوره.

رابعاً، عمقت الضربة العسكرية الغربية، على تواضعها، حالة تخندق واصطفاف السوريين، بين من زاد التحامه بنظام الفتك والتنكيل، وبين من أعلن بوضوح تأييده الضربة العسكرية وطالب بأن تكون أكثر شدة وتأثيراً، يحدوه صراع مدمر طال، ومعاناة إنسانية شديدة، وانسداد الأفق أمام أي خيار يمكن أن يردع آلة القمع السلطوية ويضع حداً لعنفها المنفلت.

والحال، عندما يستعصي حل الصراع السوري سياسياً وتتوغل أطرافه عميقاً في الدم والخراب، وعندما تصبح لغة السلاح هي الفيصل من دون اعتبار لأرواح الناس وحقوقهم وممتلكاتهم، وعندما يواجه المجتمع فئة حاكمة لا تهمها سوى سلطتها وامتيازاتها وتوظف كل ما يقع تحت يدها للاستمرار حتى آخر الشوط، وعندما يتراجع كل شيء في البلاد نحو الأسوأ، الدولة والنظام والمعارضة، الأمن وعافية المجتمع، الاحتقانات الأهلية والطائفية، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، عندها يمكن تفسير وتفهم حالة التسليم والرضا لدى كتلة مهمة من السوريين بأي دور خارجي، حتى عسكرياً، يمكنه أن يحد من تدهور أوضاعهم.

صحيح أنه ليس من بلد نضجت فيه الدوافع الأخلاقية والقانونية لدور خارجي ناجع يوقف العنف المفرط وينقذ أرواح المدنيين واجتماعهم الوطني، كما سوريا، وصحيح أن الضربة العسكرية الغربية لم تغير من جوهر الأمور شيئاً، لكن الصحيح أيضاً أنها شكلت عند المتضررين من عنف النظام رجاء طال انتظاره كي ترد عنهم بعض القهر والظلم، ليس فقط عند أولئك الموجودين في المدن المحاصرة والمناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة أو النازحين واللاجئين في بلدان الجوار، وإنما أيضاً عند كثير من السوريين الذين بدأوا يستشعرون خطورة القادم وأنه أكثر سوءاً وإذلالاً وفتكاً، ونذيره المظاهر التشبيحية المهينة والمنفرة والثأرية التي بدأت تمارسها قوات النظام في الغوطة الشرقية، احتفاءً بما تعتبره انتصاراً!

الشرق الاوسط

 

 

 

 

ما بعد نزهة ترامب في سورية/ سميرة المسالمة

لن تنهي “نزهة” الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القتالية في سورية الصراع المحتدم بين الدول المتصارعة على فرض نفوذها وانتزاع حصصها من الأرض السورية، كما أنها لم تهدف أساساً إلى وضع نهاية للصراع القائم منذ سبع سنين، بين النظام السوري والمعارضة  الشعبية التي ثارت ضده بسبب الممارسات القمعية التي أثقلت على الناس معيشتهم، وضيقت عليهم أسباب استملاك حقوقهم، بوصفهم مواطنين أحرارا في بلدهم، وتركت تلك “النزهة” للنظام وكل من روسيا وإيران دراسة خيارات الرد على “العبث الأميركي – الغربي المسلح” داخل الأراضي السورية، حسب وصف محور روسيا والنظام وإيران العملية المسلحة التي تحدثت عنها الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع حلفائها الفرنسيين والبريطانيين، وإنزال أشد العقوبات على الحاضنة الشعبية للثورة السورية، من مبدأ أنه في جميع المواجهات والدروس المتبادلة بين المحورين، الروسي والأميركي، ستكون الخسائر والضحايا “سورية الهوية”.

ويعتبر النظام السوري الضربات العسكرية ضده، إسرائيلية كانت أم أميركية أم أوروبية، والتي لا تستهدف إسقاطه نظام حكم، ولا تعلن انتهاء صلاحية بشار الأسد رئيسا، مجرد “مطبّات” عابرة في مسيرة حربه على ما تبقى من حواضن الثورة، مكانياً وسكانياً، تبعاً للمصلحة المشتركة مع إيران التي ترفض مطالب السوريين بحل سياسي انطلاقاً من بيان جنيف1،

وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالصراع السوري، ومنها 2118، 2254، وفي الوقت نفسه، يعتمد النظام على ثبات الموقف الروسي المساند له، مستثمراً الخلافات الدولية التي تغرق فيها روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية من ناحية، ومع الدول الأوروبية التي تفرض عليها عقوبات مالية واقتصادية، وتحاصرها دبلوماسياً وسياسياً من ناحية ثانية، ما يترك المجال، حسب اعتقاد النظام، لفرصة استمرار سياسته في إطالة أمد الواقع الحالي، متجاهلاً أنه، مع حلفائه، أتاح لنظرية “الفوضى الخلاقة” أن تتجسّد واقعياً في سورية، ما يتيح المجال للولايات المتحدة، في هذه المرحلة، إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد اعتماداً على التفجير الذاتي للدول (وهذا ما روجته وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عام 2005)، وعلى ما أحدثته التدخلات الخارجية وأدواتها من مليشيات وفصائل في الواقع السوري اليوم، وهو الأمر الذي أفشل مراهنات النظام وحلفائه على استثمار هذه الفوضى التي أحدثها، عبر السنوات السبع الماضية، لإعادة إنتاج نفسه ودوره الوظيفي في الشرق الأوسط الجديد، خصوصا مع وجود المصالح الأميركية في دحر التمدّد الإيراني في المنطقة، وأنها، أي الولايات المتحدة الأميركية، كانت الغائب الحاضر، وصاحبة القرار النهائي في قطف الثمار لحالتي الحرب والسلام في المنطقة.

وهذا ما يفسر حالة الهلع التي أصابت كلا من النظام السوري وروسيا وإيران، عند أول إشارة إلى جدية التعامل مع انتهاك النظام قرار حظر استخدام السلاح الكيميائي، ليس بسبب الضربة العسكرية التي يمكن لملمة آثارها، كما يفترض النظام دائماً، وإنما لما يريده الحلف الأميركي من الحلف الروسي الإيراني التركي الذي قارب على وضع اللمسات الأخيرة للحل في سورية، ضارباً عرض الحائط بما أنتجه اجتماع باريس في 24 يناير/كانون الثاني الماضي، على هامش مؤتمر عن المسؤولين عن الهجمات الكيميائية في سورية، وضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن، ونتج عنه ما سميت “اللا ورقة” لتكون محور التفاوض بين طرفي النزاع السوريين (المعارضة والنظام)، والتي تعبر عن رؤية هذه المجموعة لما يجب أن تكون عليه جلسات التفاوض البينية، لإنهاء حالة التلاعب وكسب الوقت خلال جولات التفاوض التي وصل عددها إلى تسع، إضافة إلى جلسات التفاوض التقني وورشات العمل، كما أنها وضعت ملامح جديدة لسورية ما بعد الحرب، وفق خريطة طريقٍ تتجاوز المصطلحات الخلافية والمرجعيات غير الوطنية لكلا الطرفين، ويمكن القول إن من شأن تلك الرؤية أن تسقط نظام الحكم القائم شكلاً ومضموناً، وتؤسس لسورية دولة رئاسية برلمانية غير مركزية، وتمنح كل المواطنين حقوقا متساوية فردية وجمعية.

التعاطي السلبي والمعادي مع حالة التدخل السياسي المباشر للمحور الأميركي الغربي، من

“الحصار الحقيقي الذي ينتهجه الرئيس ترامب لكل من روسيا وإيران هو بإخضاعهم إلى آلية مفاوضات جديدة”

خلال تجاهل ثم رفض اللا ورقة المقترحة، والتي جاءت لتسحب البساط من تحت مبادرة موسكو، المتفق عليها مع طهران وأنقرة عبر ما سمي مؤتمر سوتشي، وتفاقم الخلافات بين المحورين بشأن الخرائط المعلنة عن تقاسم النفوذ لمحور روسيا وشركائها في أستانة، وتجاهل المصالح والرغبات الأميركية والغربية وإسرائيل، في إبعاد إيران عن الحدود السورية مع كل من “إسرائيل” والعراق، واستكانة النظام، بفعل شراكته مع كل من موسكو وطهران، لهذه المخططات من جهة، وكذلك موافقة أطراف في المعارضة على هذا التقسيم، بفعل تسليمها الكامل لما تقتضيه مصالح تركيا منه، من جهة مقابلة، هيأ الفرصة لخروج واشنطن أخيراً عن صمتها، وتعاطيها مع جريمة استخدام السلاح الكيميائي هذه المرة، بما يمكن أن ينهي حالة التمرد الروسي على قرارات المجتمع الدولي، ويقوّض الوجود الإيراني في سورية، ويقلل من أهمية تحالفاتها مع مليشيا حزب الله، قبل أن تكون التهديدات والنتائج هدفها المباشر النظام السوري، وتهذيب سلوكه وإعادته إلى طاولة المفاوضات وفق الجدول الأممي الذي يريده المجتمع الدولي الذي أنتج نحو 17 قراراً، ولم يأخذ أيٌّ منها طريقه إلى التنفيذ.

الحصار الحقيقي الذي ينتهجه الرئيس ترامب لكل من روسيا وإيران هو بإخضاعهم إلى آلية مفاوضات جديدة، لا تكون فيها روسيا بيضة القبان في ميزان التسوية السورية، ولا تغيب فيها المصالح الإسرائيلية على حساب تحجيم إيران وردعها، بينما يأخذ الحصار شكلاً آخر مع النظام والمعارضة، اللذين يشكلان الحلقة الأضعف في الصراع الحالي، ما يستوجب على كل طرف أن يعيد حساباته داخلياً وخارجياً، لإقناع المجتمع الدولي بصلاحية تمثيل كلٍّ منهما للجهة التي يدّعي أنه يمثلها من مؤيدين ومعارضين وما بينهما.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

يا له من عدوان ثلاثي/ ميشيل كيلو

من حق الأسديّة إطلاق صرخات البهجة والسرور بمناسبة ما أسمته “فشل العدوان الثلاثي” عليها، والذي لا أدري كيف كان له أن ينجح، إذا كان من نفذوه قد أرادوا له أن لا يُسقط بشار الأسد، أو يغير موازين القوى لصالح الثورة، أو يوقف الحرب الروسية/ الإيرانية/ الأسدية ضد السوريين.

وكيف تنجح الملاعبة العسكرية الأميركية/ البريطانية/ الفرنسية، إن كانت لم تستهدف الأسد، أو موازين القوى الراجحة لصالحه، أو وقف حربه ضد السوريين، أو تدمير أسلحته التي يقتل شعب”ه” بواسطتها منذ نيف وسبعة أعوام؟. وكانت أطراف “العدوان الثلاثي” لم ترغب في الضرب على يديه، لمنعه من مواصلة مجازر القتل المنظم بكل سلاح، والتي ينفذها جيشه بدعم روسي مفتوح وإيراني حثيث، بالتعاون مع أحط حثالات الإرهاب في أفغانستان والعراق ولبنان وبنغلادش وأوزبكستان.. إلخ؟. ثم، كيف يكون ما حدث عدواناً، إن كان من نفذوه لم يستهدفوا أيضاً شركاء الأسد، ولم يرموا إلى إخراجهم من سورية، أو إلى تطبيق حل سياسي دولي بقوة قرارات دولية أصدرها مجلس الأمن لوضع حدٍّ للمقتلة المستمرة منذ سبعة أعوام، التي يتعرّض لها ملايين الأطفال، لأن آباءهم ارتكبوا جريمة المطالبة بالحرية، وهي حق يكفله لهم دستور بلادهم الذي أصدرته الأسدية، وتضمنه شرعة حقوق الإنسان والقوانين الوضعية ووصايا الأديان؟.

وأيّ عدوان هذه الملاعبة العسكرية التي حرص منفذوها على عدم المسّ بجيش الأسد ومرتزقته! لذلك لم يصيبوا أحداً منهم بقنابلهم وصواريخهم التي دخلت إلى سورية، وخرجت منها من دون أن يعترضها الروس، أو يجدوا في أنفسهم الجرأة على إطلاق رصاصة واحدة عليها؟ وبأية وقاحة يجيز الأسد لنفسه الحديث عن “عدوان ثلاثي” تشبّهاً بـ “العدوان الثلاثي” على مصر الناصرية بعد تأميم قناة السويس عام 1956، وكان غرضه إسقاط جمال عبد الناصر، حسب تصريح لرئيس وزراء بريطانيا آنذاك، أنطوني إيدن، واحتلال مصر، كما أعلن رئيس وزراء فرنسا، جيه موليه، بينما تستهدف “الملاعبة العسكرية الحالية” الإبقاء على الأسد وسلطته، وعلى تفوقه العسكري على الثورة، وتقتصر على أخذ سلاحه الكيميائي، وعدم المس بأسلحة أشد فتكاً منه، والسماح له باستخدامها، وهو على ثقةٍ من أن أحداً لن يزعجه، مهما أسرف في قتل شعب”ه”؟.

ما الشبه بين ما جرى عام 1956 ضد مصر، واستهدف اقتلاع الثورة العربية من جذورها، والقضاء عليها في مهدها المصري، و”عدوان” مزعوم يحافظ على من يستهدفه، ثم يعلن القائمون به توبة نصوحاً عن تكراره، من خلال تأكيدهم أنه فقد ما كان في حوزته منه، وأنهم دمروه إلى سنين عديدة مقبلة؟

هللت الأسدية لإفشال “العدوان الثلاثي” الذي لو كان عدواناً بحق لاقتلعها من جذورها، ولما وجد بطل البراميل الوقت للاحتفال بانتصاره، لأن الأموات لا ينتصرون ولا يحتفلون. بدورها، هللت الكنيسة الأرثوذكسية “المقدسة” لفشل “العدوان الثلاثي”، وانخرطت، برخصٍ وسفاهةٍ، في جوقة الدجل، فرحاً بنجاة المجرم من “عدوانٍ” لم يقع عليه، لحرص من نفذوه على مواصلته ذبح السوريين إلى آخر طفل وامرأة، وتمكين الكنيسة وكتبتها، الذين تجرّدوا من أي شعورٍ إنساني، من الزحف على بطنها أمام مخابراته.

يثير التهليل لفشل “العدوان الثلاثي” على الأسدية القرف، وأكثر ما يثير القرف فيه عدوان الأسدية الوقح على جمال عبد الناصر ومصر، الذي يشبّه مجرماً قتل الملايين من شعب”ه” وشرّدهم، بزعيم أمة العرب التاريخي الذي استشهد وهو يدافع عنها.

العربي الجديد

 

 

 

 

روسيا «المنتصرة» وإدارة الصراع السوري بالوهم/ سميرة المسالمة

من جديد يمكن السؤال عن إمكان قراءة الضربات»الجراحية» الأميركية والفرنسية والبريطانية في سورية، على أنها واحدة من الأدوات الدبلوماسية الغربية المعتمدة في تقليم أظافر إيران في المنطقة، وإعادة الوعي لروسيا لإدراك حجم دورها الموكل لها في الملف السوري، بعيداً عن «عنتريات» الرئيس فلاديمير بوتن، وتضخم الأنا، الذي عانى من أعراضه إثر نجاحه في عقد اتفاق ثلاثي ضم إليه كل من إيران وتركيا، لنزع حلب من تحت سيطرة المعارضة السورية، وإنشاء مسار تفاوضي جديد في العاصمة الكازاخستانية «آستانة»، يوازي بل يعطل مسار جنيف التفاوضي الأممي الذي يرعاه المجتمع الدولي، وهو ما كان بمكن أن يدفع بالأطراف السورية إلى إيجاد حل سياسي عادل يقوض سلطة نظام الأسد لمصلحة إقامة دولة ذات حكم غير طائفي ديمقراطية تعددية.

الانتصار المتبادل بين كل الأطراف المعنيين بهذه الضربات (سواء الضارب أو المضروب) له دلالاته التي يمكن مناقشتها، فالحلف الثلاثي انتصر في سياق إبعاد وهم التفرد الروسي، وانسياقه وراء وهم تحالفاته، بأن موسكو قادرة على صياغة مفهوم الشرق الأوسط الجديد بدءاً من سورية، وفق رؤيتها ومصالحها وتوافقاتها، وهو -في الآن ذاته- نصر على القدرات الإيرانية العاجزة عن حماية حليفها حتى إعلامياً، وبالتالي فإن الرسالة التي لم توجه أساساً إلى النظام السوري هي بأن القرار في المحصلة النهائية، ورغم تمدد مساحة نفوذه ميدانياً، هو قرار فوق داخلي (سوري- روسي)، أي أن أميركا في اللحظة التي تراها هي مناسبة وموجبة التدخل، ستفعل، بعيداُ عن أي مظلة يستظل بها النظام ومن يدعمه، ومن هنا يمكن قراءة أهمية الضربات للحلف الأميركي الغربي على رغم أنها غير مؤلمة عسكرياً، وغير مجدية ميدانياً.

من جهته، فإن احتفالات النظام «المنتصر» على الحلف الثلاثي الذي ضرب مواقع بحث وإنتاج وتخزين الترسانة الكيماوية وفق إعلان التحالف، ليست ذات موضوع جديد عليه، فهو الذي احتفى مسبقاً بانتصاره على حمص المدمرة، وحلب التي خرجت من موقعها كأكبر منتج لاقتصاد سورية، والغوطة التي لم يبق من مسمياتها ومعالمها «الغناء» إلا مواقع الدمار، والآثار الوحشية التي مارستها القوات النظامية وحلفائها، والتي أدت إلى قتل وتهجير عشرات الآلاف من سكانها الأصليين، فالنظام السوري من منظوره انتصر على ما أمله «المعارضون» له من أن تكون هذه الضربة هي الشعرة التي تقصم ظهر النظام، وهي أي الضربة، باعتبارها لم تهدف إلى ذلك، ولن تهدف أي ضربات غيرها، سواء حدثت أم لوحت الدول على استخدامها مرة أخرى، ما يعطي النظام فرصة الاحتفاء بانتصاره على المعارضة التي تصر حتى اللحظة على إدارة الصراع «بالوهم» المقابل لوهم النظام، من دون الاستفادة من تراكم حجم التخاذل الدولي خلال سبع سنوات في صياغة دور حقيقي لها كطرف وليس كأداة في معادلة الصراع الدائر على سورية وفيها.

يمكن التعاطي مع ضربات الحلف الثلاثي من مبدأ أنها عملية تأديب للنظام على استخدامه السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري، فيما لو كانت هذه الدول تريد تجاهل الدورين الروسي والإيراني في إدارة العمليات القتالية في سورية، وهو ما تعبر عنه تصريحات كل من حليفي النظام على أنهما كانا السبب المباشر في حماية النظام من السقوط والهزيمة أمام المعارضة، والتصريحات الغربية حول الدور الروسي في نزع السلاح الكيماوي من النظام وفق القرار الأممي 2118، الذي تم التوصل إليه بين الجانبين الروسي والأميركي لتجنب تلقي النظام ضربة عسكرية إثر هجمات النظام الكيماوية على الغوطة الشرقية عام 2013، ما يعني أن العملية التأديبية ليست ذات معنى إذا كان هدفها النظام السوري المتهالك عسكرياً وسياسياً، ولكنها في حقيقة الأمر عملية تقويمية لإعادة توجيه مسار الصراع وفق تقاسم جديد، يخرج منه لاعبون، ليدخل آخرون، في عملية تبادل أدوار ومصالح وإبعاد شبهات.

من جهتها، يمكن لروسيا اعتبار الضربات العسكرية تصريح جديد لها، بالتعامل مع المجتمع الدولي «منفردة» هذه المرة كممثل وحيد للنظام السوري، دون أيحرج من شريكتها إيران، ودون العودة لرأي النظام الذي يرى مصلحته المطلقة (كسلطة حاكمة وأشخاص منتفعين) تحت العباءة الإيرانية، وليست الروسية، وهذا يفسر تأكيد الولايات المتحدة الأميركية بأنها لن تفاوض النظام في شكل مباشر، وضمناً فإنها لن تقبل بالجلوس مع إيران للتفاوض حول سورية، وهي التي تعتمد سياسة تحجيمها وكفكفة ذيولها الممتدة في المنطقة، وعلى وجه الخصوص من على الحدود السورية الإسرائيلية، بل وهي التي ترى أن أحد أهم أهداف استمرار الوجود الأميركي في سورية بعد محاربة داعش، وضمان عدم العودة لاستخدام الكيماوي من جديد في سورية، هو ضمان نقطة مراقبة جيدة لمتابعة أعمال إيران أو نشاطاتها، وبالتالي إعادة تشكيل المحاصصات وفق ما تقتضيه المصالح الإقليمية والدولية، ومراعاة حصة الغرب الذي ترى فرنسا أنها تمثله في سورية، وهو ما لا يتناقض مع استمرار الحديث عن رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في انسحاب القوات الأميركية من سورية، والتي يمكن أن تحل مكانها القوات الفرنسية لإدارة الصراع وتوجيهه بما يخدم المصلحة الأوربية ودورها من جهة، ويحقق المصالح الأميركية ورعاياها من الكرد في سورية.

لا يمكن لأحد أن يدعي الانتصار في الحروب ذات الطبيعة التكنولوجية، لأن الخسائر عادة هي سيد الموقف على كل الأصعدة، فحتى من يحقق أهدافه القتالية تكون خسائره المادية والشعبية داخل مجتمعاته فادحة، لكن في الحالة السورية الخاصة كل الأطراف «منتصرة»، فالنظام الذي استسلم للضربات التي اجتاحت أراضيه «منتصراً»، لأنه أسقط حسابات معارضته في نزع السلطة منه، والمعارضة «منتصرة» لأن الضربات نزعت الدرع الواقي الذي شكلته موسكو للنظام في أروقة مجلس الأمن، عبر 12 فيتو ضد أي قرار يحد من استخدام النظام للسلاح ضد شعبه، وروسيا بدفاعها عن النظام شكلت نصرها السياسي على شركائها (النظام وإيران).

وفي ظل كل هذه الانتصارات وأطرافها المتعددين، وحده الشعب السوري غارق في هزائمه أينما كانت الضربات موجهة، وأي كان من يوجهها، وفرصة نجاته من هذه الحرب لا تحددها الجهات المحتفلة بانتصاراتها الوهمية، ولكن بما يمكن استثماره دولياً من حاصل مجموع الخسائر في هذه الحرب الطويلة، ومدى رغبة المنتصرين «الحقيقيين» في حماية الأمن والسلم الدوليين، من خلال جر الأطراف «الموهومة بالنصر» إلى طاولة مفاوضات تهزم وحشية الحرب، وتحدد معالم الطريق إلى ولادة الجمهورية السورية الثالثة، بما يتيح الفرصة للسوريين بإعادة إنتاج دورهم في بناء السلام والاستقرار في سورية وما حولها، وهذا لن يتوفر ما لم تأخذ المفاوضات المرجوة شكلاً جديداً ينهي حالة العبث بدم السوريين، ومضموناً تفاوضياً لا يتم فيه تقاسم السلطة بين أمراء حرب مدعومين بحلفائهم الدوليين على الضفتين المتقابلتين.

* كاتبة سورية.

الحياة

 

 

 

لماذا على ترمب أن يقصف الأسد؟/ د.رضوان زيادة

بالرغم من الضربة العسكرية الثلاثية للولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على مواقع تابعة للنظام السوري في 14 من أبريل 2018 فإن أثرها كان محدوداً للغاية ولا يُتوقع أنه سيكون لها أي أثر على دفع المسار السياسي باتجاه انتقال سياسي حقيقي لما بعد الأسد.

هذا فضلا عن محدودية أثرها العسكري بسبب غياب الاستراتيجية الكلية لما بعد الضربة، فضربة عسكرية لمرة واحدة كما سمّاها البنتاغون ربما توصل الرسالة كما أوصلتها سابقا الضربة العسكرية على مطار الشعيرات، لكن الأسد لن يستقبلها، كما أن روسيا المغرورة باستعراضها العسكري في سورية عبر قواعدها المنتشرة لا تشعر بأنها تحتاج إلى تقديم تنازلات بعد هذه الضربة التي أيقنت بعدها ربما بمحدودية الانشغال الأمريكي في سورية.

وأن الأزمات السياسية التي تلاحق ترمب داخلياً ربما كانت أحد الأسباب التي دفعته للقيام بهذا الاستعراض العسكري بهدف تغيير عناوين الأخبار والنشرات المسائية

كان يجب على الرد العسكري على استخدام الأسد للسلاح الكيماوي أن يكون أقوى بكثير، فلا أعتقد أن الأسد سيرتدع بعد هذه الضربة فضلا عن أنه سيشعر أنه حرّ تماماً في استخدام كل أنواع الأسلحة الأخرى في حربه ضد المدنيين في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري كإدلب وريف حماة وريف حلب وغيرها من المناطق في الشمال السوري.

استخدمت قوات نظام الأسد غاز السارين المخلوط بالكلور في دوما بهدف الإخراج النهائي لجيش الإسلام من دوما في 7 من أبريل / نيسان، مما أدى إلى مقتل العشرات من المدنيين في بلدة دوما ،بهدف توجيه رسالة واضحة للمعارضة أن النظام يريد السيطرة العسكرية على الأرض مهما كان الثمن.

وبرغم تغريدات الرئيس ترمب الذي قال إنه سيكون هناك “ثمن كبير يجب دفعه”. وقال في وقت لاحق في اجتماع لمجلس الوزراء في 9 من أبريل “لا يمكننا السماح بفظائع من هذا القبيل. لا يمكن السماح بذلك … لا شيء مستبعد من على الطاولة.” ثم حذر من أنه بغض النظر عما إذا كانت روسيا ، أو نظام الأسد ، أو إيران مسؤولة ، فإن رد الولايات المتحدة سيكون “قاسيا للغاية” ، مكررا أن كل الأطراف المعنية “ستدفع الثمن”. وهو ما رفع سقف التوقعات السورية والعالمية أن رداً حاسماً سيحصل وأن هذا الرد سيغير المعادلات العسكرية والسياسية على الأرض.

في الحقيقة ربما يكون الهدف الرئيسي الذي حققته هذه الضربة هو الردع، بمعنى أن مليشيات الأسد ربما تدرك أن استخداما للسلاح الكيماوي سيقابله ضربة عسكرية لكن سلاح الردع لديه فترة صلاحية محدودة ، إذ من المؤكد أن الأسد سيستمر في تحدي المجتمع الدولي وتحدى الخط الأحمر. ولذلك يجب أن تكون هناك ضربات إضافية ضرورية لردعه عن القيام بذلك.

والأهم من سياسة الردع يجب أن تكون هناك استراتيجية كبرى لما بعد الضربة العسكرية وهذا لن تحققه ضربة عسكرية لمرة واحدة تحتاج القوات الأمريكية إلى استهداف المقار الرئيسية وتدمير القدرات الرئيسية والأشخاص الذين ما زالوا يلعبون دوراً رئيسياً في مليشيات الأسد وإعطاء الأوامر بقتل المدنيين. كما يجب التفكير في ضرب أهداف رمزية مثل القصر الرئاسي على جبل قاسيون المطل على دمشق بهدف إيصال الرسالة وعندها سيفهم الأسد الرسالة بشكل حقيقي، والذي يمكن أن يكون لتدميره تأثير نفسي كبير على النظام السوري.

لذلك يجب على الإدارة الأمريكية أن توضح أن ضرباتها لن تكون عملية لمرة واحدة عن طريق استخدام الغموض البناء حول إمكانية توجيه ضربات مستقبلية. خلاف ذلك ، قد يعتقد الأسد أنه يستطيع أن يستمر في عميات القتل والإبادة بحق المدنيين الأبرياء من السوريين.

وعلى واشنطن أن تتبع الضربة باستراتيجية سياسية ودبلوماسية تساعد في دق إسفين بين دمشق وموسكو، رغم إيماني بصعوبة ذلك فهو الطريق الوحيد الذي يدفع جزار سورية إلى الإيمان بأن روسيا لن تحميه مجدداً سياسيا وعسكريا .

وربما الضربات العسكرية التي استمرت 78 يوما على ميلوسوفيتش في يوغسلافيا السابقة كانت الرسالة الحاسمة في دفعه لقبول المفاوضات السياسية والتوصل إلى اتفاق دايتون مع الأطراف البوسنية والكرواتية الأخرى التي أنهت الحرب الدموية في البوسنة والهرسك، وإلا بدون هذه الضربات العسكرية المتتالية استمر ميلوسيفتش في ارتكاب المجازر تلو الأخرى بعد مجزرة سربرنيتشا، فبدون هذه الاستراتيجية سيبقى الأسد طليقاً في أوهامه التدميرية التي تجعله يعتقد أنه حر في قتل من يشاء كيفما يشاء وبأي سلاح شاء، فهو شخص لن يقيم احتراما لفكرة القانون الدولي فضلاً عن احترام فكرة أن سورية التي يقبع على جثثها لن تخضع له كما يريد ويتوهم، وأنه لن يستطيع العودة بعقارب الساعة إلى ما قبل عام 2011 .

 

 

الكيماوي السوري… صنعناه جميعاً/ حسام جزماتي

كان حافظ الأسد يتأهب للانقضاض على السلطة عندما فكر في تأسيس مركز للبحوث العلمية يخدم طموحات وزارة الدفاع التي كان يشغلها، وقطاعات حكومية أخرى في الدولة التي سيطر عليها في ما سيسميه «الحركة التصحيحية» التي سيصبح هذا المركز «جوهرة التاج» فيها كما سيقول لاحقاً، بعد أن عثر على شريكه المناسب في هذه الفكرة، الدكتور عبد الله واثق شهيد.

ولد شهيد عام 1927. وينحدر من سلالة من المشايخ والمفتين والأزهريين الأحناف في قرية دارة عزة بريف حلب. حاز الدكتوراه في الفيزياء من جامعة السوربون في سن الثلاثين، وبعد حوالي عشر سنوات أسس وزارة التعليم العالي وترأسها. والحقيقة أن سِجل هذا الرجل الجاد والدؤوب، الدمث والمتواضع، مليء بالإنجاز، منذ حفظه معظم القرآن في كتّاب القرية، ثم انتقاله للدراسة في ثانوية التجهيز الشهيرة بحلب، فدخوله الجامعة السورية ضمن الدفعة الأولى من طلاب كلية العلوم، حيث كان يتسلى، أثناء عمله كمعيد فيها بعد التخرج في قسم الفيزياء، بدراسة مقررات زملائه في قسم الرياضيات.

كتب شهيد مرسوم إحداث «مركز الدراسات والبحوث العلمية» كهيئة مستقلة، وتولى تأسيسه وإدارته منذ عام 1971 وحتى 1994، عندما سيتقاعد ويصبح أميناً عاماً لمجمع اللغة العربية بدمشق منذ 1995 وحتى وفاته في 2015. كما أنشأ «المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا» ومؤسسات بحثية وتصنيعية أخرى في المركز الذي ارتبط باسمه وصار يشبهه.

حظي شهيد بدعم قانوني ومالي غير محدود من الأسد الأب، فكان يستطيع اجتراح وتكييف الأنظمة الدراسية التي يراها مناسبة لتخريج الكوادر التي يحتاج إليها المركز، في قطاعات الهندسة والعلوم والحاسبات، دون الاضطرار إلى التقيد بالنظام الجامعي السوري الجامد. كما كان يستطيع تغذية خططه بالاحتياجات المادية المطلوبة، كرواتب الطلاب الموفدين داخلياً، وبعثات الإيفاد الخارجي التي كانت تتم في الغالب باتجاه جامعات أوروبا الغربية، بالإضافة إلى الميزانية التشغيلية للمركز الذي تميز برواتبه العالية، وأخيراً المواد والمعدات التي يستلزمها البحث ثم التصنيع الذي تطور الأمر إليه بعد سنوات، والذي كانت ميزانيته مفتوحة بشكل سخي يثير غيرة المطلعين من كبار المسؤولين وشهيتهم نحو الفساد الذي لم يُتهم به المركز آنذاك، رغم سهولته بسبب الطبيعة المخاتلة للصفقات التي يجريها مع شركات متعددة في أنحاء العالم للتغطية على طبيعة أعماله وأهدافها.

كما حظي شهيد من الأسد بما هو أهم من ذلك، في دولة بدأت المحسوبيات تغزوها، وهو اعتماد الكفاءة كمعيار أول للتوظيف، بمعزل عن التيار المتنامي في القطاع العام من التعيين باعتبار الانتساب إلى حزب البعث، أو استجابة لواسطة أمنية أو سواها، والتمييز على أساس طائفي.

ونتيجة الأسباب المذكورة صار العمل في مركز البحوث مطمح كثير من الخريجين المتفوقين في كليات الهندسة والفيزياء والكيمياء والإدارة والاقتصاد وسواها من الاختصاصات العلمية. فقد بنى شهيد مؤسسته وفق المعايير الغربية، ما أمكن، ومنح العاملين فيها امتيازات في الرواتب والسكن والضمان الصحي والسفر لأغراض علمية وأداء خدمة العلم في أعمالهم المعتادة. وفوق ذلك منح المركز العاملين فيه إحساساً بالأهمية، نتيجة سرية العمل، وبالرسالية، بسبب الشعور بالدور الوطني في تطوير الأسلحة الثقيلة والتقنيات العليا، ما أورث العاملين حساً بالانتماء تفتقر إليه مؤسسات الدولة الأسدية. وتعزز ذلك بسكن الموظفين في مجمعات سكنية خاصة، غالباً، كنت ترى فيها خبيراً أرمنياً حلبياً يقطن بجوار خريجة كيمياء دمشقية محجبة، فيما تنتظر الشقة الثالثة عودة ساكنها، مختص الحاسبات الإسماعيلي من مصياف، من الإيفاد في فرنسا.

وفي المقار المتكاثرة للمركز في العاصمة وفي المحافظات كان عموم الموظفين مدنيين من الطبقة الوسطى، مع حضور هامشي للحراس وللضباط الذين يقودونهم. أما ضباط الأمن، الذين لم يخلُ منهم أي من فروع المركز بالطبع، فكانت مهمتهم حماية المباني من الاعتداء، والمراقبة غير الفظة لأي ارتباطات جاسوسية قد يتورط فيها بعض العاملين، دون الشق على صدورهم لفحص الولاء للأسد كمهمة أولى لأجهزة الأمن عادة.

يقول «أبناء المركز» إن هذه المرحلة الذهبية استمرت حتى غادره شهيد وخلفه اللواء علي ملاحفجي إثر تقاعده من قيادة القوى الجوية. وهنا بدأت حالة من العسكرة العلنية في ظل هذا الضابط المغرم بالأساليب السوفييتية، الذي لم يكن قادراً على ملء فراغ سلفه العالم ذي الكاريزما الأبوية. فصارت الصلاحيات تخرج من يده باتجاه معاونين ورؤساء فروع وأقسام، فضلاً عن تدخلات من خارج المركز، نقلته خطوة ثانية باتجاه التمييز الطائفي. ويضيف هؤلاء أن المدير العام الحالي، الدكتور عمرو أرمنازي، صار يشبه أي مدير عام حكومي آخر، تقريباً، فهو واجهة إدارية لمراكز قوى أقل منه رتبة ولكنها أقوى نفوذاً لاعتبارات طائفية، أو لارتباطها بالقصر الجمهوري أو بأجهزة الأمن أو بقادة قطع عسكرية مميزة. وقد تزامن ذلك مع تحول علاقات المركز الخارجية، بشكل مطرد، باتجاه إيران وكوريا الشمالية وروسيا والصين.

خلال مسيرته الطويلة انصب اهتمام المركز على ثلاثة محاور رئيسية، هي الصواريخ والإلكترونيات والأسلحة الكيماوية. وقد بدأ البرنامج الأخير في الثمانينيات فعلياً، بإشراف المخابرات الجوية، الجهاز الأثير إلى قلب الأسد الذي كان مسكوناً بفكرة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، وضمن هذا الإطار اتجه إلى امتلاك السلاح الكيماوي ليحقق توازن الرعب مع النووي الإسرائيلي الذي لا يمكن الطموح بالقضاء عليه أو بمجاراته. وقد آمن بهذه الفكرة أساتذة جامعيون وخبراء ومهندسون وفنيون في المركز، اندرجوا في فضاء السياق العام للفكرة السياسية القائلة أن «لا مدنيين في إسرائيل». ومن هنا سمحوا لأنفسهم، بمزيج من هذا الفهم «الوطني» المقاوم ومن الرغبة في الحفاظ على الامتيازات الشخصية، بإجراء التجارب المميتة على معتقلين مقتادين من سجن تدمر، كانوا يُعرّضون لقنبلة كيماوية تصرعهم فيما يختلجون، تماماً كالجرذان، ويسجل العلماء والباحثون الملاحظات بانتباه، بينما يتناول ضباط المخابرات الويسكي.

لقد أسهمت سورية كلها في صناعة السم الذي تتجرعه اليوم. وإذا كانت دارة عزة، بلد الدكتور شهيد، لم تُضرب بالكيماوي فربما يعود ذلك إلى الصدفة المحضة، فقد تعرضت لدرجات من القصف هي الأعلى في ريف حلب الغربي. فيما هو يمضي سنواته الأخيرة الهادئة في دمشق، كسواه من العجائز من الموظفين «المحترمين» الذين مروا على المركز وتقاعدوا منه دون أن يدينوا، ولو بكلمة، النظام الذي شاركوا في صنعه!

 

 

 

 

 

ضرب “الحيوان” هدفه روسيا/ عبد الرحمن الحاج

“خلّف هذا الهجوم الشرير والدنيء الأمهاتِ والآباء والرضع والأطفال [الذين] ينتفضون ألماً ويلهثون محاولين التنفس. ليست هذه تصرفات رجل، بل جرائم وحش. اسأل إيران وروسيا: ما نوع الدول التي تريد أن ترتبط بالقتل الجماعي للرجال والنساء والأطفال الأبرياء؟ يمكن الحكم على دول العالم من خلال الأصدقاء الذين تبقيهم. لا يمكن لأي دولة أن تنجح على المدى الطويل من خلال تشجيع الدول المارقة والطغاة الوحشيين والديكتاتوريين القتلة.” (خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فجر 14 نيسان/أبريل 2018)

هكذا بدأ ترامب خطابه الخاص بالضربة العسكرية فجر اليوم، فيما كان النظام قد تخفى أو اختفى، وبالكاد صار يمكن العثور على دليل أن رأس النظام موجود في سوريا مع بدء تغريدات ترامب الغاضبة والساخرة معاً، ومع تزايد الشكوك حول تكرار ترامب لمقايضة أوباما التي انتقدها وسخر منها دوماً، وخلال أسبوع من وقوع مجزرة الكيمياوي في الغوطة كانت أعصاب العالم مشدودة، لكن النظام بالتأكيد عاش أياماً عصيبة، غادرت طائرات سورية إلى إيران حتى لا يطالها القصف، وأخليت المواقع العسكرية الرئيسية التي يتوقع أن تكون هدفاً للقصف، وأفرغ القصر الجمهور ي، وكثير من المقار الأمنية والعسكرية.

وأخيراً وقعت الضربة، 58 صاروخ توماهوك  أصابوا أهدافاً محددة، بينها مركز بحوث ومواقع عسكرية حول دمشق وفي حمص وكانت نتائجها محدودة على مستوى الأضرار العسكرية، أي على مستوى أضعاف ما تبقى من القدرات العسكرية، وكان بالإمكان القيام بعملية أوسع وأكثر تأثيراً، فلماذا إذاً تمت الضربة بهذا الشكل؟

بالطبع الهدف الثابت في هذه الضربة هو تحقيق الردع في استخدام الكيماوي، فالضربة استهدفت “قدرات الأسلحة الكيميائية” على حد تعبير الرئيس ترامب، هذا الهدف تحقق بمجرد الضرب، أياً يكن حجم الضربة، مجرد وجود عقاب لا يمكن لأحد أن يحول دونه لا روسيا ولا غيرها يكفي للردع، لكن أهدفاً أخرى لا تقل أهمية أيضاً تحققت.

هذه هي المرة الأولى التي تشترك فيها قوى غربية غير الولايات المتحدة في ضرب النظام منذ آذار /مارس 2011، هذا تطور مهم وهو يعني فتح الطريق أمام انضمام مزيد من القوى الدولية للقيام بعمليات ضد النظام عندما يقتضي الأمر، وقد أعلن حلف شمال الأطلس  (الناتو) دعمه للضربات في سوريا ضد نظام الأسد، كما أبدت دول عربية عدة استعدادها للمشاركة في مثل هذه الضربات إن كانت ستستهدف مواقعاً إيرانية، وسيبقى وجود البوارج البحرية الأمريكية وحلفائها في البحر المتوسط والقواعد العسكرية في الشرق الأوسط مصدر تهديد مستمر للنظام، فرنسا أكدت على الفور أنها مستعدة لضربات أخرى، فباريس صرحت “الضربات الفرنسية في سوريا انتهت، لكن جيشنا مستعد للتحرك إذا طلب منه الأمر”. أي أن العصا ستبقى مرفوعة.

ثبَّتت هذه العملية العسكرية أمراً مهماً هو انعدام شرعية نظام الأسد، هذا  التثبيت لا يقل أهمية بالنسبة للسوريين عن استهداف قدرات النظام العسكرية، لأنه في النهاية يريد حصد أي مكاسب عسكرية عبر تحويلها إلى مكاسب سياسية، الرئيس ترمب قال في خطابه حول الضربة العسكرية إنَّ دولة الأسد هي من “الدول المارقة والطغاة الوحشيين والديكتاتوريين القتلة”، وجر النظام إلى مفاوضات جنيف تحت هذا التأكيد هو إنهاء لآمال حسم عسكري يشكل قاعدة الحل السياسي الذي سيكون وقتها على شكل صك استسلام لا أكثر.

الأمر الثالث وهو الأهم هو المغزى السياسي من الضربة، وهو حرمان روسيا من الاستفراد بالحل السياسي، هيبة بوتين في سوريا مُرِّغت في التراب بالفعل، فهو لم يكن قادراً على منع الولايات المتحدة من تنفيذ تهديدها، ولم يكن قادراً على استخدام أسلحته للرد على مصادر النيران، بل لم يجرؤ على استخدام الدفاعات الجوية حتى لا تصبح هدفاً، كما أنه لم تتلق روسيا هذا الكم الهائل من التهديدات وتحميل المسؤولية كما حصل خلال الأيام الفائتة.

“كان عليكم أن لا تكونوا شركاء لحيوان يقتل شعبه بالغاز ويستمتع بذلك” (تغريدة لترامب في 11 نيسان/ أبريل 2018) لأول مرة تشرك روسيا بالمسؤولية في استخدام السلاح الكيميائي في سوريا، هذه أيضاً سابقة مهمة هدفها وضع روسيا أيضا تحت التهديد، ترامب قال بلغة واضحة: “وعد الرئيس بوتين وحكومته العالم في العام 2013 بأن يضمنوا التخلص من الأسلحة الكيماوية السورية. ويمثل هجوم الأسد الأخير – والرد اليوم – النتيجة المباشرة لفشل روسيا في الوفاء بهذا الوعد. ينبغي أن تقرر روسيا ما إذا كانت ستستمر في هذا الطريق المظلم أم ستنضم إلى الأمم المتحضرة كقوة للاستقرار والسلام، نأمل أن نتشارك المواقف مع روسيا في يوم من الأيام وربما حتى مع إيران… ولكن ربما لن نتشارك معهما.”، وهذا أمر لا يمكن صرفه سياسياً إلا بمنع روسيا من أن تستأثر بالحل السياسي في سوريا، هذه فرصة المعارضة لتستفيد من الضربة وترفض المشاركة في اللجنة الدستورية الروسية المولدة بعملية قيصيرية في سوتشي.

خلف روسيا بالطبع الظل الإيراني الطويل، وهو على الدوام كان هدفاً لجميع الدول المتأذية من الوجود الإيراني، وسيبقى كذلك، وكان يمكن لهذه الضربة الصاروخية أن تستهدف المراكز الإيرانية ومقار ميليشياتها الأساسية ومراكز عملياتها لإضعاف دور إيران في سوريا، لكنها لم تفعل، مما يعني أن الهدف السياسي هو روسيا أساساً، وهو منطقي فكل ما عداها هو تبع لهذا الهدف بما في ذلك إيران، تهديد ترمب بـ”صواريخ جميلة وجديدة وذكية” لم يتجه نحو إيران فهي أضعف من أن ترد، وإنما نحو روسيا إذا فكرت بالرد.

قد يكون من المبكر الحديث عن جميع نتائج الضربة ، لكن من المؤكد أن هذه الضربة أثبتت مرة أخرى أن الولايات المتحدة قادرة على تغيير كل قواعد اللعبة في سوريا في أي لحظة، لكنها غير راغبة في إحداث تغيير حقيقي جذري حتى الآن.

 

 

 

ضربة سياسية بصواريخ التوماهوك/ غسان ياسين

حصلت الضربة إذن،بعد سجال طويل ونقاش بين طاقم ترامب.نفذ سيد البيت الأبيض تهديده الذي أطلقه عبر تويتر،وقام بتوجيه ضربات عسكرية موجعة لنظام الأسد الكيماوي وحلفائه.الضربة التي انتظرها ملايين السوريين لتخلصهم من آلة القتل الأسدية التي لم تتوقف منذ سبع سنوات،البراميل المتفجرة والصواريخ المدمرة وعبوات الغازات السامة كلها كانت تستهدف المدنيين  بواسطة الطائرات التي تقلع من عدة مطارات عسكرية في عموم سوريا.

الضربة شكلت صدمة للمعارضة والنظام على حد سواء.المعارضة كانت تتوقعها ضربة ذات قدرات تدميرية أكثر لمطارات  وقواعد الأسد العسكرية، والنظام أيضاً كان يظن أن الوجود الروسي وحدة التهديدات الروسية قبل الضربة ستمنع ترامب من استهدافه.

نظريا،الضربة ذات نتائج عسكرية محدودة على الأقل حتى اللحظة،لكن سيكون لها تداعيات سياسية ستغير من مسار الأحداث في وعن سوريا.هذا التحرك الأمريكي الفرنسي البريطاني الجديد سينهي التفرد والتحكم الروسي بالملف السوري،فالضربة جاءت بدون قرار أممي بعد استخدام روسيا  للفيتو ١٢ مرة دفاعا عن الأسد منذ بداية الثورة عام ٢٠١١، وهذا التحرك يعيد للأذهان مافعله الغرب بالقذافي عندما ساعد الليبين على التخلص من طاغيته على الرغم من الاعتراض الروسي. وأيضا سيساهم التدخل العسكري الغربي بابتعاد تركيا عن روسيا، تركيا التي كانت تبدي قلقها وتحفظها قبل الضربة سارعت  للترحيب بها.

صحيح أن الهدف المعلن للضربة  هو إفقاد النظام قدرته على استخدام الأسلحة الكيماوية مجددا وليس إسقاط النظام، لكن ما الجديد في هذه التصريحات، فالغرب عموما والولايات المتحدة على وجه الخصوص لم تقل يوما أنها تريد إسقاط النظام في سوريا، حتى  أثناء وجود هيلاري كيلنتون والتي كانت من أشد المتحمسين لدعم الجيش الحر، والتي قدمت حينها خطة متكاملة  للرئيس أوباما لم تكن تريد إسقاط النظام، كانت فقط تتحدث عن إحداث توازن عسكري يجبر النظام على الانخراط في مسار سياسي للدخول في المرحلة الانتقالية حسب بيان  جنيف واحد، وكان الجميع ينادي بالحفاظ على مؤسسات الدولة!. هذا ماقالته لنا وزيرة الخارجية صيف عام ٢٠١٢ أثناء اجتماع مغلق. رفض أوباما حينها الخطة ورفض بعدها توجيه ضربة  للأسد بعد انتهاكه للخطوط الحمر بعد استهداف الغوطة بالكيماوي صيف ٢٠١٣.

بالعودة للضربة التي حدثت صباح اليوم، ومع قراءة هادئة لمجمل التصريحات قبل وبعد الضربة، نستنتج أن هذه الضربة لم تنتهي بعد. وسيتبعها ضربات أخرى، فالحشود العسكرية التي وصفتها الصحافة الغربية بأنها أكبر حشود أمريكية منذ غزو العراق لاتزال على أهبة الاستعداد، وترامب أيضا يمسك بهاتفه النقال وجاهز للتغريد مرة أخرى.

الأهم في هذه الضربة أنها جاءت كرسالة واضحة لروسيا وإيران معا، صفعة على وجه بوتين الذي ظن نفسه قيصر روسيا الجديد ووضعه ضمن حجمه الطبيعي هو وجيشه. ورسالة قوية لإيران مع تسارع التصريحات الأمريكية التي تنادي بضرورة إنهاء الاتفاق النووي.

ما يعزز فرضية استمرار الضربة وعدم اقتصارها على ماحدث صباح اليوم  هو احتمال أن تقوم روسيا برد ما غير مباشر، تستطيع روسيا بالتنسيق مع حليفتها إيران تنفيذ هجوم بري على مناطق في سوريا تقع تحت النفوذ الأمريكي. روسيا التي وضعت كل ثقلها العسكري والسياسي والاقتصادي من أجل أن تعود للمنطقة من البوابة السورية، ستحاول اللعب بكل الأوراق من أجل التقليل من حجم الهزيمة التي منيت بها مع سقوط أول صاروخ توماهوك.

وفي حال لم ترد روسيا ولو بشكل محدود على الضربة، تبقى فرضية استمرار الهجمات على مطارات وقواعد الأسد العسكرية قائمة. وبالتأكيد سيكون لهذه الضربات تداعيات مفتوحة وستجبر روسيا وإيران على تقديم تنازلات في ملفات عدة وأهمها فيما يتعلق بعودة الزخم للعملية السياسية بعد توقف وشلل نتيجة تفرد روسيا بمسار الأحداث منذ تدخلها العسكري المباشر في ٣٠-٩-٢٠١٥. والأهم قضت على أي احتمال لإعادة تعويم الأسد.. مابعد الضربة ليس كما قبلها.

تلفزيون سوريا

 

 

 

 

 

ماذا بعد الضربة؟/ د. رياض نعسان أغا

يتفاءل بعض المحللين بأن يكون التفاهم الروسي الأميركي على تخفيف حجم وفاعلية الضربات الصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لأهداف تتعلق بتصنيع الأسلحة الكيماوية في سوريا، قد تم بصفقة سرية تخلت فيها روسيا عن تشبثها بالنظام، وربما تكون وافقت على بقائه مع تغيير جذري في قياداته، ولا أستبعد أن تكون الأطراف جميعاً قد اتفقت على حفظ ماء الوجه للولايات المتحدة بعد سيل التغريدات والتهديدات من خلال تضييق حجم الضربات، والتحديد الدقيق للأهداف، واختيار ساعة من الفجر في دمشق موعداً لها، حيث الناس نيام، وقد تم تفريغ المنشآت وضمان عدم إصابة أحد.. ما يجعل الضربة استعراض قوة أكثر من كونها عقاباً يؤلم النظام، أو يوقع خسائر بشرية عند المدنيين.

وقد فهم الروس أن الضربة كانت موجهة لهم، واعتبرها مندوبهم في مجلس الأمن إهانة لبوتين، بينما اعتبرها أنصار النظام نصراً مبيناً، وأقاموا الأفراح والاحتفالات تعبيراً عن النشوة بكونها لم تستهدف النظام حتى لو هدمت بنى ومنشآت، وقد فهموا أن النظام باق، وأن الغضب الدولي كان بسبب استهتار النظام بقوانين حظر الأسلحة الكيماوية فقط، وذلك يعني إطلاق يده باستخدام ما يشاء من أسلحة أخرى دون مساءلة.

وبوصفي مواطناً سورياً، أعلن أنني أتمنى ألا أرى جندياً أجنبياً في بلادي، وطالما وددت أن يبقى الصراع السوري شأناً سورياً داخلياً، ومهما أسرف النظام في العنف وفي قتل الشعب، فإنه لن يقوى على إبادته، ولو حدث واستولى على سوريا كلها، بافتراض خروج روسيا وإيران والمليشيات الطائفية، فإن بقاء النظام سيكون محالاً، ولن تستطيع التنظيمات الدينية المتطرفة بمختلف ولاءاتها، طمس أهداف الشعب في الحرية والكرامة وبناء دولة مدنية ديمقراطية.

لقد كان التهديد قبل شن الضربات الأخيرة موجهاً لروسيا وإيران، لكن الضربات تحاشت هذا الصدام الذي كان مرشحاً لتصعيد يشمل المنطقة كلها، وربما كان سيضع العالم على شفا حرب عالمية ثالثة.

لكن السؤال المهم: ما الذي حققته الضربات على الصعيد السياسي للقضية السورية؟ وهل فهم الروس أنهم لا يستطيعون تغيير النظام الدولي الأحادي القطب، وليس بوسعهم التفرد بسوريا والمنطقة، وأن الولايات المتحدة هي القوة الأعظم عسكرياً في العالم؟ وهل فهمت الدول العظمى الأخرى أن أي استهتار بمكانة أميركا سيعرضها لمثل الإهانة التي تلقتها روسيا؟ وهل فهمت إيران أنها تحت السيطرة الأميركية، ولن تكون قوة إقليمية تتفرد بأي بلد خارج القواعد الأساسية للحراك الدولي؟

لقد كسب ترامب حضوراً أقوى أمام ناخبيه، وحاول ماكرون إعادة حضور ما لفرنسا في منطقة كانت على مدى القرن العشرين تعتبرها ساحة نفوذها السياسي، وتمكنت ماي من أن تبرز كزعيمة حازمة في بريطانيا وقوة أوربية لا يستهان بها رغم خروجها من الاتحاد الأوربي.

لكن الذين غابوا عن الحدث الكبير هم الثوار السوريون، ولئن كان النظام يحتفل بالنصر لنجاته من التهديد مرحلياً، فإن المعارضة التي تنتظر مسعى دولياً حاسماً لإيجاد حل، لا ترى أفقاً واضحاً ما لم يتم سحب أوراق رعاية المفاوضات من روسيا المنحازة للنظام، وما لم تقم الدول التي تعتبر نفسها صديقة للشعب السوري بمهمة إدارة التفاوض بنفسها للوصول به إلى حل مقبول.

ولا يمكن الوصول إلى حل يقبل به الشعب ويعود من خلاله المهجرون إلى وطنهم، وينتهي معه الاقتتال، إلا بوقف كل التدخلات الخارجية، وإنهاء الأحلام الانفصالية، وإقامة هيئة حكم انتقالي تشارك فيها كل الأطياف والمكونات الوطنية، لإنهاء الديكتاتورية التي قادت سوريا إلى الجحيم والدمار الشامل.

الاتحاد

 

 

 

 

 

الرواية الروسية عن كيماوي دوما: هلَع وبسكويت وغبار/ عدنان نعوف

لم تنتظر روسيا ما سيُسفر عنه عمل مفتشي الأسلحة الكيميائية في دوما الذين جرى تأخيرهم بالتزامن مع العبث بمسرح “الجريمة”، فبادرت إلى استباق أي نتائج محتملة أو متبقّية عبر تقديم روايتها الخاصّة عن المجزرة، بحشدِ ما أمكن من “البراهين”، وتتويجها بما رأت فيه وثيقةً مدعّمة بلمسة “إنسانيّة” يُمكن بها مخاطبة الغرب.

وبثت قناة “روسيا 24” تقريراً مصوّراً يتضمّن لقاءً مع طفل يُدعى حسن دياب، قالت أنه عايشَ لحظات الهجوم الكيميائي على مدينة دوما في غوطة دمشق يوم 7 نيسان/أبريل الجاري. وشكّل الفيديو مناسبة لوسائل الإعلام الموالية عموماً كي تبدأ بحملة ترويج واسعة، وإعطاء انطباع بأن ما تضمّنه لا يدحض تورط نظام الأسد في المجزرة، بل ينفي حدوثها من أساسه.

وواكبَ هذا النشاط الدعائي تصريحات حَرصَ الإعلام الروسي على إبرازها، نقلاً عن مندوب موسكو الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، والمتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، تمهّد لعرض التقرير المصوّر على ممثلي البلدان الأعضاء في مجلس الأمن.

وهنا ينتقل الإعلام من مهمته الطبيعية للعب دور “أمني”، أي أن وسائل الإعلام التابعة للنظام والحليفة له لا تقوم بنقل المعلومات أو الآراء بغض النظر عن كونها متحيزة أم لا، بل تتعدى ذلك نحو خلق الواقع البديل، وتقديم الأدلة لجهات دولية، وهي مهمة غير صحافية بل أمنية – سياسية تتكفل بها جهات أخرى على هذا المستوى من العلاقات الدولية، مثل لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، ويذكر ذلك باللقاءات الإعلامية التي أجراها النظام مع عائلة الطفل عمران دقنيش لنفي المجازر المرتكبة في حلب العام 2016، أو اللقاءات مع أهالي درعا العامين 2011 و2012 لنفي ارتكاب انتهاكات أدت لاندلاع الثورة السورية حينها.

وما هي إلا ساعات قليلة حتى انتشرت مقابلة الطفل حسن دياب بعدّة لغات أجنبية، فضلاً عن تكثيف بثها عبر المواقع الإلكترونية والصفحات الروسية الموالية للنظام، ويعكس ذلك السعي الحثيث لمخاطبة الرأي العام الغربي ونقل الرواية الجديدة إليه، سواء عن طريق الإعلام الروسي الناطق بالإنكليزية والألمانية والعربية، أو عبر قنوات أخرى كما هو الحال مع قناة “إيسبان تي في” (HispanTV) الإيرانية التي تَبثّ باللغة الإسبانية، ويتوازى ذلك مع حاجة النظام وليس رغبته في التملص من مأزق استعمال الكيماوي بأي طريقة، بعد الضربة الغربية الأخيرة ضده التي شكلت رادعاً ما له، مهما كان نطاقها محدوداً على أرض الواقع.

وكان مثيراً للانتباه بدايةً ذلك التركيز على الطفل “حسن” الذي لم يَذكُر معلومات فعليّة يمكن الركون إليها، في مقابل تحويل سيل هائل من الشهادات الموازية إلى مجرّد لاعب ثانوي. علماً أن اللقاءات التي سبقَت أو تلَتْ هذا المقطع المصوّر خلال الأيام الماضية، وقيل إنها أجريت مع من “شاركوا بتصوير الهجوم”، كان يمكن أن تكون المستند “الأفضل” مما جاء على لسان “حسن” (مِن وجهة نظر موالية) لو أنّ مَنْ أنجز تلك اللقاءات يَعتدُّ بمحتواها، وبما وردَ فيها من معلومات أصلاً، لو أنّ من صنعها يرى فيها دليلاً ذا تأثير!

وخلال اللقاء الذي أجرته قناة “روسيا 24” مع “حسن” ووالده، تحدّث الطفل عن لحظة خروجه من القبو الذي كان يقيم فيه مع أسرته – بلا طعام – وكيف جرى أخذه إلى نقطة طبيّة حيث سُكبَ عليه الماء. فيما أسهَب الأب بالكلام عما وقع “في غيابه” لحظة الحادثة، وبأنه علِم من زوجته ومن بقية الناس بما جرى. وبدا أن الأب قد تهيّب ذكْرَ كلمة “كيماوي” مستبدلاً إياها بكلمة “رِيحِةْ.. ومدري شو وكزا..”!

وسعياً لزيادة الشحن العاطفي، أعدّت وكالة “سبوتنيك” الروسيّة لقاءً من دون فيديو، مع طفل آخر يُدعى مصطفى زعمَت بأنه شَهِد بدوره عملية “الفبركة”. لكن مقارنة ما جاء في التقريرين تحيل إلى تناقض صارخ في الرواية الروسية نفسها، فبينما يشير حسن ووالده إلى هرَب الأهالي نتيجة الهلع السائد حينها من الأقبية نحو نقطة طبيّة، يقول مصطفى أن رجالاً من “جيش الإسلام” قاموا بتجميع الأطفال قرب المستشفى، حيث “فُتحت صنابير ماء قوية” عليهم من “صهاريج” قبل أن يتمّ “إدخال العديد من الأطفال لقبو المستشفى”. ومع ذلك يشترك التقريران في نقطة تتكرّر يتمّ اللعب عليها بطرق مختلفة، وتتمثّل بالتسويق لفكرة أنّ الأطفال “وقعوا ضحيّة استغلال البراءة عبر توزيع البسكويت”!

ويمكن ملاحظة توزيع الأدوار في الجهود الدعائية لنفي وقوع مجزرة دوما الكيميائية، مع سعي الروس لتقوية حجّتهم بإيلاء الأهمية للسياق الإنساني “المؤثر”، ولعل أكثر من أتقن ذلك هو مراسل قناة “روسيا اليوم” بنسختها الانجليزية، مراد غازدييف، الذي وضع كل ثقله “الإقناعي” خلال تعليقه على الصور واللقاءات، واستند غازدييف إلى بعض المعلومات والمقابلات، لافتاً بشكل خاص إلى أثر الغبار الناجم عن الدمار والذي يتسبب بما يشبه أعراض الربو! لكنّ غازدييف ركّز أكثر على إظهار أهالي دوما بأنهم ضحايا الجوع والصدمة و”جهلهم بما خطّطت له الخوذ البيضاء”، وكأنه يريد القول بطريقة ما أنّ أهالي دوما كان “مغرّراً بهم”؛ ذلك الوصف الذي وسمَ به نظام الأسد المحتجين منذ بدايات الحراك الثوري!

في الأثناء حاول إعلام النظام، بزخم أقل، استكمال الرواية الروسية بتقديمها من زاويتها الأخرى، من خلال شهادات “مُسعِفين” وأطباء أعطى كل منهم إما شهادة أو تقييماً طبيّاً لأعراض الإصابات التي وصلت أيام 6 و7 و8 نيسان الجاري، ليقدّم هذا الإعلام خلاصة عبر هؤلاء بأنّه لم ترِدْ حالات إصابة بسلاح كيميائي حينها، وأنّ ما وقع هو حالات “ضيق تنفّس ناتجة عن الغبار والدخان بفعل الانفجارات”. بل إن أحدهم عقّبَ بالقول إنها ربما كانت “التهاب قصبات “!

ومما يسترعي الانتباه في تقرير عرضته قناة “الإخبارية السوريّة” أنها أرادت تدعيم قصّتها عن الكيماوي بمقابلات أخرى غير تلك التي أجرتها مع “عاملين في الشأن الطبي بدوما”، فاستعانت بأحد مسعفي “الهلال الأحمر”؛ المنظمة المعروفة بكونها ذراعاً للنظام، فما كان منه إلا أن قدّم مرافعة هجوميّة حول دَور “المسلحين خلال الأحداث واستباحتهم مراكز الدولة”!.

وضمن الحملة المستمرّة لتشويه صورة منظمة الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” أفردت “الإخبارية السوريّة” جانباً للتصويب على هذه المنظمة، وربطها بمجزرة دوما الكيميائية واتهامها بأنها “تختلق الكوارث وتفبرك أحداثاً إعلامية. غير أنّ تناول هذه السرديّة في التقرير لم يقابله ما يثبته أو يرتبط به، فقد أخذت الشهادات منحىً آخر عن مدى كفاءة عناصر “الدفاع المدني” وبأنهم قد “لا يملتكون المؤهلات العلميّة والدراسيّة”! علماً أنها في السابق اتهمت “الخوذ البيضاء” بارتكاب المجازر المماثلة.

المدن

 

 

 

 

«توماهوك» وحده لن يردع «ثلاثي الشر»/ مصطفى كركوتي

أخيراً سُمح/ لم يُسمح للمفتشين الدوليين بالدخول إلى دوما بعد عشرة أيام على جريمة استخدام الكيماوي في الحرب على هذه المدينة المنكوبة من طرفي القتال. تكرار استخدام النظام المدعوم بغطاء روسي-إيراني للغاز في هذه الحرب المتوحشة في ظروفه المعروفة، هو تحذير واضح لمجموعات المعارضة الأخرى في بقية أرجاء البلاد لا سيما في مناطق شمال إدلب.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف الرئيس السوري في إحدى تغريداته بعد كيماوي دوما بـ «الحيوان»، وأطلق تهديداته باتجاه الثلاثي المتوحش موسكو وطهران والأسد بأنهم سيدفعون «ثمناً باهظاً» على الجريمة. وكان ترامب غرّد قبل أسبوع من الهجوم الكيماوي بأنه سيسحب قوات بلاده من سورية «ويترك المسألة للآخرين»، إلى أن يعود بعد ثلاثة أيام لتغيير رأيه كي يقول «لا قرار بعد في شأن الانسحاب الفوري».

على رغم هجوم أميركا وبريطانيا وفرنسا بصواريخها المسيّرة عن بُعد، ليس هناك ما يوحي أن ثمة استراتيجية قد تبلورت في واشنطن أو لندن أو باريس لإنهاء أو وقف المأساة الإنسانية غير المسبوقة والمستمرة منذ 2011. أميركا وحدها التي تحتفظ بنحو ألفين من قواتها على الأرض في شمال شرقي سورية، تنحصر مهمتها المعلنة بدعم ميليشيا «قوات سورية الديموقراطية» ذات التكوين الكردي- العربي. هجمات التحالف الدولي الجوية تحت القيادة الأميركية على مدى ثلاث سنوات في مناطق شمال شرقي سورية كانت كافية لتطهيرها من «داعش» وإسنادها للقوات الديموقراطية لإدارتها. لكن تركيا أردوغان التي تخوض حملة ضد الأكراد تتهم واشنطن بالتواطؤ مع تلك الميليشيات.

في هذه الأثناء تواصل روسيا وإيران سياستهما في دعمهما غير المحدود جواً وأرضاً لنظام دمشق وارتكاب الجرائم في الغوطة الشرقية، والتي كان آخرها ضرب أكبر بلداتها، الغوطة، بالكيماوي، على رغم اتفاقيات عدة تمت بين الحكومة والمعارضة المسلحة برعاية موسكو وطهران خرقتها قوات النظام أكثر من مرة.

الآن بعد فظائع دوما، هل يتجه الرئيس ترامب نحو وضع استراتيجية من أجل سورية؟ إذا كان سيفعل ذلك، فما هي هذه الاستراتيجية؟ إن لم تكن استراتيجية، فلتكن خطة عمل لإنهاء المأساة أولاً والبدء بوضع تصورات لطبيعة سورية المستقبل. لوضع هكذا خطة، على ترامب أن يطرح سؤالاً مبدئياً: لماذا يلجأ بشار الأسد لاستخدام السلاح الكيماوي؟ الجواب ببساطة هو أن الأسد يشعر بالطمأنينة والثقة لسببين: رعاية روسية متينة ووجود أميركي ضعيف يثير الشفقة. الأسد مقتنع تماماً في هذه الظروف بأنه لن يجد أحداً يستطيع اعتراض سبيله مهما تمادى في التوحش والقتل.

وأضح أن الطريقة التي تم بها قصف ثلاثة أهداف أخيراً حول حمص وريف دمشق والتحضير لها لعدة أيام، حال دون وقوع إصابات بين قوات النظام أو الجنود الروس أو ميليشيات «الحرس الثوري» الإيراني. الصواريخ الغربية المشتركة تبدو وكأنها شقت طريقها بدقة نحو أهدافها بعد أن تسللت في ممرات عابرة فوق قواعد روسية وإيرانية منتشرة على مدى الأراضي السورية، تماماً مثل ما فعلت صواريخ توماهوك الأميركية في 2017. هجمات 2017 و2018 لا تنبئ على الإطلاق أن ترامب يعكف على وضع خطة عمل أو أنه ينوي ذلك، وهو ما يطمئن الأسد أن لا أحد يقف أمام شره.

في الحقيقة ليس الأسد المُطْمَئِنُ الوحيد بل كذلك موسكو وطهران وحزب الله، فهم لا يشعرون على الإطلاق أن هناك ثمة من يردع ويحول دون أعمالهم المتوحشة في سورية على مدى السنوات الأربع الماضية على الأقل. لماذا؟ ليس هناك بعد قوة أخرى مستعدة لمواجهة روسيا أو إيران، أو على الأقل للتوازن معهما، في سورية المنكوبة.

بريطانيا، في هذه المناسبة، تمكنت بنجاح لافت من شن حملة ديبلوماسية في الشهر الفائت لحشد 25 دولة -بما في ذلك الولايات المتحدة وأغلبية أعضاء الاتحاد الأوروبي- لدعم موقف حكومة تيريزا ماي ضد الرئيس فلاديمير بوتين المتهم بمحاولة تسميم مواطنَين روسيين في بلدة سولزبيري في جنوب بريطانيا، هما العميل المزدوج سيرجي سكريبال وابنته يوليا، بغاز كيماوي يضرب الأعصاب.

ويتساءل كثيرون: إذا استطاعت تيريزا ماي أن تجمع حولها هذا العدد الكبير من المؤيدين لها ضد بوتين بمجرد اتهامه بمسعى تسميم ضحيتين فحسب، فلمَ لا يسعى ترامب وماي والرئيس إيمانويل ماكرون لتحشيد رأي عام دولي مماثل يشارك في حملة ديبلوماسية (وعسكرية إذا لزم الأمر) صارمة ضد نظام الأسد وداعميه، روسيا وإيران وحزب الله؟ السلاح الكيماوي محظور واستخدامه محرّم دولياً، إلا أن الأسد واصل استخدامه ضد شعبه في ثلاث مناسبات معروفة من دون أن يخشى أي عقاب أو ردع إقليمي أو دولي. وهو يعي جيداً أن مجلس الأمن الدولي عاجز عن التحرك جراء فيتو راعيه بوتين.

في صيف 2013 استخدم الأسد غاز السارين ضد أهداف عدة في شرق وغرب الغوطة وقتل نحو 1400 ضحية أكثر من ثلثهم من الأطفال. الرئيس السابق باراك أوباما كان على وشك الرد عسكرياً، ولكن اتفاق اللحظة الأخيرة مع بوتين للتخلص من ترسانة الأسد الكيماوية حال دون ذلك. على رغم هذا الاتفاق في 2013 تبين أن موسكو أخلّت به إذ قام الأسد بتكرار الهجوم بالكيماوي في 2017 ضد أهداف تحيط بمدينة إدلب في شمال سورية. ورد ترامب بـ59 توماهوك بعد 72 ساعة وجهت نحو قاعدة الشعيرات الجوية. ذلك الهجوم لم يكن أكثر من صفعة على رسغ الثلاثي المتوحش، دمشق وموسكو وطهران. وهكذا كان الرد الأخير على استخدام الكيماوي في دوما.

في كل الأحوال، واضح أن استخدام الكيماوي يخدم استراتيجية هذا الثلاثي حتى الآن، إذ لا يوجد تفسير آخر لاستخدامه غير نشر الرعب والهلع بين صفوف من تبقى من تجمعات المعارضة في أرجاء سورية. فالهجوم الكيماوي ضد دوما تم تنفيذه بعد ساعات قليلة من بدء تنفيذ اتفاق وقف النار وانسحاب مقاتلي «جيش الإسلام». وإذا بقيت خريطة توزيع القوى على حالها في سورية، ليس هناك من يردع الأسد عن استخدام الكيماوي مرة رابعة وخامسة…، ومن يحول دون استمرار رعاته في المشاركة في جرائم الحرب المتوحشة.

الحياة

 

 

الضربة الأميركية والمعارضة الموالية للنظام/ خلف علي الخلف

في كل لحظات الخطر الجدي على النظام ينضم للموالين عدد كبير من المعارضين السوريين الذين أطلق عليهم «المعارضة الموالية للنظام» وهم طيف واسع، من المعارضة الرخوة، واليسارية الممانعة، إضافة للمعارضة التي صنعتها موسكو

بعد تهديد الأخ الرئيس ترمب لروسيا بصواريخه الجميلة والذكية والجديدة، احتشد مؤيدو النظام، كما يفعلون في كل مرة يتعرض فيها نظامهم لتهديد جدي، ليعلنوا التعبئة الوطنية، والوقوف مع الوطن ومؤسساته وجيشه الوطني الباسل الصامد المدافع عن السيادة الوطنية!

هذا أمر طبيعي، أي أن يحتشد المؤيدون لنظام قتل ما يقارب مليون سوري مع المختفين قسرياً وشرد نصف السكان، ودمر أهم الحواضر المدنية في سورية ببراميله المتفجرة وصواريخه بعيدة المدى ومدافع ودبابات جيشه الباسل، في لحظات الخطر التي تهدد بزوال نظامهم. حدث ذلك مرات عديدة، وتكرر عند كل الانتصارات الحاسمة التي أحرزتها الفصائل العسكرية المسلحة وشكلت تهديدا جدياً للنظام. لكنه يعاد بنسخة متطابقة كل مرة يصدر فيها تهديد يبدو جدياً من المجتمع الدولي، أو من القوة العظمى في العالم الولايات المتحدة الأميركية.

وفي كل لحظات الخطر الجدي على النظام ينضم للموالين عدد كبير من المعارضين السوريين الذين أطلق عليهم «المعارضة الموالية للنظام» وهم طيف واسع، من المعارضة الرخوة، واليسارية الممانعة، إضافة للمعارضة التي صنعتها موسكو وتشبه «المعارضة الثقافية» التي صنعها حافظ الأسد. لكن ما لاحظته هو اختلاف خطاب المعارضة الموالية في حالة التهديد الداخلي عنه في التهديد الخارجي.

ففي حالة التهديد الداخلي يزداد تركيزهم على «الإرهابيين» الإسلاميين، الذين سرقوا الثورة ودمروا البلاد! والإسلاميون ببساطة خاصرة رخوة في الثورة السورية تمكن كل عابر سبيل من النيل منهم نظرا لممارساتهم التي لا تختلف عن النظام الذي يعارضونه في المناطق التي سيطروا عليها. ويضيفون لخطاب معاداة الإرهابيين الإسلاميين في حالة التهديد الداخلي مسحة من التسامح والاعتدال وضرورة الحل السياسي لتجنيب البلاد مزيدا من الخراب. وتظل هناك بعض التمايزات بين المؤيدين والمعارضة الموالية للنظام، في حالة التهديد الداخلي، إذ لا تتجنب المعارضة الموالية في هذه الحالة تحميل النظام جزءا من المسؤولية يبدو يسيرا ويتعلق فقط بعدم جديته في مفاوضات الحل السياسي.

لكن في حالة التهديد الخارجي يصبح التطابق شاملا بين موالي البراميلي، والمعارضة الموالية له، وتصبح مفردات «الوطن» و«السيادة الوطنية» والاعتداء عليها و«تدمير مؤسسات الدولة» و«البنية التحتية» و«الوطن غير الحاكم» و«العدوان الخارجي» والمفردات الأثيرة لخطاب الممانعة اللزج والكريه، حاضرة بقوة.

وفي حالة تهديد ترمب الأخير لم يلحظ موالو البراميلي بمن فيهم معارضته الموالية أن الرئيس ترمب لم يوجه تهديده لوطنهم ولا لنظامهم؛ بل كان تهديده موجها لروسيا! واقتصر ذكره لرئيس نظامهم على وصفه بـ «حيوان الغاز القاتل» الذي اعتبره ترمب مجرد أداة روسية إيرانية تقتل الشعب السوري!

هذا ما لا يمر عليه خطاب «الوطنيون الشرفاء»، الذين يطلق عليهم هذا الوصف سخرية، من مؤيدين ومعارضة موالية؛ فهم لم يتوقفوا مرة عند العدوان الروسي، وهو يبيد حتى المشافي الميدانية، بل لم يعتبروه عدوانا خارجياً، فهو فقط يدمر ويبيد المناطق الخارجة على سيطرة نظامهم الوطني وبالتالي فهو ليس عدوانا خارجياً.

كما لا يذكر «الوطنيون الشرفاء» الاحتلال الإيراني الواضح لجزء واسع من «سورية الأسد»، الوطن الذي يدعمون صموده بوجه العدوان بصدورهم، ولا يذكرون ميليشيات المرتزقة الطائفية التي جمعها الحرس الثوري الإيراني من أصقاع الأرض لتقتل السوريين بجانب نظامهم، وتقتلع من لم تبيده من أرضه وبيته، فهؤلاء جزء من وطنهم «المتجانس»، بعد تهجير نصف السكان، وبدء سياسات الإحلال الطائفي للمرتزقة في بيوت المهجرين.

رغم كل هذا؛ يعتقد المرء، وفي كل مرة توجه فيها الولايات المتحدة تهديدا جديّاً لمن وصفه رئيسها بـ«حيوان الغاز القاتل» بسبب استخدامه السلاح الكيماوي المحرم دوليا على وجه التحديد والحصر، ومن تنادي المعارضة الموالية والشبيحة لمقاومة صواريخ توماهوك المجنحة بالعصي والشيلكا إضافة للصدور، أن هذه ستكون المرة الأولى الذي ستنتهك فيها السيادة الوطنية من الأميركيين. حتى الإخوة المناضلين العرب يجدونها فرصة مناسبة لإصدار بيانات التنديد بالغارة الأميركية! حتى أن ميليشيا النجباء التي تشارك في قتل السوريين أصدرت بياناً تندد فيه بالغارة الأميركية واعتبرتها خرقا للقانون الدولي! وهو ما يعبر بأقل الكلمات عن جبهة المنددين بالضربة الأميركية.

هذا السيل من الغثيان الذي جعل مفهوم الوطنية والشرف والصمود مجرد خرقة بالية لتنظيف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام ضد أبناء شعبهم و«شركائهم في الوطن»، يمكن تذكيرهم جميعاً بأن التحالف الدولي الذي تقوده أميركا نفذ 11 ألف غارة في سورية منذ تشكيله 2014، وأن السيادة انتهكت 11 ألف مرة فقط من هذا التحالف، دون أن نعرج على الطيران الإسرائيلي المجهول الذي يقصف مواقع الحرس الثوري وحزب الله في سورية، فيصمت النظام وموالوه عن قصف الطيران المجهول للسيادة متى ما أراد قبل الثورة وبعدها، حتى أن رئيسهم لم يعد يحتفظ بحق الرد كما كان يفعل في السابق، بل صار يقصف السوريين ويقتلهم كلما ضربته، وإيران، وغارات إسرائيل مفصلة على مقاس الحرس الثوري ومجرميه الذين يقودون إبادة الشعب السوري ولا يراهم الوطنيون الشرفاء، الذين ينحصر وطنهم ببقاء مجرم في السلطة لحماية نهبهم وسرقة بيوت السوريين المهجرين، إذ لا يكاد يخلو بيت من بيوت موالي البراميلي من غرض سرق من بيوتنا، سواء جلبه إلى بيوتهم أبناؤهم في جيش الوطن الذي يسرق حتى الصور المعلقة على الجدران، أو اشتروه من السوق الذي أقاموه لمنهوبات بيوتنا الملطخة بدمائنا.

الوطن السعودية

 

 

 

 

«توماهوك» وحده لن يردع «ثلاثي الشر»/ مصطفى كركوتي

أخيراً سُمح/ لم يُسمح للمفتشين الدوليين بالدخول إلى دوما بعد عشرة أيام على جريمة استخدام الكيماوي في الحرب على هذه المدينة المنكوبة من طرفي القتال. تكرار استخدام النظام المدعوم بغطاء روسي-إيراني للغاز في هذه الحرب المتوحشة في ظروفه المعروفة، هو تحذير واضح لمجموعات المعارضة الأخرى في بقية أرجاء البلاد لا سيما في مناطق شمال إدلب.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف الرئيس السوري في إحدى تغريداته بعد كيماوي دوما بـ «الحيوان»، وأطلق تهديداته باتجاه الثلاثي المتوحش موسكو وطهران والأسد بأنهم سيدفعون «ثمناً باهظاً» على الجريمة. وكان ترامب غرّد قبل أسبوع من الهجوم الكيماوي بأنه سيسحب قوات بلاده من سورية «ويترك المسألة للآخرين»، إلى أن يعود بعد ثلاثة أيام لتغيير رأيه كي يقول «لا قرار بعد في شأن الانسحاب الفوري».

على رغم هجوم أميركا وبريطانيا وفرنسا بصواريخها المسيّرة عن بُعد، ليس هناك ما يوحي أن ثمة استراتيجية قد تبلورت في واشنطن أو لندن أو باريس لإنهاء أو وقف المأساة الإنسانية غير المسبوقة والمستمرة منذ 2011. أميركا وحدها التي تحتفظ بنحو ألفين من قواتها على الأرض في شمال شرقي سورية، تنحصر مهمتها المعلنة بدعم ميليشيا «قوات سورية الديموقراطية» ذات التكوين الكردي- العربي. هجمات التحالف الدولي الجوية تحت القيادة الأميركية على مدى ثلاث سنوات في مناطق شمال شرقي سورية كانت كافية لتطهيرها من «داعش» وإسنادها للقوات الديموقراطية لإدارتها. لكن تركيا أردوغان التي تخوض حملة ضد الأكراد تتهم واشنطن بالتواطؤ مع تلك الميليشيات.

في هذه الأثناء تواصل روسيا وإيران سياستهما في دعمهما غير المحدود جواً وأرضاً لنظام دمشق وارتكاب الجرائم في الغوطة الشرقية، والتي كان آخرها ضرب أكبر بلداتها، الغوطة، بالكيماوي، على رغم اتفاقيات عدة تمت بين الحكومة والمعارضة المسلحة برعاية موسكو وطهران خرقتها قوات النظام أكثر من مرة.

الآن بعد فظائع دوما، هل يتجه الرئيس ترامب نحو وضع استراتيجية من أجل سورية؟ إذا كان سيفعل ذلك، فما هي هذه الاستراتيجية؟ إن لم تكن استراتيجية، فلتكن خطة عمل لإنهاء المأساة أولاً والبدء بوضع تصورات لطبيعة سورية المستقبل. لوضع هكذا خطة، على ترامب أن يطرح سؤالاً مبدئياً: لماذا يلجأ بشار الأسد لاستخدام السلاح الكيماوي؟ الجواب ببساطة هو أن الأسد يشعر بالطمأنينة والثقة لسببين: رعاية روسية متينة ووجود أميركي ضعيف يثير الشفقة. الأسد مقتنع تماماً في هذه الظروف بأنه لن يجد أحداً يستطيع اعتراض سبيله مهما تمادى في التوحش والقتل.

وأضح أن الطريقة التي تم بها قصف ثلاثة أهداف أخيراً حول حمص وريف دمشق والتحضير لها لعدة أيام، حال دون وقوع إصابات بين قوات النظام أو الجنود الروس أو ميليشيات «الحرس الثوري» الإيراني. الصواريخ الغربية المشتركة تبدو وكأنها شقت طريقها بدقة نحو أهدافها بعد أن تسللت في ممرات عابرة فوق قواعد روسية وإيرانية منتشرة على مدى الأراضي السورية، تماماً مثل ما فعلت صواريخ توماهوك الأميركية في 2017. هجمات 2017 و2018 لا تنبئ على الإطلاق أن ترامب يعكف على وضع خطة عمل أو أنه ينوي ذلك، وهو ما يطمئن الأسد أن لا أحد يقف أمام شره.

في الحقيقة ليس الأسد المُطْمَئِنُ الوحيد بل كذلك موسكو وطهران وحزب الله، فهم لا يشعرون على الإطلاق أن هناك ثمة من يردع ويحول دون أعمالهم المتوحشة في سورية على مدى السنوات الأربع الماضية على الأقل. لماذا؟ ليس هناك بعد قوة أخرى مستعدة لمواجهة روسيا أو إيران، أو على الأقل للتوازن معهما، في سورية المنكوبة.

بريطانيا، في هذه المناسبة، تمكنت بنجاح لافت من شن حملة ديبلوماسية في الشهر الفائت لحشد 25 دولة -بما في ذلك الولايات المتحدة وأغلبية أعضاء الاتحاد الأوروبي- لدعم موقف حكومة تيريزا ماي ضد الرئيس فلاديمير بوتين المتهم بمحاولة تسميم مواطنَين روسيين في بلدة سولزبيري في جنوب بريطانيا، هما العميل المزدوج سيرجي سكريبال وابنته يوليا، بغاز كيماوي يضرب الأعصاب.

ويتساءل كثيرون: إذا استطاعت تيريزا ماي أن تجمع حولها هذا العدد الكبير من المؤيدين لها ضد بوتين بمجرد اتهامه بمسعى تسميم ضحيتين فحسب، فلمَ لا يسعى ترامب وماي والرئيس إيمانويل ماكرون لتحشيد رأي عام دولي مماثل يشارك في حملة ديبلوماسية (وعسكرية إذا لزم الأمر) صارمة ضد نظام الأسد وداعميه، روسيا وإيران وحزب الله؟ السلاح الكيماوي محظور واستخدامه محرّم دولياً، إلا أن الأسد واصل استخدامه ضد شعبه في ثلاث مناسبات معروفة من دون أن يخشى أي عقاب أو ردع إقليمي أو دولي. وهو يعي جيداً أن مجلس الأمن الدولي عاجز عن التحرك جراء فيتو راعيه بوتين.

في صيف 2013 استخدم الأسد غاز السارين ضد أهداف عدة في شرق وغرب الغوطة وقتل نحو 1400 ضحية أكثر من ثلثهم من الأطفال. الرئيس السابق باراك أوباما كان على وشك الرد عسكرياً، ولكن اتفاق اللحظة الأخيرة مع بوتين للتخلص من ترسانة الأسد الكيماوية حال دون ذلك. على رغم هذا الاتفاق في 2013 تبين أن موسكو أخلّت به إذ قام الأسد بتكرار الهجوم بالكيماوي في 2017 ضد أهداف تحيط بمدينة إدلب في شمال سورية. ورد ترامب بـ59 توماهوك بعد 72 ساعة وجهت نحو قاعدة الشعيرات الجوية. ذلك الهجوم لم يكن أكثر من صفعة على رسغ الثلاثي المتوحش، دمشق وموسكو وطهران. وهكذا كان الرد الأخير على استخدام الكيماوي في دوما.

في كل الأحوال، واضح أن استخدام الكيماوي يخدم استراتيجية هذا الثلاثي حتى الآن، إذ لا يوجد تفسير آخر لاستخدامه غير نشر الرعب والهلع بين صفوف من تبقى من تجمعات المعارضة في أرجاء سورية. فالهجوم الكيماوي ضد دوما تم تنفيذه بعد ساعات قليلة من بدء تنفيذ اتفاق وقف النار وانسحاب مقاتلي «جيش الإسلام». وإذا بقيت خريطة توزيع القوى على حالها في سورية، ليس هناك من يردع الأسد عن استخدام الكيماوي مرة رابعة وخامسة…، ومن يحول دون استمرار رعاته في المشاركة في جرائم الحرب المتوحشة.

الحياة

 

 

 

الضربة العسكرية الثلاثية على سورية: الدلالات والآثار

تمهيد

أثار استهداف مدينة دوما في ريف دمشق يوم 7/4/2018 موجة من ردود الفعل الدولية، ومناوشات دبلوماسية وسياسية بين الولايات المتحدة وروسيا، في حالة مشابهة لأصداء مجزرة خان شيخون في ريف إدلب، التي حدثت يوم 4/4/2017.

وتولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الإعلان مبكراً عن نية الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية، وهو ما حصل بالفعل فجر يوم 14/4/2018. ووفقاً لمدير الأركان المشتركة في وزارة الدفاع الأمريكية، فإن العملية شملت إطلاق (105) صواريخ، وإنها وصلت كاملة إلى أهدافها، كما تمّ رصد إطلاق أكثر من 40 صاروخاً أرض-جو من أنظمة الدفاع السورية، أطلقت جميعاً بعد انتهاء الضربات الثلاثية.

وأثارت المناوشات الإعلامية والدبلوماسية التي سبقت الضربة الكثير من التفاعل في الأوساط السورية المؤيدة والمعارضة، ورُصدت حالة من الارتباك الكبير في أوساط الأجهزة الأمنية والعسكرية في مناطق النظام، الأمر الذي رفع من مستوى التوقعات خاصة لدى كل الأطراف المحلية. كما أدّت العملية ذاتها إلى جملة من التداعيات على الفاعلين، وحملت دلالات عديدة، وهو ما سيتناوله هذا التقرير.

الرسائل والدلالات

الغياب المسبق للفاعلية العسكرية

افتقرت العملية العسكرية قبل بدايتها للفاعلية المطلوبة في أي عمل عسكري، الذي يرتكز بشكل أساسي كما هو معروف في العلوم العسكرية على “عامل المباغتة”. فالضربات كانت متوقعة على نطاق واسع، والرغبة في تنفيذها كانت معلنة بشكل رسمي من أعلى هرم السلطة العسكرية والسياسية في الولايات المتحدة، كما أن الأهداف التي تم استهدافها كانت متوقعة هي الأخرى، ونشرت أسماء معظمها في وسائل إعلام دولية خلال الأيام الثلاثة التي سبقت الضربة. ومن ثم فإنّ النظام السوري، وبإشراف روسي وإيران بطبيعة الحال، عمل على تفريغ هذه المواقع تحسباً لعمليات الاستهداف العسكري.

وكان ملفتاً أن الضربات لم تخلّف أي ضحايا على الإطلاق، حتى وفقاً للتصريحات الرسمية السورية (التي عادة ما ترفع من عدد الضحايا في أي استهداف مماثل لكسب تعاطف الجمهور)، بما يُشير إلى أن المباني التي تم استهدافها كانت خالية حتى من الحرس، ومن باب أولى فإنّها قد أخليت من أي مواد أو أسلحة نوعية.

الدفاع الجوي الروسي غير الفاعل

منذ إعلان روسيا عن إدخال منظومات الدفاع الجوي S300 وS400 إلى سوريا، لم تقم هذه المنظومات باستهداف أي طائرات معادية تقوم بغارات في مناطق السيطرة الروسية، بما في ذلك العديد من الغارات الإسرائيلية، والغارات الأمريكية في عام 2017 والغارات الثلاثية في عام 2018.

وقد برر بيان وزارة الدفاع الروسية الصادر يوم 14/4/2018 امتناع روسيا عن اعتراض الضربات الثلاثية بأن “أياً من صواريخ العدوان على سوريا لم تستهدف أياً من المناطق الموجود فيها الدفاعات الجوية الروسية بقاعدتي طرطوس وحميميم الروسيتين”.

ويمكن تفسير عدم الرد هذا ضمن خيارين:

  • الأول: افتقار هذه المنظومة لإمكانية وقف الطلعات المعادية، أو الخشية من استخدامها وفشلها، الأمر الذي سيُسبّب حرجاً عسكرياً لروسيا. وهو أمر محتمل بالنسبة إلى بعض الصواريخ الحديثة التي تم استخدامها للمرة الأولى في هذه العملية.
  • الثاني: أن هناك قراراً سياسياً بتجنّب الصدام الحاد مع المعسكر الغربي، حتى في حالة اختراقه لنطاق النفوذ الروسي، أو أن هناك اتفاقاً ضمنياً أو فعلياً بين الولايات المتحدة وروسيا يقضي بعدم استخدام الدفاعات الجوية مقابل عدم استهداف القوات الروسية أو أي هدف حيوي للمصالح الروسية.

وبكل الأحوال، فإنّ عدم استخدام منظومات الدفاع الجوي الروسية لمواجهة أي طلعة من الطلعات المعادية التي شُنت على الأراضي التي تخضع للنفوذ الروسي يُضعف من الهيبة الروسية، كما أنه يترك أثراً سلبياً على النظام ومؤيديه، إذ يبدو أن النظام لن يحصل على الحماية من هذه المنظومات، ما دامت الضربات المعادية لا تستهدف مصالح روسية مباشرة.

تجنب الأهداف الروسية والإيرانية

لم يتضمّن بنك أهداف العملية الثلاثية أي أهداف إيرانية أو روسية، وحرصت الدول الثلاث على تأكيد هذا الأمر في بياناتها وتصريحاتها.

ويشير التجنّب الغربي للأهداف الروسية وحتى الإيرانية إلى رغبة بعدم الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا وإيران، وهو الأمر الذي تجاوبت معه البلدان من خلال عدم استخدام منظومات الدفاع الجوي في سوريا. كما يُشير إلى محدودية الرسائل التحذيرية التي يرغب المهاجمون بإيصالها.

رسالة محدودة

على خلاف الضربة الأمريكية السابقة، فإنّ المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين حرصوا بعيد الضربة الثلاثية على تأكيد انتهاء الرد العسكري، وأن هذه الضربة تحمل صفة “المحدودية”، مع ترك الباب مفتوحاً أمام ردود فعل عسكرية أخرى في حال تجاوز النظام خط الأسلحة الكيميائية الأحمر مرة أخرى.

وجاء هذا التحديد بصورة واضحة في تغريدة للرئيس ترامب فجر يوم 14/4/2018، حين قال بأن “المهمة أنجزت”. في استعادة للعبارة نفسها التي استخدمها جورج بوش الابن عام 2003 لإعلان انتهاء الحرب على العراق.

ويمكن تفسير الإعلان الأمريكي عن انتهاء العملية في رغبة لمنع أي آثار اقتصادية قد تشهدها أسواق المال عندما تعاود عملها بعد انتهاء عطلة نهاية الأسبوع.

مناورات عسكرية وإعادة توزيع قوى

سمحت العملية العسكرية للولايات المتحدة بتوجيه حاملات طائراتها إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، والعمل بشكل مشترك مع بريطانيا وفرنسا لتنفيذ مناورة لتدخل سريع في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يشكّل قيمة مضافة بالنسبة للجيش الأمريكي والجيشين البريطاني والفرنسي.

وقام الجيش الأمريكي في هذه العملية بتجربة صاروخ كروز جديد من تصنيع شركة لوكهيد مارتن، الذي تم إنتاجه كجزء من برنامج دفاعي قيمته (4.6) مليارات دولار. ويمتاز هذا الصاروخ بأنه مصمم لاختراق مسافة (322 كم) داخل أراضي العدو دون اكتشافه من قبل الرادارات. وغالباً فإنه الصاروخ الذي وصفه ترامب في تغريدة له قبيل الضربة بأنه “صاروخ ذكي”، ولن يكون بإمكان روسيا إيقافه.

كما أن إعادة الانتشار العسكري في البحر الأبيض، والحضور الأمريكي القوي في المنطقة، وجّه رسالة إلى دول المنطقة بأسرها، مفادها أن الولايات المتحدة وإن انسحبت من سوريا وغيرها، فإنّها الفاعل الأهم في المنطقة والعالم، ومن ثم فإنّ على دول المنطقة أن تحسم خياراتها. وكان لافتاً ما بدا أنه تراجع تركي عن تحالف مع روسيا، حيث أيّدت الضربة بشدة، وأكّدت على لسان رئيس الجمهورية أن تحالفها مع الولايات المتحدة أعمق من شراكتها مع روسيا. كما كان لافتاً البيان الذي أصدرته سلطنة عمان تأييداً للعملية العسكرية، وهي التي اعتادت على اتخاذ مواقف ضبابية أو لا مواقف فيما يتعلق بالشأن السوري عموماً.

اعتراض على مجزرة لا تغيير نظام

حرصت التصريحات الرسمية للدول المهاجمة على تأكيد الارتباط المباشر للضربات بالمجزرة التي حصلت في دوما، وعلى أن هذه الدول لا ترغب بتغيير أو إسقاط النظام في سوريا، بل إن الولايات المتحدة على لسان سفيرتها في الأمم المتحدة أكّدت للمرة الأولى أنها لم تسع إلى إسقاط النظام في أي مرحلة.

ويستهدف هذا التصريح المؤسسات السياسية الداخلية في الدول الثلاث، ثم المنظومة الدولية بالدرجة الثانية. إذ إن الرد على استخدام الأسلحة الكيميائية يملك مبرراً في القانون الدولي، على خلاف تغيير النظام الذي يستدعي تفويضاً من مجلس الأمن.

الداخل الأمريكي: أول الأهداف

شكّل استهداف مدينة دوما بالأسلحة الكيميائية فرصة ذهبية بالنسبة إلى الرئيس ترامب، الذي يواجه تحقيقاً يُضيّق عليه الخناق حول تأثير روسي محتمل على حملته الانتخابية. وقد نفّذت الضربات الأمريكية على سوريا بعد أيام من قيام جهاز الأمن الفيدرالي باقتحام مكتب محامي ترامب نفسه ومصادرة ملفاته، بما ساعد على نقل النقاش السياسي في الولايات المتحدة مؤقتاً إلى مربع الأزمة في سوريا والعلاقة مع روسيا، وشتت التركيز الإعلامي على كتاب جيمس كومي المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالية، الذي صدر في اليوم نفسه الذي حصلت فيه العملية العسكرية. لكن هذا الأثر يبقى محدوداً ومؤقتاً.

كما ساعدت العملية في إظهار ترامب شعبياً بمظهر القائد القوي الذي يصون سمعة الولايات المتحدة، على عكس أوباما الذي لم يلتزم بصيانة خطوطه الحمراء. كما يَظهر ترامب شعبياً في هذه الضربات مواجهاً روسيا ومشاريعها، وليس سياسياً ربما تكون روسيا قد ساعدته على الوصول إلى موقعه كما تقول المجموعات السياسية ووسائل الإعلام المعادية له داخل الولايات المتحدة.

ماي تبحث عن إرثها الخاص

تشكّل موافقة الحكومة البريطانية على المشاركة في العملية العسكرية الأمريكية دون عرض الموضوع على البرلمان سابقة سياسية، ويمكن أن يؤدّي مثل هذا القرار إلى عواقب سياسية على رئيس الوزراء تيريزا ماي، لكنها لا تُمانع على ما يبدو في دفع ثمن هذا الموقف، مقابل مردوده السياسي الكبير. فرئيسة الوزراء وصلت إلى موقعها دون انتخاب شعبي، ويتوقع أن تخسر هذا الموقع في أول استحقاق انتخابي، وارتبطت مهمّة حكومتها بالبحث عن اتفاق مع الاتحاد الأوروبي للخروج منه بأقل الخسائر، ومن ثم فإنّ إرثها السياسي سيكون ضعيفاً وخالياً من الإنجاز، حتى لو حققت أفضل اتفاق ممكن مع بروكسل.

وقد منحت قضية تسمم العميل الروسي في سيلزبري، ثم المشاركة في العملية الأمريكية على سوريا، فرصة لماي لتدخل التاريخ كقائد سياسي قوي يستخدم صلاحياته دون العودة إلى البرلمان، وكقائد يحافظ على هيبة المملكة المتحدة في وجه ما اعتبر استخفافاً روسياً بالسيادة البريطانية.

فرنسا تعود من البوابة الأمريكية

يسعى ماكرون منذ وصوله إلى السلطة منتصف عام 2017 إلى استعادة الدور الفرنسي في الشرق الأوسط بأي شكل. لكنه يواجه دائماً الإمكانيات المحدودة لبلاده عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، التي تمنعها من القيام بأدوار رئيسية فاعلة ومستقلة.

وقد شكّلت العملية الأمريكية فرصة لماكرون للحصول على دور من خلال البوابة الأمريكية في سوريا. كما أن العملية شكّلت الفرصة الأولى لماكرون للقيام بعمل عسكري، وللظهور هو الآخر، مثل تيريزا ماي، بمظهر القائد القوي الذي يتخذ القرار المناسب ضمن صلاحياته دون موافقة مسبقة من البرلمان.

 

الأثر على الفاعلين

النظام السوري

رغم أن الاستهداف شمل مواقع للنظام السوري حصراً دون داعميه، فإنّ النظام هو الرابح الأساسي من هذه العملية، حيث منحته رصيداً شعبياً داخل سوريا وخارجها، في منطقة تحتفي عموماً بأولئك الذين يتعرّضون لهجمات أمريكية أو إسرائيلية، وتحمل في ذاكرتها عدواناً ثلاثياً مشابهاً على مصر إبان حكم جمال عبد الناصر، وهو العدوان الذي استخدمه عبد الناصر لصناعة نجوميته في العالم العربي.

وتساعد الضربات الأمريكية المشابهة على النظام السوري في إظهاره في موقع القوي المقاوم لرغبات الغرب في إسقاطه، وأنه لم ينتصر على المعارضة فحسب بل انتصر على الولايات المتحدة والناتو! رغم أن الضربات لم تقترب بأي شكل من الأشكال من أي هدف حيوي حقيقي للنظام. بل إن الولايات المتحدة أكّدت بعيد الضربة، ولأول مرة، أنها لم تكن ترغب في أي وقت بإسقاط النظام.

وبالمقابل، ورغم الحصاد الإيجابي للنظام بعد انتهاء الضربة، فإن حالة الذعر التي سادت قبيل العملية الثلاثية في أوساط الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة، وأوساط المؤيدين عامة، والتي كانت واضحة للمواطنين العاديين، تظهر الهشاشة العالية للنظام، ومحدودية قدرته على مواجهة أي استهداف حقيقي حتى مع الوجود المباشر للقوات الروسية والإيرانية على أرضه.

المعارضة

تبدو المعارضة كأنها الخاسر الأبرز في هذه الضربة، وكل الضربات ومشاريع الضربات السابقة، لاعتبارات ذاتية وموضوعية.

فمن جهة، تعامل الجمهور المعارض مع الضربات ومشاريعها على أنها مشاريع موجّهة لدعم المعارضة، وتستهدف إضعاف النظام. وعملت شخصيات سياسية وإعلامية معارضة على الترويج للضربات العسكرية قبيل حصولها، وتوجيه الإنذارات إلى القوى العسكرية المؤيدة للنظام على اعتبار أن ساعة نهاية النظام قد حانت، مستخدمين لغة تشي بأن الضربات المحتملة ستتم لتحقيق أهداف المعارضة، لا أن المعارضة ومصالحها، والسوريين عموماً، لا يدخلون بأي شكل في معادلة اتخاذ القرار الخاص بهذا النوع من العمليات. ويساهم هذا “التحشيد الاستباقي” في كل مرة في رفع توقعات الجمهور المعارض بشكل كبير، وفي تعظيم خيبة الأمل بعد ذلك.

كما تؤدّي الضربات غير المؤثرة بتاتاً في النظام إلى إظهار الغرب كقوة تتدخل عسكرياً لمساندة المعارضة والانتقام لضحاياه، وفي الوقت نفسه فإن الغرب (ومعه المعارضة) يفشلان في إيقاف النظام. وهذه الصورة أقرب ما تكون إلى الحالة المثالية التي يحتاج إليها النظام في برنامجه الدعائي القائم على “مقاومة الغرب”، وهو اتجاه جاذب في كل العالم العربي والإسلامي، وفي أوساط اليسار الغربي عموماً.

وعلى المستوى الشعبي، فإنّ تكرار مثل هذه الضربات بداعي استخدام الأسلحة الكيميائية لقتل المدنيين يُساعد في تغذية التيارات المتطرفة بشكل أكبر في المنطقة، لأنها تمثّل إقراراً من المجتمع الدولي بشرعية قتل المدنيين بكل الأسلحة الأخرى، رغم أن الأسلحة الكيميائية لم تؤد إلا لمقتل أقل من 0.5% من ضحايا نظام الأسد خلال السنوات السابقة. كما يساهم مثل هذا التوجّه في إضعاف التيارات المدنية في المنطقة، التي تُطالب بالاحتكام إلى القانون بدلاً من العنف كوسيلة لإنصاف الضحايا.

روسيا

خسرت روسيا بلا شك في هذه الضربات، سواء أكانت قد تمّت بناء على تنسيق معها أو بدون ذلك، إذ إنها اضطرت بكل الأحوال لتقبّل ضربات غربية على أراضٍ تخضع لسيطرتها العسكرية والسياسية، ومن ثم فإنّها خسرت من رصيدها الدولي، إضافة إلى تضعضع الصورة التي يصنعها بوتين لنفسه ولروسيا داخل بلاده، كقائد قوي قادر على إعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، وتحدي الغرب والعالم.

كما خسرت روسيا في أوساط مؤيدي النظام، الذين كانوا يشعرون بالطمأنينة للوجود العسكري الروسي في سوريا، وأن هذا الوجود قادر على منع الآخرين جميعاً من استهداف النظام الذي يؤيدونه. حيث أدرك المؤيدون أن روسيا أضعف بكثير من الصورة التي تروّجها روسيا لنفسها والصورة التي يقدمها الإعلام الموالي للنظام، وأنها اكتفت في ساعة الحقيقة بحماية قاعدتيها العسكريتين لا أكثر.

لكن خسائر روسيا من الضربات لا تصل إلى المستوى الاستراتيجي، إذ إنها حصلت من خلالها على إقرار غربي ببقاء النظام كما تريده روسيا، كما ساهمت الضربة في ترسيخ بروبغاندا النظام، ومن ثم منحه شرعية شعبية يحتاجها النظام لإعادة إنتاج نفسه، وهو أمر يصب لصالح روسيا.

إيران

بدت إيران كأنها غير معنية بالعمليات العسكرية، إذ إنها لم تتعرّض للاستهداف المباشر رغم وجود قواتها والمليشيات التابعة لها على الأرض، ورغم أن العملية تأتي بعد أيام من استلام مستشار الأمن القومي الجديد جون بولتن مهامه، وهو صاحب مواقف معادية بشكل مطلق لإيران، وداعية لاستهدافها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

لكن عدم الاستهداف المباشر لإيران لا يعني أن رسالة الضربة لم تصلها. فالعملية التي اختارت أهدافاً رمزية هذه المرة، يمكن أن تُنفذ في مرة قادمة ضد أهداف إيرانية إن لم تتجاوب طهران مع الضغوطات الغربية والإقليمية لسحب قواتها ومليشياتها الأجنبية من سوريا. كما أن الغارات أكّدت غياب الرغبة الروسية في استخدام أنظمة دفاعها الجوي في أي هجمات لا تستهدف مصالحها المباشرة، ومن ثم فإنّ إيران سيكون عليها حماية مواقعها وقواتها بنفسها.

وكما فعل النظام، فإن إيران عملت على استثمار تداعيات الضربة في التحشيد لبرنامجها الدعائي القائم على مواجهة ما تسميه المشاريع الأمريكية والصهيونية والغربية لاستهداف محور المقاومة. كما منحت العمليات العسكرية فرصة للمجموعات التي تدعمها في المنطقة لإعادة التموضع سياسياً. وكان أبرز هذه المجموعات “حركة حماس”، التي استنكرت العملية واصفة إياها بـ”بالعدوان السافر على الأمة” من أجل الحفاظ “على وجود الكيان الصهيوني وتمرير مخططاته”. وهو خطاب يتماهى بالكامل مع الخطاب الإيراني، ويهدف استخدامه لإعلان انتقال رسمي إلى الضفة الإيرانية، بعد سنوات من الفجوة.

إسرائيل

تقوم إسرائيل بغارات مستمرة على أهداف داخل سوريا. وعلى خلاف العملية الأمريكية في 2017 والعملية الثلاثية الحالية، فإنّ الغارات الإسرائيلية تستهدف مواقع مأهولة وفاعلة، وغالباً ما تكون ذات صلة مباشرة بالوجود الإيراني في سوريا، وتتسبب في خسائر بشرية في صفوف القوات الإيرانية أو المليشيات الأجنبية التابعة لها.

وقد أظهرت العملية الثلاثية أن الولايات المتحدة غير معنية، حتى الآن على الأقل، باستهداف المصالح الإيرانية في سوريا، وأن الضغوطات الإسرائيلية على واشنطن لم تُسفر إلا عن ضربة شكلية من الناحية الاستراتيجية، ومن ثم فإنّ على إسرائيل أن تتولى بنفسها المواجهة مع إيران، وألا تنتظر من الولايات المتحدة القيام بهذه المهمة بالنيابة عنها.

ويتوقع أن يعمل رئيس الوزراء الإسرائيلي في الفترة القادمة على تصعيد عمليات الاستهداف العسكري للمصالح الإيرانية في سوريا، حتى لو أدى هذا الأمر إلى اشتباك مباشر مع القوات الإيرانية، وسيحاول تحقيق إنجاز ملموس يمكن أن يُساعده سياسياً في الانتخابات المقبلة نهاية العام القادم.

ويُشير محللون مطلعون إلى أن القيادة الإسرائيلية حسمت أمرها بخصوص مواجهة الوجود الإيراني في سوريا من خلال العمل على إسقاط نظام الأسد نفسه، حيث وصلت الدوائر الأمنية الإسرائيلية إلى قناعة بأن الأسد لم يعد قادراً على التخلّص من النفوذ الإيراني، حتى إن أراد ذلك، ومن ثم فإنّه أصبح امتداداً كاملاً لمشروع طهران، ولا بد من التخلّص منه.

 

جسور للدراسات

 

 

 

كانت ضربة سياسية بوسائل عسكرية/ علي العبدالله

أثارت الضربة العسكرية الغربية، الأميركية- البريطانية- الفرنسية، لمواقع عسكرية ومراكز بحثية للنظام السوري فجر 14/4/2018، ردود أفعال محلية وإقليمية ودولية متباينة. وقد اصطبغت غالبية ردود أفعال المعارضة السورية ومثقفيها وحواضنها الشعبية بالإحباط وخيبة الأمل كون الضربة لم تؤد إلى إضعاف النظام ولا إلى تغيير في ميزان القوى لمصلحتها.

فقد كانت ضربة محدودة في المدة الزمنية والأهداف التي قصفتها (قارن مثقف من المعارضة الضربة بالضربات التي وجهها حلف شمال الأطلسي (الناتو) لصربيا: 80 يوماً من القصف المتواصل لإسقاط الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، وذلك للتعبير عن تطلعه لضربات مماثلة). وقد توزعت تعليقاتها بين اعتبار الضربة بلا فعالية عسكرية، وبين اعتبارها حاجة أميركية إلى حفظ ماء وجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد رفعه سقف التهديدات في وجه روسيا، ذكر الرئيس الروسي بالاسم، كثيراً، وبين ربط محدوديتها بالسعي إلى تجنّب مواجهة مباشرة مع روسيا وإيران، بل وذهب بعضها إلى اعتبار النظام الرابح الأساسي من هذه العملية، «حيث منحته الضربة رصيداً شعبياً داخل سورية وخارجها»، وفق تقدير موقف لمركز «جسور للدراسات» نشره يوم 17/4/2018، تحت عنوان «الضربة العسكرية الثلاثية على سورية: الدلالات والآثار»، قلة من المعارضين السوريين نجحت في إدراك طبيعة الضربة وأهدافها باعتبارها رسالة سياسية أولاً وأخيراً. لم يكن هذا حال المعارضة السورية ومثقفيها وحواضنها الشعبية وحدها، بل حال دول عربية ووسائل إعلامها المرئية والمقروءة والمسموعة التي تبنت تقديراً يشكك في جدية العملية وأهدافها ومراميها.

لم يكن هدف الضربة عسكرياً بالمطلق، فقد خُطط لها ونُفذت بعد الإعلان عن القرار بشنها بأيام، ما سمح للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين بأخذ احتياطاتهم لتلافي القصف وتجنب آثار الضربة المباشرة، ما يعني أن هدفها لم يكن تحقيق مكاسب عسكرية بل استثمار حدث عسكري للإعلان عن «نقطة نظام» على سياق سياسي مرتبط بالحل في سورية خطته روسيا مع تركيا وإيران في الأستانة وسوتشي، وهذا ما أكده التحرك الدبلوماسي الغربي في الأمم المتحدة، بعد ساعات على الضربة، عبر طرح مشروع قرار في مجلس الأمن حول صيغة للحل قائمة على تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، وخاصة القرارات 2118 و2254 و2401، التي تتناول السلاح الكيماوي والحل السياسي ووقف النار والجوانب الإنسانية، والتمسك بمسار جنيف مساراً وحيداً للتفاوض، إذ لو كان هدف الضربة تحقيق إنجاز عسكري ما كان حوّلها أصحابها إلى سر معلن، كما أن إلحاق خسائر كبيرة ومباشرة بالنظام وحلفائه يجعل جلوسهم إلى طاولة التفاوض مستحيلاً لأنه سيضعهم في موقع المهزوم والمستسلم، وهذا ليس بالتصرف المنطقي المتسق مع خطوة هدفها تصحيح المسار السياسي وتنفيذ حل بالتوافق. تقدير أكده كلام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حين قال: «إن بلاده مستمرة في العمل من أجل حل سياسي يشمل الجميع في سورية، من خلال التحدث إلى جميع الأطراف، روسيا وتركيا وإيران والنظام وجميع قوى المعارضة، من أجل بناء سورية الغد وإصلاح هذا البلد». وتأكيد وزير خارجيته جان إيف لودريان لذلك في مقابلة مع صحيفة «لو جورنال دو ديمانش» الأسبوعية بقوله: «إن تدرك روسيا أنه بعد الرد العسكري (…)، علينا أن نضم جهودنا للدفع في اتجاه عملية سياسية في سورية تسمح بإيجاد مخرج للأزمة». وما أكده وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس خلال مؤتمر صحافي في برلين، مع وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند بقوله: «علينا أن نستغل هذه اللحظة لتحريك العملية السياسية مجدداً. نحتاج إلى روسيا أيضاً في هذا الحوار».

أرادت الدول الثلاث إعادة روسيا إلى جادة الصواب عبر مواجهة فشلها في فرض الحل السياسي الذي تتصوره من خلال مسلسل آستانة وسوتشي، وانه لا يمكن القفز على الدور الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص، وأن الدول الثلاث قادرة على قلب الطاولة، بدليل الحشد العسكري الضخم الذي نجحت في تنفيذه في البحر الأبيض المتوسط في فترة زمنية قياسية، والضربة التي نفذتها ضد مواقع النظام السوري وكشفت بها عجز آلة الحرب الروسية من منعها أو التصدي لها، هزت الضربة صورة روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين (اعتبرها السفير الروسي لدى الولايات المتحدة إهانة لبوتين) وأفقدتها جـزءاً مهماً مـن رصيـدها الدولي، كما حطت مـن شـأن سـلاحـها، وهـددت «وحـدة» ثــلاثـي آستانة.

لكن الدول الثلاث لا تريد تكرار خطأ روسيا بالعمل على حل منفرد لا يأخذ مصالح كل الفاعلين في الملف السوري في الاعتبار، وها هي تدعو إلى حل توافقي بالاستناد إلى قرارات دولية صوتت عليها دول مجلس الأمن، بما في ذلك روسيا ذاتها.

لم تبد روسيا استعداداً لقبول الدعوة الغربية إلى حل قائم على تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي، فقد أعلن سفيرها في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، عن عدم استعداد بلاده التحاور مع الغرب حول سورية بعد الضربات العسكرية، معتبراً أن جهود الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في الأمم المتحدة لبدء تحقيق جديد في الأسلحة الكيماوية في سورية، وإنعاش محادثات السلام «تأتي في غير وقتها»، ودعت، في الوقت ذاته، واشنطن إلى حوار استراتيجي لحل الملفات العالقة بينهما من سورية إلى أوكرانيا، لكن واشنطن رفضت العرض وذكّرت روسيا بواقعها السياسي (عزلة دولية، بخاصة في مجلس الأمن) والاقتصادي (عجز اقتصادي عكسه انهيار سعر صرف الروبل (الدولار بـ 60 روبلاً)، واستعدادها لمساعدتها في مواجهة أزمتها الاقتصادية في حال غيرت نهجها السياسي) وضعفها التقني (40 في المئة من مكونات الأسلحة الروسية مستوردة من الغرب).

وهذا مع بقاء الحشد العسكري الغربي الضخم شرق المتوسط ينذر بمخاطر جمة على الشعب السوري الذي سيدفع ثمن المواجهة على أرضه إن وقعت.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

الرسالة ونتائجها الظاهرة/ ميشيل كيلو

تتضح يوميا نتائج ضربة واشنطن ولندن وباريس العسكرية التي استهدفت مرافق كيميائية وعسكرية أسدية في سورية. وقد سبق أن تساءلت عن القصد منها، إن كانت لم تستهدف الأسد، أو غلبته العسكرية، أو وقف الحرب، أو الاحتلالين الإيراني والروسي، وقلت إنها رسالةٌ حملت التحديدات الثلاثة التالية:

لا لانفراد روسيا بالحل، ولا حل في صيغة أمر واقع روسي. لا لحل روسي مع إيران وتركيا، ولتجاهل الغرب ومصالحه. الحل دولي ويجب أن يكون طرفاه روسيا والغرب، مع مراعاة مصالح إيران وتركيا التي لا يجوز أن تخرج عنه. لا حل تمليه انتصارات النظام والروس والإيرانيين. الحل يجب أن تمليه القرارات الدولية وموازين القوى بين روسيا والغرب، مع التذكير بوجود أوروبا العسكري الثابت في سورية، وبالقوات البريطانية والفرنسية والألمانية المقاتلة التي تنتشر في قواعد بعضُها مشترك مع الأميركيين، وتضم مختلف أنواع الأسلحة، ويعترض قادة بلدانها على انسحاب قوات واشنطن من سورية.

لم تستهدف الضربة النظام ورئيسه، لأنها كانت رسالةً تتخطاه عنوانها روسيا، هدفها تحديد علامات حمراء أميركية/ أوروبية مشتركة لبيئة الحل الدولي، بالتعاون معهم، وبما يترك لهم مكانة فيه، ويطالبهم بنوعٍ من الممارسات والخيارات، تقيد فلتانهم على مناطق خفض التصعيد والتوتر، وحرية الأسد وإيران في المناطق خارجها، وتبدل نمط علاقاتهم مع طهران وأنقرة، لينفتح بالنتيجة باب التفاهم بين الغرب والكرملين على تطبيق القرارات الدولية بشأن سورية، أو على أية تفاهمات أخرى يمكن التوافق حولها، ويؤدي إقرارها إلى إغلاق باب الحل المنفرد وحل الأمر الواقع الذي يبدو كأن موسكو تحثّ الخطى نحوه، وتريد فرضه بالقوة على عالم أفهمتها الرسالة أنها ليست أقوى دولة.

فتح الغرب باب التواصل مع الروس، في خلوة عقدت بدعوة من السويد، يقال إن مندوبا من نظام الأسد كان بين الذين تابعوها عن كثب، لكن رد الروس جاء عصبيا وحربجيا ومشحونا بمختلف أنواع التهويل والأكاذيب التي أرادوا من خلالها تجنب ما سببته الضربة لهم من حرج، فهم تارة أبعدوا غواصة بريطانية عن الساحل السوري، فلم تطلق صواريخها، أو وضعوا خطوطا حمراء التزمت الدول الغربية بها، وطورا يعلنون أن الضربة أسقطت “الوازع الأخلاقي” الذي منعهم من إرسال صواريخ إس 3000 إلى الجيش الأسدي (وصلت الصواريخ يوم 21 من إبريل/ نيسان الجاري وسط إجرءات غير مسبوقة في مرفأ طرطوس، كتغطيته بغلالة من دخان حجبت الرؤية عنه!)، ثم بدأ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يهدّد بتقسيم سورية، قبل أن يدخل بوتين على الخط، ويرد بلغةٍ تصعيديةٍ على الضربة، وما تلاها من تطوراتٍ وضعت روسيا بين أمرين أحلاهما مر: عسكري لا يمكنها تجاوزه، وسياسي يفتح أمامها باب الخروج من رهانٍ ربما كان باستطاعته قهر ثورة السوريين، لكنه لا يستطيع لي ذراع أميركا وأوروبا اللتين أقدمتا على تحدٍّ لم ينفع معه تهويل سفير موسكو في بيروت بـ”الرد على مصادر العدوان”، أو مبالغات الجنرالات الروس بقدرات أسلحتهم الرادعة.

يبدو أننا أمام تطورٍ يقود إلى انخراط غربي محسوب في المسألة السورية، ستستخدم فيه وسائل لم يسبق أن استخدمت من قبل: على الصعيد السياسي بالدرجة الأولى، ومن ثم العسكري، التزاما بالمحدّدات الثلاثة التي ذكرتها في مطلع هذا النص، والتي يبدو أنها ستلزم الغرب بمواقف لم يسبق له أن اعتمدها، فيها نهاية حقبة انفرد الروس خلالها بسورية.

العربي الجديد

 

ضربة استعراضية ثلاثية على سورية بحسابات ترامب الشخصية

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

وجّهت دول التحالف الثلاثي (الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا)، فجر 14 نيسان/ أبريل 2018، ضربة استهدفت مواقع لقوات النظام السوري، في مناطق متفرقة حول العاصمة دمشق وريف مدينة حمص الجنوبي الغربي، شملت إطلاق أكثر من مئة صاروخ. ردًا على ما اعتبرته إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خرقًا جديدًا من قوات النظام السوري الخط الأحمر المتمثل باستخدام أسلحة كيميائية في حربها على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.

كيميائي دوما

بدأت الأزمة الجديدة عندما نشرت مواقع معارضة صور ومقاطع فيديو تظهر مدنيين، أكثرهم من الأطفال، موتى أو يصارعون الموت نتيجة اختناقات وصعوبات شديدة في التنفس لدى محاولة إنقاذهم، فيما بدا هجومًا كيميائيًا جديدًا شنته قوات النظام السوري، صباح يوم السبت 7 نيسان/ أبريل 2018، على مدينة دوما التي كانت تستعد، في الأثناء، لبدء تنفيذ عملية إخلاء مقاتلي “جيش الإسلام” وعائلاتهم بموجب الاتفاق الذي توصل إليه الفصيل المعارض مع الجانب الروسي قبل ذلك بأيام. جاء الهجوم الكيميائي كأنه محاولة من النظام للضغط على المعارضة لاستعجال تنفيذ الاتفاق، وفي فرصة أخيرة لمعاقبة منطقة الغوطة المحيطة بدمشق، والتي تمردّت على النظام واستعصت عليه طوال هذه السنوات. أدى الهجوم إلى سقوط عشرت القتلى وإصابة مئات، بحسب تقارير طبية مختلفة، واستفز ردود فعل عالمية غاضبة على أحدث استخدام للغازات السامة ضد مناطق المعارضة في سورية.

ومع انتشار الصور، توعد الرئيس دونالد ترامب في تغريدة له على “توتير” بمعاقبة نظام الرئيس بشار الأسد، وقال إن إدارته سوف ترد على هذا الهجوم خلال فترة بين 24 و48 ساعة. وكان لافتًا هذه المرة اتفاق الدول الغربية على تحميل روسيا المسؤولية عن الهجوم؛ باعتبارها الضامن اتفاقية عام 2013 التي جرّدت النظام السوري من أسلحته الكيميائية عقب الهجوم الذي تعرّضت له الغوطة الشرقية في آب/ أغسطس 2013، وأدى حينها إلى مصرع أكثر من 800 مدني، في أكبر هجوم كيميائي يشهده الصراع في سورية. وقد حمل الرئيس ترامب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًّا مسؤولية الهجوم على دوما؛ نتيجة دعمه النظام السوري. كما ألقى وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، اللوم على روسيا؛ لأنها لم تف بالتزاماتها لضمان تخلي سورية عن أسلحتها الكيميائية. وجددت الولايات المتحدة جهودها في مجلس الأمن، التابع لمنظمة الأمم المتحدة، لإجراء تحقيق لتحديد المسؤول عن استخدام أسلحة كيميائية في سورية. ووزعت على الدول الأعضاء في المجلس نسخة محدثة من مشروع قرار لإجراء التحقيق، كانت قد طرحته في الأول من آذار/ مارس 2018، واعترضت عليه روسيا حينها. أما رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، فقد أعلنت أنّ النظام السوري وداعميه، وفي طليعتهم روسيا، “يجب أن يحاسبوا”، إذا ثبت وقوع هجوم كيميائي في دوما. وشنت فرنسا هجومًا حادًا على روسيا في مجلس الأمن، وقال سفيرها في الأمم المتحدة، فرنسوا ديلاتر، إن “الدعم العسكري الروسي والإيراني موجود على الأرض، وعلى جميع مستويات آلة الحرب السورية، وما من طائرة سورية تقلع من دون أن يتم إبلاغ الحليف الروسي”، مشددًا على أن الهجوم على دوما وقع بموافقة ضمنية أو صريحة من روسيا أو رغمًا عنها وعن وجودها.

واللافت للنظر أن أيًا من الدول التي هاجمت استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية لم تذكر الإبادة الجماعية بالأسلحة التقليدية، ولا التهجير الجماعي؛ كما لم يذكر أي منها ضرورة التخلص من نظام الأسد.

أدى اتفاق الدول الغربية على توجيه أصابع الاتهام إلى روسيا بتحميلها المسؤولية عن الهجوم الكيميائي إلى رفع مستوى التوتر بين الطرفين، وأسقطت روسيا مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن، الداعي إلى تشكيل لجنة تحقيق جديدة للبحث في استخدام الكيميائي، عبر استخدام حق النقض (الفيتو) للمرة الثانية عشرة منذ اندلاع الأزمة السورية، والمرة السادسة بشأن استخدام الكيميائي من جانب النظام. لكن روسيا فشلت في المقابل في الحصول على دعم كاف لقرارين مضادين، وزعتهما بديلًا من القرار الأميركي. وقد هدّدت روسيا على لسان سفيرها في لبنان بإسقاط الصواريخ الأميركية وضرب قواعد إطلاقها، إذا نفذت الولايات المتحدة تهديداتها بالهجوم على سورية، فرد الرئيس الأميركي بتغريدة على “توتير”، قال فيها “تهدد روسيا بإسقاط الصواريخ الأميركية ضد سورية، استعدّي روسيا، فالصواريخ قادمة، جميلة، جديدة وذكية، روسيا يجب أن لا تكوني شريكة مع الحيوان قاتل الغازات السامة، الذي يقتل شعبه بها ويستمتع بذلك”.

دوافع ترامب وحسابات البنتاغون

أوحت تغريدات الرئيس ترامب بوجود رغبة فعلية لدى الإدارة الأميركية في توجيه ضربة قوية إلى نظام الرئيس بشار الأسد، تضع حدًا نهائيًّا لاستخدام الغازات السامة في حربه ضد المناطق الثائرة على حكمه، وتشمل حتى داعمَيه الرئيسيَين، روسيا وإيران، لكن وزارة الدفاع الأميركية بدت أشدّ تحفظًا. وكان واضحًا اختلاف تقديرات البنتاغون عن تقديرات الرئيس في الشهادة التي أدلى بها وزير الدفاع، جيمس ماتيس، في 12 نيسان/ أبريل 2018، عندما قال أمام

“لا يمكن استبعاد حصول انخراط أميركي أكبر في المسألة السورية في الفترة المقبلة، سياسيًا أو عسكريًا”

الكونغرس الأميركي إن “هجومًا كيميائيًا وقع في سورية، وأن أميركا تبحث عن دليل”، وتابع: “الولايات المتحدة تنتظر الأدلة على استخدام الأسلحة الكيميائية في دوما من جانب خبراء منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية”. وذهب إلى أن بلاده لا تريد أن تتدخل “في الحرب الأهلية في سورية”، وأن هدفها يبقى هزيمة تنظيم داعش؛ وهذا يعني أنها لا تتدخل لصالح هذا الطرف أو ذاك في ما اعتبره حربًا أهلية سورية.

وفي حين بدت ردود أفعال الرئيس ترامب على استخدام السلاح الكيميائي مجددًا من النظام السوري مدفوعةً بحسابات شخصية وانتخابية واضحة، كان رد فعل البنتاغون محددًا بحسابات إستراتيجية، ومخاوف من التورّط في مواجهة مع الإيرانيين والروس في سورية، إضافة إلى عدم الرغبة في التورّط في الصراع في سورية. ومع تعمق التحقيقات بخصوص التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، وتنامي الشكوك حول علاقاته بالرئيس بوتين الذي أصر ترامب على تهنئته بالفوز في انتخابات الرئاسة الروسية أخيرا، على الرغم من اعتراض مستشاريه، في ظل أزمة محاولة اغتيال العميل الروسي، سيرغي سكريبال، بمواد كيميائية في بريطانيا، وجد الرئيس ترامب في الهجوم الكيميائي على دوما فرصةً لإثبات عدم صحة المزاعم المرتبطة بعلاقته المشبوهة بروسيا، من خلال التصعيد الظاهري معها، ورفع سقف التوقعات بدعوته ليس إلى ضرب قوات النظام السوري فحسب، بل إلى استهداف القوات الروسية أيضًا. وهو في الحقيقة لم يكن ينوِ فعل أيٍّ من الأمرين. وعلاوة على ذلك، كان الرئيس يستجيب على المستوى الخطابي لضغوط قيادات الحزب الجمهوري التي كانت تطالب بمواقف أشدّ حزمًا تجاه روسيا وسياساتها العدوانية المتزايدة. وفي سنةٍ انتخابيةٍ حاسمة للكونغرس، وتزايد المؤشرات على احتمال خسارة الجمهوريين مجلس النواب، كان ترامب يستخدم معاناة السوريين لتعزيز حظوظ حزبه الانتخابية؛ ذلك أن خسارة الكونغرس تمثّل ضربة كبيرة للرئيس ترامب، في ظل دعوات من الديمقراطيين للبدء بإجراءات عزله؛ على خلفية التدخل الروسي الذي جاء لصالحه في انتخابات 2016.

وخلافًا للرئيس أوباما الذي تراجع عن تعهده بضرب النظام السوري، عندما استخدم الأخير السلاح الكيميائي، كان ترامب مسكونًا باعتقاده أنه رئيس حازم وقوي. وكان هذا الدافع تحديدًا هو ما دعاه إلى توجيه ضربة إلى مطار الشعيرات، في 7 نيسان/ أبريل 2017، وهي القاعدة التي انطلقت منها الطائرة التي نفذت الهجوم الكيميائي الشهير على بلدة خان شيخون في 4 نيسان/ أبريل 2017. من هنا، جاء إصراره على توجيه ضربة أكبر هذه المرة؛ على اعتبار أن ضربة عام 2017 لم تمنع النظام من معاودة استخدام السلاح الكيميائي.

أما البنتاغون، فكانت حساباته تقوم على اعتبارات إستراتيجية بحتة؛ فمع أنه كان يتفق مع الرئيس حول ضرورة توجيه ضربة عسكرية رادعة إلى النظام، حتى لا يغدو استخدام السلاح الكيميائي أمرًا اعتياديًّا، ومخافة انتشار استخدامه على نطاق عالمي، كما حصل في محاولة اغتيال العميل الروسي في سالزبوري في بريطانيا، فإن البنتاغون كان يقاوم، من جهة ثانية، الانجرار إلى مواجهة عسكرية مع روسيا أو حتى مع إيران، إذا ما تم توجيه ضربة قاسية إلى قوات النظام السوري، تمس حلفاءه أيضًا. وفي النهاية، بدا واضحًا أن مقاربة البنتاغون هي التي فرضت نفسها. وهي وجهة النظر الأقرب أيضًا إلى تفكير الحليفَيْن، بريطانيا وفرنسا.

لم تكن الإدارة الأميركية عمومًا راضية عن المسار الثلاثي لحل الأزمة السورية، والذي باشر بتقسيم سورية إلى مناطق خفض تصعيد من دون إيجاد حل، وإن لم تقاوم هذا المسار أو تحاول عرقلته وتعطيله. ولكن هذا التقارب الثلاثي، والذي يبدو أن الصين رغبت أخيرا في الانضمام إليه، لا يطمئن الإدارة الأميركية على نحو خاص؛ لا سيما أن الاجتماع المقبل سيكون في طهران.

ضربة استعراضية

منذ إعلان الرئيس الأميركي نيته الرد عسكريًّا على هجوم دوما الكيميائي، حصل النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون على الوقت اللازم لاتخاذ كل التدابير الممكنة للحد من الخسائر المترتبة على الهجوم الأميركي الوشيك؛ فأخلوا مقراتهم العسكرية المهمة، ونقلوا جزء من الأعتدة والطائرات إلى القواعد العسكرية الروسية لتأمينها من الضربة. كما أن هذه الضربة الثلاثية كانت مخططة بدقة ومحددة مكانًا وزمانًا؛ بحيث لا تخلف أضرارًا كبيرة في بنية النظام العسكرية، ولم تمسّ الهجمات الصاروخية أي أهداف روسية أو إيرانية، بل تركّز معظمها على مراكز الأبحاث ومقرات إنتاج السلاح الكيماوي للنظام السوري، فجرى استهداف مركز البحوث العلمية في برزة، التابع لوزارة الدفاع السورية، والذي يُعتقد أنه من المراكز التي تتم فيها عمليات تطوير السلاح الكيميائي السوري. إضافة إلى ذلك، استُهدف مطار المزة العسكري الذي يقع جنوب غربي العاصمة دمشق، ويحوي المقر الرئيس لقيادة الاستخبارات الجوية السورية. واستُهدفت مواقع عسكرية للنظام السوري في مناطق القلمون الشرقي، فضلًا عن استهداف “اللواء 105″، التابع للحرس الجمهوري قرب دمشق. كما شملت الهجمات الصاروخية مواقع عسكرية للنظام وحزب الله في ريف محافظة حمص الجنوبي الغربي في منطقة وادي خالد القريبة من الحدود اللبنانية. وكانت الأضرار محدودة كما يبدو، ولم يسقط ضحايا.

تداعيات الضربة

لا يمكن النظر إلى الضربة العسكرية التي استهدفت مواقع لقوات النظام السوري إلا على أنها

كانت استمرارًا لعوامل لا ترتبط مباشرة بأي مؤشراتٍ، تدل على تغير إستراتيجي في توجهات الإدارة الأميركية السياسية والعسكرية في سورية، وهي:

  • عامل شخصي يتعلق برغبة الرئيس ترامب في رسم صورةٍ حازمةٍ عن إدارته للداخل الأميركي والخارج، يبرهن معها على ضعف رؤية إدارة أوباما السابقة التي تعاملت مع الملفات الخارجية بطريقة انكفائية من جهة، وفرصة يريد من خلالها ترامب أيضًا تبديد الشكوك بشأن وجود علاقة لإدارته بروسيا من جهة أخرى.
  • عامل سياسي يتصل برغبة المؤسسة العسكرية الأميركية في إحراج روسيا، ومعاقبتها، وإظهار ضعفها وعجزها عن الرد، مع تجنب المخاطرة بدخول أي مواجهةٍ معها، مع استمرار التركيز على الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وعدم الانجرار إلى الصراع السوري.
  • عدم رضا أميركي عن المسار الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني لحل الأزمة السورية.

وعلى الرغم من أنه من غير المتوقع أن تؤثر الضربة التي جاءت رمزيةً واستعراضيةً إلى حد كبير في التطورات العسكرية والسياسية للصراع في سورية، بل قد تؤدي إلى ارتكاب مزيد من الانتهاكات من جانب النظام وحلفائه، في ضوء فهمهم أن الغرب لا يمانع استخدام هذا النظام كل أدوات القتل، باستثناء السلاح الكيميائي. وفي ضوء احتفاله الشاذ وغير المستحَق بعد الضربة التي لم تستهدفه على الإطلاق حتى يحتفل بنجاته منها، فإنه لا يمكن استبعاد حصول انخراط أميركي أكبر في المسألة السورية في الفترة المقبلة، سياسيًا أو عسكريًا. ويمكن تلمس مؤشرات هذا الانخراط في النقاشات التي دارت داخل الإدارة الأميركية بشأن إمكانية استهداف قواعد روسية وإيرانية في سورية، خصوصا مع انضمام مستشار الأمن القومي الجديد، جون بولتون، ووزير الخارجية الجديد، مايكل بومبيو، وهما من دعاة التصعيد مع إيران وروسيا. هذا إضافة إلى تزايد الطموح الإسرائيلي إلى أداء دور في الصراع الدائر داخل سورية، عبر المواجهة المباشرة مع الوجود الإيراني وتفرعاته؛ ما يزيد من تعقيد الصورة الإقليمية وانعكاسها على الساحة السورية. ولكنّ هذا سيكون موضوع تقدير موقف آخر.

 

 

 

القصف الإسرائيلي وضربة التحالف الثلاثي: منعطف جديد في الأزمة السورية

شهدت سوريا في فترات متقاربة هجمة إسرائيلية مرشحة للتكرار والانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع إيران، وهجمة ثلاثية شاركت فيها أميركا وفرنسا وبريطانيا كانت محدودة وتتفادى الصدام مع روسيا.

مقدمة

ثمة حدثان رئيسان شهدتهما الساحة السورية في النصف الأول من أبريل/نيسان 2018: أولهما مَرَّ دون قدر كبير من الضجيج الإعلامي، والثاني بدا في الساعات السابقة على وقوعه كأنه يهدد باندلاع صراع غير مسبوق منذ عقود بين روسيا والكتلة الغربية. تمثَّل الحدث الأول في قيام طائرات إسرائيلية، مساء 9 أبريل/نيسان 2018، بقصف مطار تي فور (T-4) السوري، شرقي حمص. أما الثاني، فتمثل في الضربة التي وجهها تحالف ثلاثي من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، فجر يوم 14 أبريل/نيسان 2018، لعدة أهداف سورية، يُعتقد أنها ذات صلة مباشرة بتطوير وتخزين أسلحة كيماوية.

بعد ورود تقارير بقيام قوات النظام السوري باستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين وجماعات المعارضة المسلحة، المحاصرين في مدينة دوما، شرقي غوطة دمشق، في 7 أبريل/نيسان 2018، باتت الضربة المشتركة للنظام السوري أمرًا مفروغًا منه. أما حادثة القصف الإسرائيلي لمطار تي فور العسكري فلم تكن متوقعة وقد تجاهلتها حتى وسائل إعلام نظام دمشق، كما رفضت الدوائر الرسمية الإسرائيلية تبنيها أو إنكارها. ولم تتأكد المسؤولية الإسرائيلية عن قصف تي فور حتى أُعلنت في بيان لوزارة الدفاع الروسية.

كيف تطورت وقائع الأزمة السورية لتصل إلى هذه الاستباحة لأجواء وسيادة سوريا خلال أسبوع واحد فقط؟ ما الذي يضيفه الحادثان إلى مستوى التعقيد البالغ الذي وصلته الأزمة السورية؟ وإلى أي حد يسهم الخلاف الدولي حول سوريا في دفع علاقات روسيا بالغرب إلى ما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة بعودة الحرب الباردة؟

النظام السوري والسلاح الكيماوي

تقول المعارضة السورية، كما شهادات العديد من السكان المدنيين وعناصر الحماية المدنية، الذين أسهموا في إنقاذ الضحايا: إن النظام استخدم سلاحًا كيماويًّا بصورة عشوائية ضد المحاصرين في مدينة دوما، يوم 7 أبريل/نيسان 2018، وكانت المدينة لم تزل في قبضة جيش الإسلام، أحد فصائل المعارضة المسلحة. لكن النظام السوري أنكر اتهامات استخدامه السلاح الكيماوي في المدينة، كما كان أنكر من قبل اللجوء للسلاح الكيماوي منذ 2013. قُتل في الهجوم على دوما ما يقارب الأربعين من سكان المدينة، وأصيب العشرات باختناقات متفاوتة. خلال يومين من وقوع الهجوم، توصل جيش الإسلام إلى اتفاق مع الروس لإخلاء المدينة من المسلحين وعائلاتهم ومن يرغب من السكان، وما إن بدأت عملية الإخلاء حتى دخلت عناصر عسكرية روسية إلى دوما. وسرعان ما أعلن الروس أنهم لم يجدوا دليلًا على وقوع هجوم كيماوي، مصطفِّين بذلك، وكما في مناسبات سابقة، إلى جانب النظام.

خلال الأسبوع التالي، أكد الفرنسيون، على لسان رئيسهم، وأكثر من مصدر مسؤول أميركي، على وجود أدلة تؤكد استخدام النظام للسلاح الكيماوي في دوما، وأن هذا السلاح كان من غاز الكلور، وغاز آخر لم يتم تحديده بعد.

السؤال الذي أثارته الحادثة هو: لماذا يضطر النظام للجوء لاستخدام السلاح الكيماوي ضد آخر مواقع المعارضة المسلحة في محيط دمشق، ومعركة الغوطة الشرقية توشك على الانتهاء؟ الحقيقة أن ليس ثمة إجابة يقينية على هذا السؤال.

الإجابة الأولى تتعلق بالعدد الكبير من عناصر جيش الإسلام في دوما، الذين يتمتع أغلبهم بخبرة عسكرية طويلة وتسليح جيد. ويبدو أن النظام لم يكن يرغب في خوض معركة اجتياح بري، يتوقع أن يتكبد فيها خسائر كبيرة. أما استخدام السلاح الكيماوي فكان سيُوقع الذعر في صفوف الأهالي والمسلحين، ويجبر الآخرين على توقيع اتفاق إجلاء سريع عن المدينة.

وكانت شائعات قد انتشرت منذ زمن حول احتفاظ جيش الإسلام بمئات من العناصر العلوية الموالية للنظام رهائن في المدينة (التقدير الذي تأكد بعد ذلك أنه مضخَّم ولا ينطبق على الواقع). وكان الرئيس السوري قابل أهالي العلويين المفقودين، منذ بدء معركة الغوطة الشرقية، متعهدًا بالبحث عنهم وتحريرهم. ويبدو أن النظام أراد إظهار شيء من الجدية لقاعدته العلوية، وتوكيد عزمه على استخدام كل وسيلة ممكنة لإيقاع الهزيمة بمسلحي دوما وتحرير من بحوزتهم من الرهائن.

تقول الإجابة الأخرى، والتي تحمل مصداقية أكبر: إن النظام أراد زرع الرعب في صفوف عناصر جيش الإسلام وأوساط من تبقى من سكان دوما، ودفع أكبر عدد ممكن من الطرفين إلى مغادرة المدينة وإخلائها. فغوطة دمشق، ذات الأغلبية السنية الساحقة، كانت تُعتبر المعقل الرئيس للثورة السورية منذ انطلاقها في مارس/آذار 2011. بل إن أول ظهور للسلاح في صفوف المعارضين سُجِّل في الغوطة. الغوطة الشرقية، على وجه الخصوص، لصيقة بالعاصمة دمشق، وتشرف على بعض من أهم مؤسسات الحكم السوري. ولا شك في أن النظام تبنى سياسة تطهير طائفي في كافة معاركه من معاقل المعارضة السنية. وقد أصبحت هذه السياسة أكثر وضوحًا بعد صدور مرسوم إعادة تسجيل الممتلكات، الذي يتيح للنظام السيطرة على ممتلكات اللاجئين الذين يخشون العودة إلى مناطق سكناهم وإعادة تسجيل منازلهم وأراضيهم.

مهما كان الأمر، فقد أثارت التقارير حول استخدام النظام السلاح الكيماوي ردود فعل غربية حادة، لاسيما من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. بدأ النظام استخدام السلاح الكيماوي منذ 2013، عندما كان يوشك على خسارة حربه ضد الثوار المسلحين، وفي الغوطة على وجه التحديد. وبالرغم من أن الرئيس باراك أوباما كان قد أعلن أن استخدام السلاح الكيماوي خط أحمر، فقد انتهى الأمر حينها إلى اتفاق، توسطت فيه روسيا، يقضي بتخلص نظام الأسد كلية من مخزونه من السلاح الكيماوي. ولكن ثمة تقارير تؤكد أن النظام، الذي احتفظ ببنية تحتية تؤهله لإعادة إنتاج السلاح الكيماوي، عاد لاستخدام هذا النوع من السلاح منذ 2015، وفي أكثر من خمسين واقعة، وثَّقتها المعارضة السورية.

في أبريل/نيسان 2017، وجَّهت الولايات المتحدة ضربة محدودة لمطار الشعيرات العسكري، ردًّا على حادثة استخدام سلاح كيماوي في خان شيخون في الرابع من الشهر نفسه. ويشير قصف الشعيرات إلى أن الرئيس ترامب، بضغوط من عدد من مساعديه، قرر عدم التسامح مع استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي، بغضِّ النظر عن السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية. فعودة النظام إلى استخدام الكيماوي، بعد سنة واحدة فقط على هجوم خان شيخون والضربة التي وُجِّهت لمطار الشعيرات، أوحت بأن النظام لا يكترث بالتهديدات الأميركية، وأن الضربة الأميركية السابقة لم تكن كافية لردعه عن اللجوء لهذا السلاح. ولذا، فمنذ أصدر الرئيس ترامب تهديداته للنظام وحلفائه الروس، بعد يوم واحد فقط من واقعة دوما، لم يعد ثمة شك في أن الأميركيين سيوجهون ضربة جديدة للنظام. ما لم يكن واضحًا هو حجم تلك الضربة، ومدتها، وطبيعة الهدف الذي تسعى إدارة ترامب لتحقيقه منها.

هجوم إسرائيلي مفاجئ

مساء 9 أبريل/نيسان 2018، تعرض مطار تي فور العسكري، شرقي حمص، الذي يضم بعضًا من أحدث طائرات سلاح الجو السوري، ويُعتقد أنه بات مركزًا لتجمع الخبراء العسكريين الإيرانيين والميليشيات الشيعية المساندة لنظام دمشق، لهجمات نفذتها طائرتان على الأقل. كان ثمة شك في البداية في أن قصف تي فور لم يكن سوى العقاب الأميركي المنتظر للنظام. ولكن سرعان ما صدر بيان من واشنطن، يؤكد على أن القوات الأميركية لم تنفذ الهجوم. مصادر لبنانية مسؤولة ذكرت أن طائرات إسرائيلية اخترقت المجال الجوي اللبناني قبل قليل من الهجوم. بعد ذلك صدر بيان وزارة الدفاع الروسية الذي أكد على مسؤولية الإسرائيليين عنه. النظام السوري، من جهته، تجاهل الإشارة إلى الهجوم أو توجيه الاتهام للإسرائيليين، بينما رفض مسؤولون إسرائيليون التعليق على الحادثة.

حسب الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، ياكوف كاديمي، قامت إسرائيل بتنفيذ ما لا يقل عن 100 هجمة جوية على أهداف في سوريا. والمعروف على نطاق واسع أن الإسرائيليين توصلوا إلى ما يشبه الاتفاق الضمني مع الروس، منذ بدء التدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية في خريف 2015، على أن لإسرائيل حق الدفاع عن أمنها في سوريا، خصوصًا ما يتعلق بالتهديدات التي تشكِّلها إمدادات السلاح لحزب الله عبر الأراضي السورية. ولذا، فإن الهجمات الجوية الإسرائيلية على أهداف ذات صلة بإمدادات السلاح لحزب الله أو محاولة عناصره التمركز بالقرب من الحدود السورية مع فلسطين المحتلة، لم تتوقف، لا قبل انطلاق الثورة السورية ولا بعدها، ولا قبل التدخل الروسي المباشر ولا بعده. بيد أن هذه المرة تبدو مختلفة قليلًا.

إسرائيل، بالطبع، لم تهاجم تي فور لمعاقبة سوريا على استخدام السلاح الكيماوي، وكان الإسرائيليون قد أوضحوا من البداية أن لا شأن لهم بما يقوم به نظام الأسد ضد شعبه. الحقيقة، أن الطائرات الإسرائيلية هاجمت مركزًا عسكريًّا إيرانيًّا، وأوقعت بالفعل خسائر في أرواح عسكريين إيرانيين، إلى جانب تدمير منشآت أخرى في المطار. هذا ما أكده زعيم حزب الله، حسن نصر الله، وحليف إيران الأوثق، في 13 أبريل/نيسان 2018، عندما علَّق على قصف تي فور بقوله: إن “إسرائيل ارتكبت خطأ تاريخيًّا عندما وضعت نفسها في صراع مباشر مع إيران”.

كان مسؤولون إسرائيليون، بمن في ذلك رئيس الحكومة، نتنياهو، ووزير الدفاع، ليبرمان، أكدوا في أكثر من مناسبة على أن الدولة العبرية لن تسمح لإيران بتأسيس وجود عسكري دائم في سوريا. في 29 مارس/آذار 2018، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال خطاب له في أوهايو، أنه سيقوم بسحب كافة العناصر العسكرية الأميركية من سوريا. جاء إعلان ترامب مفاجئًا حتى لأركان إدارته في وزارتي الدفاع والخارجية. ويبدو أن الرئيس أقنعه مساعدوه في الأيام القليلة التالية بالتمهل قبل اتخاذ قرار الانسحاب الكلي. ولكن، وبالرغم من نشوب أزمة استخدام السلاح الكيماوي، يبدو أن ترامب لم يزل مصممًا على الخروج من سوريا، ربما خلال أشهر وليس أسابيع، كما أوحى خطاب أوهايو.

هناك عدد يتراوح بين 2000 و3000 من العسكريين الأميركيين، أخذوا في الانتشار في الشرق السوري منذ بداية المعركة ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا في نهاية 2014. تقوم هذه القوة بمهمات تدريب للقوات الكردية التي يعتمد عليها الأميركيون في الحرب ضد التنظيم، وتدير مطارات صغيرة ومراكز إمداد لوجيستي، كما تقدم إرشادًا أرضيًّا للطائرات الأميركية المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة. الوجود الأميركي الوحيد غرب الفرات هو ذلك المرتبط بحماية القوات الكردية في منطقة منبج، والذي يعتبر مصدر خلاف مستمر مع تركيا. ويُنظر إلى الوجود العسكري الأميركي في سوريا على أنه يحقق هدفين رئيسين: الأول: المعركة ضد تنظيم الدولة، ومنعه من استعادة المواقع التي خسرها في الشرق السوري. والثاني: الوقوف أمام محاولة إيران تأمين خط إمداد يمتد من غربي إيران إلى المتوسط، عبر شمال العراق وشرق سوريا. وبالنظر إلى أن الأميركيين لم يعتبروا سوريا منطقة حيوية لاستراتيجيتهم في الشرق الأوسط، فمن المستبعد أن يكون لوجودهم شرق سوريا أية علاقة مباشرة بمناكفة جيوسياسية لروسيا.

إنْ نفَّذ ترامب وعيده بالانسحاب من سوريا كلية، فلن يخسر الأكراد مصدر حمايتهم الرئيس وحسب، بل سيصبح طريق إيران إلى المتوسط أكثر تمهيدًا. من جهة أخرى، وبالنظر إلى أن المعركة على شمال العراق لم تُحسم نهائيًّا بعد، فلا تزال هناك صعوبات أمام تحقيق إيران هدفها. هذا، على أية حال، لم يمنع الإيرانيين من محاولة تأسيس وجود عسكري ثابت ودائم في سوريا، بخلاف السياسة التي اتبعوها في السنوات الأولى من الثورة السورية، بالرغم من إدراكهم أن مثل هذه الخطوة تشكِّل استفزازًا كبيرًا للإسرائيليين. ويبدو أن هذا التغيير في مقاربة الوضع السوري يرتبط بمخاوف متزايدة في طهران من موقف إدارة ترامب من الاتفاق النووي، واحتمال قيام الأميركيين أو الإسرائيليين بمهاجمة إيران.

يرى الإسرائيليون أن التمركز العسكري الإيراني الدائم في سوريا يشكِّل، بحد ذاته، تهديدًا استراتيجيًّا لأمن الدولة العبرية، وليس فقط باعتباره ظهيرًا لحزب الله. كما يقرأ الإسرائيليون الوجود الإيراني في سوريا في موازاة التقارير التي تفيد بارتفاع تسليح حزب الله إلى مستوى غير مسبوق، وزيادة إمدادات السلاح لحماس في غزة. وهذا ما يدفع الإسرائيليين إلى معارضة قرار ترامب بالانسحاب من سوريا، ويجعلهم أكثر استعدادًا للتعامل مع الوجود الإيراني هناك.

الروس، من جهتهم، لا يرحبون بوجود إيراني عسكري دائم في سوريا. ولكن ثمة شكوك حول قدرتهم على منعه، طالما أن نظام الأسد لم يتخذ موقفًا معارضًا لمثل هذا الوجود. روسيا، بالطبع، لا تريد أن ترى الإسرائيليين يعملون على إحداث المزيد من التعقيد والتوتر في سوريا، وهذا ما دفع بوتين للحديث مع نتنياهو بعد ضربة تي فور. ولكن الروس، في النهاية، لن يستطيعوا منع مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران في حال قرر ترامب انسحابًا أميركيًّا كليًّا من شرق سوريا، ما لم تتراجع إيران عن محاولتها تأسيس وجود عسكري دائم في البلد الممزق بين نفوذ ومصالح العديد من قوى الإقليم والعالم.

عقاب ثلاثي محدود لنظام بشار

عقد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال الأسبوع التالي لوقوع الهجوم الكيماوي على دوما، سلسلة من الاجتماعات مع أركان إدارته ومجلس أمنه القومي لبحث الخطوة التي سيعتمدها لمعاقبة نظام الأسد. كما أجرى اتصالات بحلفاء الولايات المتحدة في حلف الناتو، في مؤشر على عزمه إعطاء خطوته طابع تحالف دولي وليس أميركيًّا وحسب. ولكن رد الفعل الروسي على تهديدات الرئيس الأميركي لنظام الأسد كان حادًّا، مؤكدًا على أن أية ضربة أميركية لسورية ستُعتبر عدوانًا غير قانوني على دولة مستقلة وذات سيادة، وستُواجَه بإجراءات روسية مضادة. أدى فشل مجلس الأمن الدولي، في 10 أبريل/نيسان 2018، في تمرير مشروع قرار أميركي لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة حول استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي، وفي تمرير مشروع قرار روسي لتشكيل لجنة محدودة الصلاحيات، إلى تعزيز مناخ الأزمة بين أميركا وحلفائها، من جهة، وروسيا، من جهة أخرى.

في 11 أبريل/نيسان 2018، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عزم بلاده المشاركة في أي إجراء عقابي لنظام الأسد. وفي اليوم التالي، حصلت رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، على دعم حكومتها للقيام بعمل مشترك مع الأميركيين والفرنسيين لتوجيه ضربة عقابية للنظام السوري. تركيا، الدولة الأخرى المعنية بالشأن السوري، والتي أثيرت تساؤلات حول حقيقة موقفها، بصفتها عضوًا في الناتو، التزمت الحذر وتراوحت تصريحات مسؤوليها بين التنديد بنظام الأسد وعدم الرغبة في رؤية سوريا تتحول إلى ساحة صراع بين الدول الكبرى.

يمكن أن يُفهم موقف فرنسا السريع بتأييد فكرة توجيه ضربة للنظام السوري في ضوء سعي الرئيس ماكرون لإعادة ترميم دور فرنسا الدولي، باعتبارها قوة أوروبية رئيسة يمكن الاعتداد بها. أما بريطانيا، التي تلقت دعمًا قويًّا من أميركا وفرنسا في أزمة علاقاتها بروسيا التي ولَّدتها حادثة تسميم العميل الروسي السابق، سيرغي سكريبال، فوجدت من الصعوبة التخلف عن الموقف الأميركي والفرنسي. تركيا، من جهة ثالثة، حاولت من خلال اتصالات رئيسها بالرئيسين، الأميركي والروسي، اقتناص الفرصة ومحاولة إقناع روسيا بالتخلي عن الأسد في مقابل تراجع أميركا عن توجيه ضربتها للنظام، ولكن المحاولة التركية لم تحقق نتائج ملموسة.

في الرابعة من فجر 14 أبريل/نيسان 2018، بتوقيت الشرق الأوسط، بدأت الهجمة الأميركية-الفرنسية-البريطانية على منشآت رسمية سورية، واستمرت لسبعين دقيقة. خلال الهجمة، وُجِّه لثلاثة مواقع سورية ذات صلة بأبحاث السلاح الكيماوي وتخزينه، ومواقع قيادة وتحكم لصيقة بها، ما يزيد عن 100 صاروخ، من طائرات ومنصات إطلاق بحرية، أغلبها أميركية. وبخلاف ما ذكرته مصادر النظام السوري وروسيا، لم تستطع المضادات السورية اعتراض أي من الصواريخ، التي أحدثت دمارًا كبيرًا في المواقع التي استهدفتها، دون وقوع خسائر في الأرواح.

لم تتحقق التوقعات بتوجيه ضربة واسعة النطاق للنظام السوري، تستمر لعدة أيام، كما أوحت تصريحات الرئيس ترامب، بما في ذلك خطابه للشعب الأميركي قبل دقائق من بدء القصف. كما لم تتحقق التوقعات بتصد روسي للضربة ضد الحليف السوري، بالرغم من مشاركة طائرات من الدول الثلاث في قصف الأهداف السورية، وليس فقط صواريخ أطلقت من خارج مجال سوريا. وبالرغم من الدمار الذي أحدثته، كانت الضربة محدودة بكل المقاييس، واقتصرت على أهداف ذات صلة مباشرة بالسلاح الكيماوي. فقد تجنبت الدول الثلاث المشاركة في العملية ضرب أية أهداف روسية، وتراجعت روسيا، من جهتها، عن تنفيذ تهديداتها بالتصدي للهجمة على النظام السوري. فكيف انتهت الأمور إلى هذا الحد؟

طبقًا لوول ستريت جورنال، 13 أبريل/نيسان 2018، والأوبزرفر، 15 أبريل/نيسان 2018، دفع الرئيس الأميركي، مؤيَّدًا من سكرتير مجلس أمنه القومي الجديد، جون بولتون، ومندوبته في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، نحو توجيه ضربة كبيرة، تطول العديد من الأهداف وتستمر لعدة أيام. ولكن وزير الدفاع، ماتيس، وكبار ضباط الجيش، انحازوا لفكرة الضربة المحدودة، التي تقتصر على مواقع السلاح الكيماوي، وتنتهي خلال وقت قصير.

أراد ترامب، على الأرجح، من العملية السورية تحقيق عدة أهداف:

الأول: التوكيد على دور وموقع الولايات المتحدة في الساحة الدولية، وكونها القوة الوحيدة القادرة على حراسة القواعد والقوانين الدولية.

الثاني: صناعة مناخ حرب وأزمة خارجية، تساعد على تعزيز موقعه الرئاسي وتغطي على مسلسل التحقيقات الجارية حول مخالفاته ومساعديه أثناء الحملة الانتخابية.

والثالث: توجيه إهانة مباشرة لروسيا، تضع نهاية للاتهامات بوقوع تواطؤ منه أو من بعض ممن حوله مع روسيا.

المؤكد، أن ترامب لم يقصد بالضربة للنظام السوري تغييرًا في المقاربة الأميركية للأزمة السورية. وهذا ما أشارت إليه المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة في كلمتها خلال الجلسة الطارئة لمجلس الأمن، التي دعت لعقدها روسيا بعد ساعات من وقوع الهجوم الثلاثي على الأهداف السورية. وهذا، ربما ما فهمه مسؤولو وزارة الدفاع الأميركية. فما دام الرئيس لا يعتزم إحداث تغيير استراتيجي في مقاربة الأزمة السورية، فلماذا تغامر الولايات المتحدة بعمل عسكري واسع النطاق وطويل المدى، قد يؤدي إلى إصابات روسية، ويجعل تسويغ العملية الأميركية أكثر صعوبة، والعلاقات المتأزمة مع روسيا أكثر تعقيدًا؟!

تلقت العملية تأييدًا، بدرجات متفاوتة، من كل دول الخليج العربية، باستثناء عُمان، وأغلب الدول الأوروبية. إضافة إلى ذلك صدر بيان تأييد واضح من تركيا، عبَّر عن التزام أنقرة بتحالفها مع الغرب، بالرغم من التكهنات بخلاف ذلك، وعن تصلب تركي متجدد تجاه نظام الأسد. إحجام روسيا عن الدفاع عن السيادة السورية، رافقه تنديد روسي بالعملية وبالدول الثلاث التي نفذتها، والدعوة لعقد جلسة لمجلس الأمن. نددت إيران، كما كان متوقعًا، وكذلك فعل العراق، بينما التزم أغلب الدول العربية، خارج منطقة الخليج، الصمت، حرصًا، ربما، على عدم الظهور بمظهر المنحاز لأحد طرفي الأزمة.

منعطف جديد في الأزمة السورية

كشف التأزم الذي رافق العملية التي نفذتها الدول الغربية الثلاث ضد نظام الأسد عن المبالغات التي تحيط بالحديث حول اندلاع حرب باردة جديدة بين روسيا والغرب. ليس ثمة شك في أن هناك مشكلة روسية تواجه الغرب، ولكن روسيا ليست الاتحاد السوفيتي، ولا تمتلك المقدرات الكافية لخوض جولة أخرى من الحرب الباردة. العقوبات الأميركية ضد روسيا تتوالى، لهذا السبب أو ذاك، ولا شك أنها تسهم في تقييد قدرة البنوك والشركات الروسية الكبرى على التعامل بالدولار، وتدفع من ثَمَّ إلى هبوط حثيث في قيمة العملة الروسية. وهذا ليس إلا وجهًا واحدًا لعزلة روسيا وعجزها عن خوض مواجهة متكافئة مع الولايات المتحدة والكتلة الغربية. وفي سوريا، على وجه الخصوص، حرص بوتين من البداية على أن يتجنب الانجرار إلى استنزاف طويل. ولا شك أن القيادة الروسية أدركت أن مواجهة مع الغرب في سوريا ستؤدي إلى استنزاف باهظ التكلفة لمقدراتها.

الولايات المتحدة، من جهتها، قدَّرت أن الضربة ضد النظام، بالرغم من محدوديتها، كانت كافية لتحقيق هدف العقاب والردع، وتوجيه الرسالة الضرورية للروس. والأرجح أن الأميركيين جادون في توكيدهم على أن عودة النظام لاستخدام السلاح الكيماوي سيتبعها مباشرة ضربات عقابية إضافية.

على المستوى السوري، ولَّدت محدودية العملية قدرًا ملموسًا من خيبة الأمل لدى قوى المعارضة، التي كانت تأمل في أن تؤدي الضربة للنظام إلى إضعاف حقيقي لقواه وتغييرٍ ما في ميزان القوى. هذه الآمال، بالطبع، لم تكن في محلها؛ فلا إدارة أوباما، ولا إدارة ترامب، أعربت يومًا عن تبني سياسة جادة للإطاحة بنظام الأسد، وليس ثمة مؤشر على أن السياسة الأميركية تجاه سوريا في طريقها للانقلاب السريع.

الإسرائيليون، هم أيضًا، أعربوا عن خيبة أملهم من حجم الضربة التي نفذتها الدول الثلاث، ليس لأنهم أرادوا الإطاحة بنظام الأسد، بل لأنهم تصوروا أن العملية ستكون من الاتساع بحيث تطول أهدافًا إيرانية ومواقع لحزب الله. وهنا، ربما، يكمن التطور الذي يستدعي مراقبة حثيثة في مسار الأزمة السورية، التي لا تكاد خارطة قواها تتضح حتى تصبح أكثر تعقيدًا. فبغضِّ النظر عن المقاربة الأميركية للأزمة السورية، يبدو أن الإسرائيليين عازمون على منع إيران من تأسيس موطئ قدم عسكري ثابت لها في سوريا. والسؤال هنا ليس ما إن كان الإسرائيليون سينجحون أو لا في تحقيق هذا الهدف، بل في تزايد المؤشرات على تحول سوريا إلى ساحة للمواجهة بين إسرائيل وإيران، إضافة إلى أنها أصبحت منذ زمن ساحة مواجهة بين عديد من الأطراف الأخرى.

 

 

 

 

 

كأنّنا محكومون بـ «العدوان» و «الانتصار»/ حازم صاغية

يستولي علينا ميلٌ صار عادةً، والعادةُ صارت تقليداً، والتقليدُ صار احترافاً لمهنة نختصّ بها: تكرار ماضينا مرّةً بعد مرّة بشروط أسوأ. هذا التكرار غالباً ما يتحكّم به قطبان: العدوان والانتصار. يُعتدى علينا ثمّ ننتصر، لكنّ انتصارنا لا يحصّننا من أن يُعتدى ثانيةً علينا. ننتصر مجدّداً في انتظار أن يُعتدى علينا مجدّداً، وهكذا دواليك.

العدوان علينا يحفّز شعورنا بالمظلوميّة. الانتصار عليه يحفّز شعورنا بالبطولة. جمع المظلوميّة والبطولة في طرف واحد لا يُسبغ الكمال وحده على هذا الطرف. إنّه أيضاً ينسّب حركته إلى ما هو فوق – إنسانيّ. إلى ما هو ملحميّ وقدريّ جدير بإبداعات اليونان القديمة، أو برواية للتاريخ تتّصل بالأزل والأبد وتعبر التواريخ الموضعيّة.

اعتُدي علينا في 1948. انتصرنا بانقلاب 1952 في مصر وما أعقبه من انقلابات. اعتدي علينا في 1967. انتصرنا بحفاظنا على «الأنظمة التقدّميّة» وبنشأة المقاومة الفلسطينيّة. اعتدي علينا في 1973. انتصرنا بأن أخرجنا للعالم زعامة حافظ الأسد «بطل تشرين». اعتدي علينا في 1982. انتصرنا مرّة بعد مرّة قبل أن نرفع سويّة الانتصارات، في 2006، إلى مصاف إلهيّ.

الشكّ البديهيّ الذي تستدرجنا إليه هذه الحالة هو التالي: لا بدّ أنّ انتصارنا مصاب، في مكان ما، بعطل عميق، لأنّ المنتصر هو الذي لا يُعتدى عليه بهذه الكثرة وهذه السهولة. إنّه من يتمكّن، في لحظة ما، من وضع حدّ للعبة متمادية ومكلفة كهذه تتراوح بين العدوان والانتصار. إنّه من يتمكّن، في لحظة ما، من طيّ صفحة باتت ماضياً والبناء على انتصاره للمستقبل.

لكنْ بالطبع يبقى حبّ اللعبة أقوى لأنّ اللعبة هي وحدها المقدور عليها في انتظار عدوان جديد ننتصر عليه.

المثال الأكمل المستقى من الماضي القريب نسبيّاً هو «العدوان الثلاثيّ». الرقم ثلاثة هو وحده المغري: في مصر 1956 كانوا ثلاثة: فرنسا وبريطانيا وإسرائيل. في سوريّة 2018 هم أيضاً ثلاثة: أميركا وبريطانيا وفرنسا. يكفي أن نجيد العدّ: واحد اثنين ثلاثة، حتّى تكتمل شروط التماثل. الفوارق الكبرى بين الضربتين غير مهمّة. الفوارق الكبرى بين الحقبتين غير مهمّة أيضاً. المهمّ إعادة إدخال العدوان والانتصار الأخيرين في «جدليّة» العدوان والانتصار الأبديّة. هكذا نملأ المكان الشاغر لجمال عبد الناصر، والذي حاولنا ذات مرّة ملأه بصدّام حسين، ببشّار حافظ الأسد. هنا تبلغ اللعبة ذروتها الدراميّة وينجلي القصد الفعليّ منها. بشّار هو عبد الناصر زمننا. هو صلاح الدين. هو صلاح ديننا. هو من لن تملك اللغة، بعد حين، الأوصاف التي يستحقّها.

هذا هو بيت القصيد: لقد انتصر بشّار الأسد على العدوان، وهو يتهيّأ لانتصار مؤكّد آتٍ، بعد عدوان مؤكّد آتٍ، يقال إنّ الإسرائيليّين موشكون على اقترافه بحقّ الإيرانيّين في سوريّة. إنّها، على أيّة حال، ليست المرّة الأولى التي تكون فيها سوريّة والسوريّون تفصيلاً عابراً بقياس الأبد والأزل. جئنا بانتصار آخر يا بشّار. التاريخ لعبة ممتعة. التاريخ مهنة مربحة.

الحياة

 

 

 

ضربات غربية على سوريا: لا “عدوان” ولا “تحرير”/ حازم صاغية

الضربات الجوّيّة على ثلاثة مواقع سوريّة، قرب دمشق وحمص، جاءت واثقة عسكريّاً، ضعيفة سياسيّاً. الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا بمجرّد أن ضربت المواقع، التي تنتج الكيماويّ أو تطلقها، حتّى اختفى الذين كانوا يهلّلون بالانتصارات: اختفى حضورهم وفعاليّتهم، من غير أن تختفي أصواتهم بالطبع. لقد أظهر التفاوت العسكريّ الضخم أنّ الانتصارات التي سبق للنظام السوريّ وحلفائه أن حقّقوها إنّما حصلت في وقت غربيّ ضائع، أو بالأحرى، مائع.

ما جدّ مع ساعات الفجر الأولى ليس “عدواناً” على سوريّا، كما يقول الممانعون. فالروس والإيرانيّون موجودون قبل الغربيّين هناك، وردع نظام قاتل لشعبه، بالكيماويّ وبغير الكيماويّ، ليس عدواناً على سيادة وطنيّة لم يكفّ نظامها عن انتهاكها. لكنّه أيضاً ليس “تحريراً”، كما قد يتبادر لبعض المتسرّعين. فالقوى الغربيّة الثلاث حرصت على توكيد براءتها من “تغيير النظام”، وهي استهدفت فعلاً واحداً محدوداً من أفعال العدوان الأسديّ الكثيرة. إنّها، بلغة أخرى، خاضت معركتها مع الأسد، لا معركة أكثريّة السوريّين معه. وهي، في هذا، كانت حريصة على تجنيب الروس أيّ أذى مباشر، وإن صدّعت هيبة فلاديمير بوتين وقوّاته ومستشاريه في سوريّا.

وبين حدّي “العدوان” و”التحرير” تبقى أسئلة أربعة معلّقة:

أوّلاً، هل هي “موجة أولى من الضربات”، كما قال جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركيّ، أم أنّها نهاية الضربات، كما أوحت أقوال أميركيّة وأوروبيّة أخرى؟ وبالتالي، وفي حال استمرار الضربات، هل يتأدّى عن ذلك وضع سياسيّ آخر (وإن لم يُرده بالضرورة أصحاب الضربات)، وضعٌ يعاد معه فتح مسألة الانتقال السياسيّ التي أُغلقت منذ انتصار النظام والروس في حلب؟

ثانياً، ماذا سيفعل الروس الذين علا صوتهم كثيراً، وهدّدوا، عبر منابرهم الديبلوماسيّة والإعلاميّة في بلادهم وفي العالم، بـ “مضاعفات” لا بدّ أن تترتّب على الضربات؟ يمكن الرهان على أن يكون علوّ النبرة تمهيداً لانخفاض الفعاليّة وإحالة الأمور إلى الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان الذي كان قد باشر، قبيل الضربات الأخيرة، مهمّة وساطة بين موسكو وواشنطن. لكنْ أيضاً يمكن أن تسير الأمور في اتّجاه آخر.

ثالثاً، بدا أنّ الضربات الغربيّة نقلت المواجهة الإسرائيليّة – الإيرانيّة إلى صفّ خلفيّ. فهل هذا مجرّد تأجيل محكوم بجدول أولويّات ما، أم أنّ الأمور على الارض مرشّحة للإفلات من أيدي صانعيها، بحيث نجدنا أمام حالة حربيّة مفتوحة يختلط فيها كلّ شيء بكلّ شيء؟ وفي هذه الحالة، كيف ستنعكس التطوّرات على لبنان الواقع بين إيران، ممثّلة بـ “خزب الله”، وإسرائيل؟

ورابعاً وأخيراً، كيف ستتدبّر تركيّا أمرها حيال هذا الحضور العسكريّ الغربيّ الجديد ومعانيه المحتملة، خصوصاً إذا امتنعت روسيّا عن الردّ واكتفت بالإدانات الصوتيّة؟ أم أنّ الرئيس أردوغان سينتهز هذه “الفرصة” وضوضاءها لاستكمال مشروعه التصفويّ بحقّ الأكراد السوريّين؟

ظهور الإجابات لن يتأخّر، كائناً ما كان الشكل الذي سيتّخذها. البائس أنّنا لا نملك سوى انتظار إجاباتـ “ـهم”.

درج

 

 

 

 

وإذ به منتصراً/ حازم الامين

أعلن النظام السوري عقب الضربة الغربية الأخيرة التي تعرضت لها مواقعه «النصر»، من دون أن يُعلن على من انتصر. والضربة طبعاً لم تكن لها قيمة ميدانية، وهي كانت أشبه برسالة ناعمة. لكن منطق «النصر» يشتغل بآلية أخرى لا علاقة لها بما جرى، ذاك أن وظيفته استنهاض عصبية من حول النظام تقيه مما تسرب من أوهام حول هشاشته.

النظام السوري لم ينتصر على التحالف الغربي الذي وجه إليه الضربة العسكرية. ولم ينتصر على الإسرائيليين بطبيعة الحال. لقد أعلن انتصاره في حرب أخرى، حاجته إلى النصر فيها كبيرة. النظام عاد وانتصر على الناس الذين قصفهم بالكيماوي. أميركا وحلفاؤها غير معنيين بما أعلنه النظام. الرسالة التي وجهوها عبر غاراتهم جاءت في سياق آخر تماماً. فقد أرادت كل من واشنطن ولندن وباريس أن تقول لموسكو إن سورية ليست منطقة نفوذ روسي بالمطلق وإن لبوتين شركاء في النفوذ ويحق لهم توجيه ضربات للنظام ساعة يشاؤون. وها هم يفعلونها. الصراع في سورية لا يعنيهم في سياقه السوري. هم انتصروا أيضاً. حققوا المهمة بدقة، وموسكو اعترفت لهم بحقهم في الرد.

بشار الأسد انتصر بعد الغارات، والتحالف الغربي انتصر أيضاً، وكانت موسكو وطهران قد سبقتا الجميع إلى «النصر». ثمة مهزوم واحد في هذه المعادلة. أهل دوما الذين قالت العواصم الغربية إنها معنية بمعاقبة من قصفهم بالكيماوي، وقال النظام إنه انتصر عليهم.

«النصر» ضروري في معادلة العلاقة القاتلة بين النظام وبين الجماعات الأهلية من حوله. هو كيمياء هذه العلاقة، وهو مؤشرها ووجهتها. فأن يتوهم السوريون أن النظام الذي يقتلهم مهزوم أو غير منتصر، فإن الأخير سيفقد القدرة على حكمهم وعلى قتلهم. خرافة النصر يُعد لها قبل وقوع الحرب عادة، ذاك أنها أهم من الحرب نفسها، وأهم من نتائجها، وهذه معادلة ليست جديدة. فعقب نكسة العام 1967 تعلم العرب وأنظمتهم بالدرجة الأولى أن لا قيمة للحروب إلا بإعلان النصر بعدها. النكسة كانت الهزيمة الأخيرة، وبعدها رحنا نُسجل نصراً تلو الآخر، و «عدونا» حائر بنا. لقد دمرنا وأنهك اقتصادنا وقتل منا أضعاف ما قتلنا منه، وها نحن نعلن انتصارنا. الأعداء يفركون عيونهم غير مصدقين! كيف يمكن هزم هؤلاء؟

القصة هي في مكانٍ آخر تماماً. العدو غير معني بـ «نصرنا»، ونحن إذ انتصرنا في حربنا معه، لم ننتصر عليه. هذه هي المعادلة. هو حقق أهدافه من الحرب، ونحن حققنا أهدافنا. عليه إذاً أن يعترف لنا بهذا «النصر». ومع تقدم الأيام شعر العدو بأن نصرنا لا يضيره، فراح يعترف لنا به. حصل هذا تماماً في لبنان في حرب العام 2006. فإسرائيل حققت أهدافاً في هذه الحرب لم تحققها طوال مرحلة حروبها في لبنان. هدنة على الحدود هي الأطول منذ تأسيس إسرائيل، و15 ألف جندي دولي يحرسون حدودها، ودمار هائل في المدن والبلدات اللبنانية، ومقابل كل قتيل إسرائيلي في هذه الحرب سقط أكثر من عشرة لبنانيين. وبعدها أعلن حزب الله «النصر». وحينها تيقنت تل أبيب من أنها غير معنية بهذا الإعلان، وتعاملت معه بصفته حدثاً خارج الحدود، ولم تكن مخطئة، ذاك أن حزب الله نقل بعد ذلك جهوده بعيداً عن حدودها. انتصر عليها وغادر إلى بيروت وبعدها إلى دمشق. فها من «نصر» جميل أكثر من هذا «النصر»؟

اليوم أعلن بشار الأسد الـ «نصر». الدول صاحبة الضربة، غير معنية على ما يبدو بإعلانه. لقد نفذت العواصم الغربية غاراتها على مواقع النظام في سياق مهمة أخرى ليست على الإطلاق حماية أهل دوما من غاز الكلور. رسالة إلى موسكو، وأخرى إلى تل أبيب، وتأديب النظام ليس بسبب قتله أهل دوما، فهو يفعل ذلك كل يوم، إنما على تجرُّئِه على قتلهم بأدوات لا يليق بالمجتمع الدولي السكوت عنها. لقد قالوا له اقتلهم بالأدوات «الحلال»، وهو اليوم بصفته منتصراً سيفعل ذلك موقعه المُعزز هذا.

سيموت أهل دوما من الآن وصاعداً موتاً حلالاً، وهذا ما سيُخفف من الأعباء التي تُرهق ضمير هذا الكون المعذب.

الحياة

 

 

 

 

الحرب على الساحة الرمزية/ حسام عيتاني

أثناء الغزو الأميركي للعراق في 2003، عرض التلفزيون العراقي مقابلة مع مواطن قال إنه أسقط مروحية أباتشي برصاص بندقيته التي تعود الى حقبة الحرب العالمية الأولى. وبالفعل، كانت المروحية تجثم خلف المواطن والمذيع الذي أنهى اللقاء برقصة قرب الأباتشي ملوحاً بالبندقية القديمة.

وغداة الهجوم الصاروخي الأميركي – البريطاني – الفرنسي على مواقع النظام السوري، استقبل بشار الأسد وفداً روسياً وأكد له ان الصواريخ السورية سوفياتية الصنع التي ترجع الى سبعينات القرن الماضي، قد اسقطت كل الصواريخ الغربية وأن ذلك يثبت «من هو المتخلف». أعقب ذلك، ظهور واحد من المؤيدين اللبنانيين معلناً ان الجيش السوري أهدى الجانب الروسي صاروخ «توماهوك» سليماً بعدما نجح جندي سوري في إسقاطه برصاصة من بندقيته اصابت المحرك ويضيف ساخراً ان الروس بدأوا «يدرسون ذكاء هذا الصاروخ».

ليس مهماً في هذا المقام الجانب السوريالي أو الكوميدي من الأقوال السابقة الذكر، فالعداء للواقع وللحقيقة ركن ركين من الحرب الإعلامية والإيديولوجية التي تخوضها أنظمة من مثل نظامَي صدام حسين وبشار الأسد. وسيان إذا كانت الأباتشي قد سقطت ببندقية قديمة او كانت صواريخ السبعينات أفشلت الهجوم الغربي. المهم أن إفشال مخططات العدو عنصر ثابت في خطاب أنظمة الاستبداد والشمولية. فمن غير المعقول ان ينجح العدو في تحقيق ولو إنجاز واحد بسيط ما دام القائد لم يعلن بعد هزيمته. وهكذا كان محمد سعيد الصحاف يعلن الانتصار على اميركا على شاشات التلفزة فيما الدبابة الأميركية تبدو واضحة وراءه.

وفيما لا يبدي «المعتدون» اهتماماً كبيراً بروايات إفشال القصف بأسلحة صدئة، مكتفين بالقول إن ذخيرتهم أصابت أهدافها المحددة، تكتسب رواية ما بعد الحدث أهمية شديدة بالنسبة الى «المنتصر» على العدوان. فهذه الرواية تعلن احتفاظه بسرديته: انه الطرف المحق والمظلوم الذي يواجه وحوش العالم الغربي الرامية الى نشر الإرهاب في ربوع الوطن. في حساب الربح والخسارة، قد لا يكون الهجوم الغربي ترك أثراً يذكر في آلة حرب النظام، لكن من المفروض كذلك الحيلولة دون اكتساب العدو قدرة على تشكيل تهديد معنوي أو رمزي لبشار الأسد وقواته.

الحرب على الساحة الرمزية تظهر هنا في التمسك بفشل الهجوم الغربي، ليس على المستوى السياسي والإستراتيجي فحسب، بل أيضاً على المستوى التقني– العسكري من خلال التغني بتفوق صواريخ يزيد عمرها عن الأربعين عاماً على نتاج أحدث التكنولوجيات الحربية الغربية. وبداهة ان التقييم الموضوعي لفاعلية الأسلحة او لنجاح الضربة غير مهم في هذا المقام. المهم هو إقناع الذات والجمهور المستعد للاقتناع بأن ما من شيء بقادر على زعزعة سياساته وتحالفاته وقبل ذلك، إنكاره لاستخدام السلاح الكيماوي ضد مواطنيه.

بذلك ترتسم أمامنا صورة نظام وطني يقاوم العداون الأجنبي الغاشم بما تيسّر من أسلحة متهالكة، مكافئاً تفوّق العدو التكنولوجي بصواب القضية وصلابة الإرادة. والصورة هذه يجب أن يراها أهل هذه المنطقة وأن يسلموا بأن الحال التي يعيشون فيها شأن قدري لا تغيّره بارجات وصواريخ ذكية أو غبية. وأن السيد الرئيس بحكمته وبصيرته النفاذتين قادر على قيادة هذه الأمة إلى أبد الآبدين، من نصر إلى نصر. انتصارات لا يبدّل في طبيعتها أنها محض دمار لشعوب هذه المنطقة المعتادة على الزعيم المنتصر وسط رماد بلاده.

الحياة

 

 

 

قصة سورية موازية لقصة العراقي الذي «أسقط الأباتشي ببندقية صيد»/ حازم الامين

شرح أحد الناطقين اللبنانيين بلسان النظام السوري على إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانية كيف أسقط جندي سوري ببندقيته صاروخاً كانت أطلقته الطائرات الأميركية في الغارة التي نفذتها أواخر الأسبوع الفائت على قواعد النظام السوري في دمشق وحمص. قال الناطق إن الجندي السوري تلقى أوامر بالتصدي ببندقيته للصواريخ فأصاب محرك الصاروخ، وسقط الأخير من دون أن ينفجر، وأهداه الجيش السوري للجيش الروسي لكشف «ذكاء» هذه الصواريخ التي تحدث عنها دونالد ترامب.

ما قاله الرجل لا يُطمئن إلى حال النظام في سورية، ذاك أنه يعيدنا إلى قصة العراقي الذي أسقط طائرة الأباتشي الأميركية ببندقية الصيد التي بحوزته عام 2003. هذه الحكاية التي بثها التلفزيون العراقي في حينه وراحت وسائل الإعلام العربية الكبرى تتناقلها بصفتها علامة على «تقدم الفطرة على الذكاء»، أعقبها حدث وقع بعد أقل من 48 ساعة، تمثل بوصول الجيش الأميركي على حين غفلة إلى بغداد.

الحاجة إلى هذا المستوى من الخرافات لتعزيز موقع النظام في مواجهة لا يخوضها أصلاً، مؤشر إلى انهيار. ليست واقعة إسقاط الصاروخ وحدها ما يُعزز هذا الاعتقاد. فالتلفزيون السوري بث صبيحة الغارة شريطاً مصوراً يُظهر الرئيس بشار الأسد متوجهاً إلى مكتبه في الساعة الثامنة صباحاً، حاملاً حقيبة العمل. لم يسبق أن استيقظ الرئيس في هذا الوقت، ولم يسبق له أن حمل حقيبة، وظل الشجرة في حديقة القصر ظهر عمودياً فكشف أن الصورة التقطت في ساعة الظهيرة، وليس في الثامنة صباحاً.

ليست نتائج الغارات ما يبعث على الاعتقاد بأن حالة النظام رديئة، ذاك أن القيمة الميدانية للغارات محدودة جداً. ما يدفع إلى ذلك المسرحيات الركيكة وغير الذكية التي رافقت الغارات. الرغبة في الكشف عن «نصر» لا أحد يعرف كيف تحقق وأين. المبالغة الكاريكاتورية في تصوير «الحياة العادية» للرئيس في هذه الظروف. الرصاصة التي أسقطت الصاروخ. التظاهرات المفتعلة في اليوم الذي أعقب الغارات. والإعلان عن غارات جديدة تم إحباطها ثم بيان النفي الذي أعقبها. هذه مؤشرات عن حال الوهن والانهيار التي يعيشها ما تبقى من النظام، وهي مؤشرات إلى أن يـــوماً واحداً من دون الروس والإيرانيين سيفضي إلى انهياره في غارة واحدة.

النظام السوري اليوم ليس أكثر من هيكل متآكل لتحالف إقليمي دولي. الحاجة إليه تقتصر على هذه المهمة، وقد تمتد فترة أدائه هذه المهمة سنوات، إلا أن أي تسوية ومهما كان شكلها ستفضي إلى تقديمه كبش فداء لها. علينا دائماً أن نستعيد تجربة صدام حسين في السنوات العشر الأخيرة من حكمه. عاش صدام ونظامه تلك الفترة على وقع خطاب قومجي فارغ ومحشو بقدر هائل من الأكاذيب ومن وقائع الارتزاق عبر معادلة النفط مقابل الغذاء، والتي كشفت الوثائق أنها كانت وسيلة لاسترزاق نخب الممانعة من المحيط إلى الخليج على حساب العراقيين الذين أنهكهم الحصار. وما أن لاحت ساعة الحقيقة حتى انهار النظام بضربة واحدة.

اليوم يعيش السوريون لحظة مشابهة وإن كانت الفروق كثيرة. خطاب ممانع يروج لكذبة كبرى، وحال من الارتزاق تتولى حجب حقيقة الانهيار. أما الفارق، فهو نظام الحماية الإقليمي لرئيس لا وظيفة له سوى الظهور في شريط مصور. ويبدو هنا أن هذا الشريط هو السبيل الوحيد للتصدي للغارات.

الغارات الأخيرة التي نفذتها واشنطن ولندن وباريس جاءت لتقول لمن يحمي الرئيس: نحن شركاء أيضاً في هذا التوازن. لم يكن الهدف منها إسقاط النظام، وهي لم تكن بفعالية الغارة التي نفذتها اسرائيل قبل اسبوع على مطار «تي 4». الغارات حملت رسالة دقيقة، وكشفت عن أن موسكو ليست غطاء كافياً للنظام ولطهران. غارات من كل حدب وصوب تستهدف الرئيس المستيقظ في الثامنة صباحاً، ومن دون أن يقف الحلفاء في وجهها، ووحدها بندقية الجندي السوري من يتولى صدها، هذه وقائع تقول الكثير عما يجري فعلاً في سورية.

تقول هذه الوقائع إن موسكو حليف جبان وضعيف سبق أن قتل الأميركيون مئات من جنوده في دير الزور ولم ينبس ببنت شفة، وها هو اليوم لا يُسعف الرئيس في محنته، ويتركه في ظل بندقية واحدة أسقطت صاروخ الإمبريالية الزاحفة إلى قصر المهاجرين. وتقول أيضاً إن طهران يمكن لها أن تتلقى الضربات الإسرائيلية في دمشق وأن تؤجل ردودها لسنوات وسنوات على نحو ما عودنا النظام تأجيل الردود.

يبدو مذهلاً وباعثاً على الخوف فعلاً أن تكرر الجماعات الأهلية ونخبها وأحزابها نفس السقطة من دون أن تكترث لتعاقب الفشل والهزيمة سنة بعد سنة، وأن يحتفظ خطاب فارغ وكاذب وغير أخلاقي بنفس القوة على رغم انكشافه وركاكته، وأن يبقى لحكاية الرصاصة التي أسقطت الصاروخ قدرة على النفاذ والانتشار. فالرجل الذي أسقط الأباتشي ببندقية الصيد ظهر بعد الهزيمة وكشف أن لا ناقة له ولا جمل في هذه الحكاية، والسياسي اللبناني الذي كشف عن قصة الرصاصة التي أسقطت الصاروخ خرج من الإستديو وأشاح بوجهه مبتسماً خلف الكاميرا. لكن لحكايته قوة طالما أن الهزيمة لم تقع بعد. وهو اذ يستخف بعقولنا يدرك أننا سننسى وسننتخبه بعد أيام قليلة.

قالت الرواية الممانعة إن العالم بلا أخلاق لأنه نفذ هجوماً رمزياً على النظام في ســــورية. لا شك في أنها محقة بأنه بلا أخلاق، لكن لسبب هو عكس السبب الذي أشهرته اليوم وسبق أن أشهرته في عراق صدام حسين. العالم بلا أخلاق لأن الغارة الأخيرة كشفت أنه شريك فعلي في حماية النظام، وأن موسكو مجرد وهم جرى تبديده مؤخراً. قد تكون حجة العواصم التي نفذت الغارات أن لا بديل سورياً عن هذا النظام اليوم إلا الإسلاميون، لكن من قال إن حجم الكارثة سيكون أكبر.

الحياة

 

 

 

كيف نقرأ الهجوم الثلاثي على دمشق؟/ حسن شامي

هل يمكن تقديم جردة حساب بوقائع وتبعات الضربة الصاروخية الثلاثية على دمشق؟. ومن هي الجهة التي تتمتع بقدر معقول من الصدقية بحيث يسعها القيام بهذه المهمة من دون أن تتعرض مسبقاً لتهمة التلفيق والفبركة والتلاعب والتزوير…؟

صحيح أن البرلمان الفرنسي شهد مناظرة ونقاشاً حول الدور الفرنسي في العملية. لكن النقاش بقي أقرب إلى النشاط الإجرائي منه إلى التقويم الحقيقي. إمكانية أن تقوم وسائل إعلام رصينة بالمهمة تبدو صعبة بالنظر إلى تقلص هوامش الاستقلالية والتفلت من سطوة دوائر السلطة والنفوذ والمال. كل هذا يشير إلى تزايد منسوب الغموض أو الالتباس الذي يعتري الحدث. والمفارقة هي أنه كلما ازداد ادعاء الشفافية واستعراضها كلما ازداد الحجب والتجهيل والتدليس. خصوصاً عندما يتعلق الأمر بعمليات وأنشطة ينسب لها تدشين انعطافة أو توليد سلطة جديدة، كما كانت الحال في حرب الخليج المديدة، بالأحرى حروب الخليج الممتدة من الحرب العراقية- الإيرانية واجتياح قوات صدام حسين للكويت ومن ثم اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) وغزو القوات الأميركية- البريطانية للعراق.

فالحال أنه على رغم من مرور أسبوع على حصول الهجمة الجوية الأميركية- البريطانية- الفرنسية على دمشق وتدمير بضع منشآت علمية، يكاد السؤال عن فحوى الحدث أن يكون فلسفياً أكثر منه سياسياً. ينبغي أن نتذكر بأن الحدث المذكور كان أشبه بعرض دعائي لضربة معلنة، إذ سبقتها وتبعتها طنطنة إعلامية ودعوية من نوع خاص جعلتها في منزلة غريبة وحائرة بين منازل الفلسفة الأخلاقية ذات الرطانة العالية والمتعالية، وبين حسابات سياسية ضيقة وانتهازية. ينبغي أن نتذكر أيضاً أن ترجيح حصول ضربة بعد الهجوم الكيماوي المزعوم في دوما دفع إلى تقليب احتمالات مواجهة من العيار الكبير، ما جعل الفرائص ترتعد والأنفاس تحتبس إثر الشروع في الضربة.

لا نستغرب أن يعتبر البعض أن المطالبة بجردة حساب هي أمر غير لائق أصلاً ما دام هدف الضربة يدور، في نهاية المطاف، على ركل أو صفع نظام استبدادي وقمعي. فالنبرة الأخلاقية، التأديبية والإرشادية في آن، طغت منذ البداية على مقاربة القوى الغربية للحراك السوري. وعندما ترتفع كثيراً النبرة الأخلاقية لدى قوى اعتادت على انتهاج حسابات المصالح الباردة فهذا يدعو إلى توقع الكثير من السوء ومن الصفقات المركنتيلية.

المسألة السورية كلها لم تخرج أصلاً عن النطاق الأخلاقي المزعوم والمضروب حولها، دولياً وإقليمياً، للتحكم بمسارها وتعرجاتها. بل حتى يمكننا القول إن هذا النطاق المضروب تحول إلى مستنقع سعى فيه كل الأطراف إلى إغراق خصومهم وما زالوا يواصلون اللعبة. إن إطلاق توصيف الإستنقاع يكاد يكفي للتدليل على تحول سورية والسوريين إلى مادة نزاعات مفتوحة ومرشحة للتناسل والتشظي.

ما ظهر حتى الآن من حمولة الهجوم الثلاثي لا يبدد الغموض الذي اكتنف حيثيات اتخاذ القرار الحربي وتسويقه ديبلوماسياً. فالمعطيات المعلن عنها تتحدث عن استهداف مبان ومراكز للبحث العلمي يشتبه بأنها أمكنة لتصنيع أسلحة كيماوية. وليس هناك ضحايا باستثناء بضعة جرحى وفق ما ذكرته الحكومة السورية. بالاستناد إلى معطيات من هذا النوع تساءل كثيرون بحق عن ماهية هذه الضربة التي حبست أنفاس بشر كثيرين تخوفوا من نشوب حرب كبرى.

من الصعب التعويل على دونالد ترامب للحصول على جواب مقنع. سيكون أكثر صعوبة أن يقدم ترامب جردة حساب مقنعة. هناك بالطبع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون البارع في التوليف والجمع، الخلط وفق البعض، بين مشارب واتجاهات ومدارس فكرية وسياسية مختلفة. فهو أكد على أن الضربة ليست إعلان حرب على نظام بشار الأسد وأن الهدف طاول حصراً قدرات النظام الكيماوية. واعتبر ماكرون أن الضربة جديرة بأن تكون مناسبة لتكثيف العمل من أجل حل سياسي في سورية. بهذه الطريقة برر ماكرون الهجوم الثلاثي بأنه لإنقاذ شرف الأسرة الدولية. الحديث عن الشرف استدعى طلباً فرنسياً بسحب وسام الشرف الذي منحه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لبشار الأسد. وقد رد هذا الأخير الوسام إلى أصحابه. ويفهم من هذا أن الاعتبار الأخلاقي الذي استوجب الضربة فاق أي اعتبار آخر. وهذا لا يتعارض، في نظر ماكرون، مع مطالبته نظيره الأميركي بإبقاء القوات الأميركية في سورية للمساهمة في تفعيل الحل السياسي والديبلوماسي.

غموض على غموض. هذا ما يمكن استخلاصه من قرار الهجوم الثلاثي ومن طريقة تسويقه وتبريره. التصريح الصادر عن البنتاغون قبل أيام يلخص جيداً المعادلة. فقد صرح البنتاغون أن النظام السوري قادر على شن هجمات كيماوية محدودة في المستقبل. ويعني هذا أن الضربة الثلاثية التي وجهت إلى بعض مراكزه أضعفت قدرات النظام الكيماوية، لكنه مع ذلك يبقى موضع اشتباه كبير مما يستدعي وضعه على الدوام تحت مجهر المراقبة والعقاب وجهوزية التدخل. الضربة التي يخيل لكثيرين أنها لم تقع كانت في الواقع منصة رسائل في اتجاهات مختلفة.

في مقدم هذه الرسائل إفهام الروس والإيرانيين والأتراك أنه لن يكون لهم أن يرسموا وحدهم خريطة طريق لمعالجة الأزمة السورية. في هذا السياق يتواصل تبادل الاتهامات ويجري على قدم وساق وهو لن يتوقف في المدى المنظور. فقد اتهمت وزارة الخارجية الأميركية حكومتي روسيا وسورية بتطهير موقع الاعتداء الكيماوي في دوما، كما اتهمت الإدارة الأميركية الحكومة السورية بتأخير وصول المحققين الدوليين في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية. هذا فيما اتهم نائب وزير الخارجية الروسية مسلحي المعارضة السورية في دوما بمنع المفتشين الدوليين من الوصول إلى موقع الاعتداء المزعوم.

ينبغي الحفاظ على مبررات التدخل. هذا ما أفصحت عنه الضربة الأخيرة التي مهد لها في الواقع القصف الإسرائيلي لمطار تي فور واستهداف قوات إيرانية فيه. وما دام النقاش يدور على قابلية النظام لارتكاب أعمال وحشية وإجرامية كقصف السكان بمواد كيماوية، فإن مبررات التدخل ستبقى جاهزة. ولا يفيد كثيراً أن نذكر اللاعبين بأن القابلية موجودة لدى الجميع وبأن الخير والشر لا تقررهما هويات طبيعية وأصلية، بل وضعيات وشروط تختزن صراعات تدور على العدل ورفض الامتيازات والغلبة والسيطرة واحتكار السلطة.

الحياة

 

 

 

تعزّز وضع الأسد وتقوّضت مكانة بوتين/ عيسى الشعيبي

بدت خيبة الأمل طاغية على ردود أفعال معظم نشطاء المعارضة السورية، إزاء محدودية أهداف الضربة الثلاثية الغربية ضد مواقع لتصنيع الأسلحة الكيميائية في محيطي دمشق وحمص، وكانت مشاعر هؤلاء الذين رفعوا سقف التوقعات عالياً مفعمة بالإحباط واليأس والمرارة، إثر النتائج الهزيلة، والمفاعيل الضئيلة، لتصريحات الرئيس الأميركي النارية، وتهديداته المباشرة لنظام الأسد بدفع ثمن باهظ على فعلته المنقولة بالصوت والصورة من مدينة دوما، حتى إن بعضا من هؤلاء المخذولين اعتبر الضربة بمثابة عملية تلميع لصورة  الأسد، وتعزيز لمكانته الداخلية، وبالتالي فإن الضربة، والحالة هذه، تكون قد حققت عكس ما كان مأمولاً منها تماماً.

كان تشخيص الخائبين إزاء الضربة الانتقائية في محله تماماً، وكانت مقارباتهم الأولية لحصيلتها الموضعية، العسكرية منها والسياسية، صحيحة إلى أبعد الحدود، فهي لم تترك أي أثر يعتد به في الميدان، ولم تغير شيئاً في قواعد اللعبة الجارية، أو تبدل أي مدخل في معادلة الحرب القائمة، كما أن خسائرها الطفيفة للغاية، سواء أكانت في الأرواح أو في الممتلكات، تبرّر الشكوك حقاً في النوايا الغربية الكامنة، وتثير الأسئلة المشفوعة بالقلق حيال الأهداف الحقيقية التي صُممت في غرف العمليات، كي تأتي صغيرةً وسطحيةً، وقاصرة عن الوصول إلى نتائج مهمة، كسابقتها في مطار الشعيرات قبل عام مضى.

وبالفعل، لم يخسر الأسد أصولاً نوعية أو ممتلكات ذات قيمة ثمينة، غير قابلة للتعويض في المستقبل القريب، ولم يتكبّد هزيمةً ثقيلةً مريرة، تملي عليه إعادة الحسابات بدقة مرة أخرى، وتردعه عن مواصلة أفعاله الموصوفة كجرائم حرب، كما ليس من المؤكد أيضاً أن هذه

الضربة قد ضمنت أضعاف قدراته على معاودة استخدام الأسلحة الكيميائية في وقت لاحق، وتجاوز ما يعتبره الغرب خطاً أحمر من جديد، طالما أن العقاب هيّن ليّن، كهذا الذي جرى بعد طول أخذ ورد، وبشق الأنفس، بين واشنطن ولندن وباريس. وفوق ذلك لم تكن عواقب الفعل الكيميائي وخيمة، بحسب ما هددت به على رؤوس الأشهاد، وتوعدت بإنزاله، مرجعيات الدولة العظمى الوحيدة.

غير أن هذه الحصيلة الأولية، المواتية كلياً لأشرعة سفينة الأسد الممزقة، بما انطوت عليه من مكاسب سياسية ومعنوية قصيرة الأمد، لا تشكل إلا جزءا من الصورة الأشمل، المتكونة في خضم تلك الضربة المشتركة بين أهم ثلاث دول غربية وأقواها، بدت في عهد دونالد ترامب أكثر تصميماً من ذي قبل، في الدخول بقوة على خط الكارثة السورية، واسترداد بعض ما فقدته من أوراق اللعبة التي تم تجييرها بالكامل لصالح روسيا، في زمن إدارة باراك أوباما، الزاهدة في الدفاع عن صورة الدولة القائدة للنظام العالمي، المستخذية قبالة اندفاعة فلاديمير بوتين، والمجاملة لرغبته الجامحة في الصعود ببلاده إلى مرتبة الدولة العظمى الثانية.

على هذه الخلفية، يمكن قراءة مغزى الضربة الثلاثية التي كان رجع دويّها في موسكو أشد هولاً من صدى صوتها في دمشق، وكانت مضاعفاتها لدى الكرملين أوسع بكثير من تداعياتها داخل قصر الشعب في أطراف جبل قاسيون، لا سيما وأن الضربة المنسقة جيداً بين العواصم الغربية الثلاث انطوت على تحدٍ محسوبٍ بدقة، ليس لنظام الأسد المتهالك، وإنما لغطرسة بوتين ونزعته الإمبراطورية، وشكلت، في حد ذاتها، خرقاً لحائط الصد الروسي الذي بدا منيعاً للغاية، إن لم نقل اجتيازاً مباشراً لحاجز التحسّب والتردد الذي استبد بالغرب سبع سنوات من الوقت، وجعل منه لاعباً ثانوياً، قليل الحيلة، على الجغرافيا السورية.

وفيما راحت ماكينة إعلام الأسد تتحدث بزهو عن عدوان ثلاثي فاشل، وتستحضر صورة العدوان الثلاثي ضد جمال عبد الناصر عام 1956، وتستلهم مجد صموده آنذاك، راحت الدعاية الروسية تستعيد إلى الأذهان، من ماضٍ لم يمضِ تماماً، ذكريات المواجهات الخائبة مع الغرب، وتجترّ آلام سقوط الاتحاد السوفياتي السابق بحسرةٍ شديدة، وتتهم الغرب المتآمر بالسعي، من دون هوادة، لتحجيم مكانة ثاني أكبر قوة نووية، ومحاصرتها أطلسياً، وتفشيل دورها العالمي دولةً لها حق الفيتو (النقض) في مجلس الأمن الدولي، وحدث ولا حرج عن فرض العقوبات الاقتصادية.

في مقابل ما تملّك أرباب نظام الأسد من مشاعر بالاستحقاق، وحسّ بالجدارة المفاجئة، وما ساد لديهم من استخفافٍ شديدٍ بضربةٍ عسكرية بدت طائشة، أدرك الدبلوماسيون والإعلاميون الروس، في قرارة أنفسهم، ما لحق ببلادهم من إهانة قاسية جرّاء هذه الضربة التي سبق لهم أن حذروا، مراراً وتكراراً، من عواقبها الوخيمة. ومن غير مكابرة، استوعب الجنرالات المتقاعدون الروس، على الفور، حقيقة أنها كانت ضربة موجهة إليهم في المقام الأول، وأنها مرت تحت أنوف قواتهم “الجوية الفضائية”، بل وأمام عيونهم المفتوحة، فجرحت الكبرياء الروسي بفظاظة، وأصابت القيصر ذاته، وهو الذي كان قد خاض لتوه انتخاباتٍ رئاسيةً ضاريةً ضد نفسه، واعداً باستعادة الأمجاد السوفياتية الماضية.

ومع أن إسرائيل سبق لها أن اخترقت نظام الدفاع الجوي الروسي عشرات المرات، وضربت جهاراً نهاراً مواقع سورية وإيرانية حصينة بلا عدد، إلا أن موسكو لم تشعر بالحرج، ولم

يتملكها الانزعاج ذات غارة، حتى أنها كانت تبرّر تسامحها مع الذئاب الإسرائيلية قائلة إنها معنية بالحرب ضد “الإرهابيين” لا الدفاع عن الأسد، فيما بدت في أعقاب الضربة الغربية هذه بالغة التحسّس، شديدة الارتباك، عميقة الإدراك أنها هي المستهدفة هذه المرة، ليس في نطاق الدور السياسي المهيمن على مقاليد الحالة السورية فقط، وإنما أيضاً في إطار كفاءة منظومة الدفاعات الجوية، وتقنيات الصواريخ المضادة التي لم يسبق لها أن وضعت موضع الاختبار الميداني، ولو مرة واحدة.

وقد يمر وقت قصير، في أعقاب هذه الضربة التي أحسب أنها قد زلزلت ثقة الروس بأنفسهم من دون ريب، حتى يطرح بعضهم السؤال؛ “ماذا نفعل في سورية بحق السماء؟”، إذا كان مقدراً لمثل هذ الضربة الخفيفة، بالمعيار العسكري المجرد، أن توقف صعود موسكو الدولي، ولو على نحو تدريجي بطيء، وأن تطيح معظم ما تم إنجازه من مكتسبات ميدانية ، وهي مكتسباتٌ لم تتحول إلى إنجازاتٍ سياسية بعد، بما في ذلك مسار أستانة ومؤتمر سوتشي، ومناطق خفض التصعيد، والحلف الثلاثي مع تركيا وإيران، وغير ذلك من جهودٍ بدت فيها الدبلوماسية الروسية، حتى أمس القريب، تمتطي ظهر حصانٍ لا يشقّ له غبار.

وعليه، يمكن الاستنتاج، من دون تعسف في القراءة، ومن غير تعجّل في استشراف الممكنات التي حفلت بها هذه الضربة غير الموجعة لنظام الأسد، أن روسيا المصابة في صميم دورها الإقليمي لم تعد بعد اليوم في ذلك الموضع الذي كانت عليه من قبل، حين تمكّنت، في غفلة من الغرب، من امتلاك كامل أوراق اللعبة السورية من دون منازع تقريباً، وأقفلت مجلس الأمن الدولي ب 18 فيتو، وصارت ربة البيت وصاحبة الحل والعقد، الأمر الذي يستقيم معه القول إن هذه الضربة المليئة بالمفارقات الفارقة، والتي قد لا تكون الأخيرة بالضرورة، قد عزّزت وضع الأسد من جهة أولى، ولو بصورة مؤقتة، وقوّضت، في الوقت نفسه، مكانة بوتين، إلى أجل غير معلوم، من جهة مقابلة.

العربي الجديد

 

 

 

الرئيس يزاول عمله كالمعتاد!/ أمجد ناصر

أية تمثيلية رثَّة هذه؟ أيُّ مَسْرَحَةٍ من الدرجة الثالثة يمارسها نظام البراميل والسارين صبيحة الضربة الغربية الأسخف، والأكثر رثاثةً، من مسرحية بشار المضحكة، بما يجدر به أن يُبكي؟

بشار الكيماوي ببدلة وربطة عنق وحقيبة يدخل، في هذه المونودراما البائسة، باباً يفترض أنه يؤدي إلى مكتبه لمزاولة “عمله” كـ “المعتاد”. هذه هي الصورة التي يريد النظام أن يُظهر عليها أكبر مجرميه. لا شيء حدث. العمل جارٍ. الرئيس لم يمسَّه سوء!

ماذا في هذه الحقيبة اليدوية الضامرة؟ هل هناك “أوراق عملٍ” عليه أن يوقّعها؟ ولكن لِمَ لا تكون هذه الأوراق على مكتبه، كما هو الحال مع مدير عادي في مؤسسة حكومية؟ هل فيها سندويش أعدَّته زوجته التي لا تغفل عن هندامها الباريسي في أيّ صورةٍ تُلتقط لها، حتى مع من شرّدهم زوجها الكيماوي؟ ربما، هذا الاحتمال الأخير. لأنَّ بشار، كأيِّ قاتلٍ، يخشى أن يُقتل. وكأيِّ قاتلٍ فهو مسكونٌ بأشباح الموت. إنه لا يأمن لأحد، ولا حتى لطباخه الخاص. لأنَّ الدم الذي أراقه، والأرواح التي أرسلها إلى السماء، تطوف حوله. إنه لا يأمن لأحد، فقد وزَّع الدم على كل ربوع سورية. ففي كل مدينةٍ، أو دسكرةٍ، هناك أمهاتٌ يرفعن أيديهن إلى السماء، ليشرب من الكأس نفسها التي جرَّعها لأحبائهن. لم يعد لهؤلاء النسوة سوى الله، سوى الأيدي المعروقة التي ترتفع إلى السماء والأفواه المبريِّة من الألم تشكو الظالم.

ما هذه المونودراما المتهافتة؟ هل هذا ردٌّ على ما قيل إنه أخلى قصره، وأمكنة لجوئه اليومية، وفرَّ هارباً بحماية قافلة عسكرية روسية؟ لا معنى لهذه اللقطة المهزوزة سوى ذلك. كان بشار يعرف أن بعض كهوف وحوشه سوف يُضرب. بعضها فقط، ولعلها كهوف الوحوش الأقل خطرا. وقد أخلاها بمعونة حاميه بوتين. فلا مكان لبوتين، ولا لإيران، من دون دمية الأسد. هذه الدمية ضروريةٌ، فمن دونها لا وجود لهم في سورية. من سيفتح أبواب سورية لبوتين وإيران غير الأسد، خصوصا بعدما فظَّعوا بالسوريين؟ هذه الدمية ضروريةٌ، ولا يجب أن يمسَّها سوء.. حتى الآن على الأقل.

كلنا نعرف أن هذه مسرحية سخيفةٌ ولازمة، بعدما نفَّذ ترامب شيئاً من وعيده لحفظ ماء الوجه ليس إلا. ضروريٌّ أن يرى مناصرو بشار، شاربو الدم مثله، عنوان الرئيس، وليس الرئيس بالفعل. هذا العنوان/ هذه الدمية يعملان على تماسك ما تبقى من آلة قتله، ومن سيكونون يتامى بعده. شيء نفسي يعني، لا أكثر من ذلك. فلا قرار للدمية. القرار في الكرملين الذي تلقى، هو أيضاً، صفعةً خفيفةً على الخد، أو “فركة أذن”. فقد توعَّد الكرمين بالرد على أي ضربةٍ غربيةٍ. لكنه لن يرد. إنه أضعف من أن يرد. لقد ظن أنه أقوى اللاعبين. قد يكون كذلك، ولكن في حلبة من دون منافس أو متحَدٍ. إنه يصول ويجول في حلبةٍ فارغة. فأي لاعبٍ قوي هذا الذي لا يرمي أحدٌ القفاز في وجهه؟

أعود إلى مونودراما بشار، وهو يحمل حقيبته، ويتطوَّح يَمنةً ويَسرةً في بهوٍ واسع، مضاء جيداً بالكهرباء، يلمع بلاطُه كأنَّ قدماً لم تمر به منذ أمد طويل. أهذا مجلس الشعب، كما يقول تعليق المونودراما؟ هذا هو المجلس، ولكن أين الشعب؟ لا أثر هناك لشخصٍ آخر غير بشار المتطوِّح، ومخرج هذا الفصل المتهالك سخفاً وانعدام شعور. رئيسٌ يزاول عمله كالمعتاد! لَمَ لا. ولكن أين ما يدلُّ على حقيقة هذا الفصل المسرحي الركيك؟ لا بدَّ أن لبشار لقطات ومونودرامات كثيرة في أرشيفه التلفزيوني تصلح لكل حالٍ ومقام. يذكّرني هذا بشاعر عربي دأب على كتابة قصائد رثاء لأشخاصٍ أحياء. ولما سئل لماذا يفعل هذا؟ فقال ما معناه: يموتون ولا يكون لدينا وقت لرثائهم!

وهذا هو حال بشار. لقطات ومونودرامات لكل حال: في الصلاة، في زيارة قواته؟ في شارع يمشي، وممكن أيضاً في مقهى خالٍ من الرواد.

الدمية ينبغي أن تظهر. تتحرّك. وليس مهماً مَنْ يحرّكها مِنْ وراء ستار.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

 

«عاصفة الكيماوي» السوري تسقِط مشروع بوتين؟/ جورج سمعان

تدخل الأزمة السورية مرحلة جديدة. «عاصفة الغوطة الكيماوية» و «الرد الأطلسي» ينقلانها إلى مشهد استراتيجي آخر. استهدفت الضربة الأميركية – البريطانية – الفرنسية البرنامج الكيماوي السوري وقواعد ومراكز ومستودعات عسكرية وبحثية مرتبطة به. إنها الموجة الأولى أو الرسالة الأولى التي يفترض ألا تقتصر نتائجها على تدمير قدرة النظام في دمشق على استخدام الأسلحة المحظورة دولياً. لا معنى لها إن لم تستثمر سياسياً. وكان سيل التصريحات والمواقف الدولية التي سبقت الحدث أجج الصراع بين موسكو وواشنطن. تداولت الدوائر الأميركية شروطاً وضعتها إدارة الرئيس دونالد ترامب لتحاشي العمل العسكري. بالطبع، لم تقل الدول الثلاث التي تولت تنفيذ العمل العسكري بتأييد واضح من حلف «الناتو» أن هدفها إسقاط النظام في دمشق. ولم تقل أنها على استعداد لمنازلة روسيا. ولا هذه ادعت أنها ستنخرط في المواجهة لحماية هذا النظام. الطرفان كررا الحرص على رفض المنازلة المباشرة. لكن الرئيس ترامب اعتبر أن هذه الضربة إثبات على فشل موسكو في الوفاء بوعدها منع لجوء النظام السوري إلى استخدام الكيماوي. وعبر مداورة أن ما حدث موجه أيضاً إلى الرئيس فلاديمير بوتين الذي تلقى إهانة كما ذكر سفيره في نيويورك!

لم يكن ممكناً التراجع عن قرار الرد. وسياسة الغموض التي اعتمدتها واشنطن ولندن وباريس فرضتها اعتبارات عسكرية بحتة. وكان واضحاً أن خيار اللجوء إلى العمل العسكري وحده على الطاولة، ولا خيارات أخرى، كما قالت الناطقة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز بعد اجتماع مجلس حرب الرئيس ترامب. وعبرت بريطانيا عن تصميمها على رد فعل دولي على نظام الرئيس بشار الأسد لمنعه من استخدام السلاح الكيماوي مستقبلاً. هذا ما صرحت به تريزا ماي رئيسة الوزراء التي تخوض «معركة كيماوية» مع موسكو بعد اتهامها بتسميم الجاسوس الروسي سكريبال في أراضيها. ونقلت هذا الملف إلى مجلس الأمن. ومثلها الرئيس الفرنسي إيماونويل ماكرون أعلن أن الرد على دمشق «سيكون في الوقت الذي نختاره». وحتى تركيا نادى قياديوها بوجوب إبعاد الرئيس الأسد من رأس السلطة والانتقال إلى مرحلة الحل السياسي. بدا أن الجميع كانوا ينتظرون موقف واشنطن. وموقف هذه لم يكن غامضاً. منشأ هذا الغموض تغريدات الرئيس ترامب ورد فعله السريع والتلقائي وغير المحسوب، تماماً مثلما فعل آخر الشهر الماضي عندما أعلن الانسحاب سريعاً من سورية. لم يرجع إلى أركانه الذين يقتنصون الفرصة الآن لترسيخ استراتيجية واضحة حيال هذا البلد والمتصارعين فيه وعليه. لن يخرجوا منه كما توقع منافسوهم وخصومهم. بل يعملون على إعادة تصويب الموقف. وزير دفاعه جيمس ماتيس الذي يعرف أن ضربة عسكرية كتلك التي استهدفت مطار الشعيرات قبل سنة لن تثمر ولن تبدل في واقع الحرب والحلول السياسية المتداولة. واستخدام النظام السلاح المحظور في الغوطة لم يكن المرة الثانية أو الثالثة والرابعة… ولم يتحرك المجتمع الدولي لردعه. بل إن العالم كان إلى أيام يتفرج عاجزاً على ما كان يجرى في ضواحي دمشق الشرقية والجنوبية.

الجنرال ماتيس صوب عشية الضربة مباشرة على موسكو. كما فعل رئيسه بعد دقائق على انتهائها. اتهمها بالتواطؤ مع دمشق. وهو لم يخرج عن شبه إجماع دولي يتهمها بالمسؤولة عما حصل ويحصل في سورية بسبب تعطيلها مجلس الأمن. وهو ما دفع الغرب إلى التحرك خارج إطار المنظومة الدولية. وأعلن بوضوح لا لبس فيه ولا غموض ما يمكن اعتباره سياسة جديدة أو إحياء لموقف قديم. أكد التزام بلاده إنهاء الحرب في بلاد الشام على أساس جنيف والقرارات الدولية. وكشف موقفه هذا أن العاصفة الحالية يجب أن تثمر. وأنها ليست «زوبعة» أثارها الرئيس ترامب وستهدأ قريباً، كما توقعت خطأ دوائر روسية لجأت إلى لعبة الوقت لتنفيس الاحتقان. وأن الولايات المتحدة ليست دولة عاجزة ترتضي بما يوزع عليها. ولا بد من قلب موازين القوى. لا بد من إسقاط «ورقة القوة والسلاح» التي يتوكأ عليها الرئيس بوتين لمقارعة أميركا وأوروبا وتعديل النظام الدولي… بالقوة والسلاح. وقد حذر قادة روس من أن الضربة هدفها «تدمير العملية السياسية برمتها» في بلاد الشام. وهم أصابوا إذا كانوا يقصدون بذلك خطة الرئيس فلاديمير بوتين ومشروعه في سورية. فما تريده إدارة ترامب اليوم من وراء الضربة هو تغيير قواعد اللعبة التي أرساها الكرملين طوال السنة الماضية. الصقور فيها غاظهم تقويض الرئيس الروسي جميع القرارات الدولية معولاً على الحسم العسكري، وعلى تحالف مع تركيا وإيران صاحبتي النفوذ على الأرض. وعلى تفاهم مع إسرائيل وحتى الأردن ليكونا بعيدين من موقف الولايات المتحدة. وأزعجهم سوء تقديره للانكفاء الأميركي حتى أخرج نظيره ترامب فأعلن فجأة قبل أيام أنه قرر الانسحاب تاركاً له ولشريكيه تحمل الأعباء.

والواقع أن الكرملين خرج على تفاهمات أبرمها العام الماضي مع البيت الأبيض قضت بتقسيم سورية مناطق نفوذ للمتصارعين في هذا البلد من أجل وقف الحرب والفصل بين المتحاربين برقابة أممية لحدود هذه المناطق، في انتظار نضج التسوية السياسية. هكذا، قامت «الجبهة الجنوبية» على أساس تفاهم مع أميركي – روسي – أردني (وإسرائيلي ضمناً) على أن تكون لتركيا حصتها في الشمال، ولإيران مواقعها مع النظام، وللكرد «إدارتهم». لكن ما حدث لاحقاً أن موسكو فتحت مسار آستانة وقررت «مناطق خفض التوتر». ثم بدا أن أنقرة التي توغلت شمال سورية إلى عفرين واجهتها دعوات من «شريكيها» في هذه المناطق بتسليم منطقتها إلى قوات النظام. وكانت إيران نادت بـ «تحرير» شرق البلاد وتقدمت نحو الجنوب. وكان رد الأميركيين قاسياً بضرب قوات لميليشيات النظام وحلفائه وعناصر روسية غير نظامية تقدمت شباط (فبراير) الماضي نحو مواقع لـ «قوات سورية الديموقراطية»، وألحقت بها خسائر بالعشرات وقيل بالمئات. وتضاعفت الغارات الإسرائيلية على مواقع تعتقد بأن لإيران وحلفائها قواعد فيها. وكانت هذه العمليات العسكرية نذير اعتراض على دور روسيا وابتعادها من التفاهمات السابقة، خصوصاً في ما خص التمدد الإيراني. وجاء مؤتمر سوتشي، على رغم فشله، كأنه إصرار روسي على التفرد بالتسوية. وجاءت قبل أيام قمة أنقرة لتؤكد هذا التوجه.

ما قد تسعى إليه إدارة ترامب من وراء هذه العاصفة العاتية هو وقف كل المسارات التي نهجتها موسكو بعيداً من المعنيين الآخرين. أي إن المواجهة القائمة لا تستهدف النظام السوري وبرنامجه الكيماوي بقدر ما تستهدف السياسة الروسية برمتها، وربما وضع حد لطموح الرئيس بوتين في استخدام سورية منصة انطلاق إلى المنطقة كلها. لذلك، يشعر سيد الكرملين الذي اتهمته لندن بتسميم الجاسوس سكريبال وابنته فأشعل «حرباً ديبلوماسية» بالطعنة والإهانة. لم يثمر تحذيره في حمأة التوتر إلى التحذير من «أن الوضع الدولي يزداد فوضوية». وخاب أمله بأن «تكون للفهم الإنساني السليم اليد العليا في نهاية المطاف، وأن تتحرك العلاقات الدولية في اتجاه بناء». وكان ملفتاً أن نظيره الأميركي الذي يرفع شعار «أميركا أولاً» لا تروقه العودة إلى الحرب الباردة، لذا دعاه إلى وقف سباق التسلح، مذكراً إياه بأن «روسيا تحتاج إلينا للمساعدة في دفع اقتصادها، وهذا أمر سهل القيام به». ولعله أراد تذكيره بأسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ لا يكفي التوازن العسكري والنووي بين بلديهما ليدفع روسيا إلى مقارعة أميركا ومشاركتها على قدم المساواة في إدارة شؤون العالم، فيما اعترفت حكومتها أخيراً بأن الوضع الاقتصادي دقيق وصعب بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية.

السؤال اليوم هل تمضي إدارة ترامب فعلاً في سياسة الانخراط بديلاً من الانكفاء أو العمل على الانسحاب باكراً، كما صرح ترامب قبل أسبوعين، وهو انسحاب يقود إلى الابتعاد من الشرق الأوسط كله؟ فالكل متفق على أن عشرات الصواريخ التي ضربت مطار الشعيرات قبل سنة لم تغير ولم تبدل شيئاً. هل يدفع الخيار العسكري أميركا وروسيا إلى تفاهمات جديدة في شأن سورية تتناول مستقبل نظام الأسد والوجود الإيراني الذي أصابته شظايا الضربة الصاروخية فجر السبت؟ وكانت غارة إسرائيلية على مطار تيفور كبدته خسائر فهدد بالثأر، فحذر وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان من أن نظام الرئيس الأسد والأسد نفسه «سيزولان من الخريطة والعالم إذا حاول الإيرانيون ضرب إسرائيل أو مصالحها من أراضي سورية». حتى الآن لا يبدو أن روسيا سترضخ. بل ستعمل على الرد على التحدي و «الإهانة». لكن المعادلة قاسية ومعقدة. فواشنطن لم تتراجع ولن تتراجع. بل جددت دعوة موسكو إلى الكف عن دعم النظام السوري والعودة إلى ممارسة دورها في ترسيخ السلم والاستقرار. أي إنها تدعوها إلى تغيير سلوكها وسياستها. وهو مسار لا يمكن الرئيس بوتين سلوكه. ليس سهلاً تسليمه بتقليص دور بلاده في سورية بعد كل الجهود التي بذلها على مدى أكثر من سنتين. مثلما ليس سهلاً عليه الذهاب إلى حرب مباشرة مع الأطلسي الذي أعلن تأييده الضربة الأخيرة… فهل يعود إلى قاعدة جنيف حلاً وحيداً لأزمة سورية التي أكد الوزير ماتيس التزام بلاده وقف الحرب فيها على أساس قرارات المجتمع الدولي؟ أم يواصل نهج اللجوء إلى أساليب سوفياتية بائدة ليرد بالوكالة على الإهانة؟ وأين سيكون الرد؟ وهل يشرك شريكه الإيراني في رفع التحدي؟

الحياة

 

 

 

 

 

الأوهام والحقائق في الهجوم الأميركي على سورية/ خالد غزال

انطلقت تحليلات متفاوتة بل ومتناقضة في قراءة الهجوم الأميركي– البريطاني– الفرنسي على سورية. بعض التناقض ناجم عن تصورات مسبقة ورغبات ذاتية في أن تطاول الضربة أكثر بكثير مما حققته، وهو ما أضفى على هذه التحليلات نوعاً من الإحباط وخيبة الأمل. إن قراءة موضوعية للحديث يمكن لها أن تفرز بين الأوهام التي جرى تعليقها على الهجوم، وبين الحقيقي والفعلي المتحقق من هذا الهجوم.

أول الأوهام- الرغبات أن يسفر الهجوم عن إطاحة النظام السوري. إن نوع التهديدات التي سبقت الغارات والحشود الكبيرة للأساطيل، كانت تشي بحجم أكبر بكثير من الضربة المتحققة. يخفى على أصحاب الرغبات أن القرار بإطاحة نظام الأسد قد تجاوزه الزمن بسنوات، فلم يعد موجوداً في أجندة الدول المتصارعة، وهو أصلاً لم يكن موجوداً إلا في بعض التصريحات الإعلامية. تقاطعت صراعات وتناقضات القوى الدولية والإقليمية على أن النظام ورئيسه حاجة ضرورية في المرحلة الراهنة من الحرب السورية. لعل التصريحات التي رافقت الهجوم من أصحـابـه دليـل على تـوافـق الجميع على أن الضربات لا تستـهدف إسقاط النظام.

الوهم الثاني ناجم عن افتراض موقف أميركي يصب في مصلحة الشعب السوري، وأن الهجوم هو لردع النظام عن ممارساته القمعية. لم تكن الخطة الأميركية يوماً تصب في هذا المنحى، بل على العكس، كان القرار الأميركي منذ اندلاع الانتفاضة منصباً على الإفادة منها لتحويلها حرباً أهلية، أهم أهدافها تدمير سورية، كياناً ونظاماً ومجتمعاً وقوة عسكرية، بما يفقد هذا البلد أي إمكانية لمقارعة إسرائيل وأميركا في حال استطاع الشعب السوري إنهاء نظام البعث لمصلحة نظام وطني وديموقراطي.

الوهم الثالث نابع من تصور لا أساس له، قائم على أن استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام سيقلب العالم عليه، بما يدخله أتون الردود التي ستقضي عليه بعد أن مس القوانين الدولية وانتهك حقوق الإنسان. لم يكن هذا الهجوم الكيماوي الأول من نوعه، سبقه نحو خمسين هجوماً خلال الأعوام الماضية، ولم يتحرك المجتمع الدولي لمعاقبة النظام.

أما الوهم الرابع والأخير، فهو افتراض إمكان مواجهة دولية على الأرض السورية، بين روسيا وحلفائها وبين المحور الغربي. هذه المواجهة تقف عند خطوط حمراء بحيث لا تتعدى التراشق السياسي. لعل الكلام الروسي الغربي عن إبلاغ الروس بالضربة وتحديد خط مسارها يؤكد هذا التوافق على عدم الاصطدام العسكري. في السياق نفسه يقع الموقف الإيراني الذي اكتفى بالتنديد الكلامي.

أما الحقائق التي أبرزتها العملية العسكرية، فأولها كان صفعة معنوية لروسيا ورئيسها. فروسيا أعلنت نفسها حامية للأراضي السورية، وأتت بجيوشها وأساطيلها وتمركزت على الساحل. كانت العملية الغربية اختباراً لهذا الالتزام في الدفاع عن الأرض، فلم يتحقق.

الحقيقة الثانية أن العملية أتت بعد قمة أنقرة التي سعى فيها الحلف الثلاثي الروسي- التركي- الإيراني إلى صوغ معادلات جديدة أهم ما فيها إقصاء الولايات المتحدة عن أي صفقة لتسوية ما، خصوصاً بعد تصريحات الرئيس الأميركي في نيته الانسحاب العسكري من سورية. أتت العملية العسكرية لإفهام الحلف الثلاثي أن مفتاح الحل والربط هو أولاً وآخراً بيد الولايات المتحدة، وأن أوان التسوية لم ينضج بعد، لارتباطها بما يتجاوز الأراضي السورية، نحو قضايا دولية خلافية بين المعسكر الغربي وبين روسيا. لذا، ليس مبالغة القول إن روسيا مهزومة فعلياً نتيجة هذه العملية العسكرية.

في دفاع قوى سياسية ودولية عن نظام الأسد والتشكيك باستخدامه الأسلحة الكيماوية، خصوصاً أنه قد انتصر في هذه الحرب، يجب القول إن الهدف الأساسي لاستخدام الكيماوي في مدينة دوما، والتي كانت في طريقها إلى التسوية بخروج المقاتلين بعد وساطة روسية، أن هدف رئيس النظام هو الإمعان في تأديب معارضيه عبر إبادتهم، على رغم الاستسلام الحاصل من المقاتلين. هذا الأسلوب في التعامل يريده أركان النظام درساً بليغاً لكل من تسوّل له نفسه التمرد أو المعارضة. أما حديث النصر الذي يتبجح به النظام ومعه معسكر «الممانعة»، فهو حديث يثير القرف والاشمئزاز. فأي نصر تحقق؟ هل أمكن ردع الهجوم أو منعه؟ ألا يعتبر تدمير المنشآت الحيوية هزيمة للنظام العاجز عن التصدي إلا بالكلام الفارغ؟ في كل حال، ليس في جعبة هذا المعسكر سوى تغطية الهزيمة بادعاء الانتصارات، هروباً من السؤال والمحاسبة.

يبقى بعض الكلام برسم نظام طهران. منذ فترة غير بعيدة شنت الطائرات الإسرائيلية غارة على قاعدة تيفور الإيرانية، فدمرت منشآتها وقتلت عدداً غير قليل من الجنود بينهم ضباط برتب عالية. أعلن مسؤولون إيرانيون أن الرد آت ولن يكون أقل من إزالة دولة إسرائيل. ألا يستحق هذا الوعيد تنفيذاً اليوم، خصوصاً أن الهجوم الغربي يشكل مبرراً إضافياً في هذا المجال. فهل سيتحقق هذا الحلم ونشهد في الأيام المقبلة رمي إسرائيل في البحر؟

* كاتب لبناني

الحياة

 

 

 

 

 

الحروب السورية” بعد الضربة الثلاثية/ د. خطار أبودياب

تحولت سوريا بعد سبع سنوات من اندلاع الاحتجاجات ضد المنظومة الحاكمة، إلى ساحة تتواجه فيها مجموعة من القوى الإقليمية والعالمية بشكل مباشر أو بالوكالة في عدة حروب ضمن الحرب، وتأتي الضربة الغربية الثلاثية التي جرت في 14 أبريل محدودة في حجمها العسكري ومهمة في بعدها السياسي لأنها تكشف حجم التعقيدات والمصالح.

لكن هذا المنعطف يبقى رمزيا لأنه لم يعدّل في ميزان القوى العسكري ويفتح الباب على مواجهات ومعارك أخرى أبرزها الحرب بين إيران وإسرائيل التي سترسم ربما الصورة النهائية لمناطق النفوذ أو لإعادة تركيب سوريا والمشرق.

اقتصرت الضربة الأميركية الفرنسية البريطانية على استهداف البنية التحتية للسلاح الكيمياوي للنظام، وكأنها تنطوي على استمرار التسليم باستخدام الحلف الروسي- الإيراني- السوري كل أسلحة الفتك الأخرى، والسماح باستمرار التدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي عبر اقتلاع مئات الآلاف من السوريين ونقلهم إلى الشمال السوري حيث هناك تخوف من تحضير لمقتلة كبرى في إدلب وريفي حلب وحماة.

وكما استخدمت روسيا الساحة السورية كميدان لتجربة أسلحتها والترويج لمبيعاتها، أرادت القوى الغربية إثبات تفوقها واستعراض صواريخها المجنحة والذكية، ولم يكن الهجوم قادرا على البدء في تعديل ميزان القوى، بل على توجيه رسائل سياسية في عدة اتجاهات باستثناء رسالة الواجب الإنساني المنسي في حماية المدنيين والمسؤولية السياسية في تمييع جهود الحل السياسي.

أتت الضربة المحدودة لتؤكد على ضبابية وعدم بلورة استراتيجية متكاملة، ولذا لم تكن الضربة إلا لتأكيد الحضور واحترام الخطوط الحمر إزاء استخدام مفترض لسلاح محرم نظريا منذ الحرب العالمية الأولى، وكانت خلاصة الحد الأدنى من التفاهمات الغربية التي لا تريد الصدام مع موسكو لكنها لا تقبل التحكم الروسي المنفرد بالورقة السورية وبإدارة روسيا لتقاطعات التحكم وخصوصا تقاسمها العمل مع طهران.

وإذا أضفنا إلى الغارة الصاروخية الضربة الإسرائيلية ضد الحرس الثوري الإيراني في مطار تيفور في التاسع من أبريل، نستخلص المزيد من الاحتدام وفتح الأفق أمام مرحلة تصفية الحروب السورية التي لها تواصل مع حرب اليمن والتوازنات الإقليمية والدولية، وتجعل من هذه المنطقة أكثر مناطق العالم خطورة مع تراجع التصعيد في المسألة الكورية.

بعد الحسم العسكري من قبل محور النظام في الغوطة الشرقية ومحيط دمشق، تتجه الأنظار نحو درعا وإدلب، وكان كلام علي ولايتي مستشار المرشد الإيراني للشؤون السياسية واضحا في تحديد ورقة الطريق عبر التحضير لمعركة إدلب وطرد الأميركان من شمال وشرق الفرات. تتصل معركة درعا مركز انطلاق الحراك الثوري بالمصالح الأمنية لكل من الأردن وإسرائيل، خاصة بعد عدم احترام الاتفاق الأميركي- الروسي حيال منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري الموقع في يوليو 2017 والذي اعترضه استمرار التغلغل الإيراني في الجنوب السوري وقرب قطاع الجولان.

أما معركة محافظة إدلب وجوارها التي تعتبر المعقل الأهم للمعارضات السورية المسلحة والتي تمثل كثافة سكانية تصل إلى حدود أربعة ملايين نسمة، فتمثل اختبارا لديمومة اتفاقية أستانة ولقدرة الجانب التركي على إدارة الوضع هناك، إن بالتفاهم مع الروس حول مستقبل تنظيم النصرة، وإن بعدم الصدام مع المحور الإيراني خاصة بعد “الحلف المقدس” ضد الأكراد.

ثالث الحروب السورية المرتسمة في الأفق تشمل شمال وشرق الفرات، أي المنطقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بدعم من حوالي ثلاثة آلاف جندي أميركي (ومئات الجنود من حلف شمال الأطلسي) وقواعد تمتد من منبج والرميلان إلى التنف حيث المثلث الحدودي الأردني- العراقي- السوري.

وهكذا يشكل الوجود الأميركي على حوالي ثلث مساحة سوريا في مناطق غنية بموارد الطاقة تماسا استراتيجيا مع تركيا ونقطة مراقبة لتواصل الطريق الإيرانية عبر العراق إلى سوريا ولبنان، وما يعنيه ذلك لإسرائيل.

من هنا يأتي الكلام عن برمجة الانسحاب الأميركي على ضوء تصريحات الرئيس دونالد ترامب تعبيرا عن التخبط الاستراتيجي الأميركي وغطاء لاستدراج التمويل والحضور الحليف. لكن ذلك لن يؤثر على قرار المؤسسات الأميركية في البقاء على مدى متوسط، وكلام ترامب يذكّر مثلا بكلام الرئيس السابق باراك أوباما عن إغلاق معسكر غوانتانامو والذي لا يزال مفتوحا بعد تركه البيت الأبيض.

يمكن أن تخشى واشنطن من استعداد إيراني لاستهداف هذا الوجود الأميركي كما ورد في برقية أبلغتها وزارة الدفاع الروسية لغرفة العمليات العسكرية الأميركية في سوريا وقالت فيها إنها “لا تستطيع توفير أي غطاء لأي قوات أميركية داخل الأراضي السورية خصوصا في حال الرد عليها أو مهاجمتها من قبل قوات إيرانية تحديدا”.

وبالفعل فإن هذا التلميح فيه تهويل أو ابتزاز ولكنه يبرز سعيا لتكريس الأمر الواقع وتقاسم مناطق النفوذ، حيث تسيطر تركيا في بعض الشمال شرق نهر العاصي وتدعم أميركا الأكراد في شرق الفرات وتتقاسم روسيا وإيران والنظام مناطق “سوريا المفيدة”، وتبقى منطقة الجنوب السوري والبادية محور تجاذبات رسم حدودها على ضوء تناقض المصالح بين إسرائيل وطهران.

لا شك أن قرار دونالد ترامب بخصوص الاتفاق النووي الإيراني المفترض اتخاذه قبل 12 مايو، سيكون له الأثر الكبير في تحديد المسارات وتموضع اللاعبين وتعجّل أو تؤخر الصدام الإيراني- الإسرائيلي. لكن ذلك يكشف حجم مأزق الرئيس فلاديمير بوتين الذي يريد الحفاظ على النظام وإيران معا في تركيبته للسيطرة على القرار السوري، لكن تفاعلات ما بعد الضربة الثلاثية والقرار الإسرائيلي بمنع الوجود الإيراني في سوريا ستضع الإنجازات الروسية في الميزان.

تقرع طبول الحرب في الأسابيع أو الأشهر القادمة تبعا لكلام الحرس الثوري الإيراني عن الرد الحتمي على ضربة مطار تيفور وعن الاعتداد بوجوده في شرق المتوسط وشمال البحر الأحمر، والاستعدادات الإسرائيلية للانخراط في رسم الصورة النهائية لسوريا التي يمكن أن “لا تبقى حدودها كما هي” حسب قول سيرجي لافروف.

هكذا يدخل في العمق الاستراتيجي للصراع الإيراني الإسرائيلي بلورة المواقف الحاسمة لواشنطن وموسكو، وتصل الخشية عند أوساط أوروبية من مخاطر نزاع عالمي بسبب حرب إقليمية محتملة.

لكن مراقبة احترام القوى الكبرى للخطوط الحمر بين بعضها البعض، وأهمية حفاظ بوتين على مكسبه باستعادة النفوذ الدولي من خلال الساحة السورية، تدفع للاعتقاد أن التماسك الاستراتيجي بين روسيا وإيران لن يصمد، وأن تأهيل النظام السوري الذي عملت من أجله موسكو سقط على ضوء تداعيات معركة الغوطة الشرقية.

في مواجهة “الرسالة الكيمياوية” ردت باريس وواشنطن سياسيا بتشكيل حلف أميركي أوروبي مضاد، وعسكريا بإظهار الروس بمظهر “العاجز” عن حماية بشار الأسد طويلا، ما اضطر الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا للقول إن بشار حليف للغرب أكثر منه صديقا للروس.

استعاد الغرب بعض خيوط اللعبة السورية، ولم تعد موسكو تمسك لوحدها بزمام المبادرة. لكن الأهم سيبقى في التشكل الحاسم لميزان القوى الإقليمي كي تتكشف آفاق رسم خارطة سوريا المستقبلية في سياق إعادة تركيب الإقليم.

أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس

العرب

 

 

 

 

في معضلة استخدام السلاح الكيميائي في سورية/ عبد النور بن عنتر

أثارت الضربات العسكرية الثلاثية التي نفذتها قوات أميركية وبريطانية وفرنسية ضد أهداف في الأراضي السورية نقاشات كثيرة، وسعت القوى التي قامت بها والأطراف المساندة لها، غربياً وعربياً، لإضفاء الطابع الأخلاقي عليها مبرّرة إياها باستخدام الجيش النظامي السوري أسلحة محظورة دولياً ضد المدنيين.

تُوظف الحجّة الأخلاقية هنا لخدمة مآرب سياسية، أما القول إن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر ففيه استخفاف بعقول الناس، فكأن صاحبه يقول لنظام الأسد اقتل المدنيين كما يحلو لك، وبالأعداد التي تناسبك، وأنا سأكتفي بالشجب، ما دام الأمر يبقى ضمن دائرة المعقول العسكري التقليدي، ولا يتعداها إلى دائرة المحظور (الكيميائي) العسكري. وكأن التقتيل بوسائل تقليدية أهون، ولو كان عدد الضحايا أضخم من التقتيل بوسائل غير محظورة، ولو كان عدد الضحايا معدوداً للغاية. فما يُزعِج ليس عدد الضحايا، وإنما الطريقة التي لقيت بها حتفها. ولمحاولة فهم بعض جوانب معضلة (استخدام) السلاح الكيميائي في سورية، تركز هذه السطور على ثلاثة إشكالات أساسية.

الأول، اللايقين. تقول القوى الغربية، لاسيما أميركا وبريطانيا وفرنسا، وحلفاؤها من العرب وإسرائيل إن النظام السوري هو من استخدمها. بينما يتهم الأخير، وحليفاه الروسي والإيراني، فصائل من المعارضة السورية المسلحة باستعمالها. من يقول الحقيقة؟ من يمكن له أن يأمن القوى الغربية الثلاث ذات السجل الثري في استخدام الأسلحة المحظورة دولياً إبّان الحرب الباردة وبعدها، فأميركا وبريطانيا استخدمتا مثلاً اليورانيوم المنضب في العراق في 1991، وضد صربيا في 1999 وأميركا استعملت اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض في العراق في 2003 و2004 لا سيما في الفلوجة. كما استخدمت هذه القوى أسلحة محظورة في أفغانستان. ومن يأمن السعودية التي تستخدم أسلحة محظورة (قنابل عنقودية) في اليمن، أو إسرائيل التي استعملت هي الأخرى أسلحة محظورة (الفوسفور الأبيض والقنابل الانشطارية

“ليست معركة الأدلة أمراً هيّناً، عكس ما توحي به الخطابات الرسمية للدول المعادية للنظام السوري ووسائل الإعلام”

وغيرهما) ضد المدنيين الفلسطينيين؛ فالمُتَهِم ليس إذاً بريئاً هو الآخر. أما المُتهَم، أي النظام السوري، فإن ما يفرقه في حال ثبوت التهمة بشكل لا ريب فيه، هو أنه استخدمها ضد أهله، بينما القوى الأولى استخدمتها ضد مواطني الغير. لكن يبقى أن الأمر يتعلق بأسلحة محظورة، مهما كانت هوية المستخدِم وهوية الضحية. وحالة بشار الأسد ليست استثنائية في المنطقة، فقد قصف صدام حسين مواطنيه الأكراد في حلبجة بالسلاح الكيميائي في 1988.

الإشكال الثاني، طبيعة مسرح الجريمة. من جهةٍ، يعمل الجاني دائماً على تلطيخ مسرح الجريمة وتلويثه لمحو الآثار الكيميائية، ما يجعل من الصعوبة بمكان فصله عن بيئته المحيطة به، والحصول على عينة تحليلية ذات مصداقية عالية. وكلما تأخرت التحرّيات تلوث مسرح الجريمة، وصار غير قابل للفحص. وعموماً، تراهن الأطراف التي تستخدم هذه الأسلحة على عامل الوقت، لتلويث مسرح الجريمة، وجعله غير قابل للاستغلال. فمثلاً يُتهم النظام السوري وروسيا بتعطيل الزيارة التفتيشية لوفد دولي لمواقع مشتبهه بها. بينما تُفند سورية وروسيا ذلك، وتقول الأولى إن القصف الغربي أخيراً جاء لتدمير المواقع المستهدفة لإجهاض عمل المفتشين الدوليين، حتى يبقى الشك قائماً.. لإثبات استخدام الأسلحة الكيميائية، يجب الإبقاء على نقاء مسرح الجريمة، لأخذ عيناتٍ منه، بما فيها التربة، وفي حال تعذّر فحص مسرح الجريمة، لأنه تم تنظيفه وتطهيره، فإن الحل يبقى في فحص الضحايا الفوري، بيد أن ظروف الحرب تحول، في غالب الأحيان، دون ذلك.

من جهة ثانية، يُشتبه في أن الضربات العسكرية لمواقع محددة تصنع و/أو تخزّن أسلحة كيميائية تدمر الأخيرة ومعها الأدلة أيضاً. فالأسلحة الكيميائية غير مستقرة وحسّاسة جداً للحرارة، وبالتالي فهي تُدمر وتختفي تماماً مع حرارة انفجار القنابل القوية التي تقصف بها مواقعها. فالقصف يدمر الأدلة التي قد تؤكد وجود أسلحة كيميائية في تلك المواقع. ومن هنا، تحديد الأخيرة مهم لاستهدافها، لكن ذلك لا يلوث فقط مسرح الجريمة، بل يدمره على آخره.

الثالث، التفاهمات السياسية التي حجب الجدل القائم بشأن استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي، واتخاذ القوى الغربية ذلك ذريعة لقصف سورية الأسبوع الماضي الرؤية عنها.

بغض النظر عن صحة حجج كل طرفٍ من عدمها، هناك تفاهمات مكيافيلية. تقول القوى الغربية إن استخدام النظام الأسلحة الكيميائية خط أحمر. أما روسيا التي تفند كل اتهام بهذا الخصوص فتعتبر أن المساس بقدرات الجيش السوري التقليدية خط أحمر. ومن غير المستبعد أن يكون انتشار قوات روسية في مواقع عسكرية عديدة تابعة له وسيلةً لحماية هذه المواقع من ضربات صاروخية غربية. والجميع رابحٌ في هذه المعادلة، فالقوى الغربية يمكنها أن تقول إنها تدين جرائم النظام، وإنها حازمة في موقفها، مستدلة بقصفها ما تعتبرها منشآت كيميائية لتظهر أمام الرأي العام المحلي، وحتى الدولي، بمظهر المدافع عن القانون الدولي، الذي تنتهكه باستمرار في المنطقة ذاتها أي الشرق الأوسط، آملة في حجب الرؤية عن استخدامها وحلفائها، لاسيما إسرائيل والسعودية، أسلحة محظورة. أما روسيا فلا تعترض عملياً ضد قصف منشآت كيميائية، حتى لا تظهر بمظهر القوة التي تحمي أسلحة محظورة واستعمالها، لكنها في الوقت نفسه تحمي القدرات التقليدية للجيش السوري. ويقبل النظام السوري التضحية بما تبقى من برنامجه الكيميائي، أو ما يعتبر كذلك، من أجل الحفاظ على قدراته التقليدية التي مكّنته من استعادة المبادرة العسكرية بفضل التدخل الروسي المباشر، ومواصلة عملياته ضد المعارضة المسلحة وضد المدنيين. ومن ثم، لا يغيّر القصف الصاروخي الغربي شيئاً ميدانياً، وأن سورية مسرح لصراع النفوذ والمصالح بين قوى كبرى، تعتمد على نقاط ارتكاز إقليمية (السعودية والإمارات وغيرهما بالنسبة للقوى الغربية، وإيران بالنسبة لروسيا).

وقد بلغت هذه الحسابات أوجها خلال الأيام بل الساعات القليلة التي سبقت القصف الثلاثي، مع التنسيق المباشر بين القوى الغربية المعنية وروسيا، بشأن الأهداف المقصودة، تفادياً لأي احتكاك في الجو بين القوات الغربية والروسية، ولأي مساسٍ بالقوات الروسية المنتشرة في بعض المواقع العسكرية التابعة للجيش السوري، فضلاً عن وجودها في القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية في اللاذقية. مجرد التنسيق هذا، وقد كان ضرورياً لتجنب تصعيد

عسكري مع روسيا، يعني أن القصف سيكون محدوداً، وأن مغازيه سياسية وليست عسكرية، وأنه تم التفاوض مع روسيا بشأن أهدافه.. سمح هذا كله بإخلاء المواقع المستهدفة، ليس فقط من العاملين فيها، بل وربما من مخزون السلاح، التقليدي أو غير التقليدي الذي كان فيها. فمحدودية الضربات تم التفاوض، بل “الاتفاق”، عليها بين روسيا والقوى الغربية المتدخلة، ما أفرغها من محتواها، عكس ما يتغنى به الخطاب الرسمي في دول غربية وعربية. ليس تجنب المواجهة مع روسيا المانع الوحيد الذي حال دون توسيع هذه الضربات وتمديدها، فهناك عاملٌ حاسمٌ آخر تتفق عليه القوى الغربية وبعض الدول الإقليمية، وهو عدم ضرب قدرات الجيش السوري، حتى لا تستفحل الجماعات الجهادية مجدّداً، ويتصلب عودها في سورية.

يلاحظ هنا أن الانطلاق من حادثة معينة، القصف بسلاح كيميائي في سورية، بغض النظر عن صحته من عدمه، وعن الطرف الذي استعمله، يقودنا، في النهاية، إلى تحليلٍ في غاية من التعقيد، تظهر فيه مدى غلبة المصالح على كل الاعتبارات الأخرى مجتمعة، ومدى تلاعب الأطراف المنخرطة بالوقائع. في هذه الحالة، القاعدة الواجب الالتزام بها نوع من الشك المنهجي (الملاحظة لا تعكس بالضرورة العالم الحقيقي، خصوصاً أن الواقع مبني اجتماعياً) والحذر الشديد من التحليلات والأجوبة الجاهزة ومشكَلة الأمور. فحادثة “أسلحة الاختفاء الشامل”، وهي العبارة التي استخدمتها مجلة تايم الأميركية تعليقاً على عدم عثور الجيش الأميركي على أسلحة الدمار الشامل في العراق التي اتخذت ذريعة لغزوه، فيها عبرة. لكن بعض الدول غير مكترثة بذلك، فأميركا وفرنسا تقولان إن في حوزتهما أدلة على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية، من دون الإفصاح عنها.

ليست معركة الأدلة أمراً هيّناً، عكس ما توحي به الخطابات الرسمية للدول المعادية للنظام السوري ووسائل الإعلام. ولا مبالغة في القول إن روسيا وإيران هما وحدهما على درايةٍ بما يحدث فعلاً، بحكم تحالفهما مع نظام الأسد. ولكن بسبب هذا التحالف، فإن كلمتهما محل شك وتشكيك، مثل كلمة القوى الغربية وحلفائها العرب وإسرائيل، بسبب عدائها للنظام السوري (وسجلهم أيضاً في اللجوء إلى الأسلحة المحظورة). فلا يمكن قطع الشك باليقين، لا بالاعتماد على رأي القوى المعادية للنظام السوري، ولا على رأي القوى المساندة له.

العربي الجديد

 

 

 

 

ما بعد الضربة الأميركية/ بيار عقيقي

هدأ العالم قليلاً بعد الضربة الثلاثية الأميركية ـ الفرنسية ـ البريطانية على سورية الأسبوع الماضي. هدأ الضجيج الذي كان محدقاً بالعالم، جرّاء التهديدات المتبادلة بين الروس والأميركيين. في الواقع، لم تكن الضربة مؤذية ولا مكلفة، بل تراوحت بين إسقاط الصواريخ الغربية وسقوط تلك الصواريخ في مواقع غير مأهولة بشرياً، بعد تفريغها من محتوياتها قبل بدء القصف.

هدأ العالم. لكن من انتصر؟ هل هو الروسي الذي هدّد بأنه سيقصف مواقع إطلاق الصواريخ، وهو الأمر الذي لم يفعله؟ أم الأميركي الذي أعاد التذكير بأنه في صلب الشرق الأوسط، ولن يغادر المنطقة ما لم يحقق كامل أهدافه؟ بالطبع، العنوان المُعلن هو “داعش”، لكن العناوين الخفية تتخطى التنظيم إلى حقول النفط في الشرق السوري.

في الحسابات، وصل الأميركي إلى البحر المتوسط، ومعه عشرات البوارج والمدمّرات الغربية، من فرنسية وبريطانية، ولم تسجّل عودة أي منها إلى بلادها، وكأنها تريد “الحرص على عدم استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي مجدّداً”، أو أنها تستعدّ لأمرٍ ما، أو مواجهةٍ ما. فكل يوم في البحر بالنسبة للبوارج والمدمّرات عالي الكلفة، ولا بدّ من أن طرفا ما سيدفعها. بالتالي، الوجود الأميركي والغربي في البحر في الوقت الحالي أمر مريب. ثمّ إن الضربة أثبتت، إلى حين، أن الأميركيين هم الأقوى عملياً على حساب الروس. دائماً ما كان الروسي يتراجع مع وصول الأمور إلى حدّها الأقصى. في أزمة الصواريخ الكوبية 1962 فعلها. المواجهة مع الأميركيين مكلفة للروسي، وهو يدرك ذلك. متجر “ماكدونالدز” في موسكو شاهد على “انتصار الرأسمالية المتوحشة على حساب الشيوعية المرتبكة”.

من يرى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهو يتحدث عن “السلام العالمي” في أثناء تهديد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إن “الصواريخ قادمة يا روسيا وستكون ذكية ولطيفة”، يدرك أنه فشل في استيعاب ترامب المتهم بأنه “روسي” الانتماء. قد يأخذ روبرت مولر، المحقق الخاص في شأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ذلك في عين الاعتبار. ولو كانت الأمور اتفاقا بين روسيا والولايات المتحدة، كان حريّاً بواشنطن وقف العقوبات الاقتصادية بحقّ موسكو التي تعاني عملياً من تردّي الوضع الاقتصادي فيها.

هل يمكن القول إن ترامب قد يعيد المحاولة؟ كله وارد، فهو بضربة مطار الشعيرات العام الماضي، ثم مواقع عدة في العام الحالي، يكون قد فتح باباً واسعاً أمام دفع الحلّ السوري قدماً، باتجاه اتفاق جنيف لا سوتشي ولا أستانة. وكان وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، واضحاً في هذا الصدد. جنيف أولاً. وهو ما يعني أن الحلّ سيكون أميركياً. دائماً ما كانت الحلول، وعلى سوئها أو صحتها، أميركية. الحلّ الأميركي عبر اتفاق الطائف السعودي طُبّق في لبنان. الحلول الأميركية من “كامب ديفيد” إلى “واي ريفر”، خُصصت لفلسطين المحتلة. الحلّ الأميركي في تقاسم السلطة في العراق ما زال شاهداً. الأميركيون يصنعون الحلول وفق أهوائهم، لا وفق مصالح الشعوب. وهو ما سيحصل في سورية، وهو ما لن يقدر لا الروسي ولا الإيراني على منعه. لم يغادر الأميركيون الشرق الأوسط، ولو أغلقوا الباب فترة. مغادرة الشرق الأوسط تعني حكماً مغادرة الوسط الآسيوي، أي قلب مستقبل الاقتصاد العالمي في العقود المقبلة، عبر طريق الحرير. فعل الأميركيون دوماً ما يجيدون فعله، أي خلق الفوضى وإدارتها، معادلة أساسية لديهم.

بتغريدة واحدة، أشعل ترامب العالم، ومن يصدّق أننا وصلنا إلى “نهاية أميركا” أو “نهاية الزمن الأميركي”، عليه بداية التخلي عن كل ما تمثله أميركا في الثقافة والملابس والسينما والطعام والتلفزيون والموسيقى، والتوقف عن طلب الهجرة أو السياحة إليها. لا يُعقل أن تثق بهزيمةٍ لبلادٍ كأميركا وأنت تقف على أبواب سفاراتها منتظراً تأشيرة دخولٍ إليها.

العربي الجديد

 

 

 

 

إدارة ترامب والضربة العسكرية للنظام السوري وغياب استراتيجية أميركية

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

شنت الولايات المتحدة الأميركية وحليفتاها، بريطانيا وفرنسا، هجومًا عسكريًا عقابيًا استعراضيًا على بعض مواقع نظام الرئيس السوري، بشار الأسد؛ بحجة استخدامه “غازًا سامًا” ضد المدنيين في بلدة دوما، في الغوطة الشرقية، في 7 نيسان/ أبريل 2018. وقد حرصت الولايات المتحدة على تجنب وقوع ضحايا بين الروس والإيرانيين، وحتى قوات النظام السوري. ولم تدّخر وزارة الدفاع الأميركية جهدًا في التواصل مع الروس؛ لضمان تجنب أي سوء فهم قد يدفع الطرفين إلى مواجهة غير مقصودة.

وبسبب محدودية الهجوم، أثيرت أسئلة كثيرة بشأن جدية تهديدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للأسد بدفع “ثمن باهظ”، وعن وجود خلافات تعصف بإدارة ترامب حول سياستها في سورية. وقد شملت الخلافات داخل إدارة ترامب طبيعة الرد العسكري الأميركي ومداه. بل إنه لا يوجد توافق داخل الإدارة حول إن كان نظام الأسد قد استخدم غاز الأعصاب (السارين) في دوما، أم إنه “اكتفى” باستخدام غاز الكلور، وهو الأمر الذي تسامحت معه الولايات المتحدة في سورية، مثلما تسامحت مع غيره من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام في حق شعبه.

طبيعة الهجوم

عندما أُبلغ ترامب عن هجوم دوما لجأ إلى “تويتر”، وسيلته المفضلة في التعبير عن مواقفه، مغرّدًا بلغة حادة عن الأسد وداعميه الروس والإيرانيين، متعهدًا بجعل نظامه يدفع “ثمنًا باهظًا” لاستخدامه أسلحة كيماوية. ولم تتمحور النقاشات داخل الإدارة الأميركية حول مبدأ وجوب توجيه ضربة “عقابية” إلى النظام، وإنما ركّزت على مدى الضربة وقوتها. واستنادًا إلى مسؤولين في إدارة ترامب، فإنه كان يريد حملة متواصلة وأشد قوة على النظام السوري،

“فشلت عملية الشعيرات في إقناع الأسد بوقف استخدام السلاح الكيميائي”

في مقابل تحفظ وزير الدفاع، جيمس ماتيس، وجنرالات الجيش الأميركي الذين أصروا على ضرورة وجود إستراتيجية أوسع لسورية، وحذّروا من خروج الأمور عن السيطرة، بما في ذلك احتمال حصول صدام أميركي – روسي. غير أن الصفة الفوضوية لرئاسة ترامب تحكمت في تفاصيل النقاشات الأميركية ووجهتها، خصوصًا أنها جاءت في أجواء الإثارة بشأن اقتحام عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) مكتب محاميه الخاص ومنزله، بحثًا عن وثائق قد تدين ترامب في قضايا قانونية. وقد أدى أسلوب ترامب الفوضوي إلى ارتباكٍ في مداولات مجلس الأمن القومي الأميركي لتحديد طبيعة العملية العسكرية ضد النظام السوري ومداها؛ فقد فاجأ مستشاريه، في 11 نيسان/ أبريل 2018، بتغريدةٍ ردّ فيها على تحذير روسي بإسقاط أي صواريخ أميركية تطلق على سورية واستهداف مواقع إطلاقها. وكتب ترامب في تغريدته: “روسيا تتعهد بإسقاط أي صاروخ يطلق على سورية. استعدي يا روسيا لأن الصواريخ قادمة.. لطيفة وجديدة وذكية”.. وأثارت تلك التغريدة تلك انتقادات واسعة؛ ذلك أنه دائمًا ينتقد إدارة سلفه، باراك أوباما، لإعلانها تفاصيل مخططاتها العسكرية؛ وهو الأمر الذي اضطر الرئيس الأميركي إلى التغريد مرة أخرى في اليوم التالي، نافيًا أن يكون حدد وقت الهجوم، وقال: “يمكن أن يكون (الهجوم) قريبًا جدًّا، ومن الممكن أن لا يكون قريبًا جدًّا”.

كان هدف ترامب هو القيام برد أقوى من الهجوم على مطار الشعيرات، غير أن الأمر انتهى إلى ما وصفها ماتيس “ضربة يتيمة” لإيصال رسالة قوية إلى الأسد، كي لا يستخدم أسلحة كيماوية مجددًا. وهذا يعني عمليًّا أن هدف العملية العسكرية أخيرا لم يختلف عن هدف عملية الشعيرات عام 2017 التي فشلت في إقناع الأسد بوقف استخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه. وفي محاولة لامتصاص استياء ترامب من محدودية الضربة والخيارات العسكرية التي قدمت له، ضاعف البنتاغون حجم هذه الضربة مرتين مقارنة بضربة عام 2017؛ إذ أطلقت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا 105 صواريخ بدلًا من 59 في عام 2017، كما استهدفت هذه المرة ثلاثة مواقع للنظام مقابل موقع واحد في 2017. وأعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أن الضربات اقتصرت على تقويض القدرات الكيماوية للنظام السوري، ولم تهدف إلى إطاحة الأسد أو تعديل موازين القوى على الأرض. ومع أن ترامب وصف العملية بالناجحة، وغرّد أن “المهمة أنجزت”، مع أن حجم الضربة كان أقل كثيرًا مما أراده، فإن البنتاغون أقرّ بأن عناصر البرنامج الكيميائي لا تزال قائمة في سورية، وبأنه لا يمكن ضمان عدم قدرة سورية على تنفيذ هجوم كيميائي في المستقبل، على الرغم من استهداف “قلب برنامج الأسلحة الكيميائية السوري”.

“الخط الأحمر” لإدارة ترامب

على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تجزم بعد أن النظام السوري استخدم غاز السارين في

“أدى أسلوب ترامب الفوضوي إلى ارتباكٍ في مداولات مجلس الأمن القومي الأميركي لتحديد طبيعة العملية العسكرية ضد النظام السوري ومداها”

الهجوم على دوما في نيسان/ أبريل 2018، فإنها مضت في قرار الهجوم. واستخدام غاز السارين هو “الخط الأحمر” الذي كانت إدارة أوباما وضعته عام 2012 للنظام السوري، وكان ترامب قد التزمه في هجومه على مطار الشعيرات عام 2017. وكان من المفترض، وفق اتفاق عام 2013 بين الولايات المتحدة والنظام السوري، بوساطة روسية، أن تسلّم سورية كل مخزوناتها من السلاح الكيميائي؛ ما جنب النظام حينها ضربة عسكرية أميركية. ويبدو من الواضح اليوم أن النظام السوري لم يلتزم كليًّا ذلك الاتفاق. ويؤكد المسؤولون الأميركيون استخدام غاز الكلور في هجوم دوما، في حين يشيرون إلى أن الأدلة على استخدام غاز السارين غير قاطعة إلى الآن، بحسب ما أكد نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، ووزير الدفاع ماتيس ويعتقد مسؤولون آخرون أن عينات بيولوجية من منطقة الهجوم في دوما تفيد بأن الغاز المستخدم كان خليطا من غازَي الكلور والسارين..

أثارت المعطيات السابقة تساؤلات حول وضع إدارة ترامب “خطّا أحمرَ” جديدًا معيارًا يستدعي تجاوزه تدخلًا عسكريًا أميركيًا. وكانت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، ألمحت، ساعات بعد الهجوم الغربي العسكري على النظام السوري، إلى أن الولايات المتحدة ستضرب من جديد، إن استخدم “الغاز السام” مرة أخرى، قائلة: “إذا استخدم النظام السوري هذا الغاز السام مرة أخرى فالولايات المتحدة جاهزة للضرب”، وأخبرت مجلس الأمن بأنه “عندما يرسم رئيسنا خطًا أحمر فرئيسنا يطبق ما يعنيه الخط الأحمر”. وإذا كان غاز الكلور مشمولًا في الخط الأحمر لإدارة ترامب، فإن هذا سيكون معيارًا جديدًا صعب التطبيق في إطار السياسة الحالية؛ ذلك أن النظام السوري استخدمه عشرات المرات من قبل ولم يُواجه برد أميركي، كما أنه غير مشمول في اتفاق تخلي سورية عن أسلحتها الكيماوية عام 2013. وكان قد سُمح لسورية بالاحتفاظ به حينها لاستخدامه في أغراض مدنية، فيما حُظر استخدامه لأغراض عسكرية. ولم يلتزم النظام ذلك يومًا.

إستراتيجية غائبة

إعادة تركيز الاهتمام على حقيقة غياب إستراتيجية أميركية في سورية قد تكون إحدى أهم النتائج التي ترتبت على الهجوم العسكري المحدود على النظام السوري. فقبل نحو عشرة أيام من الهجوم، كان ترامب قد أكد أن القوات الأميركية في سورية ستعود إلى “الوطن … قريبًا جدًّا”. وعلى الرغم من أن مستشاريه للأمن القومي وجنرالات الجيش الأميركي حاولوا إقناعه بضرورة الإبقاء على تلك القوات في سورية، فإنه وإن كان قد تراجع عن قرار سحبها مباشرة، فقد بقي مصرًّا على ضرورة وجود جدول زمني سريع لسحبها؛ وقد أكدت معلومات أنه حدد ذلك بستة أشهر. وبعد الهجوم الكيميائي في دوما، اختلف ترامب مع المؤسسة العسكرية الأميركية مرة أخرى، لكنه اتخذ موقفًا نقيضًا لموقفه السابق؛ فقد ضغط للقيام برد قوي

“إذا كان غاز الكلور مشمولًا في الخط الأحمر لإدارة ترامب، فإن هذا سيكون معيارًا جديدًا صعب التطبيق”

ومتواصل ضد النظام السوري، وهو ما حذره منه القادة العسكريون؛ خشية أن يؤدي ذلك إلى صدام مع روسيا وإيران على الأرض السورية..ولا تتوقف تناقضات ترامب عند ذلك الحد، ففي دلالة على غياب استراتيجية أميركية واضحة لسورية، ومع إعلانه عن الضربات الصاروخية على النظام السوري، أكد ترامب رغبته في خروج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط “المضطرب” في مرحلةٍ ما، على اعتبار أن “مصير المنطقة هو في أيدي شعوبها”. وأكد ترامب أن الولايات المتحدة “لا تسعى إلى البقاء في سورية لأجل غير مسمى بأي حال”، وأن على أطراف أخرى أن تقوم بهذا الدور هناك..

وبحسب مسؤولين في إدارة ترامب، فإن للولايات المتحدة هدفين في سورية اليوم: ضمان هزيمة “داعش” كليًّا ومنعه من السيطرة مجددًا على المناطق التي طرد منها، ومنع النظام السوري من استخدام الأسلحة الكيميائية.. وقد أدرك الأسد أن الولايات المتحدة لا تملك بديلًا منه، ولا تملك، كذلك، تصورًا لحال سورية بعده، خصوصًا بعد أن تخلت إدارة ترامب كليًّا عن دعم أي تيار من المعارضة السورية المسلحة التي تقاتل النظام؛ ولذلك أجرى نظام الأسد صباح ليلة الضربة احتفالات، أطلق عليها اسم احتفالات “صباح الصمود”..

خلاصة

لم يكن الهجوم الصاروخي الذي توعد به ترامب أكثر من لفتة نظر فارغة لنظام الأسد. وبغض النظر عما إن كان ترامب وضع خطًا أحمر جديدًا يشمل استخدام الكلور، فإن الأمر الوحيد المؤكد أن الولايات المتحدة لا تعتبر قتل السوريين بالأسلحة التقليدية، بما في ذلك البراميل المتفجرة، سببًا يستدعي تدخلها. وحتى حديث ترامب عن رغبته في أن تضاعف دول أخرى، كالسعودية والإمارات وقطر ومصر، من دورها في سورية، حتى يتمكن من إخراج القوات الأميركية من هناك، يُعتبر أمرًا غير منطقي. فمواقف هذه الدول متفاوتة؛ فمنها ما يدعم نظام الأسد (النظام المصري)، ومنها ما قد يدخل في صراع مع تركيا (الإمارات والسعودية)؛ إضافة إلى أن وجود روسيا في سورية اليوم يجعل من المستحيل على أي لاعب آخر موازاة نفوذها، في غياب أي نفوذ أميركي.

 

 

 

 

ناجون من مجزرة دوما يتحدثون لـ”المدن”عن الرعب الكيماوي/ خالد الخطيب

تجاوز عدد مهجري مدينة دوما في الغوطة الشرقية الذين وصلوا إلى مناطق “درع الفرات” في ريف حلب الشمالي، 20 ألف شخص، توزعوا على عدد كبير من المخيمات المؤقتة والدائمة في المنطقة. وما يزال قسم كبير منهم يبيتون في الجوامع والمباني العامة، بانتظار إيوائهم في واحد من المخيمات التي لم ينتهِ العمل على تجهيزها بعد.

قسمت مجزرة الكيماوي في دوما، المُهجّرين قسرياً الذين وصلوا إلى “درع الفرات” تباعاً منذ أوائل نيسان/أبريل إلى قسمين؛ دفعات وصلت الى المنطقة قبل الاستهداف بالغازات السامة، وتضم المدنيين والجرحى وأصحاب الأمراض المزمنة، ومن خرج بعد الهجوم الكيماوي.

إذا كنت تبحث عن الناجين من المجزرة عليك أن تسأل: “أين تقع مخيمات مُهجّري دوما ما بعد الكيماوي؟”. مخيم البل، شمالي بلدة صوران تقيم فيه نحو 600 عائلة. وهو أكبر تجمع يضم ناجين من المجزرة. قسم كبير منهم عايش المجزرة بشكل مباشر، هناك عائلات فقدت أفراداً منها، ماتوا اختناقاً. عائلات أخرى وصل منها فقط فرد أو اثنان، إلى المخيم، وفي حين قضى البقية في المجزرة. في مخيم البل يعيش الرجال العازبين، في خيام كبيرة، قسم كبير منهم فقدوا زوجاتهم وأطفالهم، في مجزرة الكيماوي، واستقلوا وحدهم حافلات التهجير.

وتتوزع بقية مُهجّري دوما، ما بعد الكيماوي، في مخيمات بعضها دائم وبعضها مؤقت. مخيم الشرقية، ومخيم بزاعة قرب الباب، ومخيم زوغرة قرب جرابلس، ومخيم الشبيبة في اعزاز. الضحايا الذين ظهرت عليهم أعراض الإصابة بالغازات السامة، تم تحويلهم فور وصولهم المنطقة إلى المستشفيات المحلية في إعزاز والباب ومارع وصوران. أعراض التسمم بالغاز تركزت على الجهازين التنفسي والهضمي، وفي صورة طفح جلدي. الحالات الحرجة تم تحويلها إلى المشافي التركية. الأطفال الذين ظهرت عليهم أعراض الإصابة بالغازات السامة على شكل حساسية جلدية وطفوحات جلدية، بأشكال مختلفة، يتم التعامل معها من خلال النقاط الطبية التي تنتشر في المخيمات المؤقتة والدائمة، ويتم تحويل المرضى للعلاج في أقرب مشفى.

على الرغم من مرور أكثر من 10 أيام على وصول المهجرين المقيمين في مخيم البل، إلا أن آثار الصدمة ما تزال بادية عليهم. الحركة قليلة في شوارع المخيم، ونادراً ما تشاهد باب خيمة مفتوحاً، أو تلاحظ ملابس مغسولة منشورة، أو تسمع أصواتاً مرتفعة. القليل من العائلات تجمعت أمام الخيمة لتجرب “الوابور” المخصص للطبخ، والذي سلمته لهم إدارة المخيم.

التقت “المدن” في مخيم البل، ببشير دياب ضبعان، أمام خيمته، عندما كان يجرب “الوابور”. قال بشير: “ظننا أن القصف اعتيادي، مروحيات النظام كانت تلقي عشرات البراميل المتفجرة كل ساعة، والطيران الحربي لا يتوقف عن القصف”. وأضاف بشير، الأب لخمسة أطفال: “الانفجارات التي حصلت مع غروب شمس السبت، تبعتها رائحة كريهة، شبيهة بمادة الكلور، انتشرت في الأجواء. عدد من الشباب تطوعوا واستطلعوا مكان الضربة وعمموا على العائلات الموجودة في بنايتنا أن القصف بالغازات السامة، وعلى الجميع أن يأخذ الاحتياطات اللازمة”.

عائلة بشير كانت تسكن الطابق السفلي في مبنى عند ساحة الغنم في دوما، لم يكن يبعد عن الموقع المستهدف بالكيماوي إلا بمسافة 200 متر فقط. تابع بشير: “استطعنا التخفيف من حدة الروائح عن طريق المياه والخل. الأطفال بالتحديد تم تعريضهم للمياه والخل، وقمنا بتغطية وجوههم بالقماش المبلل بمادة الخل أثناء عمليات الإخلاء التي قمنا بها للمكان كي نبتعد قدر الإمكان عن المكان المستهدف”. الروائح بقيت فترة طويلة في الطبقات السفلية من المباني، وغطت مساحة 500 متر مربع على الأقل.

وأشار بشير إلى أن أطفاله لم تظهر عليهم أعراض الإصابة بالغازات السامة أثناء وجودهم في دوما، لكنهم بعدما وصلوا إلى ريف حلب، بدأت الأعراض تظهر. ابنه راشد، لا يتجاوز العامين، ويعاني منذ وصوله من الإسهال والقيء. تسنيم، 10 أعوام، ظهرت عليها طفوح جلدية في الأطراف. راشد بات يقضي وقته، بشكل يومي، في مراجعة النقطة الطبية في المخيم. في حين تمّ تحويل بقية أبناء بشير، أكثر من مرة، إلى مشفى معبر السلامة الحدودي، لتلقي العلاج. تسنيم تتناول أدوية متعددة، يومياً، ومراهم جلدية.

“المدن” التقت أيضاً ليث كنعان، أحد الناجين من مجزرة الكيماوي في دوما. ليث أب لأربعة أطفال. ابنته أميرة، 3 أعوام، ما تزال تعاني من ضيق التنفس، لأنها تعرضت للغازات السامة أكثر من أخوتها. يقول ليث: “كنا في القبو مع أكثر من 20 عائلة. القبو الذي كنا فيه يعتبر في دائرة الاستهداف المباشر في ساحة الشهداء في دوما. الأقبية المنتشرة تحت المباني المحيطة بالمشفى جميعها تعرضت للغازات. معظم شهداء المجزرة سقطوا في محيط ساحة الشهداء والمباني القريبة من المشفى. لم نتمكن من إخلاء جميع العائلات. القسم الأكبر من الشهداء كانوا من الأطفال الذين لم نتمكن من إخلائهم في الوقت المناسب”.

يضيف ليث: “سقط صاروخان في الساحة في مكان قريب من القبو الذي كنا متواجدين فيه عند الساعة السادسة تقريباً، خرجت وعدد من الرجال من القبو لنستطلع مكان سقوط الصواريخ. كان الدخان المتصاعد من مكان الانفجار بألوان مختلفة عما هو معتاد، أخضر وزهري، رافقته روائح كريهة، انتشرت بسرعة في المكان”. يتابع ليث: “في اللحظة ذاتها، سمعنا أصوات الأطباء والممرضين في المشفى القريب ينادون: كيماوي، كيماوي، احتموا، احتموا، عليكم بالإسعافات الأولية”. من دون نقاش “هرعنا إلى القبو مجدداً لكي نسعف العائلات ونخلي المكان في أسرع وقت ممكن، والاسعافات الأولية التي استخدمناها هي المياه والخل، استخدمت الأمهات فوط الأطفال المبللة بالخل لوقاية أطفالهم من استنشاق الغازات. وضعت الفوط على وجوه الأطفال بدلاً من الكمامات، كانت طريقة ناجحة. العائلات التي كانت تخرج من القبو كنا نرسلها إلى المناطق الواقعة غربي موقع الانفجار، أي بعكس الرياح التي كانت سائدة يومها. الأشخاص الذين بدت عليهم عوارض الاختناق حولناهم إلى المشفى القريب. الأطفال كانوا الأكثر تضرراً بالغازات. اختناق وزبد يغلق المجاري التنفسية”.

وبقي ليث أكثر من ساعة يسعف المصابين، ويساعد الرجال في الأقبية على إخلاء العائلات العالقة بعدما تأكد من خروج عائلته إلى مكان آمن من الغازات. طفلته أميرة أجريت لها اسعافات أولية ونجت بأعجوبة من الموت والتحقت بأمها. ليث استنشق كمية من الغازات السامة أفقدته وعيه. يقول: “فقدت وعيي داخل آخر مرة دخلنا فيها القبو، بعدما رأيت طفلين ممددين والزبد يغطي وجههما، وقد فارقا الحياة، لم نتمكن من اسعافهما في الوقت المناسب. بعد ساعة تقريباً عدت إلى وعيي مجدداً، وأنا داخل المشفى. أجريت لي اسعافات أولية وما زلت حتى الآن أعاني من مشاكل تنفسية”.

علاء كنعان، لديه ثلاثة أطفال، فهد وجواد وأحمد، بين عام واحد وثلاثة أعوام. علاء مصاب في قدمه ولا يستطيع المشي. كانوا في أحد الأقبية القريبة من مكان سقوط الصاروخ المحمل بالغازات السامة في ساحة الشهداء في دوما. كاد علاء أن يفارق الحياة لولا المسعفين الذين ساعدوه هو وأطفاله وزوجته على الخروج من القبو الذي كانوا يحتمون فيه، وزودوهم بالوسائل الأولية التي تحميهم من الغازات التي انتشرت في المكان.

علاء يعاني حتى الآن من مشاكل في الجهاز التنفسي، وسعال متقطع، وجحوظ في العينين، وانقطاع الشهية عن الطعام.

العديد من النساء الحوامل اللواتي كن في الأقبية القريبة من ساحة الشهداء أثناء الاستهداف بالكيماوي، تأثرن بقوة. نعيم محمد، مقاتل في “جيش الإسلام” لم يكن إلى جانب زوجته أمل، الحامل في شهرها السابع، أثناء القصف. تم اسعاف أمل مع المصابين بحالات الاختناق. وفي اليوم التالي للمجزرة وضعت أمل طفلها أسامة قبل شهرين من موعد ولادته. نجت أمل وطفلها بأعجوبة، لكنهما يعانيان، من مشاكل في الجهاز التنفسي، وطفوح جلدية، ويراجعان المشفى باستمرار لتلقي العلاجات اللازمة.

التقت “المدن” سليمان شحادة، 50 عاماً، ولديه تسعة أطفال. العائلة كانت قريبة من مكان الاستهداف. ويعاني سليمان من مشاكل في الجهاز البولي حتى اللحظة.

أبو عبدالرحمن فقد صديقه في المجزرة، وهو من عائلة حنن. أكثر من خمسين شخصاً من عائلة حنن، قتلوا في مجزرة الكيماوي في دوما. يقول أبو عبدالرحمن: “القبو الذي كانت فيه عائلة حنن تعرضت لأكثر كمية من الغازات السامة. كان المنظر مرعباً، أطفال ونساء ورجال وشيوخ ممددين على الأرض، وعلى السلالم والزبد يخرج من أفواههم. لم نتمكن من إنقاذ أحد منهم”.

يتحدث الناجون من مجزرة الكيماوي في دوما، عن تهديدات الجانب الروسي لهم بعد المجزرة. المفاوضات التي جرت في الكواليس، مختلفة عما هو شائع في وسائل الإعلام. المندوب الروسي الذي التقى المفاوض عن “جيش الإسلام” أخبره أنه باستطاعتهم استهداف المدينة بخمسة صواريخ محملة بالغازات السامة والقضاء على الأهالي. أي عليهم القبول بالخروج وإلا ستتكرر المجزرة. معلومات يتناقلها معظم الناجين من المجزرة، ويرجعون قرار القبول بالتهجير، إلى تفادي خطر الإبادة الجماعية، التي كانت تنتظرهم في حال رفضوا، واستهداف النقطة الطبية الأكثر تحصيناً بالغازات السامة قرب ساحة الشهداء في دوما رسالة لهم للقبول بالعرض الأخير: التهجير القسري أو الموت خنقاً.

المدن

 

 

 

لماذا استخدم الأسد الكيماوي؟/ محمود اللبابيدي

تساءل كثيرون من موالي نظام الأسد، والبروباغانديين لحسابه، ممن باتوا يُعرفون عموماً بالأسديين، عن الضرورة والمنطق خلف استخدام النظام الأسدي للكيماوي في دوما، في لحظة كان النصر فيها وشيكاً لقواته؟

السؤال شديد الوجاهة ظاهرياً، يحتاج إلى تصويب، ليصبح ربما: لماذا اختار نظام الأسد دوما، في 7 نيسان/إبريل، ليقصفها بالكيماوي؟

كان “جيش الإسلام” قد استعصى على النظام، وحلفاءه، رافضاً “التهجير القسري”، مقدماً تنازلاً تلو الأخر، كان آخرها قبول التحول إلى شرطة بتعداد 1000 مسلح، وضمان دخول “مؤسسات الدولة”. النظام وجد حرجاً في قبول أي اتفاق لا يتضمن المحتوى ذاته من الاستسلام، الذي انطبق بشكل أو بآخر، على جميع اتفاقات “المصالحة الشاملة” السابقة: خروج من يعارض الاتفاق، وتطبيع العلاقات مع المجتمع المتبقي إلى لحظة ما قبل اندلاع الثورة السورية في العام 2011.

في تلك اللحظة من المفاوضات، تحولت دوما، إلى حجر عثرة. “جيش الإسلام” ظل متماسكاً عسكرياً، رغم كل محاولات خلخلته من داخل حاضنته الاجتماعية، والتي قادها أعيان دوما الموالين للنظام. واحتفظ “جيش الإسلام”، بمجموعة أوراق ضغط، ظل يتلاعب بها: مخطوفو عدرا العمالية في سجونه، أسلحة ثقيلة وذخيرة تكفي للصمود طويلاً، ومفاوضات دولية مع روسيا بخصوصه.

اختيار النظام للهجوم على الغوطة الشرقية، والذي بدأ في شباط 2018، يحتاج لدراسة معمقة أكثر. الغوطة، بوصفها تضم منطقتي “خفض تصعيد” بتوقيع روسيا، و”جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن”، كانت في الوقت نفسه أكبر معقل للمعارضة المسلحة بالقرب من دمشق. عشرات آلاف المسلحين، منظومة متكاملة من المجالس المحلية الفاعلة، انتخابات ديموقراطية لأول مرة في تاريخ سوريا المُعاصر، سجلات مدنية، نظام اسعافي ممتاز، في ظل حصار خانق منذ العام 2013. إلى جانب ذلك، مظاهر أمراء الحرب في الغوطة، مماثلة لغيرها، وكذلك اقتصاد الحرب ودينامياته. الاقتتال الداخلي في الغوطة، كان حدثاً دورياً، وكذلك التناحر على مزابل الفصائل. الطابور الخامس، كان في طور التشكل، والنظام استثمر فيه طويلاً.

كان أسهل للنظام، بعدما أنجز عملية تفريغ شرقي سكة الحجاز في إدلب من معارضيه، أن ينتقل إلى القلمون الشرقي أو ريف حمص الشمالي أو حتى البلدات جنوبي دمشق، وهي مناطق يمكن احتواؤها بخسائر عسكرية أقل. اختيار الغوطة، كان متعمداً: كسر الطرف المُعارض الأقوى، كي يتم استثمار الانتصار في عقد اتفاقات استسلام مع بقية المناطق، من دون الاضطرار لخوض معارك وفتح جبهات مكلفة.

وهذا ما حصل.

القصف المتواصل لشهرين، على الغوطة، أوصل الناس إلى لحظة العجز الكامل. “التسليم بقضاء الله وقدره”. قبول أي حل يوقف موتهم، وموت أحبائهم. في النهاية، هم بشر وليسوا أساطير.

دوما، ظلت حجر عثرة. اعطاء النظام لـ”جيش الإسلام” أي معاملة تفضيلية في دوما، قد يشجع أطراف المعارضة الأخرى في بقية المناطق، على اختبار حلول مماثلة، والضغط باتجاه تنازلات إضافية من النظام.

النظام، وحلفاؤه، أرادوا حسماً عسكرياً جلياً في دوما، يُجبر الآخرين على الرضوخ. فالنظام يريد انتصاراً، عسكرياً سياسياً، لا مجال فيه لأي “تسوية” تبقي أثراً من الثورة السورية. المطلوب حرفياً، العودة إلى ما قبل أذار/مارس 2011. إعادة السوريين إلى العيش مجدداً ضمن مملكة الخوف.

وثيقة مُسرّبة من خمسة بنود، قيل إن النظام عرضها على الراغبين بالبقاء في الغوطة الشرقية و”تسوية أوضاعهم”، ليوقعوا عليها، وذلك “بعد أن أصبحت المنطقة بالكامل خاضعة لسيطرته”، تضمنت فهم النظام لطبيعة سكان سوريا في ظل سيطرته. ونصت البنود على “عدم إثارة الشغب، أو رفع الشعارات المعادية للدولة، أو كتابتها، أو التحريض عليها، أو السكوت أو التستر على من يرتكبها أو يحرض عليها”. أي، رفض النظام، لمظاهر العام 2011 السلمية. و”عدم تخريب أو تعطيل الممتلكات العامة والخاصة، أو حمل السلاح أو حيازته أو شرائه أو الاتجار به أو تهريبه، بأي شكل من الأشكال، وبغض النظر عن نوعه أو مسماه”. أي العودة النهائية أيضاً عن مرحلة العام 2012-2013. البند الثالث نص على: “يتعهد الأهالي الراغبين بالبقاء داخل مدنهم وبلداتهم، عدم الاعتداء بالقول أو الفعل، على رجال الأمن والشرطة وعناصر الجيش”، في حين يُقر الموقّعون، “إقراراً”، بـ”اطلاعهم على العقوبات المترتبة في حال مخالفة بنود الوثيقة”، و”العمل في ظل مؤسسات الدولة”.

مجمل تلك البنود، إن كانت الوثيقة صحيحة، تصف من هو السوري المقبول بنظر النظام. شخص تخلى عن حريته في تقرير شكل الحكم الذي يناسبه، بعد سنوات حرب طويلة أنتجت الكثير من الآلام، وقَبِلَ العودة إلى العيش في منظومة حكم آل الأسد.

كيماوي النظام، كان ضرورة لحسم تلك المعركة، وتوضيح من هو “المواطن السوري” القادر على استنشاق الكيماوي. استخدام أكثر الوسائل رعباً، في مخيال الناس، لقتلهم. إبادتهم إن استمر عنادهم.

لكن الأرقام مذهلة. من أصل 130 ألفاً، كانوا في دوما خلال المعركة الأخيرة، بقي 90 ألفاً. منهم 22 طبيباً ومسعفاً، كانوا على رأس عملهم أثناء الضربة الكيماوية. هؤلاء الأطباء والمسعفون، ممن قبلوا طوعاً البقاء في مدينتهم، وبعد فترة احتجاز في أحد فروع الأجهزة الأمنية في العاصمة دمشق، خرجوا على الإعلام لينفوا، بشكل موارب، وقوع الهجوم الكيماوي. قالوا بنظرية “الاختناق بالغبار، المترافق مع حالة هلع عندما تسربت أنباء عن هجوم بالكيماوي”. على الأقل، تمكنوا من انتاج نسخة ذات معنى من الانكار القسري، الذي يريده النظام، لوقوع المجزرة.

هؤلاء الأطباء ليسوا خونة، ولم يكونوا كذلك في أي لحظة. لكنهم، ككثيرين غيرهم، اختاروا البقاء على رحلة تشريد جديدة لن تكون أفضل حالاً. البقاء هناك، له كلفته الباهظة. وهذا ما يدفع إلى التساؤل بجدية كاملة: لماذا اختار 90 ألفاً البقاء؟ هل أيقنوا أن الثورة انتهت، ولا فرصة ممكنة بعد لقلب نظام الأسد، وهل فشلت المعارضة المسلحة، والإسلاميون، في تحقيق أي غدّ أفضل؟ وهل دفع حجم المجزرة الهائل بالناس للاستسلام، لمرة واحدة وأخيرة.

السر يبدو كامناً في السلاح الكيماوي للإجابة على هذه الأسئلة. صحيح أن الأسلحة التقليدية قتلت قرابة المليون، وأعاقت ملايين، وتسببت بخفض عدد السوريين في سوريا إلى النصف، إلا أن الكيماوي هو بصمة النظام الخاصة. سلاحه السري. متعته. رغبته الخالصة في “القتل الرحيم”. هنا ينام معارضوه وأطفالهم. هكذا قالت الأم أغنيس في نفيها وقوع مجزرة الغوطة الكيماوية في آب 2013. قالت: “الصور قد تكون ببساطة لأطفال نائمين”.

السارين، أصبح هوية السوريين، رائحتهم الحميمة. السوريون، هم ضحايا هذه العلامة المُسجلة من الشر، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. هذه هويتنا التي سيتذكرنا بها تاريخ ضحايا البشر. إلى جانب ضحايا الخردل في كردستان العراق، والسلاح الأبيض في راوندا، وأفران الغاز في معسكرات اعتقال اليهود في عهد النازية.

السارين هو الرعب الذي يجبُّ كل رعب قبله. استخدامه هو تصريح مرتكبه بقدرته على الإفلات من العقاب. مجرد استخدامه هو التحدي لكل المعايير الإنسانية، التي خرج السوريين من أجلها يوماً قبل سنوات سبع. استخدام السارين في دوما، وما أعقبه من مفرقعات نارية في ليلة دمشقية صافية، كان لحظة الإدراك الشقية للسوريين: الأسد الكيماوي باقٍ.

خلال أيام قليلة بعد كيماوي السابع من نيسان، الذكرى الحادية والسبعين لتأسيس حزب “البعث العربي الإشتراكي”، استسلمت دوما، والقلمون الشرقي، وأحياء دمشق الجنوبية، بينما يناقش ريف حمص الشمالي بنود الاتفاق. الاتفاقات تقريباً، نسخ عن بعضها. هي اتفاق أذعان واحد، تتغير أطراف المعارضة الموقعة عليه، ولا يتغير مصير الناس: التهجير أو “تسوية وضع”.

الإجابة على سؤال الأسديين “لماذا استخدم النظام الكيماوي؟” تبدو شديدة الوضوح: لكل قاتل متسلسل سلاحه المفضل. وهكذا هو أسد السارين.

المدن

 

 

 

 

شرف الأسرة الدولية والوحل السوري!/ راجح الخوري

يوم الثلاثاء الماضي قال الرئيس إيمانويل ماكرون أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، إن الضربات العسكرية الأخيرة الأميركية والفرنسية والبريطانية على مواقع النظام السوري «لا تحلّ شيئاً، لكن الدول الثلاث تدخلت حفاظاً على شرف الأسرة الدولية؟».

هكذا بالحرف: شرف الأسرة الدولية، لكن يجب بالضرورة أن نضيف، وشرف الشرعية الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكن ذلك لا يمنع من طرح السؤال الموجع: ماذا بقي أصلاً من هذا الشرف، بعد سبعة أعوام من الحروب الكارثية، التي دمرت سوريا وسقط فيها ما يقرب من نصف مليون قتيل، وتهجّر أكثر من 12 مليون سوري، واستهلكت منذ عام 2011 بعثة المراقبين العرب ورئيسها السوداني محمد علي الدابي، ثم بعثة المراقبين الدوليين ورئيسها النرويجي روبرت مود، ثم المبعوث كوفي أنان، ومن بعده الأخضر الإبراهيمي، وأخيراً ستيفان دي ميستورا الضائع هو ومؤتمرات جنيف التسعة، بين مسلسلي آستانة وسوتشي؟

حفاظاً على شرف الأسرة الدولية، في وقت تقول السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، إن النظام السوري، استعمل قبل مذبحة دوما الأخيرة، السلاح الكيماوي 50 مرة، رغم التزام الرئيس فلاديمير بوتين بعد مذبحة الغوطتين في سبتمبر (أيلول) من عام 2013 بأن يسلّم النظام السوري ترسانته من الأسلحة الكيماوية الممنوعة دولياً، وفي وقت تشتبك مع زميلها الروسي فاسيلي نيبينزيا، بعدما استعملت روسيا حق النقض 12 مرة لتعطيل قرارات الشرعية الدولية في مجلس الأمن، منها ست مرات تتعلق باستعمال السلاح الكيماوي!

طبعاً، لا داعي إلى الإفاضة في الحديث عن شرف الأسرة الدولية الغارق في الوحول السورية وغيرها، لكن من الضروري أن نلاحظ أمرين؛ شكلياً ذا دلالات، وجوهرياً ذا تأكيدات:

الأول، هو ذلك العناق الحار بين نيكي هيلي وزميلها الروسي فاسيلي نيبينزيا، فور انتهاء جلسة مجلس الأمن، التي تبادلا فيها الاتهامات وحتى التهديدات إلى درجة عمقت المخاوف الدولية من انفجار الوضع العسكري بين الولايات المتحدة وروسيا، بعدما أعلن الرئيس دونالد ترمب رداً على التهديدات الروسية بإسقاط أي صاروخ يستهدف دمشق: «استعدي يا روسيا الصواريخ الأميركية قادمة وهي ذكية وجميلة وجديدة»، وهذا العناق يجد مبرراته والتفسيرات في التصريحات الأميركية والفرنسية والبريطانية بعد الضربة الثلاثية على ثلاثة مواقع كيماوية!

أما الآخر، وهو الجوهري، فهو ما كشفته هذه التبريرات والتفسيرات التي أكدت أن تنسيقاً عميقاً وتفصيلياً جرى بين موسكو وواشنطن وباريس ولندن، قبل ثلاثة أيام من العملية، حول الأهداف التي ستتعرض للقصف والتي جرى تفريغها وتحضيرها لاستيعاب الضربة، حيث لم يقع سوى ثلاثة جرحى كما أعلن!

في هذا السياق، قال وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، إنه تم التنسيق مسبقاً مع الروس لتفادي التصادم في الأجواء السورية، وإنه تم قصف ثلاثة مواقع للأسلحة الكيماوية «وليس لدينا أي علم بأي ردٍ من دفاعات النظام الجوية»، وقد تم انتقاء الأهداف، على ما تشير الوقائع، بالتنسيق مع الروس وهي: مركز برزة للأبحاث العلمية قرب دمشق، ومخزن حيم شنشار لتخزين الأسلحة قرب حمص، ومخزن آخر لتخزين سلاح غاز السارين في حمص، وهنا يطرح الخبراء العسكريون سؤالاً لافتاً: لماذا لم يتم قصف موقع جمرايا المهم التابع لمركز البحوث الكيماوية، هل لأن الروس تأخروا في إخلائه كما يقّدر هؤلاء الخبراء؟

الموقف الفرنسي أكد عملية التنسيق مع روسيا عندما أعلنت باريس صراحة أنه تم إبلاغ الروس مسبقاً بالضربات، وأن موسكو بناءً عليه، لم تستخدم أنظمتها للدفاع الجوي لمواجهة الصواريخ الغربية، رغم كل ما كان قد أعلن عن استعدادات في مواقع «إس إس 300»، في حين حرصت الرئاسة الفرنسية على الإعلان أن الرئيس ماكرون الذي كان قد مد يد التعاون إلى موسكو قبل الضربات، لا يزال يعتزم القيام بزيارة مرتقبة إلى موسكو!

والمفارقة، أن «شرف الأسرة الدولية» الذي تحدث عنه ماكرون، ضاع وسط هذه الفوضى المنظمة، فليس من المبالغة القول إن الجميع خرجوا راضين؛ النظام السوري أثبت تماسكه، وتعمّد بث شريط للرئيس الأسد يدخل صباح اليوم الثاني بكامل قيافته إلى القصر الجمهوري حاملاً حقيبة اليد، لكن من دون مرافقين أو حراس، وموسكو لم تتردد في التباهي عندما أعلن رئيس العمليات سيرغي رودسكوي، أنه تم اعتراض 71 صاروخاً مجنحاً عبر منظومات الدفاع الجوي السورية القديمة السوفياتية الصنع، ولم تستعمل منظومة «إس إس 300» و«إس إس 400» من قاعدة حميميم، خلافاً لقول ماتيس إنه لم يطلق أي صاروخ دفاعي. أما ترمب فأشاد بالضربات على طريقة جورج بوش الابن بعد غزو العراق عام 2003: «المهمة أنجزت»!

المثير في الأمر هو الإجماع الذي ظهر في المواقف الأميركية والفرنسية والبريطانية بعد الضربة، والذي يكشف عن رهانات على إحياء مسار جنيف والعودة إلى المفاوضات السلمية، وعلى أن تقوم موسكو بالضغط على الأسد كي يقبل العودة إلى التفاوض، وفي هذا السياق أعلنت واشنطن أنها ستضغط من أجل إجراء محادثات برعاية الأمم المتحدة، وأنها تواصل العمل بقوة مع مبعوث الأمم المتحدة دي ميستورا، وكذلك مع موسكو من أجل السير قدماً في العملية السياسية «والتوصل إلى تسوية سياسية مع التركيز على أمرين؛ الإصلاح الدستوري، وانتخابات حرة وعادلة بإشراف الأمم المتحدة».

هنا يغيب الحديث كلياً عن «عملية الانتقال السياسي» التي عطلت الحل منذ البداية في مؤتمر «جنيف1» عندما فخخ سيرغي لافروف النص الذي يشير إلى دور الأسد بعد الحل السياسي، وبدورها أعلنت رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي مباشرة بعد الضربة الثلاثية، أن العملية العسكرية وحدها لا تكفي، والأمل الأفضل للشعب السوري يبقى الحل السياسي، أما بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني فقد كان واضحاً أكثر عندما قال في اجتماع لوزراء الخارجية الأوروبيين: «إن العملية الثلاثية ليست محاولة لتغيير دفة الحرب أو لتغيير النظام، وسيستمر الضغط على الأسد من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات»، هذا في حين كان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، يعلن أن باريس تريد استعادة المبادرة لضمان الاتجاه نحو تسوية سلمية للأزمة السورية!

بعد كل هذا، هل كثير القول رداً على هذه المراهنات الغربية على العودة إلى تسوية سياسية «يا حصرماً رأيته …» ما لم تتم هذه التسوية عبر الشروط الروسية أولاً وشروط الأسد ثانياً، وحسابات الإيرانيين حول دمشق والأتراك في الشمال… وهو ما يمكن أن يدفع إلى القول: إن شرف الأسرة الدولية الذي يتمرغ في الوحول السورية منذ سبعة أعوام قد يتمرّغ سبع سنوات أخرى؟

الشرق الأوسط

 

 

 

 

سوريا.. ماذا بعد الضربات؟/ باسكال بونيفاس

عندما قام نظام بشار الأسد مرة أخرى بتجاوز «الخطوط الحمراء» التي كانت الولايات المتحدة قد رسمتها، وهي استخدام الأسلحة الكيماوية، قررت واشنطن وباريس ولندن الرد على ذلك. غير أن هذه العواصم حرصت، بدورها، على عدم تجاوز خطين أحمرين آخرين، ألا وهما: تدخل كبير ضد سوريا، ومواجهة مباشرة مع حليفي الأسد (روسيا وإيران).

الضربات استهدفت على الخصوص المنشآت الكيماوية السورية، وقد أعلنت كل الأطراف أنها لم تتسبب في إصابات للمدنيين. وبالنسبة للبلدان الغربية، فالأمر كان يتعلق باختبار مصداقية في المقام الأول. لكن، وحرصاً منها على عدم الوقوع في مأزق ذي عواقب غير محسوبة، فإن البلدان الغربية الثلاث أطّرت ردها بعناية، وزعمت وفاءها بتعهدها (وهو هدفها الأول والرئيس أصلا).

البعض فوجئ بردود الفعل الغربية على استخدام الأسلحة الكيماوية وبصمتها إزاء استخدام الأسلحة التقليدية التي تتسبب في عدد أكبر من القتلى. والحال أن لدى الأسلحة الكيماوية قانوناً خاصا منذ الحرب العالمية الأولى، أكده بعد ذلك القانونُ الدولي: فبموجب معاهدة وقعت في 1993، فإن امتلاك وصنع واستخدام الأسلحة الكيماوية محظور كليا. وإلى جانب الأسلحة البيولوجية (1972)، فإن الأمر يتعلق بفئة واحدة من الأسلحة التي تشكّل موضوع حظرٍ عام وملزم لكل الدول.

وقد انضمت سوريا إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية في 2013. ولأنها من البلدان الموقعة على المعاهدة، فإن تدخل القوى الغربية استفاد من وضعٍ قانوني خاص. ذلك أن التدخل لا تنطبق عليه المعايير القانونية للعمل العسكري –ترخيص مجلس الأمن الدولي والدفاع الشرعي عن النفس– وإنما يستجيب لنوع خاص من انتهاكات القانون الدولي. ثم إن التدخل لم يغيّر ميزان القوة العسكرية على الأرض.

فالضربات لم تُضعف بشار الأسد الذي نجح، بفضل الدعم الروسي والإيراني، في كسب رهان البقاء في السلطة، وإنْ كان ثمن ذلك قمع فظيع ودموي. والواقع المحزن هو أن الأسد ما زال على رأس بلد سيكون من الصعب جداً إعادة إعماره. وهذا يُثبت أن الحكومات المستعدة لكل شيء من أجل البقاء قادرةٌ على فعل ذلك، شريطة نيل الدعم من قوة كبرى.

إن الأمر الملح والمستعجل في سوريا، حالياً، هو تجنب تدهور الوضع وتطوره إلى نزاع يتواجه فيه الروس والأميركيون والإسرائيليون والإيرانيون. غير أن الدبلوماسية وحدها يمكن أن تسمح بالخروج من هذا الوضع المقلق. وبغض النظر عن المبالغة بشأن الأفعال والكلمات المستعملة، فاللافت هو أن كل الأطراف أبانت عن قدر من ضبط النفس، حيث تم تجنب المواقع الروسية في سوريا بعناية، عندما لم تقم هذه الأخيرة بنشر أنظمة دفاعية. لكن مع تصاعد التوتر، لابد من أن يدرك الجميع الطابع الملح والمستعجل لتعميق المشاورات بين القوى العسكرية المعنية، وبالخصوص إطلاق عملية دبلوماسية تشمل الجميع، ولا تقتصر على حلفاء كل طرف فقط.

لكن، من سيجعل بشار الأسد يستسلم؟ ومن سيجعل المعارضة المعتدلة وأغلبية السوريين يقبلون ببقاء هذا الأخير في السلطة؟ الواقع أنه إذا كان التصلب الروسي أمراً يستوجب التنديد، فإنه لا ينبغي أن ننسى أن السوريين أيضاً ضحايا غير مباشرين للحربين الكارثيتين في العراق وليبيا (2003 و2011).

لكن، هل يمكن أن يقبل الروس بالتخلي عن الأسد مقابل حل –سبق أن أشير إليه في الماضي– يتمثل في حكومة ائتلافية تضم عناصر من النظام من دون الأسد، ومن المعارضة من دون التنظيمات المتطرفة؟ لا شك أن الأسد سيفعل كل شيء من أجل تجنب وضع من هذا القبيل.

 

ثم إن روسيا لا تملك الإمكانيات لإعادة إعمار سوريا، شأنها في ذلك شأن إيران. ولا شك أن المبدأ الذي حدّده في 1991 كولن باول، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، بخصوص العراق لتبرير رفضه الذهاب حتى بغداد («إذا كسرته، فإنه يصبح ملكك»)، ينطبق على الوضع الحالي.

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس

الاتحاد

 

 

 

وباء الاستحمار منتشراً/ دلال البزري

كل شيء يدعو إلى القرف من تلك الهمْروجة الأميركية الغربية الأخيرة. و”مشاعر” ترامب التي حنّت على أطفال الغوطة الشرقية، ضحايا السلاح الكيميائي. بين العام الماضي، حين خفق قلبه من أجل أطفال خان شيخون، فعبَّر عن هذا الحنان بضربةٍ هزيلةٍ رفعت قهقهات المجرمين.. بين ذاك العام، واليوم، تعامل بشار الكيماوي سبعين مرة بالكيميائي ليقتل شعبه، لكن قلب ترامب خفق الآن. لماذا تجاهل السبعين ضربةً وصحا الآن؟ الأرجح حسابات داخلية، ومزيد من الفضائح القادمة. ولكن المهم بالنسبة لنا أن الضربة الكيميائية على أهالي الغوطة الشرقية أخيرا ليست هي الضربة الكيميائية الوحيدة، ولا سلاحها هو الأكثر رواجاً من بين أسلحة قتل السوريين وتدمير عمرانهم.

بالعكس. طوال سبع سنوات، وما نعلمه جميعاً، ويعلمه دهاقنة المعرفة الأميركيون، من براميل متفجرة وطائرات وصواريخ ومجازر واقتحامات وحواجز إلى ما هنالك من مظاهر حربٍ على السوريين.. والكفيل بإشعال أقسى القلوب؛ كل هذا لم يحرّك ساكناً لدى عاطفيي البيت الأبيض. الآن، بكيميائي الغوطة، احتشدوا وضربوا ضربة الأقزام الإستراتيجيين. ليست مهمةً ضربتهم. لم تدخلهم ولا أدخلتنا في “دورة جديدة” من الحرب في سورية. فقط قالوا بها “نحن هنا”، لا تنسوا أننا نملك الصواريخ الجديدة والجميلة والذكية. بعدما غابوا وناموا.. فوجدوا أن الروس صاروا على قاب قوسين أو أدنى من التفرّد الروسي بالأرض السورية.

التذرّع بضربة الكيميائي يدخل في باب كوميديا الاستحمار نفسها، فقد سمحت لأكبر كذّابي

“تعامل بشار الكيماوي سبعين مرة بالكيميائي ليقتل شعبه، لكن قلب ترامب خفق الآن”

العصر، أي الروس، بأن يلعبوا بها، أي الذريعة، خير لعب: مندوبهم في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبنزيا، استطاع أن يصف الذريعة بـ”المسرحية”. كان يمكن لترامب أن تكون حجته أقوى من ذلك، فيتذرّع بالمقتلة نفسها، المثبّتة بمئة إثبات، ليكتسب مصداقيةً. لكن لا، قلبه أعمى لا يرى درجات الألوان، ويريد أن نصدّقه على ذلك. أو أن يمرّره الروس، أرباب التلفيقات على أشكالها. ماذا فعل هؤلاء؟ لم يكتفوا بتلك الكلمة الخلاّبة “مسرحية”، إنما الذريعة مكّنتهم من إعلاء مسرحيةٍ أخرى، هي أقل غباء من الذريعة الأميركية، مع أنها لا تقلّ عنها استحماراً لنا. اقتبسوا من فيلم نجدت أنزور “رجال الثورة” مقاطع تجسّد معناهم لـ”المسرحية” تلك؛ حيث يصوّر المخرج مشهداً يفتعل فيه أصحاب الخوذات البيضاء ضربةً كيميائية كاذبة.. اقتبسوا هذا المشهد السينمائي ليروّجوه كأنه تغطية إخبارية مهنية، دليلا على افتراءات الغرب وكذبه بزعم ضرب الأسد شعبه بالكيميائي. وفي موقعة إعلامية أخرى، اتهم الروس البريطانيين بارتكاب جريمة الكيميائي في الغوطة، عن طريق “عملائهم”، الخوذات البيضاء..

استحماران: روسي وأميركي – غربي شغلانا طوال الأسبوعين الماضيين. اتصالات خلف الكواليس بين الأميركيين والروس، لا نعرف إن كانت ستبقى مضامينها سريةً إلى الأبد، أو أنها ستُكشف لنا يوماً.. بدَت على الأرض أنها سمحت بـ”تنسيق” الضربة والتهيئة من أجل تحويلها إلى صفر خسائر بشرية، وقليل منها لوجستية، والأقل منها إستراتيجية. فيما نحن لا يسَعنا إلا أن ندور حول أنفسنا في محاولةٍ لفهم ما يحصل لنا. لا يكفي أن مصائرنا تُرسم خارج سياقنا، على خرائط بعيدة وقريبة وتحديدات إلكترونية لا نفقه منها شيئا، سوى أسماء الصواريخ، وأصواتها الذكية؛ لا يكفي أننا كالنعاج نركن إلى زوايانا، ننتظر أن يأتي الذئب، أو الثعلب، ليبتلعنا.. بل إننا أيضا موضوع دسم للاستحمار، لذاك التلاعب بوقائعنا ومعطياتنا وعقولنا. وتلك العقول يئست إلى حدّ أنها سكنَت، فركَدت، حتى أصبحت بأمسّ الحاجة إلى استنهاض فطْنتها بوجه دَجل مبني على الاستحمار. خصوصاً أن قادة الممانعة هم شركاء مضاربون في مؤسسة الاستحمار هذه، في تلقّفهم الضربة الأميركية كأنها هدية من السماء. في المزايدة على الملفّقين الروس، في تسلمهم الكلمة السحرية إياها “مسرحية”، بالبلاغة والتورية.. هكذا، أنعشوا آلة “لصمود والتصدّي”، وارتفعت معنويات المقاومين للإمبريالية والصهيونية؛ فكانت عبارة “العدوان الثلاثي”، لوصف الغارات الثلاث النظاف.. محيلةً إلى العدوان الثلاثي التاريخي على مصر عام 1956، عزّ الحماسة العربية، وما تلاها من انتصار سياسي لعبد الناصر (لم يلحظوا أن الأميركيين هم الذين سمحوا وقتها لعبد الناصر بإحراز هذا الانتصار. هذا موضوع آخر..).. وبذلك أيضاً قلّدوا الروس الذين قارنوا بين “الضربة الأميركية المرتقبة” وأزمة الصواريخ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عام 1962، والتي كادت أن تشعل حرباً عالمية ثالثة. اكتسب بشار بذلك بعداً قومياً، لم يكن يحلم به، أو ربما حلِم. أو

أن الذكاء الشيطاني للروس أوحى لهم بتشجيع بشار على جريمة الغوطة الشرقية كي “يمتحنوا” الأميركيين وحلفاءهم الأوروبيين، ويقيسوا ردود فعلهم، قدر اكتراثهم بالمنطقة، كي يرسموا ربما خطة إطباقهم السياسي، بعد العسكري، على الجزء “المفيد” من سورية، فاطمأن بشار والإيرانيون من عداوة أميركيين متخبّطين، مستعدين للتسوية، أو للصفقة مع كل من يسبقهم إلى المبادرة في رقعة الشطرنج الإقليمية هذه، مقابل ضمان حصة، لا ندركها الآن؛ أو ربما من دون حصة. من يعلم؟ فالأميركيون سبق فضلهم عندما انسحبوا أمام هجوم الأتراك على عفرين ضد “قسد” الكردية حليفتهم، بل الحائزة إعجابهم.

أين إسرائيل من هذا كله؟ تبدو الأقل استحماراً لنا، الأوضح في غاياتها، كأنها مستقلةٌ عن حليفها “العضوي” التاريخي، أميركا. حتى كلامها يبدو نشازاً، أمام دموع تماسيح الغرب على ضحايا الكيميائي. إسرائيل تهدّد، بلا مواربةٍ، أنها لن تقبل بالإيرانيين أو مليشياتهم على “حدودها”؛ أي انها تحدّد “حصتها” في سورية، وتتشاور مع الروس وتتبادل معهم الرسائل التنسيقية – التحذيرية. وإذا تعرّضت، كما تقول، لأي هجوم إيراني من الأراضي السورية، فسوف تدفّع ثمنه لبشار ونظامه. وإسرائيل أيضاً، ومعها فلسطينيو غزة، يضعون الإيرانيين وجهاً لوجه أمام المنظومة الدعائية التي رعت سيطرتهم على المنطقة؛ من أنهم هنا بصواريخهم ومليشياتهم من أجل الفلسطينيين، من أجل فلسطين والقدس.. إلخ. والآن، ماذا يفعل الإيرانيون؟ هل لديهم من الوقت والطاقة ليهتموا بأحداث يوم الأرض التي سقط فيها عشرات من الشهداء والجرحى؟ هل يهتمون أصلاً؟ أين هم الإيرانيون الآن؟ إنهم في قلب دمشق، يدافعون عن عرش بشار، يهجِّرون، يقتلون السوريين بدل أن يحيوا الفلسطينيين، وهذه ليست أول مرة.. فاستحمار قادة الممانعة لنا باتَ مألوفاً، مكرّراً، يصعب أن تفوتَك إشاراته.

العربي الجديد

 

 

عملية الثلاثة آلاف ثانية في سوريا/ أبوبكر عبدالله آدم

قامت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا صبيحة يوم 14 نيسان/أبريل بعملية عسكرية مشتركة ضد النظام السوري كرد فعل لاستخدامه لأسلحة كيميائية ضد مدنيين.

جاءت هذه العملية بعد فشل مجلس الأمن عن إصدار أي قرار ضد سوريا بسبب استخدام روسيا حق الفيتو، وكذلك بعد أسبوع من حرب كلامية بين الولايات المتحدة وروسيا حول استخدام أو عدم استخدام النظام السوري لأسلحة كيميائية. كما جاء أيضا في خضم توتر حاد بين روسيا وبريطانيا بسبب اتهام الأخيرة للمخابرات الروسية بتسميم الجاسوس الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وابنته بغاز الأعصاب في مدينة سالزبري البريطانية قبل بضعة أسابيع.

توتر عالمي

كان العالم قلقا جدا ومتوترا طوال الأسبوع المنصرم بسبب تسارع الأحداث التي خلقت مخاوف من اشتعال أزمة عالمية. مخاوف مشروعة من انفجار المنطقة اذا ما قامت أمريكا وحلفاؤها بأي عمل عسكري ضد النظام السوري المدعوم من طرف روسيا وإيران عسكريا وسياسيا. وما زادت من هذه المخاوف تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب والتهديدات الروسية الواضحة باستهداف اية صواريخ تطلق علي سوريا بل واستهداف قواعد انطلاقها ايضا.

بالرغم من كل هذه المخاوف جاء الهجوم العسكري المشترك محددا جدا، محدودا، دقيقا وتم تنفيذه فى زمن قصير جدا «حوالي 50 دقيقة». إن الطريقة التي تم بها تنفيذ الهجوم ينبئ عن درجة عالية من التنسيق، ليس فقط بين الحلفاء الثلاثة بل أيضا بينهم وبين روسيا وإيران وحلفاء القطبين المتنافسين على النفوذ والسيطرة في المنطقة. ركز الهجوم على ثلاث مناطق لها علاقة مباشرة بالأسلحة الكيميائية: مناطق بحوث وتصنيع وتخزين الأسلحة الكيميائية.

ولم يستهدف أية مناطق عسكرية أخرى وبالتأكيد لم يستهدف مناطق التواجد الروسي أو التواجد الإيراني أو حلفائهما المحليين مثل «حزب الله».

كما هو واضح من الالتزام الدقيق بهدفها المحدد بعناية، لم تسع العملية العسكرية، على الأقل في مرحلتها هذه، لتغيير النظام أو التدخل في معادلات الحرب الأهلية في سوريا. كان الهدف محددا جدا وهو ضرب قدرات النظام السوري في إنتاج واستخدام الأسلحة الكيميائية وردعه عن استخدام هذه الأسلحة.

تبريرات أخلاقية

حرص الحلفاء الثلاثة على تبرير قيامهم بهذه العملية العسكرية تبريرا أخلاقيا أولا وعلى أساس الحفاظ على مصالحها المرتبطة بالحفاظ على السلم والامن في المنطقة والعالم ثانيا.

الرئيس ترامب ورئيسة الوزراء البريطانية ركزا بشكل واضح على الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها لنظام السوري باستخدامه اسلحة كيميائية ضد المدنيين الأبرياء بشكل متكرر، وكان آخرها منذ أسبوع.

إن هذه الانتهاكات وفرت، على الأقل على مستوى الخطاب السياسي، ارضية قانونية واخلاقية للتدخل الإنساني humanitarian intervention لإيقافها ومنع تكرار ما تحدثها من تراجيديا ومعاناة. كما زعم الحلفاء أن قلقهم الشديد على المنطقة وسلامتها المرتبطتين بالسلم العالمي كان مبررا اضافيا للتدخل في سوريا.

بغض النظر عن الوزن النسبي لمبررات العملية العسكرية المعلن عنها، من المؤكد أن المحرك الفاعل هو المصالح الوطنية الضيقة لأمريكا وحليفتيها. أمريكا ظلت تسعى لسنوات لإعادة تشكيل المنطقة وقلب موازين القوى فيها لصالح حلفائها المحليين، خاصة إسرائيل.

تغيير نظام البعث

تغيير نظام البعث في العراق والعمليات السياسية والعسكرية في المنطقة العربية والشرق الأوسط كلها تشكل مداميك اساسية لبناء نظام شرق أوسطي جديد. أمريكا لا تريد لسوريا و«حزب الله» وحليفيهما إيران وروسيا أن يحصدوا ثمار النجاحات التي حققتها في الحروب المباشرة وغير المباشرة التي خاضتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

إذا ما وضعنا هذا المنظور الاستراتيجي لأمريكا وشخصية رئيسها الحالي ندرك أن المحرك الأساسي للرئيس ترامب ليس دموع الأطفال التي سالت بسبب آلام الكيميائي وبساعات الحرب، ولكنه محاولة السيطرة علي الثروة وتوسيع النفوذ في منطقة الشرق الأوسط الكبيروالعالم. وربما محاولة الحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ في المنطقة هي أيضا محرك مشاركة كل من فرنسا وبريطانيا.

واضح أيضا من تصريحات رئيسة وزراء بريطانيا أن هناك محركا إضافيا للتدخل البريطاني وهو إرسال رسالة واضحة «لأطراف أخرى» أن استخدام أسلحة كيميائية في سوريا أو ضد أفراد في بريطانيا في أي مكان في العالم هوعمل محرم قانونا منذ أكثر من قرن ويجب على المجتمع الدولي بناء على ذلك أن تتخذ إجراءات حاسمة ضد من يقوم بمثل هذه الانتهاكات (رسالة شبه مباشرة لروسيا).

كبح جماح أمريكا

إن التحديد الدقيق لهدف العملية العسكرية ربما يعكس لحد ما نجاح الاستراتيجية البريطانية في لجم جماح الإدارة الأمريكية التي كانت تهدف للقيام بعملية عسكرية أوسع، كما عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي خلال الأسبوع السابق. يبدو الرئيس ترامب كان يهدف لتسديد ضربة موجعة لقدرات النظام السوري والنفوذ الروسي، وهو فعل كان سيؤدي بالنتيجة زيادة اشتعال حرب الوكالة بين الغرب وروسيا.

وجود الرئيس الفرنسي، المتحمس لعمل عسكري ضد الرئيس الأسد، في منطقة وسطى بين الرئيس الأمريكي ورئيسة وزراء بريطانيا ربما أيضا ساهم في جعل العملية العسكرية في الحدود التي انحصرت فيها. عدم الرد الروسي على صواريخ الحلفاء كان في تقديري نتاج التفاهات التي تمت بين الأطراف المختلفة. ومكسب أمريكا من التنازل عن بعض أهدافها هو مشاركة بريطانيا وفرنسا في العمل العسكري بدلا من أن تقوم به منفردا كما فعلت العام المنصرم.

نهاية مريحة

أحس الكثيرون منا براحة كبيرة بانتهاء عملية الخمسين دقيقة العسكرية على النحو الذي انتهت عليه. ولكن هذه النهاية المعقولة لا تعني أبدا نهاية التهديد بعمليات عسكرية أخرى ضد سوريا أو دول أخرى في المنطقة. كما لا تعني ايضا عدم انحدار العالم في هاوية صراعات إقليمية بالوكالة أو الدخول في حرب باردة جديدة بين الغرب وروسيا.

إن التصريحات المختلفة للقادة الغربيين المعنيين تفيد بإمكانية تجدد العمل العسكري إذا ما أقدم النظام السوري مرة أخرى على استخدام أسلحة كيميائية حسب تقديرات الحلفاء الثلاثة. الدخول في سلسلة من العمليات العسكرية ضد النظام السوري ربما يصطدم بمعارضات برلمانية خاصة في بريطانيا وربما في فرنسا أيضا.

فسرت رئيسة وزراء بريطانيا عدم انتظار العملية العسكرية حتى يتم استشارة البرلمان بضرورات عملية، متعلقة بتوقيتها وتأمين نجاحها وسلامة العسكريين ولكن هذه الذريعة لن تضمن لها تفويضا من البرلمان بتكرار التورط بعمليات أخرى ضد سوريا. وليس من المستبعد أن يسعى البرلمان لفرض قيود معينة على سلطة رئيسة الوزراء فيما يتعلق بالتدخل في الحرب الأهلية في سوريا.

كاتب صحافي وقانوني من السودان

القدس العربي

 

 

 

تمرين أطلسي مدوٍّ بالفشل… ماذا بعد؟/ د. عصام نعمان

ثلاث دول أطلسية كبرى حاولت «تأديب» سوريا مباشرةً وروسيا وإيران وحزب الله مداورةً، فانتهت محاولتها تمريناً عسكرياً مدوّياً بالفشل. لعل أدق وأطرف توصيف للعدوان الثلاثي الأطلسي الفاشل، ما أوردته صحيفة «يديعوت أحرنوت» الإسرائيلية: «أطلقت أمريكا صواريخ جميلة وحديثة وذكية على سوريا والنتيجة صفر».

الفشل مدوٍّ وعلى جميع المستويات: الإعلامية والعسكرية والسياسية. أخفقت أمريكا (وحلفاؤها) إعلامياً في إلصاق تهمة استعمال سلاح كيميائي بسوريا، بدليل مسارعتها إلى تنفيذ العدوان قبل ساعات قلائل من مباشرة بعثة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية، تحقيقاً في دوما بشأن اتهامٍ لسوريا مجردٍّ من أي إثبات.

أخفقت عسكرياً بنجاح الدفاعات الجوية السورية في اعتراض وإسقاط 71 صاروخاً من مجموع 103 اطلقتها طائراتها وسفنها الحربية من مواقع وقواعد برية وجوية وبحرية قائمة في دول عربية «شقيقة».

أخفقت سياسياً ببقاء سوريا، نظاماً ورئيساً وجيشاً وشعباً، متماسكةً ما مكّنها من ترجمة صمودها تأييداً جماهيرياً واسعاً في الداخل، وفي عالم العرب والعالم الأوسع.

فشل العدوان الأطلسي الثلاثي يطرح سؤالاً مفتاحياً على أمريكا وحلفائها، كما على سوريا وحلفائها: ماذا بعد؟

ثمة ثماني حقائق سيجد أطراف الصراع الإقليمي والدولي أنفسهم مضطرين إلى اخذها في الحسبان عند اجتراح مواقف وسياسات جديدة:

اولاً، «إسرائيل» تشعر بخيبة عميقة. كانت قيادتها السياسية والعسكرية تمنّي النفس بأن تشمل أمريكا بعدوانها مواقع عسكرية إيرانية في سوريا، تمهيداً لتعاون ثنائي يستهدف إيران ذاتها في قابل الايام. الحقيقة أن أمريكا هاجمت بصواريخها مطاري الضمير و T-4العسكريين، لكن الدفاعات الجوية السورية اعترضتها ومنعتها من تحقيق اغراضها. وكان نتنياهو قد برر قيام «إسرائيل» قبل نحو اسبوع بغارةٍ صاروخية على مطار T-4 بقوله: «يحق لك أن تقتل من يعمل على قتلك»، فهل يعمد لاحقاً إلى استعمال سلاح دمار شامل وقاتل ضد إيران بدعوى استباق قيامها بردٍ قاسٍ على مقتل 7 من جنودها خلال الاعتداء الصاروخي الإسرائيلي على المطار المذكور؟ ثم، هل يشارك حزب الله من خلال قواعده في سوريا ولبنان بالرد الإيراني المحتمل على «إسرائيل»؟ وهل تُقدم «اسرائيل» في حال تعرضها لأضرار بشرية ومادية جسيمة، إلى استعمال أسلحة دمار شامل (كيميائية او نووية) ضد إيران بقصد تدميرها وإخراجها من حومة الصراع؟ وماذا ستكون طبيعة الرد الروسي إذا ما جاء الفعل العسكري الإسرائيلي على درجة عالية من الضخامة والقسوة؟ هل تتدخل موسكو في الحرب للحؤول دون هزيمة حليفيها السوري والإيراني؟ وفي هذه الحالة، كيف ستكون ردة فعل أمريكا؟ هل ستكون مستعدة فعلاً للانزلاق إلى حرب كونية مدمرة قد تمتد مسارحها من غرب آسيا إلى شرقها ومن شواطئ شرق المتوسط إلى شواطئ بحر قزوين وربما إلى غرب أوروبا ايضاً؟

ثانياً، إيران استنكرت العدوان الثلاثي وكررت التزامها دعم سوريا وقوى المقاومة الحليفة. غير أن تحدياً طارئاً يستحوذ على قادتها قبل العدوان الاخير وبعده. إنه الاعتداء الإسرائيلي على قاعدة «شاهد» قرب مطار T-4 قبل اسبوع، ما أودى بحياة 7 من جنودها. مسؤولون ايرانيون عدّة نددوا بالاعتداء وبعضهم توّعد بردٍّ ثأري. هل تنتقم إيران من «اسرائيل»، وكيف؟ خبير استراتيجي قريب من سوريا ومن قوى المقاومة المتحالفة معها اكد أن إيران سترد عاجلاً او آجلاً.

ثالثاً، السعودية ايدت العدوان الثلاثي عشية افتتاح القمة العربية الـ29 في الظهران. ولي عهدها الامير محمد بن سلمان كان ابدى استعداد بلاده للمشاركة في ضربةٍ امريكية لسوريا رداً على استخدامها المزعوم لسلاح كيميائي. أمريكا تجاهلت عرضه العسكري مفضلةً عليه دعمه المالي. الأرجح أن الرياض لن تتأخر في بذل المزيد من المال لواشنطن شريطة مراعاة سياستها ومصالحها في اليمن وسوريا.

رابعاً، تركيا فاجأت روسيا وإيران بدعمها المكشوف للعدوان الثلاثي على سوريا. لا يخفى عن الرئيسين بوتين وروحاني أن تركيا عضو قديم في حلف شمال الاطلسي، لكنهما لم يتوقعا أن يذهب اردوغان هذا المذهب السلبي من سوريا بعد قمة انقرة الاخيرة. لعلهما يدركان الآن أن ثمة اتفاقاً ضمنياً بين انقرة وواشنطن على مستقبل شمال سوريا، في ظل تصميم اردوغان على ترسيخ وجود تركي هناك، بدعوى منع الكرد السوريين من إقامة كيان منفصل عن حكومة دمشق يكون مقدمة لإقامة دولة كردية مستقلة. المقول إن روسيا وإيران لن تراعيا تركيا على حساب سوريا ومصالحها وتصميمها على استعادة سيادتها على كامل ترابها الوطني. ولعل نهجهما في المستقبل القريب سيتمثل في تصعيد المطالبة بسحب القوات الامريكية من منطقة التنف ومن شمال شرق محافظة دير الزور، كما من كامل محافظتي الرقة والحسكة. ولا شك في أن إخراج أمريكا من سوريا يسهّل إخراج تركيا لاحقاً.

خامساً، الفلسطينيون في حالٍ بالغ الصعوبة. صحيح أن غالبيتهم الساحقة متضامنة مع سوريا ضد دول العدوان الثلاثي، لكنهم مضطرون إلى مراعاة مصر بما هي منفذ قطاع غزة البري الوحيد إلى عالم العرب من جهة، كما إلى مراعاة متطلبات مواجهة «إسرائيل» من جهة أخرى. إلى ذلك، فإن قوى المقاومة الفلسطينية، لاسيما «حماس» و»الجهاد الإسلامي»، مضطرة إلى مراعاة إيران بما هي الحليف الجدّي الداعم لهما ولسوريا وحزب الله، فهل يجدا نفسيهما منخرطتين في الحرب عند اندلاعها بين إيران والكيان الصهيوني؟

سادساً، أمريكا اعتبرت، بلسان ترامب، أن المهمة المطلوبة من وراء «العملية» أُنجزت. هل أُنجزت حقاً ؟ ماذا سيكون موقفها من إيران وقواتها المتواجدة في سوريا إذا ما قامت بإلغاء الاتفاق النووي؟ هل تسحب قواتها من سوريا كما لمّح ترامب مراراً؟ أم تجاري «اسرائيل» بضرورة التصدي لإيران وتدميرها حمايةً لأمن الكيان الصهيوني ولمستقبل النفوذ والمصالح الامريكية في منطقة غرب آسيا؟ لذا لا يمكن تلمّس مفاصل سياسة أمريكا بعد العدوان إلاّ في ضوء المواقف التي سيتخذها ترامب من التحديات سابقة الذكر.

سابعاً، روسيا وسوريا نجحتا في توجيه لطمة قاسية جداً لأمريكا في بلاد الشام، ستنعكس سلباً على نفوذها في منطقة غرب آسيا. غير أن موسكو تعلم أن واشنطن لن تكتفي بلعق جراحها، وأنها ستعاود ضغوطها على سوريا من خلال الكرد المتعاونين معها، كما تركيا الراغبة في التعاون ايضاً في اطار تسوية تراعي مصالح الطرفين. في ضوء هذه التحديات ستجد روسيا نفسها مضطرة إلى تكثيف تسليح سوريا بمنظومة S-300 للدفاع الجوي، تحسباً لأي عدوانٍ أطلسي جديد، أو لعدوان اسرائيلي يتم بالتواطؤ مع أمريكا لمهاجمة ايران.

ثامناً، محور المقاومة بأطرافه جميعاً، ولاسيما حزب الله، حريص على مقاربة التحديات التي تواجه سوريا والعراق في سياق التصدي لاحتلال «اسرائيل» لفلسطين واعتداءاتها المتواصلة على دول الجوار، خاصة سوريا ولبنان، الأمر الذي يضطرها إلى مطالبة إيران وروسيا بتكثيف تسليحها لصد الاعتداءات الإسرائيلية من جهة ولوضع حدٍّ لإستباحة سلاح الجو الإسرائيلي أجواء لبنان عند مهاجمته سوريا من جهة اخرى.

بكلمة، الصراع في سوريا وعليها سيزداد ويتعقّد نتيجةَ العدوان الثلاثي، وقد يتطور إلى صراع ساخن بين أمريكا وروسيا.

كاتب لبناني

د. عصام نعمان

القدس العربي،

 

 

 

رسالة إلى الروس قبل الأسد/ خالد الدخيل

كما كان متوقعاً لم تكن الضربة العسكرية لمواقع النظام السوري أكثر من ذلك: ضربة محدودة في حجمها العسكري، وفي هدفها السياسي. ليس لها هدف سوري أبعد من استهداف البنية التحتية للسلاح الكيماوي للنظام. وليست جزءاً من استراتيجية سياسية تجاه الوضع السوري. لا علاقة مباشرة لها بالشعب السوري وتضحياته. ولا حتى بالرئيس السوري الذي يقال أنه قبيل الضربة ترك القصر الرئاسي إلى قاعدة حميميم الروسية ليحتمي بها.

كما يُلاحظ تتردد كثيراً في الساعات الأخيرة صفة السوري. لكن سورية، بعد سبع سنوات من الحرب الأهلية، لم تعد أكثر من ساحة للصراع بين الكبار والصغار. كل فعل هناك، وكل خطوة، وكل ضربة لأهداف لا علاقة لغالبيتها بسورية، ولا بمصالح الشعب السوري. حتى الضربة الأخيرة استخدمت سورية كساحة، لكن هدفها هو روسيا وما تفعله في سورية وخارج سورية. هكذا، أرادها الأسد وحلفاؤه الإيرانيون. الشعب يدفع ثمن ذلك من حياته وحقوقه واستقراره، بل ومن دمه. الرئيس الأسد نفسه لم يعد أكثر من حجر شطرنج، أو ورقة تفاوضية تتناقلها أيدي الروس والإيرانيين. الرئيس الأميركي دونالد ترامب يصفه بالحيوان والطاغية ومجرم الحرب. وكذلك تفعل رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي. لكن كل منهما يبتعد من استهدافه مباشرة. كأن الغرب يتعامل أيضاً مع الأسد كورقة تفاوضية مع الروس. هناك من يحاول حمايته من القتل أو السقوط. لكن لا أحد يعرف كيف سيكون مصيره النهائي.

في مثل هذا المشهد الفانتازي، من الطبيعي أن هدف الضربة العسكرية للدول الثلاث لم يكن تحجيم القدرات العسكرية لنظام الأسد. فهذه القدرات لم تعد عنصراً وازناً في التوازنات التي تتحكم في المشهد السوري. وهي قدرات فشلت في كل حال في حماية الرئيس ونظامه قبل دخول الروس. أيضاً، لم يكن هدف الضربة حماية الشعب السوري من النظام وحلفائه. لو كان هذا هو الهدف، أو أحد الأهداف، لأعلنت الدول الثلاث موقفاً سياسياً واضحاً لوقف نزف الدم السوري بسلاح كيماوي أو سواه، ومن ضرورة مغادرة الميليشيات الأجنبية كشرط لأي حل سياسي للأزمة السورية. ولو كانت مصلحة الشعب السوري من أهداف الضربة لجعلت الدول الثلاث من رحيل الأسد شرطاً آخر للحل السياسي. على عكس كل ذلك تلتزم الدول الثلاث قبل وبعد الضربة بالصمت حيال شكل الحل السياسي وشروطه، أو مصير الأسد.

ينحصر هدف الضربة العسكرية داخل إطار التجاذب الغربي الروسي، وتحديداً الأميركي – الروسي. وهو تجاذب يحاول كل طرف تفادي انزلاقه إلى مواجهة مباشرة. هذا ما قاله الرئيس ترامب، ورئيسة الوزراء تيريزا ماي في خطاب كل منهما لشعبيهما عن الضربة. كانت ماي مباشرة عندما قالت أن الهدف ليس تغيير النظام في سورية. ماذا عن رئيس النظام؟ لم تقل شيئاً عن ذلك. تركت الباب مفتوحاً. ماذا عن قتل السوريين على مدى أكثر من سبع سنوات الآن بأسلحة غير كيماوية؟ التزمت الصمت حيال ذلك أيضاً. ماذا عن وجود الميليشيات الأجنبية في سورية؟ صمت ثالث لا يقل صمماً للآذان.

إذا كان الهدف ليس حماية الشعب السوري من رئيسه، ولا من الحلفاء الأجانب لهذا الرئيس، وليس وقف القتل الجماعي بغير أسلحة كيماوية، وليس إعلان موقف واضح من الميليشيات الأجنبية، فما هو الهدف في هذه الحال؟ هذا ما أجاب عنه دونالد ترامب في خطابه. يقول: «في عام 2013، وعد الرئيس الروسي بوتين وحكومته بأنهما سيضمنان تدمير كل الأسلحة الكيماوية السورية. ومن ثم، فإن هجمات الأسد الكيماوية الأخيرة، وردنا عليها هذا المساء، هما نتيجة مباشرة لفشل روسيا في الوفاء بما وعدت به». بعبارة أخرى، ضربة البارحة العسكرية هي رسالة مباشرة إلى فلاديمير بوتين. فالأخير خدع الأميركيين (بحسب ترامب) في اتفاق تدمير ترسانة السلاح الكيماوي السورية الذي أبرمه مع الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما. لم يكتفِ بوتين بذلك، بل أرسل غازاً ساماً إلى بريطانيا الشهر الماضي لقتل عميل روسي مزدوج. وهو ما يعني أن الرئيس الروسي يتحدى الغرب في شكل سافر ليس فقط في سورية، ولا في أوكرانيا، بل حتى في قلب أوروبا الغربية. وهو ما استدعى أن تكون الضربة – الرسالة جماعية متزامنة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وإلا فحجم الضربة، ومحدودية أهدافها لا يستدعي مشاركة ثلاث دول عظمى، إحداها الدولة الأعظم.

حرصت الدول الثلاث على عدم الاقتراب في ضربتها من المواقع الروسية تفادياً لأي رد فعل روسي. وقد استجابت روسيا لذلك تماماً، إذ لم يتجاوز رد فعل موسكو حدود التنديد اللفظي لما أسمته العدوان الغربي. أما النظام السوري فقد رفع عقيرته بأسلوب بليد في وصفه الضربة بـ «العدوان الثلاثي»، وذلك في محاولة بائسة لاستدعاء ما حصل لمصر عام 1956. مأساة هذا النظام ورئيسه ليست مع التاريخ وحسب، بل مع سورية، ومع نفسه قبل أي شيء آخر. قبل الضربة الأخيرة، هناك الضربات الإسرائيلية لمواقع سورية وإيرانية بين الحين والآخر. الأجواء السورية باتت مستباحة وفق ضوابط تضعها روسيا وليس النظام. وهذا النظام هو المسؤول الأول عما آلت إليه حال سورية. عادت كرة أخرى ساحة لتجاذبات وصراعات إقليمية ودولية لا قبل للنظام، ولا لسورية بها. بدلاً من توظيف الموقع الاستراتيجي لسورية من أجل سورية وأهل سورية، جعل الأسد من ذلك منصة لقوى أجنبية روسية وإيرانية وميليشيات مذهبية. لم يدرك حتى اللحظة أنه بهذا بدد رصيد سورية الاستراتيجي ليصبح رصيداً للآخرين. ومعه، بدد الإرث الذي ائتمنه عليه أبوه. كم كتب عن دور حافظ الأسد في إنقاذ سورية من كونها ساحة للعب الآخرين إلى لاعب في ساحات الآخرين. وكم سيكتب عن دور بشار الأسد الكارثي في النكوص بسورية إلى ما كانت عليه؟ المدهش أن الرئيس السوري لا يزال مع ذلك يسيطر عليه وهْم أنه انتصر على الثورة. لذلك، يقول أنه ليس في حاجة إلى استخدام الكيماوي. ما يعني أنه استخدمه عام 2013 عندما كان على حافة السقوط. أي إن أرواح الناس وحقهم في الحياة ليست معياراً يردعه عن استخدام هذا السلاح، وإنما أطماعه ومصالحه وتحالفاته الأجنبية. لا غرابة وحال الرئيس ونظامه على هذا النحو أن انتهى الأمر بسورية إلى ما انتهت إليه. تقصف بمئات الصواريخ في ليلة واحدة لإيصال رسالة إلى بوتين وليس حتى إلى الأسد!

* كاتب وأكاديمي سعودي

الحياة

 

 

 

 

 

هجوم غربي لم ينتصر للشعب السوري/ أسامة أبو ارشيد

كتبت الأسبوع الماضي في “العربي الجديد” (13/3/2018) إن تهديد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بمهاجمة النظام السوري انتقاماً من مجزرة دوما الكيميائية المفترضة لم يكن غضبة للشعب السوري المسحوق، ولن يكون انتصاراً له على الظلم الواقع عليه. كما كتبت، أيضاً، إن الشعب السوري، والشعوب العربية، ليس لهم من الأمر شيء، سواء نفّذ ترامب  وعيده، أم قرّر غير ذلك. كان ذلك قبل الهجمات الصاروخية التي شنتها السبت الماضي كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على ثلاث منشآت سورية، واحدة في منطقة دمشق الكبرى واثنتان قرب حمص، قالت الدول المهاجمة إنها تستخدم لتطوير الأسلحة الكيميائية وتخزينها. واليوم، وبعد أن أصبح الهجوم واقعاً، فإن مجريات الأحداث تؤكد صواب ما ذهب إليه ذلك المقال.

مباشرةً، بعد توارد أخبار الهجوم الكيميائي المفترض، في السابع من إبريل/ نيسان الجاري، وبعد بث الصور المروعة لضحايا مدنيين أبرياء، غرّد ترامب عبر “توتير” متوعداً “الحيوان” بشار الأسد بدفع “ثمن باهظ”. استلزم الأمر أسبوعاً لشن الهجوم الانتقامي، لم يتردّد خلالها ترامب عن التغريد، مرة أخرى، ملمحاً إلى اقتراب موعد الضربة العسكرية المرتقبة. والمفارقة هنا أن النظام استغل تلك الفترة لنقل أسلحة وعتاد عسكري وطائرات حربية إلى قواعد عسكرية روسية على الأراضي السورية، معلوم أنه لن تشملها ضربات غربية. وعند بدء الهجوم في ساعات الصباح الباكر، يوم السبت الماضي، اكتفت الصواريخ المائة وخمسة المنطلقة من سفن حربية في البحر الأحمر ومقاتلات نفاثة، بالمنشآت الثلاث فحسب.

لم يكن ثمن استخدام النظام السوري المفترض للسلاح الكيميائي في دوما باهظاً، كما توعد

ترامب. وكان لافتاً تأكيد مسؤولين عسكريين أميركيين، بدءاً من وزير الدفاع، جيمس ماتيس، ومروراً برئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، إن هدف الضربات إضعاف قدرة النظام على شن هجمات كيميائية أخرى، وليس تغيير المعادلات العسكرية على الأرض، أو حتى تقويض قدرته على شن هجمات عسكرية تقليدية قاتلة. إذن، كان الهدف من “الضربة الواحدة”، كما وصفها ماتيس، إيصال رسالة إلى النظام السوري بعدم استخدام السلاح الكيميائي مرة أخرى. هذا بالضبط ما قاله ماتيس، وكان هذا تماماً هو الهدف من الهجوم على مطار الشعيرات السوري العسكري في أبريل/ نيسان 2017، بعد قصف النظام بلدة خان شيخون في ريف إدلب بغاز السارين، ما تسبب بسقوط عشرات من القتلى والمصابين. الأمر الآخر اللافت، أن المسؤولين العسكريين الأميركيين لم يجدوا حرجاً في تأكيد أن الهجوم الغربي لم يدمر البرنامج الكيميائي السوري برمته، كما أنهم لا يعتقدون أن مجزرة دوما ستكون الأخيرة التي قد يستخدم الأسد فيها السلاح الكيميائي ضد أبناء شعبه.

النظام السوري، وداعماه الإيراني والروسي، كانوا مدركين منذ البدء محدودية الأهداف الأميركية. إنها قرصة أذن لا أكثر ولا أقل. ألم يقل الأميركيون جهاراً نهاراً إنهم لا يريدون إسقاط الأسد، بل ولا حتى ضعضعة وضع قوات نظامه عسكرياً على الأرض؟ وإذا ما رام أحد دليلاً على ذلك سيجده في إعلان القيادة العامة لجيش النظام السوري، في يوم الهجوم العسكري الغربي، إخلاء الغوطة الشرقية من كل مقاتلي فصائل المعارضة السورية المسلحة، بعد خروج آخر مقاتل منهم باتجاه شمال سورية. ثمَّ إن وزارة الدفاع الأميركية أكدت، بلغة أقرب إلى المباهاة، بأن لا عنصر عسكرياً روسياً ولا إيرانياً، ولا حتى محسوباً على النظام السوري، سقط ضحية في القصف الغربي. لقد سمحت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، للنظام، بدعم روسي – إيراني، بخنق المعارضة السورية ومئات آلاف المدنيين في ريف دمشق سنوات طويلة، ثمَّ جاء ترامب وأكمل المهمة، بعد أن قطع كل دعم عسكري عن مقاتلي المعارضة السورية من العرب، وهو ما مكّن النظام من قلب المعادلات العسكرية جذرياً على الأرض لصالحه. ولأن الأسد يدرك أن كرسيه ليس هدفاً أميركياً، ولأن نظامه يعلم أن الأمور على الأرض تسير لصالحه، فإن ردهما جاء في اليوم التالي للهجوم بـ “صباح الصمود” الذي ظهر فيه الأسد على شاشات التلفزة يدخل إلى مكتبه واثقاً منتشياً بما يحسبانه نصراً.

لا تعني الولايات المتحدة دماء الشعب السوري أبداً، وكان أوباما قد استثنى الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب في سورية من ما وصفها “المصالح الأساسية” للولايات المتحدة التي تستلزم توظيف “عناصر القوة” الأميركية كلها. وترامب اليوم، وعلى الرغم من انتقاداته المتكررة للسياسة الخارجية لأوباما، إلا أنه لا يبتعد كثيراً عنها في سورية. تحصر إدارته، كما كانت إدارة أوباما، استراتيجيتها في سورية في أمرين: هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، مع ضمان عدم عودته إلى السيطرة على المناطق التي خسرها في العراق وسورية. والقضاء على سلاح سورية الكيميائي والتخلص كلياً من قدرة النظام على تصنيعه سلاح ردع استراتيجياً. أما ماذا يجري في سورية بعد ذلك، فهذا ليس ضمن الأولويات الأميركية، اللهم إلا حديثاً مبهماً، ربما من باب ذر الرماد في العيون، عن ضرورة إيجاد حل سياسي انتقالي، لا يستثني الأسد بالضرورة. ولمن لم ينتبه، فإنه مدعو الآن إلى الانتباه، إلى أن الولايات المتحدة تفرّق بين قتل الشعب السوري وخنقه بغاز الكلور، وهو الأمر الذي يمكن للولايات المتحدة أن تستوعبه وتسكت عنه، على أساس أنه ليس غازا ساما متطورا، وما بين استخدام غاز سام

متطور، كالسارين، الذي لن تقبل به الولايات المتحدة، على أساس أنه “خط أحمر”! ولذلك تقر السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، أن تقديرات واشنطن تفيد بأن النظام السوري استخدم غازات سامة، خمسين مرة على الأقل، وربما تصل إلى مائتين، منذ اندلاع الصراع في سورية قبل سبع سنين. ومع ذلك، فإن التهديد الأميركي، تحت إدارة أوباما، باستخدام القوة رداً على استخدام النظام غازات سامة، كما في عام 2013 بعد مجزرة الغوطة الشرقية، أو استخدامها فعلاً، تحت إدارة ترامب عام 2017، بعد مجزرة خان شيخون، إنما جاءا بناء على افتراض استخدام السارين. وحدث الأمر نفسه في مجزرة دوما أخيراً. وهو ما ينسحب كذلك على صمت الولايات المتحدة، والعالم، والذي يصل إلى حد التواطؤ، على استخدام النظام البراميل المتفجرة في قتل شعبه وسحقه.

باختصار، كل ما يهم الولايات المتحدة، غير محاربة جماعات إرهابية، هو نزع السلاح الكيميائي الاستراتيجي من سورية، والذي كان يفترض أنه سلاح ردعي في سياق التوازنات الاستراتيجية لصد أي عدوان خارجي، خصوصاً إسرائيلي، فإذا بالنظام يستخدمه ضد الشعب السوري الذي ليس أولوية في المقاربة الأميركية المتوحشة، تماماً كما أن جرائم الروس والإيرانيين والنظام متوحشة. ولا بأس أيضاً أن تكون دماء السوريين وسيلةً لمحاولة تشتيت التركيز على فضائح داخلية أميركية، فثمّة اتهامات لترامب أنه ما تحرك في سورية هذه المرة إلا لحرف الأنظار عن اقتحام ضباط مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) مكتب محاميه الخاص ومنزله، وهو ما ينذر بتحديات قانونية مصيرية لترامب، ليس أقلها التهرّب الضريبي وخرق قوانين التمويل الانتخابي. ومع بقاء انعدام الوزن عربياً، وتوحش أنظمتنا، ستبقى دماؤنا مادة للمزايدات والتراشق بها بين اللاعبين الكبار على ملعبنا، وبنا.

العربي الجديد

 

 

 

العبث الأميركي في سورية/ علاء بيومي

منذ عام وربما أكثر، ومتابعون كثيرون في العالم يتساءلون، من دون جدوى، بشأن ماهية الاستراتيجية الأميركية تجاه سورية؟ ففي السادس من إبريل/ نيسان 2017، شنت الولايات المتحدة هجمات صاروخية على قاعدة الشعيرات السورية، ردا على هجمات بالأسلحة الكيميائية، شنها النظام على معارضيه في خان شيخون. ساعتها ثار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، معلنا أن استخدام النظام الأسلحة الكيميائية خط أحمر يجب فرضه بالقوة، لا التخلي عنه كما فعل باراك أوباما. ولكن وبعد تنفيذ الهجمة، شعر كثيرون بأن الضربة جاءت رخيصة وغير مكلفة، أطلق فيها الأميركيون أكثر من خمسين صاروخا على أهداف للنظام من دون أي التزامات تذكر تجاه سورية أو مستقبلها وشعبها، وتنبأ بعضهم بأن الصواريخ الأميركية لن تردع بشار الأسد، وهو ما حدث.

وخلال العام الماضي، تكرّرت هجمات النظام بالأسلحة الكيميائية على معارضيه. وللأسف، كرّرت أميركا، بقيادة ترامب، أخطاءها، فردا على هجوم النظام بالأسلحة الكيميائية على دوما في السابع من أبريل/ نيسان الجاري، ثار ترامب على “تويتر” معلنا أن الصواريخ الأميركية قادمة، وأن على روسيا وإيران الحذر من “ثمنٍ باهظ”. وبعد ستة أيام، كفيلة بإخلاء مواقع النظام والتنسيق مع روسيا وتقليل تبعات أي ضربة خارجية، أطلقت الولايات المتحدة بالشراكة مع بريطانيا وفرنسا أكثر من مائة صاروخ على عدة مواقع للنظام، يعتقد أن لها علاقة بإنتاج الأسلحة الكيميائية، والتي كانت أميركا قد فرضت على النظام السوري نزعها خلال عهد الرئيس باراك أوباما.

وكأن الإنجاز الأميركي بعد عام من الانتظار والفشل في التعامل مع النظام السوري وانتهاكاته وتوسعه بمساعدة حلفائه تمثل في مضاعفة عدد الصواريخ التي أطلقتها البوارج والطائرات

الأميركية والأوروبية على مواقع النظام في 8 أبريل/ نيسان 2017 إلى أكثر من مائة هذا العام، وذلك في غياب شبه تام لما يمكن تسميتها استراتيجية أميركية للتعامل مع النظام السوري في عهد الرئيس الحالي، دونالد ترامب، وفي ظل الواقع الجديد الذي فرضته إنجازات النظام وحلفائه على الواقع في سورية. فأوضح سياسة عبرت عنها الولايات المتحدة تجاه سورية جاءت على لسان وزير الخارجية المقال، ريكس تيلرسون، في كلمة ألقاها في يناير/ كانون الثاني الماضي في مركز هوفر للأبحاث في جامعة ستانفورد الأميركية. ساعتها عبر تيلرسون عن استراتيجية طموحة، تقوم على خمس دعائم أساسية، وهي ضمان هزيمة “داعش” وأخواتها في سورية، وعدم قدرتهم على العودة واستغلال الأراضي السورية في إعادة تنظيم صفوفهم، والتوصل إلى حل سياسي للحرب الأهلية في سورية، وفقا لقرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك وضع دستور جديد وتنظيم انتخابات برعاية الأمم المتحدة، والحد من النفوذ الإيراني في سورية، بما يضمن عدم وصول إيران إلى تحالفاتها عبر العراق وسورية ولبنان، وصولا إلى البحر المتوسط، وضمان عودة اللاجئين والمهجرين السوريين إلى أراضيهم، وأخيرا ضمان بقاء سورية خالية من أسلحة الدمار الشامل.

وقد تطلبت تلك السياسة، وفقا لتيلرسون نفسه التزاما أميركيا طويل المدى تجاه سورية تمثل في الحفاظ على وجود مفتوح للقوات الأميركية هناك، وتقديم مساعدات مالية لإعادة بناء المناطق المحرّرة من النظام و”داعش” ومساعدة القوى المحلية في تلك المناطق على إعادة توطين الأهالي واللاجئين وإصلاح المرافق وتقديم الخدمات الأساسية، وكذلك الحفاظ على مناطق خفض التصعيد، والضغط على روسيا لإرغام النظام على القبول بمفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة والتعاون مع حلفاء أميركا كتركيا في قضايا مكافحة الإرهاب. ولكن ترامب عصف بتلك السياسة نهاية شهر مارس/ آذار الماضي حين أعلن، بشكل مفاجئ في كلمة ألقاها أمام أنصاره في ولاية أوهايو، عن رغبته في سحب القوات الأميركية من سورية “قريبا جدا”، وترك المشكلة السورية “لآخرين ليعتنوا بها”، معتبرا أن مهمة بلاده الأساسية هناك كانت هزيمة “داعش”، وهو ما تحقق تقريبا وفقا لوجهة نظره.

منذ ذلك الحين، قرّر ترامب تجميد 200 مليون دولار من المساعدات الأميركية الموجهة إلى جهود إعادة الإعمار، كما طالب خطابيا دولا أخرى كالسعودية بتحمل تكاليف إعادة الإعمار وضمان استقرار سورية في مرحلة ما بعد “داعش”.

وفي هذا السياق، جاء رد فعل ترامب الغاضب على الهجمات الكيميائية على دوما وكأنه في عزلةٍ عن بقية مواقفه، أو كمحاولة لتحقيق مكسب سياسي شخصي سريع، وتشتيت الانتباه عن مشكلاته الداخلية، وإثبات أنه يقف للروس ويعارضهم في ظل التحقيقات القانونية الجارية بشأن علاقة حملته الانتخابية بمسؤولين روس. حيث شن ترامب هجوما واسعا على النظام وروسيا على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدا على “تويتر”، منذرا بسرعة الانتقام الأميركي، ومحذرا الروس والإيرانيين من “ثمن باهظ”. ولكن لم تأت الهجمات الأميركية سريعا، بل تأخرت ستة أيام، وجاءت محدودة، وغالبا بالتنسيق مع روسيا، أو على الأقل تحذيرها، وسرعان ما أعلن ترامب، بعد إطلاق الصواريخ الأميركية، أن المهمة انتهت. وأعلن البنتاغون أن المهمة كانت محدودة، ولا تتبعها هجمات أخرى، وكأنهما يحاولان تهدئة الأوضاع، وامتصاص غضب روسيا، وضمان محدودية رد فعلها.

وبهذا خرجت الضربة الأميركية على سورية من مجال الاستراتيجية والسياسة إلى مجال

“تحول سورية إلى ساحة

تناحر إقليمي لا يهدأ”

التنفيس عن لحظات غضب الرئيس ترامب، ونزعاته الشخصية وتسرعه في الإعلان عن مواقفه، وعدم قدرته على التحكم في خطابه وردود أفعاله، فبدلا من أن يسعى ترامب إلى إعادة صياغة مواقف بلاده تجاه سورية بشكل متكامل، والإعلان عنها في الوقت وبالأسلوب المناسبين، تسرع كالعادة في الإعلان عن مواقفه الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي، من دون التنسيق مع قادة إدارته وحلفائه، والذين سارعوا بالتحكم في ردود أفعاله، وإعادتها إلى أرض الواقع، لينتهي الأمر بعدة ضربات محدودة الأثر، وربما تمثل انتصارا سياسيا إضافيا لنظام الأسد. فبعد كل الإنجازات التي حققها النظام السوري على أرض الواقع خلال العام الماضي، بمساعدة روسيا وإيران، ما زالت الولايات المتحدة تفتقر لاستراتيجية واضحة، واقتصر رد فعلها على استخدام النظام الأسلحة الكيميائية على عدة هجمات صاروخية، وكأنها تقبل بقية سياسات النظام، وما تتضمنه من قتل واسع بالأسلحة التقليدية وتهجير قسري وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وتثبيت أقدامه، وأركان حكمه، في ظل إعلان ترامب عن رغبته في سحب قواته من سورية في أسرع وقت ممكن.

لن تكون المواقف الأميركية السابقة بلا تبعات مستقبلية، فهي تعبر عن استمرار الانكفاء الأميركي على الذات، وتراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، وتفتح الباب على مصراعيه أمام قوى أخرى لملء الفراغ الناجم عن هذا التراجع، وتحمل ما يفرضه من تكاليف مالية وعسكرية وسياسية باهظة من ناحية، وتحمل كذلك ما يترتب عليه من تحول سورية إلى ساحة تناحر إقليمي لا يهدأ بين قوى كإيران وتركيا وإسرائيل والسعودية.

كما يترك التراجع الأميركي المضطرب، والمفتقر للاستراتيجية، حلفاء أميركا في المنطقة، كالأكراد والعرب السنة، في مواقف لا يحسدون عليها، بعد ما قدموا من تضحيات باهظة خلال الصراع السوري المدمر، ولشعورهم بالانكشاف وعدم الثقة في القيادة الأميركية، وإمكانية أن يتعرّضوا لمزيد من الخسائر العسكرية والسياسية، في غياب القيادة والاستراتيجية الأميركية، وفي ظل صراع إقليمي هائل ومكلف، لن يتوقف قريبا.

العربي الجديد

 

 

الاستنجاد بـ”العدوان الثلاثي”/ خيرالله خيرالله

معيب الاستنجاد بـ”العدوان الثلاثي” للعام 1956 من أجل تغطية المأساة السورية. هذه مأساة مرشحة لأن تستمر طويلا في وقت لم يعد في الإمكان الاستهانة باحتمال حصول مواجهة إسرائيلية – إيرانية.

الضربة الثلاثية كشفت الكثير، على الرغم من أنّها لم تعن الكثير

من المفارقات المضحكة المبكية إصرار النظام السوري على وصف الضربة التي تلقاها قبل أيام بـ“العدوان الثلاثي”، وذلك للتذكير بالانتصار الوهمي الذي حققه جمال عبدالناصر في العام 1956 عندما هاجمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل مصر ردا على تأميم قناة السويس. انتصر عبدالناصر وقتذاك في الظاهر، لكن الحقيقة أن ما حصل نتيجة العدوان الثلاثي الذي أظهر التفكير السطحي للرئيس المصري، مهد للكارثة الكبرى التي تمثلت في حرب 1967، وهي كارثة لا تزال المنطقة تعاني منها إلى اليوم.

كانت الضربة التي استهدفت منشآت في سوريا مرتبطة بالسلاح الكيميائي ضربة أميركية – فرنسية – بريطانية. كانت ثلاثية بالفعل، لكن الولايات المتحدة التي أنقذت عبدالناصر في العام 1956 حلت فيها مكان إسرائيل التي تبقى لديها حساباتها الخاصة بالنسبة إلى النظام السوري. المؤسف أنّ الضربة الثلاثية الأخيرة لم تعن الكثير بعدما تبيّن أن المطلوب هذه الأيّام، أميركيا وإسرائيليا قبل كل شيء، استخدام بشّار الأسد إلى أبعد حدود في الانتهاء من سوريا التي عرفناها، وتشتيت شعبها والقضاء على كلّ المدن الكبيرة. لذلك حصل تدمير ممنهج، من منطلق مذهبي، لحلب وحمص وحماة وتغيير لطبيعة دمشق. هذه مدن تعتبر جزءا لا يتجزّأ من تاريخ المنطقة وحضارتها. هذا، في حال، لا تزال هناك حضارة.

كشفت أوّل ما كشفت أن روسيا على استعداد للوقوف موقف المتفرّج متى يصبح مطلوبا منها أن تكون كذلك. كشفت ثانيا أن إيران لا تستطيع أن تفعل شيئا عندما يتطلّب الأمر الردّ على صواريخ من النوع الذي تطلقه البوارج الأميركية. تستطيع إيران ممارسة التدمير في سوريا وغير سوريا. تفعل ذلك بهدف واضح يتمثّل في تغيير طبيعة سوريا وإحلال سكان مستوردين مكان السكّان الأصليين. لا يختلف المشروع الإيراني هنا مع المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في شيء، بل إنّه يتكامل معه، أقله في الوقت الحاضر. متى تفترق المصالح الإيرانية عن المصالح الإسرائيلية؟ المسألة مسألة وقت ليس إلا، خصوصا أن الغارة التي شنتها طائرات إسرائيلية على قـاعدة تيفور (T4) قرب حمص قبل أيّام تشير إلى أجواء مختلفة بدأت تسود في سوريا، وأن حربها دخلت مرحلة جديدة. هذا عائد في طبيعة الحال إلى رغبة إيران في تغطية أزمتها الداخلية بالإصرار على وجود عسكري قوي في سوريا يكرسها لاعبا إقليميا يمتلك أوراقا في هذا البلد، بما في ذلك ورقة التماس المباشر مع إسرائيل.

لن تساهم لعبة استعادة “العدوان الثلاثي” للعام 1956 في تغطية الواقع المتمثّل في أن النظام السوري صار في مزبلة التاريخ منذ فترة طويلة. كل ما في الأمر أن لا أحد يريد إنهاءه الآن. هناك حاجة إيرانية إليه، وهناك حاجة روسية، كما هناك حاجة أميركية وإسرائيلية. لن يجدي في شيء الاستعانة بجمال عبدالناصر وعدوان العام 1956. كانت نهاية نظام ناصر في 1956 عندما لم يتنبّه إلى أنّه لم يحقّق أي انتصار من أيّ نوع.

ما حصل أن الإدارة الأميركية، على رأسها الجنرال دوايت ايزنهاور، اعتبرت أن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ارتكبت حماقة بشنّ حرب من خلف ظهر الولايات المتحدة.

لم يتردد الرئيس الأميركي، وقتذاك، بإعطاء أوامر إلى بريطانيا بالانسحاب من مصر من دون أيّ أخذ ورد، بعد تذكير وزير الخارجية الأميركي جون دالس رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن بأن في استطاعة بلاده تحويل الجنيه الإسترليني إلى ورقة لا تصلح سوى لتلميع الأحذية. رضخت بريطانيا ورضخت معها فرنسا وإسرائيل وأعلن عبدالناصر الانتصار على “الاستعمار وأذناب الاستعمار”. كانت سكرة ليس بعدها سكرة بدأت بعدها مصر تتراجع بعد خروج الجاليات الأجنبية من المدن الكبيرة… وصولا إلى حرب العام 1967.

 

بدل السعي إلى التشبه بجمال عبدالناصر والكارثة التي يجسّدها، يفترض في النظام السوري الذي يتبجح بإسقاط صواريخ لم تطلق أصلا على أهداف في سوريا، التعلّم من تجربة “العداون الثلاثي”، البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي، على مصر. مثل هـذه التجربة يجب أن تـدعو الأسد الابن إلى اعتماد نهج مختلف يقوم أوّل ما يقـوم على الواقعية.

تعني الواقعية أنّ سوريا تحت خمسة احتلالات، وأن إسرائيل تستطيع أن تضرب متى تشاء حيثما تشاء، وأن الـولايات المتحدة غير مهتمة سوى بأن لا تقوم لسوريا قيامة في أيّ يوم من الأيام.

ما رفع من شعارات بعد “العدوان الثلاثي” على مصر جلب الخراب للمنطقة كلّها. كانت بداية الخراب تلك الوحدة، المخالفة للطبيعة، التي قامت بين مصر وسوريا في العام 1958. أسست تلك الوحدة للنظام الأمني في سوريا، وأظهرت في الوقت ذاته مدى تخلّف النظام الناصري على كلّ صعيد. قضى ذلك النظام، بعد الوحدة مع سوريا، على القوى الحيّة في المجتمع السوري والتي كانت قادرة على تحويل البلد إلى قوّة اقتصادية حقيقية.

خلق “العدوان الثلاثي” أجواء معادية للنظام الملكي في العراق، فكان الانقلاب العسكري في الرابع عشر من تموز – يوليو 1958 ومجزرة قصر الرحاب. كان ذلك اليوم المشؤوم بداية النهاية للعراق الذي كان مؤهلا لأن يكون دولة رائدة في المنطقة بفضل ما يمتلكه من ثروات، خصوصا الثروة الإنسانية.

معيب الاستنجاد بـ“العدوان الثلاثي” للعام 1956 من أجل تغطية المأساة السورية. هذه مأساة مرشّحة لأن تستمر طويلا في وقت لم يعد في الإمكان الاستهانة باحتمال حصول مواجهة إسرائيلية – إيرانية، خصوصا أن إيران بدأت توزع التهديدات يمينا ويسارا بعد قتل الإسرائيليين سبعة من خبرائها في قاعدة تيفور. استهدفت إسرائيل الخبراء الإيرانيين وبينهم ضابط برتبة عقيد في “الحرس الثوري” بعدما تبيّن أن الطائرة من دون طيّار التي دخلت أجواءها في مطلع شباط – فبراير الماضي كانت تحمل مواد متفجّرة. هذا تطوّر جديد من نوعه يفرض حذرا شديدا حيال ما يبدو أن المنطقة مقبلة عليه.

لن تنفع كل الشعارات وكل الأوهام التي كان يوزّعها جمال عبدالناصر في تفادي الحدث المهم الذي تبدو المنطقة مقبلة عليه في غياب حل سياسي في سوريا يرتكز قبل كل شيء على رحيل بشار الأسد وعلى خروج لإيران. تستطيع روسيا أن تكون جزءا من الترتيبات السورية في المستقبل، على الرغم من كل الجرائم التي ارتكبتها بواسطة سلاحها الجوي. أما إيران فلا مكان لها في أيّ تسوية، اللهم إلا إذا كان مطلوبا حصول الانفجار الكبير الذي لا يمكن لدولة مثل الولايات المتحدة البقاء في موقع المتفرّج أمامه.

إعلامي لبناني

العرب،

 

 

 

المسرحية الدموية في سوريا/ الياس خوري

أطلقوا على مسرحية الضربة الصاروخية على سوريا إسم «العدوان الثلاثي»، من أجل إقامة مقارنة بين بشّار الأسد وجمال عبدالناصر!

هذا التزوير اللغوي لم يكن سهلا ومباحا، لولا أنه يأتي في سياق حفلة تزوير شاملة يقودها رئيس أمريكي يلعب بالسياسة كما يتاجر بالعقارات، يعتدي على حقوق الإنسان في بلاده، ويقود حملة عنصرية ضد المهاجرين، ويرقص بالسيف على إيقاعات البترو- دولار الخليجي، ويتصهين أكثر من الصهاينة، ثم يأتي ليعطي العالم دروسا في الأخلاق وحقوق الإنسان!

الهمجية هناك والهمجية هنا، همجية العنصري الأمريكي في مواجهة همجية المستبد السوري، وبينهما ومعهما همجيات متنوعة تمتد من إسرائيل إلى موسكو، ومن طهران إلى أنقرة والرياض، وصولا إلى لندن وباريس.

مواجهة لا تشبه سوى الرقص فوق الجثث، من اليمن إلى مصر المحروسة بالاستفتاء الرئاسي، ومن سوريا المغطاة بالكلور والدم إلى فلسطين المغطاة بالدم والعنصرية.

هذه المواجهات هي إحدى أولى علامات زمن ما بعد الحقيقة.

ماذ يجري؟

هل نحن أمام مسرحية دموية، أم نحن أمام صراع حقيقي يبحث عن آليات انفجار لم تكتمل بعد، أم نحن أمام كابوس تاريخي لا نعلم إلى أين سيأخذنا؟

قراءة ما أطلق عليه إسم الضربة لا تضيف جديدا إلى معرفتنا بالوقائع الفظائعية التي تجري في بلد ممزق إسمه سوريا، محاصر بالاحتلالات، ومتروك للخراب.

ما قام به التحالف الغربي ليس سوى مسرحية لحفظ الماء في وجه لا ماء له، فلقد انهار خطاب حقوق الإنسان الذي استخدمته الولايات المتحدة لملء الفراغ الناجم عن سقوط الإتحاد السوفياتي، وهو خطاب اجتذب اليه الكثير من النخب القديمة – الجديدة، التي كانت تبحث عن خطاب بديل لخطاب مواجهة الإمبريالية وثورات العالم الثالث ضد الإستعمار الجديد. هذا الخطاب الأمريكي لم يكن سوى محارة فارغة من المضمون، لأنه تلاشى عند أول امتحان جديد بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمير، في هيجان الحربين على أفغانستان والعراق، وأغرق العالم في صراع وحشي، بحيث صار العالم العربي هو ساحة القتل والدمار التي وجدت في المستبدين من حكّام العرب ضالتها، جاعلة منهم أداة لتدمير بلادهم.

هذا هو الإنجاز الأكبر الذي حققه بشار الأسد، واستحق من خلاله البقاء في السلطة. فلقد تفوّق المستبد السوري على جميع أقرانه محولا انتفاضة شعبية سلمية تطالب بالحرية والكرامة إلى مجزرة مفتوحة، سمحت لكل قوى التوحش بالتسلل إلى سوريا والإمعان في قتل الشعب السوري. من التطرف الأصولي النصروي – الداعشي المدعوم من الخليج وتركيا إلى الأصولية الإيرانية وميليشياتها المختلفة وصولا إلى القيصر الروسي، والى المغرّد الأمريكي الباحث عن دولارات الملوك والمشايخ في مدن الملح العربية.

نجح الأسد في تحويل الصراع بين شعب يطالب بحريته وبين نظام مستبد إلى صراع بين الدول على مناطق النفوذ في بلاده. أخرج الشعب من المعادلة بالعنف والقتل، وأدخل قتلة محترفين يشبهونه إلى المعادلة، بحيث صار الصراع بين هؤلاء القتلة هو الموضوع، وفرض على العالم بأسره أن ينسى آلام الشعب السوري ومآسيه.

ورغم أن المسرح السوري يبدو بالغ التعقيد، نتيجة هيمنة العنصرية والأصولية على اللغة السياسية في عالم اليوم، وهي لغة مخادعة وكاذبة وتحتاج إلى تفكيك دائم، غير أنه يجب التنبه إلى مسألتين:

الأولى هي أن هذا الانضباط في اللعب بالنار بين القوى الدولية والاقليمية المتصارعة، هو إنضباط هش ومهدد بالانهيار في أي لحظة. تتمثل هشاشته في تناقضات اللاعبين وعدم قدرتهم على ضبط جموح طيشهم العنصري وشهواتهم التوسعية، وقد يتحول هذا الطيش في أية لحظة إلى انفجار مفتوح على كل الاحتمالات.

ولعل مفارقة هذا الانضباط هي أنه نتاج الرضى الضمني أو المعلن عن ضرورة بقاء الديكتاتور السوري في السلطة، حتى وإن كانت سلطته شكلية، وهو العقاب الذي تمّ إنزاله بالشعب السوري كي تصير سوريا درسا لكل الشعوب.

الثانية هي الانهيار النهائي لما تبقى من «القيم» التي استخدمت في خضم الحرب الباردة. فقيم الديموقراطية والحرية تشهد انهيارها الشامل في الغرب، وقيم التحرر الوطني ومقاومة الامبريالية تتحول إلى ممسحة تحت أقدام القيصر الروسي وأصدقائه المستبدين والمعجبين به المحكومين بحنين إلى لغة ميتة.

ورغم أن هذه القيم كانت نسبية وحمّالة أوجه واستخدمت في الكثير من الأحيان لتغطية نزعات توسعية وكولونيالية، الا أن انهيارها يحوّل العالم إلى ساحة مكشوفة للتوحش، ولعل النموذج الصارخ لهذا الانكشاف الفضائحي يتجسد في دونالد ترامب الذي يدير العالم بلغة فجة وسوقية.

في هاتين المسألتين تقع مأساة المشرق العربي اليوم، من سوريا إلى فلسطين، ومن اليمن إلى العراق، ومن مصر إلى الخليج، فانهيار القيم يسمح لكل القوى التوسعية والاستبدادية والطائفية بالتلاعب بمصير هذه البلاد المنكوبة.

ان انهيار القيم يحمل في بلاد العرب دلالات مرعبة، كيف نقاوم الاحتلال الإسرائيلي وكيف نواجه الاستبداد ونحن نرى أن لغة المقاومة تُسرق كي تصير غطاء للاستبداد من جهة، كما أن لغة حقوق الإنسان تصادر كي تصير غطاء للاحتلال عبر مقارنات صبيانية بين أداء المحتل الإسرائيلي وأداء المستبد العربي، من جهة ثانية.

وفي خضم هذا الانهيار يصير الناس في بلادنا مجرد ضحايا، فمثلما اعتبر الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين أهدافا يتمرن قناصوه على إصابتها أمام جدار غزة، فإن الأسد وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل وأمريكا تتصرف مع السوريين بصفتهم إهدافا بديلة.

صار موت العرب وإذلالهم هو علامة بداية هذا القرن الجديد الذي وُلد في الجريمة العراقية وتكتمل اليوم ملامحه في الجريمة السورية.

القدس العربي

 

 

 

لا تُراهنوا فالضربة الجوية ليست ثأرا للسوريين/ د. مثنى عبدالله

عاد التحالف الغربي لينبش بقذائفه الرائعة واللطيفة والذكية والجميلة، حسب وصف ترامب، أرضا عربية أخرى. فالمسرحية تم عرضها في العراق وليبيا والصومال واليمن وسوريا، وما عامة الناس على هذه الأرض سوى وسيلة يُتاجر بها هذا التحالف لتحقيق مصالحه، ويستخدم المأساة التي يعانونها في عقد صفقاته مع اللاعبين الآخرين على الساحة الدولية.

وفي كل مرة ينقسم العرب بين موالاة ومعارضة للضربات الغربية على بلادنا، ليس على صعيد الأنظمة وحسب، بل على صعيد العامة أيضا. فالمعارضات في الخارج تخرج رافعة علم بلادها، مبتهجة ومهللة بالضربة الجوية، والموالاة في الداخل تخرج بالمشهد نفسه مهللة للحاكم. في حين أن كلا الموقفين مجرد رد فعل سلبي لا حول له ولا قوة على أرض الواقع. فقد أثبتت أغلب المعارضات الخارجية بأنها مجرد دُمى في أيدي المخابرات الدولية والإقليمية والعربية. تستخدمها لتنفيذ مصالحها، ومتى ما اتفقت مع الطرف الآخر ألقت بها لتلاقي مصيرها وحدها، وحتى إن وصلت إلى السلطة فإنها تنظر إلى كل من في الداخل على أنه كان مع النظام، فتشرع بالاجتثاث والتهميش، والإقصاء والاعتقال والقتل، والسرقات والفساد، والعراق وليبيا أنموذجان واضحان على ما نقول. والموالاة الداخلية مجرد كومبارس يُصفق ويُهلل للزعيم، ثم يتخلى عنه في أول تحد كبير، وهذه ظاهرة خطيرة تستحق الدراسة والتحليل من المختصين.

فما النصر الذي حققه دمية الروس والايرانيين في دمشق، كي تخرج الموالاة رافعة صوره ومستبشرة؟ وما الثمن الذي دفعه جراء الضربة الجوية كي تخرج المعارضة مهللة؟

يقينا ليس من قيمة إنسانية في عقلية الأمريكان والغرب، لكل المعاناة التي مازال يعانيها شعبنا في سوريا، ولو كانوا حقا يشعرون بذلك لما طالت الحرب كل هذه السنين، ولما هُجّر الملايين وقتل مئات الآلاف منهم. وإن ما حصل مؤخرا من ضربة جوية، فإن دوافعها وحساباتها كانت تماما خارج هذا الإطار. لقد تحالفت الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا في القيام بذلك، ولكل واحدة من هذه القوى أجندة وأهداف تختلف عن الاخرى، على الرغم مما يبدو أنه قرار سياسي واحد. فالرئيس الفرنسي مانويل ماكرون يصارع من أجل الزعامة السياسية في أوروبا، وعودة فرنسا بتأثيراتها السياسية والثقافية إلى الشرق الاوسط، الذي يُعتبر في المسلمات الفرنسية قوس الازمات، الذي تأتي منه الهجرة غير الشرعية وما يسمى الارهاب. لكن ما يُكبّل يديه هو الازمة المالية التي تعانيها فرنسا، حتى بات يستخدم الجيش الفرنسي في مهمات خارجية من أجل المال، وهو فعل يرتقي إلى الافعال التي يقوم بها المرتزقة. ولان الخزائن العربية باتت اليوم مفتوحة أكثر من أي وقت مضى، فلمَ لا يغرف منها بحجة الضربة على سوريا؟

تجدر الاشارة هنا إلى أن الرئيس ماكرون كان قد قال في وقت سابق، بأنه ليس لدى فرنسا مشكلة مع بشار الاسد، وأن مشكلته مع شعبه. لكنه مجبر هذه المرة على القيام بعمليات وقائية في سوريا، لانها ضمن قوس الازمات في الاستراتيجية الفرنسية.

أما المملكة المتحدة، فالوضع السياسي فيها يستدعي وجود هدف خارجي يجري تركيز النظر اليه بعيدا عن المشاكل والازمات الداخلية. فرئيسة الوزراء تيريزا ماي تعاني من مشاكل كبرى داخل حزبها، ومن ضغوطات من قبل الرأي العام، نتيجة مفاوضات الخروج من الاتحاد الاوروبي. كما لا يمكن فصل قضية تسميم الجاسوس الروسي المزدوج وابنته في المملكة المتحدة، عن الحماسة البريطانية للمشاركة في الضربة الجوية، فقد استغلت لندن هذه الحادثة كثيرا، ليس لاعتبارات إنسانية، بل لتحريك وضع سياسي جديد ضد روسيا. فالعداء بين بريطانيا وروسيا تأجج بعد هذا الحادث كثيرا، وبات هنالك سباق بريطاني لتشكيل جبهة حرب باردة تقودها هي، لنزع الأوراق السياسية والعسكرية التي حصلت عليها موسكو في سوريا وأنحاء أخرى في العالم، بعد أن تراجعت أمريكا كثيرا إلى المقعد الخلفي في قيادة العالم. كما أن من مصلحة حلف الناتو، الذي كانت المملكة المتحدة على الدوام هي أبرز زعاماته، أن يكون هنالك توتر جيبولتيكي في العالم بينه وبين عدو كبير، فبعد الحرب على ما يسمى «الارهاب» بات من الضروري أن ترجع روسيا مرة أخرى عدوا.

أما القوة الثالثة التي شاركت في الضربة الجوية وهي الولايات المتحدة الامريكية، فهي الاخرى لديها أسبابها وأهدافها الخاصة بها، التي تروم جني الارباح من وراء مشاركتها، فالرئيس متهم بالعلاقة مع الروس وأن وصوله إلى السلطة كان نتيجة تدخلهم في الانتخابات، وبالتالي هو يريد أن يثبت عكس ذلك ويظهر للعلن أنه في حالة عداء مع بوتين. هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، فالامريكان يعتقدون أن الروس يحاولون إعادة النظام الدولي إلى نظام الثنائية القطبية، وهذا يتعارض تماما مع استراتيجيتهم، لذلك هم أرادوا من الضربة الجوية توجيه رسالة بأن العالم مازال أحادي القطبية، وأن روسيا قوة أقليمية لا أكثر. أما العامل الآخر الذي دخل في صنع الضربة الجوية، فهو الضغط الكبير الذي يوجه إلى الادارة الامريكية من حليفتيها في المنطقة، وهما المملكة العربية السعودية وإسرائيل. فالطرفان ينتابهما قلق شديد من التواجد الايراني في الساحة السورية. كما أن الولايات المتحدة قلقة من التحالف الروسي الايراني، لانها ترى أن الايرانيين يكتسبون خبرة عسكرية وتعبوية كبيرة نتيجة قتالهم جنبا إلى جنب قوة عظمى هي روسيا، وبالتالي قد يهدد مصالحهم الكبرى في المنطقة. لذلك هم عازمون على كسر هذا التحالف، خاصة أنهم يرون أن موسكو جاهزة للمساومة في حالة تقديم عرض غربي لها في ساحات أخرى. وعليه كانت الضربة تداري خواطر وهواجس روسيا، بحيث يمكننا ملاحظة الفرق الكبير بين التصريحات المُهددة قبل الضربة والفعل الذي جرى على الارض، فقد أبلغ الفرنسيون الروس بموعد الضربة الجوية، وتم انتقاء أهداف بعيدة جدا عن التواجد الروسي والحليف الايراني كذلك، وانتفى عنصر المفاجأة فيها، ما سمح للنظام وحلفائه الايرانيين بمتسع من الوقت لتفريغ المنشآت المهمة، وإعادة الانتشار على الجغرافية السورية، وبذلك فإنها لم تغير الموازين على الارض إطلاقا، ولم تستهدف الرئيس السوري، وكانت محدودة إلى أبعد الحدود ضد منشآت فارغة تماما.

إن الحرب في سوريا حرب كونية، ونتيجة الحرب تحدد شكل النظام الدولي والاقليمي معا. وكل قوة في سوريا لديها مشروعها الخاص، وهذا يعكس حجم الاستثمار. قد تكون هذه الحملة لتحسين وضع الولايات المتحدة حول طاولة المفاوضات، بعد أن وجدت نفسها والغرب خارج اللعبة التي تجري على الارض السورية، وخارج الذي جرى في أستانة وسوتشي، لكن السؤال المهم هو، ما الذي سيحصل في المرحلة اللاحقة؟ وما هي مخرجات الضربة الجوية على الوضع الداخلي السوري؟ يقينا سيشرع الروس والايرانيون والنظام بتصعيد الضربات على المناطق القليلة المتبقية تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، وبذلك سيتم إرساء حكم حليفهم بشار من جديد، ويؤكد سيطرته على معظم المناطق المفيدة في سوريا، لكن الغرب والولايات المتحدة لن يتركوا الكعكة تقضم كاملة من غيرهم.

باحث سياسي عراقي

القدس العربي

 

 

 

كيميائي النظام الدولي الجديد/ فاطمة ياسين

بعد حوالى أسبوع من الانتظار، والتصريحات المتضاربة، أنجز الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضربته الموعودة، ونجح في شد الانتباه إلى تحركات البوارج الأميركية، وفي شد أعصاب النظام ومناصريه أيضاً..

بدا ترامب، بعد تغريدته الشهيرة عن الصواريخ الجميلة والذكية والحديثة، متعجلاً ومتلهفاً ليسجل نقطةً في ملعب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وليلقن بشار الأسد درساً، لكنه سرعان ما تراجع عما جاء في التغريدة لصالح تمهل انتظر فيه حلفاؤه ليقرّروا خطوتهم التالية.. عقدت رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، اجتماعين أحدهما مع مجلس العموم البريطاني وآخر مع مجلس وزرائها قبل أن تسمح لطائرات التورنادو بالمشاركة مع القوات الأخرى في الضربة الجوية.

أدت السكرتاريا العسكرية التي توجه ترامب دوراً في عملية التريث، ودوراً آخر في تقليص أهداف الضربة، لتوجه إلى مخازن السلاح ومصانعه ومراكز البحث. منذ البداية، أراد العسكريون في أميركا التحرّك ضمن تحالف مع شركاء أوروبيين، وقد تكون هذه طريقة ليخفف وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، من حماس ترامب، وهو يعرف أن بريطانيا دائمة التحفظ على خطط التحرك العسكرية، منذ قرار رئيس الوزراء العمالي توني بلير السير خلف جورج بوش الابن في غزو العراق، وفكرة التركيز على ضرب البنية التحتية للأسلحة الكيميائية السورية هي بالأساس فكرة رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، وقد رفضها مجلس العموم حينها، لكنها وجدت لها صدىً في الهجوم الثلاثي صباح يوم السبت الماضي.

انتهت حالة التصريحات المتصاعدة والمتخافتة، بتنفيذ ضربة معزولة ومحدودة، ومقتصرة على ما يُعتقد أنه البنية التحتية للأسلحة الكيميائية التي يمتلكها النظام. كانت النية الأميركية بالتحرك العسكري منذ البداية ترتبط بترافقها بتحرّك دبلوماسي في مجلس الأمن، ففشل تصويت مجلس الأمن بالفيتو الروسي التقليدي، وجاء الهجوم مبتوراً وخفيفاً لم يزعج النظام، ولم يتأثر به الروس ولا الإيرانيون، بل حرصت تيريزا ماي على التصريح، في اليوم التالي للضربة، بأنها لم تستهدف النظام ولا شركاءه، وكانت عمليتها محدودة. وفي تصريحاتها جوانب انتخابية في المقام الأول، وبعض الاستيعاب لخصومها في حزب العمال، ومنافسيها في حزبها. وكانت ترغب، ومعها فرنسا هذه المرة، في عدم إثارة حفيظة روسيا، وهو الأمر الذي شاركها فيه وزير الدفاع الأميركي، فتمت هندسة تحرّك عسكري، يمكن أن تلتهمه نشرات الأخبار بفرح، ويرفع عن كاهل الدول الغربية وزراً أخلاقياً من دون أن يتغير شيء على الأرض، ففي اليوم التالي للهجوم دخلت قوات أمن النظام إلى قلب دوما، ورفعت علمها في البقعة نفسها التي أطلقت عليها غازات كلور قتلت أكثر من مائة ضحية بريئة.

بعد أن انقشع دخان الهجوم العسكري، جرّبت روسيا العضلات الدبلوماسية، فسقطت بشكل مريع ولم يحظَ اقتراحها في إدانة الضربات الغربية على سورية إلا بصوتين، إضافة إلى صوتها، فيما قدمت الدول الغربية اقتراحاً آخر، له شكل الحل الشامل، وفيه بنود تخصّ الهجوم الكيميائي، من المرجح أن يلقى قبولاً عاماً باستثناء روسيا، وربما ممانعة الصين. لذلك قد يتعرّض لبعض الفلترة الروسية، ومن ثم يمكن أن يتم قبوله، وعندها سيكون هناك قرارٌ آخر يعيد الوئام الظاهري بين روسيا والدول الغربية، وتنتظر الشوارع السورية الهجوم الكيميائي التالي، قبل أن تثور ثائرة الجميع..

مجلس الأمن، بظرفه الحالي، يمكن أن يكون مشروعاً لنظام عالمي جديد، يقوم على هذه المواجهة، حيث تقف روسيا في طرف والدول الغربية في الطرف الآخر، فيما تقف الصين على مقربةٍ من الطرف الروسي، ويتراوح موقفها بين الرفض وعدم التصويت، ثم تعود الكرة ليتم صياغة قرار وسطي، لا يرضي أحداً، ولكن يقبله الجميع، وهذا إنذارٌ بأن الحرب السورية قد وصلت إلى مرحلةٍ متقدمةٍ من العالمية، إذ أصبح جلياً أن الحل محتكرٌ للجهود الخارجية، ورهنٌ بتوافقات جديدة بين هذه الدول.

العربي الجديد

 

 

 

الهجوم في سوريا: ثلاث علامات استفهام

على إسرائيل أن توضح لروسيا بأنها ستضرب أي منظومات مضادة للطائرات تنقل إلى نظام الأسد

يطرح هجوم الولايات المتحدة وشركائها في سوريا ثلاث علامات استفهام واستنتاجين إسرائيليين. علامة الاستفهام الاولى تتعلق بمدى نجاح الهجوم. فالولايات المتحدة، بريطانيا وفرنسا تتحدث عن هجوم ناجح وإصابة لكل الأهداف. أما جنرال روسي في سوريا فادعى بأن نحو 70 في المئة من الصواريخ اعترضتها منظومة الدفاع الجوي الروسي. هذه فجوة غير معقولة في موضوع ينبغي للحقائق أن تكون واضحة فيه. إذا كانت الرواية الروسية صحيحة، فثمة مجال للقلق. فما الذي حصل حقاً؟

علامة الاستفهام الثانية تتعلق بمدى الاصابة للترسانة الكيميائية التي لدى سوريا. بقدر ما أعرف الموضوع، فقد حرص السوريون دوماً على حيازة السلاح الكيميائي في أنفاق عميقة لا تتسلل اليها الصواريخ الجوالة. إذن ماذا حصل حقا؟ هل أطلقوا النار فقط على أهداف كيميائية أم دمروها أيضاً. لماذا يتحدث الأمريكيون فقط عن «الافعال» (ما فعلناه) وليس عن «النتائج» (ماذا كانت النتيجة)؟

علامة استفهام ثالثة تتعلق بالتصريح الأمريكي بأن «المهمة انتهت». إذ سارع الأمريكيون إلى الاعلان بأنه فقط إذا استخدمت سوريا السلاح الكيميائي مرة أخرى، فإن الولايات المتحدة ستفكر بالهجوم مرة أخرى. هذا قول غريب. لماذا يحتاج الأمريكيون لأن يهدئوا روع الأسد علنا؟ لماذا قلصوا أيضاً السبب للضرب في المستقبل باستخدام السلاح الكيميائي فقط؟ لماذا لم يقولوا انه إذا ما وعندما يتسبب السوريون مرة أخرى بأذى جماعي بحق المدنيين (سواء بالسلاح الكيميائي أم بأي وسيلة أخرى)، فسترد الولايات المتحدة بالقوة؟ وماذا سيحصل إذا ما أحرق جيش الأسد مئات الاشخاص وهم على قيد الحياة، فهل عندها لا يكون من الصواب الرد. من ناحية إسرائيل، هناك استنتاجان فوريان: الاستنتاج الاول يتعلق بامكانية أن تزود روسيا سوريا بمنظومة صواريخ أرض ـ جو من طراز أس 300. هذا سلاح يعرض للخطر ليس فقط حرية عمل سلاح الجو في سماء سوريا بل وأيضاً حرية عملنا في سماء لبنان. وإذا ما نصبت هذه المنظومات في شمال غرب سوريا، فيمكنها أن تعرض للخطر أيضاً مسارات الطيران المدني لإسرائيل. هذا واقع لا يمكن لإسرائيل أن تسلم به، ولهذا فإن الحوار مع الروس يجب أن يتركز في هذا الموضوع، بما في ذلك التلميح بأن إسرائيل كفيلة بأن تضرب هذه المنظومات إذا ما أُعطيت لسوريا.

هذا سيكون جدالاً صعباً، ويمكن التخمين ماذا سيقول الروس. في 2004، عندما كنت رئيساً لقيادة الامن القومي، التقيت في موسكو مع وزير الدفاع الروسي، ومع رئيس الأركان الروسي. حاولت إقناعهما بعدم البيع لسوريا أي سلاح مضاد للطائرات (أقل خطورة من أس 300). فرد الروس هكذا: نحن نبيع أعداءكم (سوريا) صواريخ مضادة للطائرات، ولكن هذا سلاح دفاعي فقط. بالمقابل، انتم تبيعون أعداءنا (جورجيا) راجمات والتي هي سلاح هجومي». رغم الصعوبة، ورغم التعلل بالبراءة من جانب روسيا، من الصحيح الجدال معهم والايضاح بأننا لن نخشى العمل. وبوتين يعرف كيف يحترم من لا يخشى العمل.

الاستنتاج الثاني يتعلق بالرد الإيراني ضدنا. صحيح حتى اليوم فإن قدرة إيران على المس بإسرائيل من الاراضي السورية محدودة جداً. في هذا الوضع من شأن الإيرانيين أن يستخدموا ضدنا حزب الله الذي يشكل تهديدا خطيرا للغاية من ناحية شدة الضرر الذي من شأنه أن يلحقه بدولة إسرائيل. والسبيل إلى تصعيد الامور على حزب الله في أن يقرر عملية ضد إسرائيل هو واحد: على إسرائيل أن توضح للبنان بأن ردا إسرائيليا في أعقاب النار نحونا من جهة لبنان سيؤدي ليس إلى مواجهة بين إسرائيل وحزب الله (مثلما كان في حرب لبنان الثانية) بل إلى حرب شاملة بين إسرائيل ولبنان. نتيجة مثل هذه الحرب ستكون بالضرورة دماراً شديداً للبنان. وهذا ما لا يريده حزب الله أيضاً. الضغط الإيراني للعمل ضدنا يجب موازنته بضغط معاكس من جانب الشعب في لبنان. وهذا الضغط لا يتحقق إلا إذا تحدثنا بشكل صارم يوضح حجم الضرر الذي سنلحقه بلبنان، حكومته، بناه التحتية وسكانه.

غيورا آيلند

يديعوت 16/4/2018

القدس العربي

 

 

 

قصف لتقوية الأسد/ إياد الدليمي

بعد تغريدات نارية، وتحشيدات كبيرة مع حلفائه الغربيين، قصف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مواقع تابعة لنظام بشار الأسد، مع كل من بريطانيا وفرنسا، وذلك في ردّه الذي طال انتظاره على قصف الأسد دوما بأسلحة كيميائية قتلت 150 شخصاً، بينهم أطفال ونساء، واختنق عشرات.

لا تبدو الضربة الأميركية، الجراحية كما وصفها بعضهم، خارجةً عما كان متوقعاً لها، فالكل يعلم أن ترامب لا يبدي حماسةً كبيرةً للتدخل بشكل أكبر في الصراع السوري، وهو الذي أعلن، قبل وقوع الهجوم الكيميائي، رغبته بسحب قواته من سورية، على الرغم من تحفظات كبار القادة العسكريين في إدارته، كما أنه ما زال يحاول أن يكبح جماح عجلة التحقيقات التي تسير بقوة نحو إدانة فريقه في السماح للتدخل الروسي في الانتخابات التي أوصلته إلى البيت الأبيض.

الضربة العسكرية التي شاركت بها أميركا وبريطانيا وفرنسا، وحظيت بمباركة دولية، لم تُصمم لإسقاط نظام الأسد، كما أعلنت الدول الثلاث، ولم تكن معنية بدكّ القواعد الجوية والمطارات والمواقع العسكرية للنظام التي غالباً ما تستخدم في شن هجمات على المدن والمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، بل ركزت على محاولة إضعاف البنية التحتية لمنظومة الأسلحة الكيميائية التي في حوزة النظام، بمعنى أن المجتمع الدولي لا يعتقد أن الوقت قد حان لإسقاط نظام طاغية الشام.

يقول ترامب، في تغريدة له على “تويتر” فجر السبت، عقب الضربة “لقد أنجزت المهمة”، من دون أن يوضح طبيعة هذه المهمة. هل يعتقد أن تدمير مخزون الأسد من السلاح الكيميائي سيجعله عاجزاً عن الحصول على كمياتٍ جديدة من هذا السلاح في ظل رعاية روسيا وإيران؟ هل يعتقد ترامب أن الأسد، حتى وإن عجز عن الحصول على كيميائي لضرب شعبه، لن يلجأ إلى قصف هذا الشعب بالسلاح التقليدي؟ وقد أوقعت ضربة واحدة ببراميل متفجرة على مدينة سورية ضحايا أكثر بكثير ممن سقطوا جرّاء استخدام الكيميائي، فلماذا هذا الاستخدام محرّم وغيره من السلاح لا؟

ليست هذه السطور بصدد الإجابة على هذه التساؤلات التي باتت تطرح بقوة، ولكن أي ضربة لنظام الأسد لا تنهيه، ولا تخرجه من لعبة الحكم، ستقوّيه، وتقوي داعمَيه، روسيا وإيران، بل إن ضرباتٍ كالتي حصلت السبت الماضي أثبتت من جديد أن المجتمع الدولي ما زال يرى في الأسد رئيساً لسورية، وأن الأسد إذا ما تخلى عن سلاحه الكيميائي، فإن المجتمع الدولي لا يمانع من إعادة تلميع وجه هذا النظام القبيح.

قد تؤشر الضربة العسكرية الثلاثية على مواقع النظام السوري إلى رغبة أميركية وغربية بإعادة التوازن للصراع في سورية من خلال التصدي للنفوذين، الروسي والإيراني. لكن حتى هذه الرسالة التي قرأها بعضهم لا تبدو دقيقة، خصوصاً وأن الضربات لم تستهدف مواقع تابعة لإيران في دمشق ومحيطها، كما أنها تجنّبت الوجود الروسي في سورية، ناهيك عن أن التواصل الأميركي الروسي لم ينقطع قبل الضربة وفي أثنائها، وأفيد بأن واشنطن أخفت قائمة الأهداف عن موسكو، وليس معلوماً مدى دقة هذا الكلام.

لقد ربط ترامب أي ضربة عسكرية لنظام الأسد باستخدام النظام السلاح الكيميائي، وهي رسالة بالغة الخطورة، يبدو أن الأسد استلمها منذ قصف أميركا مطار الشعيرات قبل عام، عقب قصف النظام بلدة خان شيخون بالكيميائي. وبالتالي، قد نشهد حرباً ضروساً يستعد لها النظام ومليشياته على مدينة إدلب، وهي التي توعد بها مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، في زيارته سورية التي سبقت الضربة الغربية.

تنذر هذه الرسالة الخطيرة التي تلقاها نظام الأسد وحلفاؤه بموقعةٍ دمويةٍ جديدةٍ بانتظار الشعب السوري في إدلب، وربما في القلمون قبل ذلك. ووقتها، لا يبدو أن ترامب وحلفاءه الغربيين سيكونون معنيين بالتصدّي لدموية الأسد، إذا أحجم عن استخدام الكيميائي ضد إدلب أو غيرها.

بالنسبة لأميركا، ما يعنيها من سورية تحديداً، بالإضافة إلى مناطق وجودها الغنية بالنفط، هو الحد من النفوذ الإيراني في سورية، ويبدو أن إدارة ترامب التي ترفض التورّط في نزاعات الشرق الأوسط ستترك هذه المهمة لسلاح الجو الإسرائيلي الذي باغت دمشق بضربة على مطار التيفور، يبدو أنها أصابت قوات إيرانية هناك.

الضربات العسكرية على نظام الأسد، والتي لا تضع تنحية الأسد وإبعاده عن السلطة هدفاً لها، ستعمل على تقويته، فالمجتمع الدولي الأعور لم يعد يمانع كثيراً ببقاء هذا السفاح على رأس النظام، ولعل ما قاله ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خير دليل على ذلك، فهو لا يرى في بقاء الأسد مشكلة، فالمهم أن لا يكون دمية بيد إيران.

العربي الجديد

 

 

 

 

هنا القاهرة.. هنا دمشق”/ شادي لويس

ما إن بدأت الضربة الأميركية الاستعراضية في سوريا، فجر السبت، حتى انطلقت عبر شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، حملة عفوية، للنبش في المعجم السياسي لخمسينات القرن الماضي، وإعادة تدوير تراث من المقولات السياسية الأرشيفية. “هنا القاهرة… هنا دمشق”، لم تكن الشعار الوحيد، بل كان “العدوان الثلاثي” على سوريا مجازاً آخر لربط العاصمتين، من ناحية، وإسقاطاً للحد الفاصل بين الماضي والحاضر أيضاً. وبين بضع أبيات من الشعر عن دمشق، نسخها المعلّقون بعضهم من بعض، تذكر الكثيرون في مصر أن بغداد سقطت، وأن بيروت سقطت من قبلها، ذات مرة، وأن القدس ربما ذهبت بلا رجعة.

لا حاجة إلى تأنيب هؤلاء على غفلتهم الطويلة عن الحرب المستمرة في سوريا لأكثر من سبع سنوات، ولا عن جرائم نظامها الممتدة أبعد من ذلك بعقود طويلة. فهم صادقون مع أنفسهم، في أن هبّتهم للتضامن، متعلقة بدمشق، وليس بالدمشقيين، وبسوريا لا بالسوريين. وهم في هذا لا يتضامنون مع النظام السياسي، ولا يأخذون موقفاً من معارضيه، وكذا لا يتورطون في نقاش حول الكيماوي وضحاياه. فدمشق هذه، مثل القاهرة تماماً بالنسبة إليهم، كناية جمالية عن شيء ما، ترميز شعري غامض، ينتمي لعالم الأخيلة والقيم المجردة، لا البشر من دم ولحم.

فالسوريون، الذين يسقطون يومياً في هجمات من كل شكل ولون، ليس ما يهتم به رافعو شعار “هنا القاهرة” في هذا السياق. فمعروف أن الفرد يتضاءل جداً أمام الكل، وأن الجموع تهون حيواتها في سبيل المجاز، وأن البلاغة أطول عمراً وأكثر خلوداً من البشر، بل وحتى من الدول.

ومن الظلم الادعاء بأن هؤلاء جميعاً، من مؤيدي النظام المصري، وأن الأمر كله مجرد إسقاط لنظريات المؤامرة الإعلامية في مصر على سوريا، أو تصفية حساب مع “الربيع العربي” أصل كل الشرور. فحتى أنصار النظام في مصر، لم يتمكنوا من أن اتخاذ موقف حيال كل تلك البساطة والمباشرة وراحة الضمير، إذ واجهتهم معضلة واحدة على الأقل، إن لم يكن أكثر. فإن كان النظام السوري في حربه مع “الإرهابيين”، هو المقابل للنظام المصري في معركته مع الإرهاب، فإن ترامب وبشكل غامض، هو حليف للسيسي، على عكسه سابقه أوباما، وكذا في مقابل غريمته كلينتون وفوضاها الخلاقة. فمع من ينبغي الوقوف هذه المرة؟

إلا إنه من الظلم اتهام أصحاب حملة التضامن مع “دمشق” المجازية، بالبلادة، أمام أسئلة أكثر تعقيداً في شأن الحرب في سوريا. فموقف هؤلاء، في معظمهم، ليس سوى انعكاس اختزالي لما وصل إليه الأمر في كل من دمشق والقاهرة. الحرب في سوريا، والتي تبدو وقد حسمت لصالح النظام، أو على الأقل لصالح اقتسامه مناطق نفوذ بينه وبين قوى إقليمية ودولية، لم تعد تبيح الكثير من المواقف الأخلاقية الممكنة، أو حتى اتخاذ مواقف لها صيغة الحد الأدنى من البراغماتية. أما في مصر، فالأمر أفضل حالاً بالطبع. فخراب عميم حل بسوريا، تم تفاديه مصرياً، أو على الأقل تأجيله إلى حين. لكن التسارع في تدمير كل ما هو سياسي وأهلي وجماعي وقيمي، في مصر، خلال السنوات القليلة الماضية، كان قد جرّد المصريين من مفردات أي قاموس أخلاقي، وحرم معظمهم من مخطط للواقع أو طموح لمستقبل لبلادهم، صالح للقياس عليه أو المقارنة به.

لم يجد هؤلاء، أمام عجزهم تجاه هذا الخراب القيمي، سوى الماضي، وبضعاً من مقولاته الجاهزة التي تتيح موقفاً أخلاقياً مريحاً، وبلا تبعات. دمشق المجاز، أكثر قابلية للتضامن، وأخف وطأة على الضمير بالطبع، من دمشق التي يقتل بعضها بعضاً. والقاهرة الرمز أكثر بهاء، ولها حق المباهاة بمقاومة الإمبريالية بالتأكيد، مقارنة بقاهرة الواقع المهزومة أمام نفسها والمنسحقة تجاه أسيادها الإقليميين والدوليين. العودة إلى تقسيم خطوط المعركة على أنها بيننا وبين العدو الأميركي، وأعوانه من قوى الاستعمار القديم، بريطانيا وفرنسا، خيار سهل، وأكثر مباشرة من سواه، ولا يتطلب سوى القليل من القدرة على الحنين، وتذكُّر منهج المدرسة الإعدادية.

“هنا القاهرة… هنا دمشق”. العبارة ليست مجرد مهرب من العجز أمام الواقع، أو محض بلادة في وجه تحدٍّ أخلاقي خطر. بل هي أيضاً الوجه الآخر لمقولة “مش أحسن من سوريا والعراق؟”، في ترسيخها للوضع القائم، بالهرب منه إلى الماضي.

المدن

 

 

 

حدود الضربة الغربية في سوريا/ د. أحمد يوسف أحمد

تثير العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا في سوريا قبل أيام، واستهدفت بعض المواقع التابعة لنظام بشار الأسد، أسئلة كثيرة تتعلق بأهدافها، والنتائج التي ترتبت أو يمكن أن تترتب عليها.

الهدف العام لهذه العملية كان واضحاً، وهو ضرب القدرات الكيماوية العسكرية للنظام السوري، لكنه لم يكن محدداً بدقة، إذ تراوح التعبير عنه في تصريحات أميركية وبريطانية وفرنسية بين إضعاف هذه القدرات، وتقويضها، كما أن ما فُهم من تغريدات الرئيس دونالد ترامب، ومن بعض ما ذكرت وسائل إعلام أنه قاله في اجتماعات مع مسؤولين أميركيين، كان موحياً بعملية أكبر وأكثر تأثيراً في مسار الصراع وميزان القوى الإقليمي والدولي في سوريا.

غير أن المواقع التي ضُربت في النهاية تدل على أن العملية التزمت منهج الحد الأدنى، فبدت رمزية لا تختلف إلا كمياً عن تلك التي استهدفت مطار الشعيرات العسكري في 7 أبريل 2017، رداً على الهجوم الكيماوي في منطقة خان شيخون. الاختلاف الأساسي بين العمليتين يكمن في أن الأخيرة ثلاثية الأطراف بخلاف سابقتها، وأن تسعة مواقع استُهدفت خلالها وليس موقعاً واحداً، وإن كان عدد الصواريخ المستخدمة لم يزد كثيراً؛ إذ وصل إلى 105 صواريخ وفق بيان البنتاجون مقابل 59 في عملية الشعيرات.

لذا بدت العملية العسكرية الثلاثية أصغر من أن تحقق نتائج مهمة، مثلما كان الأمر بالنسبة لعملية الشعيرات التي لم تترك أثراً في معادلات الحرب في سوريا، ولم تغير شيئاً في قواعد اللعبة التي تمسك روسيا بأهم مفاتيحها، أو في توجهات النظام السوري وحلفائه بشأن مواصلة السعي إلى حسم الصراع عسكرياً.

غير أن السؤال الذي لم يُطرح في هذا السياق، رغم أهميته الفائقة، يتعلق بطبيعة العملية العسكرية الأخيرة، وهو: هل كان ممكناً أو وارداً أن تحقق هذه العملية نتيجة مغايرة إذا استهدفت المزيد من المواقع، واستمرت لفترة أطول، أو حتى إذا شملت مواقع تتجاوز تلك المتصلة بالقدرات الكيماوية العسكرية؟ ومغزى هذا السؤال أننا إزاء عملية عسكرية مُعلنة مسبقاً ينتفي فيها عنصر المفاجأة، الأمر الذي أتاح الاستعداد لها، وإخلاء مواقع كان ضربها متوقعاً، وإعادة نشر أسلحة ومعدات كان سهلاً توقع استهدافها. كما أن الفرق الزمني بين تهديد الرئيس ترامب بشن عملية عسكرية وتنفيذها، والذي وصل إلى ثلاثة أيام ونيف، أعطى فرصة أكثر من كافية لدعم منظومة الدفاع بمساعدة روسية كثيفة في المناطق المتوقع استهداف مواقع فيها، سعياً لتقليل الخسائر.

وذلك ما حدث بالفعل، الأمر الذي جعل الخسائر في النهاية طفيفة إلى حد يُثير الشك حتى في تحقيق الحد الأدنى من أهداف العملية، بما في ذلك إضعاف القدرات الكيماوية العسكرية لنظام الأسد، رغم أن الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أعلن أنها تقلل إمكانات استخدام هذه القدرات في الحرب السورية.

لم يخسر نظام الأسد شيئاً يتعذر تعويضه، بل ربما كسب سياسياً ومعنوياً. كما لم تخسر إيران، إذ لم تستهدف العملية مواقع تابعة لها أو لحلفائها الموجودين في سوريا. أما روسيا، فثمة جدل حول ما إذا كانت قد خسرت بالنظر لتصريحات صدرت من بعض مسؤوليها حول الرد على أي عملية عسكرية أميركية في سوريا. فثمة من يرى أن كبرياء روسيا جُرح، ومن يذهب إلى أبعد من ذلك، ويعتقد أن هيمنتها على سوريا كُسرت ولو جزئياً، وأن هذه هي الرسالة المقصودة من مشاركة فرنسا وبريطانيا في الهجوم، رغم أن أميركا تستطيع شن أكبر منه منفردة.

لكن هناك من يرى، بالمقابل، أن ضآلة نتائج العملية تجعل الخسارة الأميركية الفرنسية البريطانية هي الأكبر، لأنها تكشف ضعف قدرة الدول الثلاث على التأثير في مسار الصراع على سوريا.

وأياً يكون الأمر، يظل الشعب السوري هو الخاسر الأكبر بعد العملية العسكرية، مثلما كان الحال قبلها، في غياب أي عمل جاد لإنهاء الحرب التي دمرت مقدراته، ومادام وطنه ساحة لصراعات دولية وأطماع إقليمية يقف العرب متفرجين عليها وغير قادرين على التأثير فيها. ومع ذلك، ربما يكون البيان الختامي الصادر عن قمة الظهران الأحد الماضي بداية لمراجعة جادة للمواقف العربية، على نحو قد يفتح الباب أمام توافق على تحرك مشترك لإنقاذ سوريا وشعبها.

الاتحاد

 

 

 

تصعيد أميركي خارج السياق السوري/ أحمد جابر

سورية واستخدام الكيماوي فيها وسلوك نظامها، كلها ذرائع عابرة تستخدمها السياسات الأميركية الثابتة المتمحورة حول قراءة المصالح الداخلية والخارجية، والمتحركة تقدماً أو تراجعاً، تصعيداً أو تهدئة، وفق بارومتر «المنفعة»، هذه التي يدلي بها رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب بلغة عارية هي أقرب إلى اللغة التجارية الجديرة بتاجر شاطر، والبعيدة عن لغة دولة تدَّعي لنفسها قيادة العالم، ما كان منه حرّاً، وما صار ملحقاً بتصرفاتها التي تحمل الكثير من سمات الاستعمار.

ولنعد إلى السياق، فماذا اكتشف جديداً دونالد ترامب حتى قامت قيامة إدارته؟ السلاح الكيماوي القاتل في سورية ليس جديداً، والقتل بأسلحة الفتك التي تعادل الكيماوي ليس جديداً، والسماح بدخول القوات التركية والإيرانية ليس جديداً، والتواطؤ الضمني مع الدور الروسي ليس جديداً، إذن ما الجديد في السياسة الأميركية طالما أنّ كل ما تُبنى عليه قديماً بقديم؟ البحث يجب أن يتخذ منحىً آخر، ولنقل أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي في قراءة لحظة التهديد والوعيد الأميركي الذي يبدو أن من أهم أسبابه، إعادة تذكير بما نسي، وبقوة النار الخطابية، أو قوة النار المادية، أن خلاصات الوضع السوري لا تتم صياغتها إلا بعد مرورها على «المدقق» الأميركي، فعند ذلك المدقق المصحح، تكتمل الصياغة، وبعد توقيعه ترى كل الخلاصات النهائية النور.

في هذا الاتجاه، يصبح الوعيد الأميركي، المنفذ أو المرجأ، إضافة تدميرية إلى البنيان السوري، وخسارة زائدة على خسارات الشعب في الداخل، وتفكيك كارثي آخر لمقومات «البلد» المنكوب، بحيث تتأجل قيامته من بين الرماد، هذا إذا لم تكن قيامة الكيان السوري ككيان قد صارت غير ممكنة، حتى نقول لا باستحالة هذه القيامة. وما هو معروف ومعلوم جيداً، أن سلاح الجو لا يحسم معركة على الأرض، وأن مفعول الصواريخ بعيدة المدى يتلاشى تأثيره ما إن تلامس رؤوس الصواريخ التراب، وأن ما لا يتم استثماره وزناً في الداخل، يصير قصفاً عشوائياً انتقامياً يزيد في عمر بقاء النظام السوري السياسي، ولا يصيب من ثباته في مقارّ الحكم مقتلاً. عليه، ما تُراها الولايات المتحدة الأميركية فاعلة بقصفها؟ وإلى أين تريد الوصول بُعيدَ هذا القصف؟.

إذا كان المقصود رسالة ما، فإن التهديد بالقوة يكون أفضل من استخدامها، على ما يقول بعض منظري الاستراتيجية العسكرية، وإذا كان المقصود رسم حدود للمتدخلين، فلدى السياسة الأميركية قنواتها التي تستطيع من خلالها إبلاغ التركي والإيراني والروسي بمرادها، وإذا كان المقصود إضعاف النظام من أجل التعجيل بالخلاص من رأس السلطة، فإن السؤال: ما هي خطة الاستراتيجي الأميركي في هذا المجال، وما هي الخطوات المتدرجة على هذا الطريق؟

واستطراداً، إذا كان النظام مرموزاً إليه برئيسه، قد بات من الماضي، فما هو المستقبل الذي تريده السياسة الأميركية، من أجل ذهاب الرئيس وعدم ذهاب سورية في الوقت ذاته؟ ما يُطرح هنا له مشروعيته، فما حصل في العراق سابقاً شاهد على «الغباء» الذي افترض أنه بتسريح الجيش العراقي يعاد بناء البلد، ديموقراطياً!، فكان أن أفلت الكيان العراقي من انتظامه، وكان ما كان مما هو متداول على الملأ هنا، وفي الديار البعيدة.

أميركا، قوة العالم الأولى، متهمة عربياً، فأياديها «غير البيضاء» قتلت في الصومال، وفي ليبيا، وهي أذِنت ببدء خراب اليمن وتهديد استقرار الخليج العربي، وسمحت بالتنكيل المتصاعد بالفلسطينيين، ولوَّحت وتلوِّح بالتهديد لمجموع الأنظمة العربية، وهي جنت وتجني من سياسة «قاطع الطريق» التي تمارسها أرباحاً فاحشة.

ستظل الخلاصة الأولى أن الفعل الأميركي لا يشكل نجدة للشعب السوري، بل هو مساهمة تمعن في مأساته، أما السياسة الحقيقية الجادة، أي تلك التي لن تقدم عليها الولايات المتحدة الأميركية، فتتلخص بجملة واحدة: الدعوة إلى وقف القتال في سورية، واتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بتنفيذ هذه الدعوة على الأرض… ولدى الولايات المتحدة ما تقوله وما تفعله في هذا المجال، مع كافة الوكلاء المحليين والإقليميين والدوليين، أولئك الذين لا يسعون إلى مناصبة «زعيمتهم» العداء.

الحياة

 

 

 

تغيير رأس النظام السوري أو المزيد من الاستنزاف الروسي/ علي الأمين

الضربة الثلاثية ليست أكثر من رسالة وجهتها الدول الكبرى الثلاث إلى النظام السوري بسبب استخدام الأسلحة الكيميائية في مدينة دوما في ضاحية دمشق، استهداف مراكز عسكرية وبحثية عدة طالتها الصواريخ الأميركية والفرنسية والبريطانية في الأراضي السورية تزعم الدول الثلاث أنّها مراكز لها علاقة بتصنيع السلاح الكيمائي ونقله واستخدامه. لم تسقط أيّ ضحية مدنية أو عسكرية سورية، ذلك ما يؤكد أنّ الضربات كانت متوقعة من قبل النظام وحلفائه في الزمان والمكان.

كما يرجّح أنّ الدول الثلاث لا تريد أن توقع ضحايا ولا أن تحدث دمارا في مواقع حيوية للنظام وحلفائه، لا سيما بعد أن شكّل الفيتو الروسي في مجلس الأمن ضد أيّ محاولة لإصدار قرار، مصدر إحراج دولي وتحدّ لم يكن من الممكن السكوت أو الاستسلام له، خاصة وأنّ استخدام هذا السلاح المحرّم دوليا، صار ينتشر في ظل ما يصفه أكثر من طرف بعدم قدرة مجلس الأمن الدولي على اتخاذ قرارات، ومن ذلك أن اعتبرت لندن أنّ السكوت على ما جرى في سوريا على هذا الصعيد، شجع على استخدام السلاح الكيميائي داخل بريطانيا من قبل المخابرات الروسية ضد أحد عملائها السابقين على حدّ زعم حكومة صاحبة الجلالة.

رغم هذا التصوّر الذي جرى خلاله اتخاذ قرار من ثلاث دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومهما قيل بشأن الحسابات الدولية المتصلة بضرورة القيام بخطوة تمنع النظام السوري من استخدام السلاح المحرّم دولياً ضد شعبه، فإن الضربة الثلاثية تنطوي على أهداف أخرى. أهداف لا تصل إلى حد الحديث عن خطة استراتيجية متكاملة لسوريا التي آلت إلى النفوذ الروسي الذي يظلل نفوذا إيرانيا وتركيا، ولا هي ضربة محدودة وانتهت. إنّها رسالة كما وصفتها العواصم الدولية الثلاث، ولأنها رسالة فهي تنطوي على انتظار جواب ليس من النظام السوري الذي تعلم هذه الدول أنّه فقد منذ سنوات أي مساحة من استقلالية القرار، بل الرسالة هي إلى روسيا بالدرجة الأولى وإيران بدرجة ثانية.

الرئيس السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، اعتبر أنّ الضربة الثلاثية على سوريا، ليست إلا تمرينا قبل الضربة الفعلية القادمة على هذا البلد، ولعلّ آخر رؤساء الإمبراطورية السوفييتية، وآخر زعماء المنظومة الاشتراكية مع انتهاء الحرب الباردة، يدرك أنّ تحرك السفن الأميركية نحو شرق المتوسط بشكل غير مسبوق منذ حرب العراق في العام 2003 لا يمكن إلا أن يكون تمهيدا لعمل عسكري كبير.

في المقابل أكدت مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، نيكي هيلي، أنّ الجنود الأميركيين في سوريا لن يغادروا سوريا، وهو موقف جاء بعد الضربة الثلاثية في خطوة تعكس تطوّرا استراتيجيا أميركيا، بعدما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن قبل أسبوعين أنه سيسحب جنوده من سوريا، ويأتي هذا الموقف في ظل غياب أي رد عسكري على الضربة الثلاثية في سوريا، حيث اكتفى النظام السوري كعادته حيال أي ضربات تأتيه من خارج الحدود، بالاحتفال بالنصر بإفشاله الضربة الثلاثية، وهو أسلوب معتاد منذ سنوات طويلة سواء كان الأمر متعلقا بضربات إسرائيلية أو أميركية، ورغم عدم حصول أي رد فإنّ المندوبة الأميركية في مجلس الأمن “بشّرت” الحكومة الروسية بحزمة عقوبات جديدة ستطال شركات روسية تعتقد واشنطن أنّها على صلة بتزويد سوريا بتقنيات أو مواد لها علاقة بالسلاح الكيميائي.

الخطة الأميركية غير واضحة المعالم حتى اليوم، فهي تستند في البداية إلى معالم تحالف دولي تشكل بريطانيا وفرنسا ركنيْه الأساسيين، ويحظى بغطاء عربي تشكل المملكة العربية السعودية أساسه، فيما أعلنت إسرائيل أنّها قدمت معلومات استخبارية عن سوريا إلى منفذي الضربة الثلاثية، وهو مؤشر آخر على ملامح التعاون بين هذه الأطراف في الشأن الروسي.

ويشكل عنوان النفوذ الإيراني الهدف الأول لهذه الدول، حيث بدأ بوضوح تزايد الحديث عن إخراج إيران وميليشياتها من سوريا كشرط لا بد منه لحل الأزمة في هذا البلد، وهذا الموقف الذي ستبرز ملامحه أكثر فأكثر في المرحلة المقبلة، ويعكس في جوهره انقلابا في الاستراتيجية الأميركية تجاه الأزمة السورية، والتي أسس لها الرئيس الأميركي السـابق باراك أوباما، من خلال فتح الطريق أمام التدخل الروسي العسكري في هذا البلد، في خطوة كانت الغاية منها التزام روسيا بتوفير شروط الحل في سوريا مع مراعاة مصالح الدول الكبرى في هذا البلد، وضمن حل ينسجم مع قرارات الأمم المتحدة ولا سيما مؤتمر جنيف لحل الأزمة السورية.

الجديد أنّ عامل الثقة في الدور الروسي اهتز من قبل الإدارة الأميركية والحكومتين الفـرنسية والبريطانية، واقتضى هذا الاهتزاز بداية تحوّل في الموقف من الأزمة السورية، يقوم على أولوية محاصرة النفوذ الإيراني، ما يجعل روسيا أمـام خيار الذهاب في حماية الدور الإيراني في سوريا، أو القيام بخطوات تظهر أن موسكو مستعدة للعب دور جدّي في تحجيم هذا الدور أو إلغائه، وسياسة العصا والجزرة هي ما يمكن أن نلمسه بوضوح في السياسة الأميركية تجاه روسيا، وهي سياسة ستبدو فيها الإدارة الأميركية وحلفائها أكثر تشددا تجاه إيران، وفي نفس الـوقت مراقبة ردود الفعل الروسية على هذه الخطوات، والامتحان الأهم هو الخطوة المرتقبة أميركيا بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران الشهر المقبل.

القوة الأميركية العسكرية في المنطقة تمهّد لمواجهة مع إيران ليست واضحة معالمها الكاملة بعد، لكن مع نهاية الحرب على تنظيم داعش في العراق وسوريا ثمة مواجهة حامية؛ إيران في صلبها والجغرافيا العربية مسرحها والاقتصاد والعقوبات ليسا السلاح الوحيد الذي ستستخدمه واشنطن في مواجهة الدور الإيراني في المنطقة، بل حتى الصواريخ الأميركية باتت جاهزة وقابلة للانطلاق بعدما تراجع الاستعراض الإيراني الصاروخي الذي طالما كان مصدر اعتداد إيران الوحيد عسكريا.

باختصار روسيا أمام خيارات صعبة هذه المرة؛ إمّا استمرار الاستنزاف الروسي وتصعيده في سوريا مرفقا بعقوبات أميركية جديدة، وإما ابتداع سياسة جديدة تحرج الغرب والعرب وهي تغيير رأس النظام السوري.

كاتب لبناني

العرب

 

 

الأهداف الأمريكية من استغلال مذبحة دوما الكيماوية/ محمد زاهد جول

ينبغي عدم النظر إلى التهديدات الأمريكية الجديدة بمعاقبة قوات بشار الأسد لاستخدام الأسلحة الكيماوية في دوما وقتله أكثر من سبعين بريئاً، وإصابة المئات قبل أسبوع على أنها تهديدات من أجل الدفاع عن الشعب السوري أولاً، ولا على أنها مساعدة عسكرية للثورة السورية ثانياً، فهذه ليست أولويات أمريكا، لا في الإدارة الأمريكية ولا في أولويات وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أيضاً، فكل الأهداف الأمريكية في سوريا هي من أجل امريكا ورؤيتها الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط والدول العربية، بما لها من موقع جغرافي اقتصادي وسياسي وأمني، وبالأخص على الدولة الاسرائيلية.

وفي الوقت نفسه لا يمكن تجاهل حدة التصريحات الأمريكية الأخيرة، وكذلك الردود الروسية عليها، التي بدت وكأنها فلتة صباحية من الرئيس الأمريكي على التويتر، فاللهجة الرئاسية لترامب لم تكن معتادة في أمريكا ولا في العالم، وهي أشبه بإعلان شن حرب على روسيا، فهو يقول منددا بالسياسة الروسية: «ينبغي ألا تكون روسيا شريكة لحيوان يقتل شعبه بالغاز ويستمتع بذلك». وقوله:» استعدي يا روسيا الصواريخ مقبلة»، وعندما رد رئيس لجنة الدفاع الروسية في الكرملين على هذه التهديدات بقوله: «إن روسيا سوف ترد على هذه الصواريخ ولديها القدرة على الرد»، غرّد ترامب قائلاً:» لتنتظر روسيا الصواريخ الأمريكية الجميلة والجديدة والذكية»، وجاء الرد الروسي: «روسيا تأمل ألا تضطر لاستعمال رد تستخدم فيه قدراتها العسكرية». وطالب تصريح روسي آخر الرئيس الأمريكي ترامب «بتوجيه هذه الصواريخ الذكية للإرهابيين وليس على مواقع الحكومة الشرعية»، كما شككت الخارجية الروسية بأهداف الضربة الأمريكية وقالت: «قد يكون هدفها إضاعة أدلة الهجوم الكيماوي  المزعومة».

لقد وجه الرئيس الأمريكي ترامب هذه التهديدات يوم الأربعاء 11 أبريل 2018، ولكنه في اليوم التالي كان أخف حدة وأقل تهديدا، وكذلك هدأت الردود الروسية، وهذا أمر لافت للنظر، وكأن الإدارة الأمريكية، والبنتاغون قد أدركا أن رئيسهما ترامب قد ذهب بالتغريدات والتهديدات اكثر مما ينبغي، بدليل رفض المتحدث باسم البنتاغون التعليق على هذه التهديدات، وقال لا علم لهم بها، وطالب الصحافيين بالتوجه بالأسئلة حول هذه التهديدات العسكرية إلى البيت الأبيض وليس لوزارة الدفاع، فهذا دليل على أن ترامب وضع البنتاغون في حرج بتصريحاته وتهدياته غير الدبلوماسية وغير السياسية ولا العسكرية.

ومن التصريحات المهمة لتحليل هذه التهديدات معرفة الموقف الإيراني، فقد جاء فيه ما يهدأ من روع أتباعه وشعبه، فهو يقول:»إن أي ضربة أمريكية محتملة على سوريا لن تغير في معادلات الميدان عسكرياً وسياسياً»، فهذا الموقف يشير إلى تلقي إيران رسائل من البنتاغون بأن الضربة المحتملة لن تكون مؤذية للوجود الإيراني العسكري ولا السياسي في سوريا، أي أن الضربة الأمريكية ممكنة وقد تقع، بل الأرجح ان تقع، ولكنها ستكون ضربة وهمية وغير جدية، وقد تكون على المواقع العسكرية التي أخلاها جيش الأسد من طائرات حربية ومنظومات دفاع جوي وغيرها، والتي تم نقلها إلى القواعد الروسية الآمنة في سوريا، فالتفاهمات الإيرانية مع البنتاغون تضبط وتحمي التواجد العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق والخليج وسوريا ولبنان أيضاً، والخلاف الإيراني الأمريكي هو على درجة النفوذ الإيراني ومستواه ومواقعه الجغرافية فقط، بما فيها في سوريا.

لذا فإن الاحتمال الأرجح وقوع الضربة على مواقع قوات الأسد، وليس على القوات نفسها، بدون أن تكون قريبة بالضرورة، والهدف الأول هو رفع الحرج عن الرئيس الأمريكي ترامب الذي لطالما انتقد سلفه باراك أوباما، الذي لم ينفذ تهديداته للأسد إذا تجاوز الخطوط الحمر عند استعمال السلاح الكيماوي، فترامب في حرج ألا ينفذ تهديداته، ولكن تنفيذه لها لن يتم بدون تفاهم أمريكي مع روسيا أولاً، وإيران ثانياً، ولذلك ستكون روسيا جزءاً من المخطط كما إيران أيضاً، ودورهما تمرير ضربة عسكرية أمريكية صاروخية قد تدخل في نطاق المناورات العسكرية الأمريكية الروسية المشتركة بينهما، بدون أن تؤثر في معادلة التوازن العسكري والسياسي الذي تقوده روسيا وايران في سوريا، فإذا اضطرت روسيا للرد على هذه الصواريخ الأمريكية بمحاولة إسقاطها، فهذا سيكون ضمن التمرين المشترك بينهما، وستكون فرصة لبوتين والقوات الروسية اختبار قدرتهم العسكرية على إسقاط الصواريخ الأمريكية، وليس إيذاء الجيش الأمريكي.

هذا الخيار هو الأرجح في تنفيذ التهديدات، والخيار الآخر المستبعد هو أن تكون أمريكا جادة بالاصطدام العسكري مع روسيا في سوريا، فهذا أمر مستبعد لأنه لا ضمانات من توسيع هذه الصدامات خارج سوريا، وهو ما لا يحتمله البلدان،  وروسيا غير مستعدة ولا قادرة على ذلك أيضاً، وهذا بحد ذاته سوف يحقق أهداف أمريكا في جعل القوات الروسية في سوريا تعمل ضمن الرؤية الأمريكية، وبدون الاصطدام معها، ولا الاضطرار إلى ذلك، فقد يستخدم ترامب التهديدات العسكرية ضد روسيا لتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية، دون حرب معها، ومنها مطالبة روسيا بوقف سباق التسلح النووي، والتنافس العسكري، وهذا يعني أن عقلية ترامب تستخف بالقدرات الروسية، وتسعى لإخضاعها العسكري أمام القوة الأمريكية، وهذا الخيار يواجه صعوبات كبيرة مع الرئيس الروسي بوتين، الذي يسعى إلى تقوية الترسانة العسكرية الروسية كثيرا في العقدين الأخيرين، فبوتين يسعى إلى إعادة روسيا إلى مرتبة الدولة الكبرى المنافسة لأمريكا سياسيا وعسكريا، ولكنه يعاني من المشكلة السوفيتية القديمة وهي المشلكة الاقتصادية، كما لا يملك بوتين أن يجد أسواقاً لأسلحته، الأقل جودة من الأسلحة الأمريكية، تدر عليه مئات المليارات من الدولارات، كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها وأصدقائها.

وفي الوقت نفسه ينبغي عدم نسيان الدوافع الأمريكية الداخلية لهذه التهديدات، وهي الاتهامات الداخلية القضائية التي تلاحق ترامب أمام المحاكم الأمريكية، أي أن الرئيس الأمريكي يحاول من خلال افتعال صراع وهمي مع روسيا أن يؤثر على الرأي العام الأمريكي، بتحويل اهتمام الشعب الأمريكي نحو الحرب مع روسيا، وليس البحث عن تآمرها على الانتخابات الأمريكية الأخيرة، التي نجح فيها دونالد ترامب نفسه، وهي القضايا الآخذة بالازدياد وتهديد مكانة ترامب في الرئاسة، فالتغريدة الأخيرة الصادرة عن ترامب يوم التهديدات الغريبة ضد روسيا كانت قول ترامب:» إن معظم مشاكلنا مع روسيا سببها تحقيقات مولر الفاسدة والكاذبة»، فهذا يرجح أن ترامب يعاني من اوضاعه الداخلية ما يؤثر على سياسته الخارجية أيضاً. وفي هذه الحالة أيضاً فإن أمريكا ستكون قد اتفقت مع روسيا قبل الضربة الأمريكية على سوريا إن تمت، وكأنهما يقومان بمناورات عسكرية مشتركة، بدون إيقاع أضرار بين الجيشين الأمريكي ولا الروسي، وفي هذه الحالة فإن الضربات ستكون تحت السيطرة الأمريكية والروسية، وسوف تكون الضربة لتدمير جزء مهم من قوة الجيش الذي يتحكم به بشار الأسد، وهذا يخدم المصالح الروسية والأمريكية والاسرائيلية، حيث سيجعل بشار الأسد عبداً لبوتين وليس عبداً لإيران أولاً، فهو قد رهن طائراته الحربية في القواعد الروسية، وسوف يبقي مستقبل سوريا السياسي والعسكري مرهونا لسنوات وعقود مقبلة تحت الهيمنة الدولية الروسية والأمريكية والاسرائيلية المتوافقة، وبالتالي حرمان الشعب السوري من أن يصل إلى حل سياسي قريب، أو أن يتمكن من التحرر من الهيمنة الدولية، فقد دخلت سوريا منطقة الصراع الدولي الكامل بعد هذه التهديدات.

كاتب تركي

القدس العربي

 

 

 

مخاوف من طمس النظام والروس معالم مجزرة الكيميائي بدوما/ عادل حمود

من المتوقع أن تدخل بعثة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى مدينة دوما، اليوم الاثنين، لمعاينة المكان الذي قُتل فيه عشرات المدنيين، إثر هجومٍ بغازات سامة، مساء السابع من إبريل/نيسان الحالي، وسط مخاوف من أن تكون معالم الواقعة قد طُمست، بعدما أعلن النظام السوري سيطرته بالكامل على الغوطة الشرقية، ودخلت الشرطة العسكرية الروسية إلى دوما، التي باتت خالية تماماً من أي تواجدٍ للمعارضة السورية.

وكانت البعثة الدولية قد وصلت أمس الأول السبت إلى دمشق، حيث كان من المقرر أن تباشر عملها في مدينة دوما، لكن حكومة النظام السوري قالت إن ترتيبات أمنية أجلت دخول البعثة.

وقد التقى نائب وزير الخارجية في حكومة النظام فيصل المقداد، بأعضاء اللجنة أمس، الأحد، في فندق “الشيراتون” بدمشق، قبل أن يصرح معاونه أيمن سوسان لوكالة “فرانس برس”، بأن “لجنة تقصي الحقائق التي وصلت السبت إلى دمشق ستباشر عملها في مدينة دوما وستدعمها الدولة السورية، لتقوم بعملها بشكل مهني وموضوعي وحيادي ومن دون أي ضغط”، مستبقاً نتائج تحقيق البعثة بالقول إن “ما سيصدر عنها سيكذب الادعاءات” حول هجوم دوما الكيميائي.

وفيما يُنتظر أن تدخل البعثة اليوم إلى دوما، ويتوقع أن تُنهي مهامها بعد غدٍ الأربعاء، بعد تقديمها تقريراً أولياً للأمم المتحدة، سادت مخاوفُ من أن تكون معالم واقعة الهجوم قد طُمست من قبل سلطات النظام السوري مع العسكريين الروس.

وقال وفد بريطانيا في المنظمة، نقلاً عن المدير العام للمنظمة، إن مفتشيها لم يسمح لهم بعد بدخول مواقع في دوما.

وقال الوفد البريطاني لدى المنظمة في بيان نشره على موقع “تويتر”، إن روسيا وسورية لم تسمحا للمفتشين بدخول دوما، مشدداً على أن “إمكانية الدخول دون قيود ضرورية… على روسيا وسورية التعاون”.

وعبّر ممثل الولايات المتحدة بالبعثة الدولية كينيث وارد، اليوم الاثنين، عن خشيته من أن تكون القوات الروسية في سورية قد طمست موقع الهجوم بدوما، وهو ما سيعرقل عمل البعثة الدولية التي كان أحد أعضائها قد حذّر سابقاً من أن يتم المساس بموقع الهجوم.

بدوره، نفى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف اليوم الاثنين ادعاءات مبعوث الولايات المتحدة لدى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بأن روسيا ربما أفسدت موقع هجوم كيماوي مشتبه به في مدينة دوما السورية. وقال في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.ٍسي) “أؤكد أن روسيا لم تفسد الموقع”.

كذلك اعتبر المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن “لا أساس” لاتهام روسيا بعرقلة وصول بعثة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى مدينة دوما، مؤكدا ان روسيا كانت منذ البداية “مع تحقيق محايد”.

وكانت وزارة الخارجية الروسية أعلنت أن دخول بعثة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى مدينة دوما بالغوطة الشرقية مرهون بحصولها على “موافقة الهيئة الأمنية للأمم المتحدة”.

وكان رالف تراب، وهو عضوٌ ومستشار بعثة سابقة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى سورية، قد حذّر، أمس، من أن المساس بموقع الحادثة، أو محو الأدلة منه، يُعدُ “احتمالاً يجب أخذه بعين الاعتبار، وسيبحث المحققون عن أدلة تظهر ما إذا كان قد تمّ العبث بموقع الحادث”.

ويشير هذا التصريح إلى وجود تخوف لدى بعض أعضاء اللجنة من أن يتم بالفعل محو أي أدلة قد تقود إلى نتائجَ ملموسة في عملها. ومن المتوقع أن تقوم البعثة باستقصاءٍ في موقع الهجوم، لمعرفة ما إذا كان قد تمّ العبث بالموقع، لمحو آثار الهجوم الذي قتل العشرات، ونفذت على أثره الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا، هجماتٍ صاروخية صباح الرابع عشر من هذا الشهر، ضد مواقع عسكرية للنظام، قالت إنها قوضت قدرة النظام على استخدام السلاح الكيميائي مجدداً.

ويصعب الوصول إلى مصادر مستقلة في مدينة دوما، لمعرفة ما إذا كان قد حصل أي تغييرٍ بموقع الهجوم الكيميائي، إذ غادرها جميع النشطاء الأسبوع الماضي، وباتت تحت سيطرة قوات النظام والشرطة العسكرية الروسية.

العربي الجديد

 

 

 

 

الأسد ليس صدّام/ معن البياري

كان جورج بوش يقول إن العالم سيكون أكثر أمنا من دون صدّام حسين. كان يقول محقّا إن شعب العراق يتطلع إلى التخلص من نظام هذا الديكتاتور، فأنجزت إدارتُه تحالفا دوليا من أجل اقتلاع هذا النظام، ثم تتابعت الوقائع المشهورة، بعد أن تذرّع بوش بحقائق معلومة، وأخرى اصطنعها، وثالثةً بيْن بيْن، منها احتفاظ صدّام بسلاحٍ كيميائي، واستخدامه شيئا منه ضد عراقيين. وهذا بشّار الأسد، يراه دونالد ترامب يحتفظ بسلاحٍ كيميائي، واستخدم شيئا منه ضد سوريين، ويقول مسؤولون في إدارة هذا الرئيس الأميركي الجمهوري، كما قال مسؤولون في إدارة سلفه الديمقراطي، باراك أوباما، إن الشعب السوري يتطلع إلى التخلّص من نظام الديكتاتور. وزيد في مواسم كلامية أميركية، في غضون الإدارتين، كلامٌ آخر عن هذا النظام نصيرا للإرهاب وصانعا له. وفي الوسع أن يقع واحدُنا على مفرداتٍ متشابهاتٍ في ما كان يقوله بوش الابن وجماعته عن صدّام ونظامه الآفل وما ظلت تقوله إدارتا ترامب وأوباما عن الأسد ونظامه الراهن، غير أن الأخير محظوظٌ بحرصٍ شديدٍ من الإدارتين على عدم تغييره، لا بالسياسة كما ينطق بذلك بيان “جنيف 1″، ولا بالصواريخ، كما عوين قبل عام على مطار الشعيرات، وقبل أيامٍ على عدة مطارح في سورية. يحدث هذا فيما كان صدّام على هوى إدارة بوش الابن، خصما لإيران، فيما بشّار الأسد على غير هوى إدارة ترامب، حليفٌ عضودٌ لإيران.

ما القصة إذن؟ لماذا تقتلع أميركا نظام صدّام حسين في العراق، وتترك بشّار الأسد في سورية يدخل إلى مكتبه بعد قصفٍ ثلاثي، آمنا، موفور الثقة، ليبدأ دوامَه في يوم عملٍ بالغ العادية؟ أين هي بالضبط القطبة المخفيّة في هذا؟ ما السر في قلة الحماس الأميركية لتغيير نظام الأسد، وهو الذي جاء إلى سورية بإيران، عسكرا ومليشياتٍ ومجاميع بشرية، وجاء بروسيا قوةً عسكرية ظاهرة؟ يتوفر هذا النظام على كثيرٍ مما كان عليه نظيره نظام صدّام حسين، بل تجاوز الأخير في غير شأن. ولكن، تخسر الولايات المتحدة آلافا من جنودها، وتنفق مليارات الدولارات في غزو العراق واحتلاله، ثم تقدّم هذا البلد إلى طواقم موالية لإيران، فيما تعلن وزارة الدفاع الأميركية أن الولايات المتحدة معنيةٌ في سورية بأمرين، عدم حيازة نظام الأسد سلاحا كيميائيا، وإنهاء تنظيم الدولة الإسلامية، أما إسقاط الأسد فليس من مشاغلها.

أُنفق كلامٌ كثير في تفسيراتٍ غزيرةٍ، كثيرها مضجرٌ وقليلها مفيد، عن الاستراتيجية الأميركية في سورية، أو على الأصح عن انعدامها. وقصة ازورار الولايات المتحدة عن التورّط في حروبٍ في الخارج ليست مقنعةً بالقدر الكافي، فثمّة خياراتٌ عديدةٌ أمام الولايات المتحدة لتزاول دورا في إنقاذ سورية من نظام الأسد، من دون حاجةٍ إلى أي حربٍ، من الحماقة أصلاً أن يُطالَب بها. ثمّة الفاعلية السياسية الضاغطة من أجل إنفاذ البنود الستة في بيان “جنيف 1” الذي وقّعت عليه واشنطن وموسكو، قبل أن تنشط الأخيرة في إزاحته عن أي تداول، الأمر الذي لم تقصّر فيه أيضا واشنطن، زمنيْ أوباما وترامب، وقد قالت تلك البنود بالوصول إلى هيئة حكم انتقالي في سورية.

هل من عاملٍ إسرائيليٍّ جعل نظام صدّام حسين محروما مما ينعم به بشار الأسد، منذ سبع سنواتٍ، من لينٍ أميركي؟ الجواب: ربما. كان نظام صدّام ممانعا، ضَرَبَ مواقع في إسرائيل في أثناء العملية العسكرية الدولية التي أجبرته على الخروج من الكويت في 1991. ارتكب الفعل الحرام، لم يردّ على اعتداء من إسرائيل، بل هو الذي ضربها، وإنْ لم تُحدِث ضرباتُه تلك شيئا غير مشاهدة فلسطينيين في مخيم البقعة في الأردن وجهَه في القمر. لم يقتُل نظامُه فلسطينيين في لبنان، ولم يعمل على هدم منظمة التحرير، بل ضرب إسرائيل. أما بشّار الأسد، فكما والدُه، لم يُقدم، ولو مرة، على شيءٍ من هذا، ولو استعراضا. أنجز الأب حروبا ضد فلسطينيين كثيرين في عدة جولات، في غير مخيم وموضع في لبنان. كان عدوا نشطا ضد أي كيانيةٍ فلسطينية. وهذا ابنه الوريث، مخلصٌ في ائتمانه عقيدة عدم خدش إسرائيل بحجر.. ألا يكفي هذا الأمر ليكون سببا لحصانة الأسد من السقوط، سيّما وأنه أهدى إسرائيل هديةً ليس ثمّة ما هو أثمن منها: إسقاط سورية وتحطيمها، دولةً ومجتمعا وجيشا؟ الجواب: ربما.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

إذن.. ترامب يفهم في السياسة/ سمير صالحة

نجح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في وضع العلاقة بين تكتل أستانة الثلاثي بشأن سورية، تركيا وروسيا وإيران، أمام امتحان صعب، وذلك بعد أيام معدودة على قمة أنقرة التي عقدتها قيادات هذه الدول، والبيان الختامي عن التقارب والتنسيق في الملفات الإقليمية، وفي مقدمتها الملف السوري.

ترامب الذي كان يتحدث عن اقتراب موعد سحب القوات الأميركية من سورية لم يبدل رأيه فقط، بل أعطى الأوامر للقوات المسلحة بتنفيذ ضربة عسكرية ضد مواقع للنظام، بسبب استخدام الأخير أسلحة كيميائية محظورة في الغوطة ودوما، وتمت هذه الضربة مشتركة مع فرنسا وبريطانيا، فجر 14 إبريل/ نيسان الجاري.

للتحول السريع والمفاجئ في المواقف الأميركية أسباب كثيرة، أهمها قد يكون قمة العاصمة التركية وقراراتها والإعلان عن التمهيد لقمة جديدة في طهران، وما قد تحمله من مفاجآت تفتح الطريق أمام تحول التفاهم الثلاثي إلى حلف رباعي يضم الصين، أو خماسي ينقذ الأسد ويجلسه أمام الطاولة الإقليمية مجددا.

أراد الرئيس الأميركي أيضا، وكما يبدو، رمي الكرة المفخخة في ملعب أنقرة وموسكو، من خلال قرار التصعيد ضد النظام في دمشق، حيث كانت الاستعدادات التركية الروسية تتقدم نحو صيغة تفاهمات ثنائية متعددة الجوانب، ويبدو أنه نجح في ذلك. ها هو ترامب يحرّك وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ليطالب السلطات التركية بإعادة عفرين إلى سيطرة النظام السوري، بعد انتهاء عملية غصن الزيتون. وها هو يدفع المتحدث باسم الحكومة التركية، بكير بوزداغ، إلى الرد إن الجيش التركي لن ينسحب من منطقة عفرين، قبل التوصل إلى تسوية سياسية في البلاد، ثم يشجع الرئيس التركي نفسه، رجب أردوغان، للدخول على الخط “سنسلم عفرين إلى سكانها عندما يحين الأوان، ونحن من يحدّد هذا الوقت، وليس السيد لافروف”.

“ترامب الذي كان يتحدث عن اقتراب موعد سحب القوات الأميركية من سورية لم يبدل رأيه فقط، بل أمر بضربة عسكرية ضد مواقع للنظام”

وكان هجوم أردوغان على نظام الأسد في أعقاب مجازر الغوطة مؤشرا على أن تركيا ستبتعد عن الطرحين، الروسي والإيراني، حيال ما جرى هناك، وأن الاتصال الهاتفي الذي أجراه بوتين مع نظيره التركي لم يكن كافيا لإقناع أنقرة بتغيير موقفها حيال مجزرة الغوطة، لكن المنتصر هنا كان ترامب الذي فجر الخلافات التركية الروسية الإيرانية بعد أيام فقط على وضع استراتيجية التنسيق والتعاون لاقتسام الكعكة الأميركية في سورية.

انتزع ترامب أولا موقفا تركيا يتعارض تماما مع الموقفين، الروسي والإيراني، بشأن المجازر التي ارتكبها النظام في سورية ضد المدنيين في دوما، فالرئيس أردوغان يقول بشأن المجزرة الكيميائية التي نفذها نظام الأسد في دوما “اللعنة على مرتكبي مجزرة الغوطة الشرقية أيا كان المنفذون الذين سيدفعون الثمن باهظا”.

وقد ترك الرئيس الأميركي الثلاثي التركي والروسي والإيراني أمام امتحانٍ يصعب الخروج منه من دون أضرار بالغة بعد أن نفذ تهديداته ضد النظام، حيث رحبت أنقرة فيمارفضت روسيا وإيران وتصعّدان. وتمكّن ترامب أيضا من إشعال فتيل الخلافات المؤجلة بين أنقرة وموسكو بشأن مسار الأمور في تل رفعت وإدلب، ونجح في قطع الطريق على موضوع منبج، وإصرار أنقرة على تنفيذ عملية عسكرية هناك، من خلال تحويل الأنظار إلى مكان آخر في سورية. واستطاع إقناع أنقرة، من دون أن يحاورها، بأضرار محاولة قبول الطرح الروسي والإيراني تليين موقفها حيال الأسد، أو التفكير باللقاء معه في قمة طهران المرتقبة.

كان الحديث بعد الانتهاء من قمة أنقرة الثلاثية عن احتمال ولادة تحالف استراتيجي إقليمي جديد، تلتحق به الصين، ويسمى تحالف الشرق الجديد. ويبدو أن ترامب قد أفسد ترامب هذا، بالضربة المشتركة، مع لندن وباريس، ضد مواقع للأسد في مدن سورية، فهو يرفض أن يحاول بعضهم فرض الاصطفاف عليه في معسكر آخر “إمبريالي رجعي”، يعيد بلاده إلى ستينيات الحرب الباردة. وكانت موسكو وطهران تستعدان لقبض ثمن مواقفهما السياسية حيال عملية غصن الزيتون، فدخل ترامب على الخط، ليغير المعادلات، وينسف الشراكة الثلاثية قبل أن يكتمل عقدها. وذكّر أنقرة أن الفرصة السانحة التي تريدها حان وقتها، فهي التي كانت تطالب المجتمع الدولي والمنظمات الأممية بالتعامل بجدية مع مئات الوثائق والأدلة التي قدمتها بشأن استخدام النظام السوري الأسلحة المحرّمة ضد المدنيين.

قال ترامب إن واشنطن لن تقبل بتحالف إقليمي يظهر إلى العلن من دون موافقتها ورضاها، حتى لو كانت روسيا من تديره وتشرف عليه، ولن تسمح لأحد بفرض نفسه على خططها وحساباتها ومصالحها الإقليمية، فكيف ستقبل بذلك، عندما تكون إيران، هدف السياسة الأميركية الأول، اليوم جزءا من هذا الاصطفاف؟

أفسدت عملية استخدام السلاح الكيميائي في دوما التقارب التركي الروسي والحلم الإيراني في سورية، وتركت الجميع أمام اختبار المواجهة الجديد، ولم يفرّط ترامب بالفرصة التي قدمها له رأس النظام السوري على طبق من ذهب. وقد اقتنع الرئيس الأميركي لاحقا بخطورة ما سيقدم عليه في سورية بالانسحاب، وما أقنعه قد يكون خطورة ما تم التفاهم حوله في قمة أنقرة الثلاثية، وطريقة ملء الفراغ الذي سيخلفه انسحاب القوات الأميركية. لكن ما أقنعه أكثر تحرك الدول الثلاث لاقتسام الغنائم التي ستتركها واشنطن، وقرارها تأجيل خلافاتها وتضارب مصالحها في سورية، وتقديم مشروع التسوية الذي تريده، وترامب يراقب من بعيد.

وضع ترامب أنقرة أمام ورطة إضرام النار باللحاف بسبب بعوضة، وأجلس طهران أمام مأزق “إللي بيكبّر فشختو بيوقع”، وأفهم موسكو مرة أخرى أن “ألف دعوة ما مزّقت قميص، وألف زلغوطة ما جوّزت عريس”. وهو أمسك مجدّدا بدفة تسيير اللعبة في سورية التي كان يبحث عنها لقلب الطاولة هناك.

العربي الجديد

 

 

 

روسيا تُفضّل الضربات الاسرائيلية/ مهند الحاج علي

لم تكن الأصوات الإيرانية هي الأعلى نبرة قبل الضربة الأميركية-البريطانية-الفرنسية على مواقع النظام الأسبوع الماضي (رداً على استهدافه المدنيين بأسلحة كيماوية)، بل تلك الروسية. والحقيقة أن اللهجة الروسية في الحديث عن الضربة بلغت مستوى عالياً جداً، إن كان لناحية اتهام واشنطن بمحاولة تحوير التحقيق في استخدام الأسلحة الكيماوية لإبعاد الشبهة عن المعارضة، أم لجهة اعتبارها استهدافاً لشرعية النظام وقدراته العسكرية.

الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أوضّحت هذه الرؤية في تعليقها على الضربة. الضربات استهدفت النظام نفسه، وقد تُمهّد للعودة الى مفهوم “ضرورة رحيل الأسد” وفكرة “الربيع العربي” (وبالتالي الى المؤامرة الغربية ضد الحكومات العربية). كما أنها، ومن وجهة النظر الدبلوماسية، “لم تستهدف موقعاً جغرافياً على الأرض فحسب، بل استهدفت القوانين الدولية ومنظومة العلاقات الدولية بشكل كامل”، وفقاً لزاخاروفا. بكلام آخر، تُهدد مثل هذه الضربات النظام السوري وشرعيته، ومعه هيبة موسكو ودورها في المحافل الدولية.

في مقابل هذه الضجة الاعلامية الروسية الأخيرة حيال الضربات الأخيرة، التزمت موسكو الصمت حيال القصف الاسرائيلي المتواصل. لماذا؟ وما الفارق بين الضربات الاسرائيلية والغربية؟

أولاً، لم يستهدف الإسرائيليون البنية التحتية للنظام من منشآت وقدرات عسكرية، كما فعل القصف الغربي، بل تتركز ضرباتهم على منع الوجود العسكري الدائم لإيران وميليشياتها، ووقف شحنات سلاح خارج اطار الحرب السورية.

تبدو مثل هذه العمليات أقرب إلى المنطق الروسي لجهة أن النشاط الإيراني ومحاولات التوسع على الأراضي السورية، تُساهم في تآكل النظام. بيد أن ما يُشاع عن رغبة روسية في اعادة تأهيل مؤسسات الدولة السورية، لا يتطابق مع خطط ايران لديمومة الميليشيات الطائفية وانشاء قواعد دائمة على الأراضي السورية. موسكو تُريد العودة إلى مرحلة ما قبل عام 2011، لا تحويل سوريا إلى لبنان آخر تفقد فيه الدولة قرار الحرب والسلم لمصلحة طهران.

ثانياً، العلاقة بين اسرائيل وروسيا تطورت ايجاباً خلال السنوات الماضية، إذ زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تل أبيب مرتين، في حين حلّ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ضيفاً في موسكو أكثر من مرة. الصحافة تتحدث عن كيمياء بين الرجلين، إحدى علاماتها ليونة بوتين في التعاطي مع المصالح الاسرائيلية في سوريا. يغض النظر عنها طالما لا تستهدف قواته ولا مؤسسات النظام ومنشآته الخاصة، على الأقل بما يؤثر في مسار المعركة.

وهذه مصلحة اسرائيلية أيضاً، إذ تريد تل أبيب أيضاً العودة إلى ما قبل عام 2011، لجهة الهدوء شمالاً وسيطرة النظام السوري وضمانه أمن الجولان، والأهم احتكاره السلاح وتحمّله حصراً مسؤولية السلم على الحدود. ذاك أن وجود الميليشيات الشيعية والقوات الايرانية يعني حكماً استخدام الساحة السورية في أي مواجهة اقليمية.

ثالثاً، لدى روسيا علاقات أوسع وأهم من أن تُربط بالمحور الإيراني بالمنطقة. لعبت موسكو دوراً في التنسيق بين أطراف مختلفة، حتى بين طهران والرياض (من أجل خفض انتاج النفط)، وتُوازن بين اسرائيل وإيران في الساحة السورية. لذا فإن من مصلحة روسيا تحييد سوريا حيث قواعدها الدائمة، كساحة للنزاع بين طهران وخصومها، وبخاصة أن بين الفئة الأخيرة من تطمع موسكو بتحويلهم الى زبائن لسلاحها.

حالياً، تبقى المشاركة الإيرانية في الحرب السورية ضرورية، لا بل أساسية لتقدم قوات النظام بدعم جوي روسي، لذا فإن غض النظر عن اتساع الوجود الايراني في سوريا قرار استراتيجي. لكن من المرجح أن يتبدل هذا الواقع اثر انتفاء هذه الحاجة، سيما لو أخذنا في الاعتبار الطبيعة الأمنية للنظام في سوريا، والحسابات الروسية المختلفة استراتيجياً.

ذاك أن تل أبيب أقرب إلى موسكو في رؤيتها لمستقبل سوريا، من ايران: عودة نظام السطوة الأمنية تضمن الحدود الشمالية والمصالح الروسية في آن، بخلاف “الساحة” حيث الميليشيات والاحتمالات المفتوحة. ولهذا السبب تحديداً، يُفضّل الروس الضربات الاسرائيلية.

المدن

 

 

 

إستعراضٌ عسكريٌ سخيف/ ساطع نور الدين

لن يصمد العمل العسكري الاستعراضي الذي نفذه الاميركيون والفرنسيون والبريطانيون ضد المباني الفارغة لمراكز ومعامل إنتاج وتخزين السلاح الكيميائي السوري، فجر السبت، في صدارة الاحداث سوى بضعة أيام، يسقط بعدها من الذاكرة، ويصبح من شبه المستحيل أن يتمكن أحد من توظيفه أو إستثماره في أي مجال سياسي، أو في أي مسار تفاوضي.

هو كأي إستعراض عسكري، تنظمه الحكومات والجيوش: غرضه معنوي ونفسي، وهدفه كسب الجمهور المحلي أكثر من ردع العدو الخارجي. وكاد يبدو مثل إختبار لجهوزية الجيش الاميركي وقدرته على تنفيذ طلب الرئيس دونالد ترامب قبل أسابيع، من المؤسسة العسكرية الاميركية، تنظيم عرض عسكري سنوي في واشنطن،على غرار العروض التي تتباهى بها دول كبرى مثل روسيا والصين وفرنسا وغيرها في أعيادها الوطنية.

كان العمل العسكري الأخير ضد سوريا أقرب الى العبث:حبس العالم أنفاسه لساعات، تسلل الخوف من حرب عالمية ثالثة، بل حتى من إمكان اللجوء الى السلاح النووي، قبل ان يتبين ان العسكر الاميركي والفرنسي والبريطاني نفذ غارات جوية وصاروخية متقنة، فقط من أجل أن يحفظ ماء وجه زعمائه السياسيين في واشنطن وباريس ولندن، الذين تسرعوا في التعبير عن غضبهم من المذبحة الكيميائية الأخيرة التي نفذها النظام السوري في مدينة دوما في السابع من هذا الشهر..والتي كانت قد سبقتها اربعة هجمات كيميائية محدودة على المدينة نفسها.

لم يكن بإمكان ترامب أن يتراجع كما فعل سلفه باراك اوباما، ولم يكن لديه أفكار او حتى فرص لكي  يتجاوز ما فعله العام الماضي عندما أمر بضرب مطار الشعيرات إثر مذبحة خان شيخون. ولم يكن لدى المؤسسة العسكرية الاميركية سوى ان تحافظ على هيبة الرئاسة ومكانتها، لا على شخص الرئيس أو إسمه. نفذت العرض العسكري المنظم بدقة، من دون ان تغضب أحداً ومن دون ان تتحدى أحداً..وبعد أن ابلغت الجميع بمن فيهم النظام السوري نفسه بالموعد والمسار والهدف، الذي كان عبارة عن هياكل إسمنتية خاوية، تشبه تلك التي تستخدمها الجيوش عادة في مناوراتها التدريبية بالذخيرة الحية.

كانت المشاركة الحماسية الفرنسية والمساهمة البريطانية المترددة تندرج في هذا السياق: لم يكن أحد في باريس أو لندن يعرف لماذا أختار ترامب مجزرة دوما الاخيرة للرد، وليس مثلا المجزرة الثانية او الثالثة، ولم يكن أحد يدري ماذا بعد هذا العرض العسكري الحرج، الذي لا يستهدف حتى تأديب النظام السوري ولا ترهيب إيران ولا طبعا تحدي الكرملين.. لكنه كان عبارة عن حملة علاقات عامة مبنية على يقظة ضمير غربية متأخرة جدا، لا يمكن ان تخدع الجمهور الاميركي او الفرنسي او البريطاني لأكثر من بضعة أيام.

التحليلات التي تتطاير في الاجواء هذه الساعات والايام حول خلفيات العمل العسكري الثلاثي ومعانيه والاهداف التي حققها تثير السخرية فعلا. ثمة أزمة فعلية في العلاقات الاميركية الروسية، وفي العلاقات الغربية الروسية عموماً. لكن إستخدام الطائرات الحربية والصواريخ المجنحة، ضد أهداف سورية معزولة وغير ذات قيمة عسكرية، وتحليقها على مقربة من مواقع عسكرية روسية مهمة، لا يقدم الدليل على ان تلك الازمة كانت على وشك الانفجار. لعل العكس هو الصحيح. فالمرجح ان يؤدي العرض العسكري الذي تفرج عليه الروس بعدما تلقوا معلومات مفصلة عن الغرض منه، الى توسيع قنوات الاتصال التي فتحت طوال الايام الماضية، بين واشنطن وموسكو، وقد تسفر عن تحديد موعد لاجتماع قمة لا يخلو من الطرافة وربما الود بين ترامب وبوتين.

خلال أيام قليلة او حتى ساعات، سيثبت بوتين وخامنئي والاسد أنهم إستمتعوا بالعرض العسكري الثلاثي، الذي لم يهدف في الاصل الى إخافتهم أو الى وقف غيّهم. المؤكد أن أحداً منهم لن يرتدع ولن يتردد حتى في إستخدام السلاح الكيميائي مجددا حينما تطرأ الحاجة الى خنق السوريين وترهيب مسلحيهم. والجبهات التي ستفتح في الفترة المقبلة، ستقدم الدليل على ان مسار الحرب في سوريا لم يتغير ولم يتبدل قيد أنملة. ولن يبقى من ذكرى فجر الرابع عشر من نيسان إبريل، سوى بعض الفيديوهات والصور لواحد من أسخف العروض العسكرية الغربية.

المدن

 

 

 

 

العدوان الثلاثي” على اللغة/ عدنان نعوف

ما إنْ بدأت أخبار وصور الضربات العسكريّة على مواقع نظام الأسد تصل تباعاً، حتّى فتح إعلام الممانعة أدراج اللغة ليضع في بندقيّته الدعائيّة ما يناسب هذه اللحظة من “ذخيرة”.

كان لدى هذا الإعلام أكثر من خيار لتوصيف الضربات، إحداها مثلاً استعمال المركّبات الاستعراضية الرنانة المعروفة عنه، والتي تعتمِد أسلوب المَزج المكثّف لعدة عناصر في مصطلح واحد. كتسمية الضربات مثلاً بـ “الغزو الأنغلو- فرانس-أميركي”، أو “العدوان البترو-غرب- دولاري”!

هذه الخيارات وغيرها لم تدخل في حسابات محور الممانعة في ظلّ توفّر الخيار الأسهل والأهم، والذي يؤمّن إصابة أكثر من عصفور بحجر واحد.

“العدوان الثلاثي” ولا شيء غيره كان سيَفي بـ “الغرض”، وسيؤدي المطلوب، لذا فلم يتردّد الممانعون- بمبادرات فرديّة أو مؤسساتيّة – في تناقله ضمن منشور عابر أو هاشتاغ، حتى قبل أن يصدُر أي كلام رسمي عن نظام الأسد نفسه. بل إن بعض المحللين السياسييّن سارعوا إلى وضع المصطلح في الخدمة مباشرةً ضمن تعليقاتهم وتصريحاتهم، لدرجة تشعر معها وأنّ لعبة اللغة الإعلاميّة هذه ناتجة عن أحد أمرين: تنسيق و”أمر عمليات” سابق لتوحيد الخطاب وتوجيهه، أو فقر شديد في مخيّلة الممانعة دفعها للعمل ضمن الموجود.

وتحيط بهذا المركّب الاصطلاحي خصائص وأسباب جعلت اللجوء إليه أمراً شبه محسوم بالنسبة لمُستخدمِيه، فهو يتيح توظيف بُعدِه التاريخي بشكل فعّال عبْر استذكار أجواء “العدوان الثلاثي”(البريطاني الفرنسي الاسرائيلي) على مصر عام 1956. ولا شك أن هذا الحدَث برمزيّته يحتلّ مساحة في نفوس العرب (بدرجات متفاوتة) والسوريين منهم تحديداً الذين أتخمت التربية البعثيّة ذاكرتهم بقيم ومفاهيم “النضال” ومحاربة الاستعمار والإمبريالية، وذلك من خلال العودة المستمرّة إلى”الصفحات المشرقة من الماضي التليد”.

ولأنّ تعظيم “الانتصار” أولويّة في المعارك فقد كان لا بدّ من تضخيم الفعل الذي قام به “الأعداء”، وهي الوظيفة التي أدّاها التشبيه فعلاً حين نفخ الضربات الصاروخية ببوتوكس التهويل لا التجميل، غير أنّه سجّل بالمقابل وقوع حادثة جديدة من حوادث الابتذال.

وما يستحقّ التوقف والإشارة أنّ إقحام هذا التشبيه “البليغ” في مجريات الحرب السوريّة لم يكن جديداً أو مقتصراً على نظام الأسد، فقد سبقَ أن استخدمه معارضون في إطار تعليقهم على حملات عسكريّة قامت بها قوات النظام بالتعاون مع روسيا وإيران، واستهدفت مناطق تحت سيطرة المعارضة السوريّة.

وفيما تتباين مبررات هذا الاستخدام بين الأطراف المختلفة وفق أساليب إما ممنهجة أو عشوائية، فإنها تشير إلى سمة من سمات الوضع السوري تتعلق باستنزاف اللغة.

والحال أنّ هذه الضحيّة “غير الرسميّة” والتي لا تمتلك عناصر ماديّة أو محسوسة، لا تُدرج ضمن قوائم الضحايا الآخرين مع أن وضعها مأساويّ كحال القتلى والمصابين والمهجّرين والبنى التحتيّة!

كما أنّ معطيات “الجريمة” المرتكبة بحقّ اللغة لا تخضع لمقاييس واعتبارات أخلاقيّة أو قانونيّة وهو ما يجعلّ من غير المنطقيّ أن يجري التعامل مع النتائج والتداعيات (وهذا أفضل لها ربما من الحصول على مساعدات وانتظار لجان المنظمات الدوليّة)!.

ولمعاينة الأذى الذي لحق باللغة خلال سنوات الثورة السورية من قبل مختلف الأطراف، يمكن ملاحظة المرحلة التي وصل إليها توظيف التشبيهات والإسقاطات والمسميّات، بطريقة استهلكت هذه اللغة عبر إقحامها في محرقة الضخ الإعلامي. ففي مقابل الاستعارات اللغوية للنظام وماكينته الإعلامية، لم تقصّر الأصوات المعارضة في استهلاك هذا المخزون من زوايا أخرى.

وفي حالات كثيرة بدا أن اختلاف الأسلوب بين الطرفين لا يخفي اعتماد استراتيجية واحدة قائمة على العامل التاريخي.

وبالنسبة للعمل العسكري المعارض فقد كان لانتقال قسم منه نحو المرحلة “الجهادية” بقيادات غير سوريّة، أثرٌ في تحديد الخطاب المرافق لهذا النشاط على الأرض. ومع مرور الوقت أصبحت الجماعات والفصائل المقاتلة بحاجة إلى قواميس جديدة بعد أن استنزفت بأسماء معاركها وتشكيلاتها العسكريّة معظم المعاني والإسقاطات التي أتاحها الإرث الإسلامي. ولن نبالغ إذا قلنا أنّ أي فصيل سيطلق معركة لاحقة أو سيَبني تشكيلاً جديداً سيكون عليه البحث جيداً للوصول إلى مفردات ملائمة بعد أن استعمل من سبقه كل ما طالته يده.

ويضاف إلى الطرفين السابقين طرف آخر شارك في “العدوان” على اللغة واستعاراتها، ألا وهو “الإعلاميون”. فقد أتاح اكتساب من يرغب بهذه الصفة (إعلامي) ضمن الفوضى والحاجة القائمة، إمكانيّة ظهور أشخاص غير اختصاصيين لعبوا دوراً إضافياً في استنزاف الأساليب والمعاني مستفيدين من الفضاء الذي وفّرته وسائل التواصل الاجتماعي.

كل ذلك لم يؤدِّ إلى موت اللغة بالتأكيد لكنه دمّر أدواتها بالابتذال والاجترار، حتى غدا من الممكن اعتبارها أحد معاقي الحرب الذين لم يخوضوا أي معركة لكنهم تلقوّا وما يزالون يتلقون “الضربات”.

المدن

 

الإحباط السوري/ نذير رضا

الإحباط السوري مع كل تغريدة لترامب، كان السوريون يعتقدون أن الخلاص آت

لم يكتمل الإحباط السوري جراء يسمونه “التخاذل الدولي”، الا بنتائج الضربة العسكرية “المحدودة” التي نفذتها واشنطن وحليفتاها فرنسا وبريطانيا، فجر السبت. فالآمال التي عقدت طوال أسبوع على “ازاحة بشار الاسد”، أو ضرب “التمدد الايراني” في سوريا، اصطدمت بعدد محدود من الصواريخ قالت فرنسا انها اقتصرت على قدرات النظام السوري في استخدام السلاح الكيماوي.

انتهت الضربات، وقيل إن الأسد عاد الى مكتبه لـ”مزاولة عمله”. بدت الضربات، بنظر الناشطين، كسحابة ألقت أمطارها وتبددت. خرجت بيانات النجاح، وبيانات الاستنكار والادانة من طرفي الصراع. كما خرجت بيانات التبجح الروسي بإعتراض 71 صاروخاً من اصل 103 في الهجوم. وحده الشعب السوري عاد الى شعوره الأول بالخذلان. فالاعلان عن نهاية الضربة، أوحى بأن ما جرى لم يكن أكثر من “مهزلة”، كما قال “جيش الاسلام” في بيانه. وفي المقابل، دخل الجيش الروسي الى دوما، مسرح الهجوم الكيماوي المفترض، وانتهى الأمر بسيطرة النظام على محيط العاصمة، أو “دمشق الكبرى”.

ولا يعتبر الاحباط جديداً على الشعور السوري العام نتيجة ما آلت اليه التطورات منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015. تنامى نتيجة “تسويات” دولية، بعد استخدام الكيماوي في الغوطة الشرقية، في آب/أغسطس 2013، بعد تراجع إدارة الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما، عن توجيه ضربة للاسد.

وعندما شن الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترامب الهجوم على قاعدة الشعيرات في نيسان/ابريل 2017، عاد بريق الامل مرة جديدة، بأن هناك من سيتحرك. عقدت آمال السوريين، خلال الاسبوع الماضي، على ضربة واسعة تنهي اخفاقات السنوات الثلاث الماضية، وتحيل التطورات في البلاد الى انقلاب في المشهد الدولي. فمع كل تغريدة لترامب، كان السوريون يعتقدون أن الخلاص آت، لا محالة، وأن تضافر الجهود الدولية، سينهي تعقيدات المشهد القائم منذ ثلاث سنوات.

في الواقع، تشبه آمال السوريين تغريدات ترامب. تتسم جميعها بالانفعالية، والطموحات ذات السقوف المرتفعة. التصعيد “التويتري” الترامبي، قوبل بآمال أعلى في “فايسبوك” و”تويتر” السوريين. ترامب بتغريداته، يتخطى التمعن في التشابكات الدولية، ويستكين أخيراً الى قرارات عسكرية مدروسة أكثر. أما الطرف السوري، فلا يقرأ في التشابكات المصلحية ولا في التعقيدات الدولية، ولا في حسابات تبادل الرسائل بين القوى الفاعلة عالمياً. بنى طموحاته على أوهام النصر، وانفعالات ترامب. وهو ما دفعه للاصطدام بحائط الأمل مجدداً، والرضوخ الى الشعار الاول: “ما النا غيرك يا الله”!.

لم يكن ينقص السوريون الا قرارات القوة الغربية “المحدودة” لمضاعفة الشعور بالاحباط مجدداً. فالعدالة التي يطلبها السوريون، لا تستوي مع التشابكات السياسية الدولية. حسابات السوريين محدودة، بينما حسابات الغرب تمتد من سوريا الى حجم القارات. وعليه، كانت ضجة الصواريخ أكبر من مفاعيلها الحقيقية. كما ان حجم الشعور بالخذلان، تخطى اصداء صواريخ التوماهوك في أروقة السياسة الدولية.

المدن

 

 

 

أسد الكيماوي..الضربة التي لم تقتله تقوّيه!/ بتول خليل

الضربة الثلاثية التي قادتها الولايات المتحدة ونفذتها، فجر السبت، إلى جانب كل من فرنسا وبريطانيا، واستهدفت البنية التحتية للبرنامج الكيماوي السوري، بدت وكأنها شكّلت مناسبة للاحتفال بالنصر، وفقاً للمفاهيم والاعتبارات المقلوبة والغريبة، التي يبدو أنها ما زالت قادرة على دغدغة الموالين للنظام وإقناعهم، ولو غصباً عنهم، بأنهم لا يعرفون معنى الهزيمة، بل ينتقلون من نصرٍ إلى آخر. وهذه عادة كرستها البروباغندا السورية التي عادة ما تجنح نحو تدعيم صورة الأسد وهالته، ونسب القوة والحكمة وحسن القيادة إليه، مهما اختلفت تطورات الأحداث ومآلاتها.

وسائل الإعلام الموالية والحليفة لنظام الأسد، وعلى رأسها وكالات الأنباء والقنوات الرسمية السورية، لم تر في ضربة الـ50 دقيقة، سوى “عداون سافر” أكّد مرة جديدة “صمود سوريا وأهلها”، مبرزة قدرات نظام الدفاع الجوي السوري، الذي خاض مواجهة أدّت إلى إسقاط الجزء الأكبر من الصواريخ التي استهدفت مواقع النظام فور اقترابها من الأهداف، تبعه الترويج بفشل العدوان الثلاثي، الذي استدعى نزول عشرات السوريين إلى شوارع دمشق ومحافظات أخرى للاحتفال بـ”النصر الجديد”. وبدت وسائل إعلام النظام في تغطيتها لما حصل، أشبه بمرصد يكرر من خلال تقاريره ومذيعيه ومراسليه، أن الضربة حصلت وتم إفشالها، من دون الحديث عن أي احتمال للرد على ما وصفوه بـ”العدوان الغاشم”.

هذا الأسلوب، عكس سياسة التجاهل التي دأب عليها النظام، الذي، كعادته، لم يرَ نفسه معنياً بالتصدي للدول التي وجّهت ضرباتها إليه وقصفت منشآته، موكلاً لحلفائه الإيرانيين والروس مهمة التهديد والتمديد والوعيد واختيار أسلوب الرد الذي يشاؤون، في حين اعتبر أن أولوياته تنحصر في التركيز على معركته في الداخل السوري. وقد يكون الفيديو الذي نشرته صفحة الرئاسة السورية في مواقع التواصل مرفقاً بعبارة “صباح الصمود”، زاعمين فيه (رغم تشكيك كثيرين في تاريخ تصويره) أنّه التقط للأسد بعد ساعات من الضربة الثلاثية وهو يدخل قصر الرئاسة حاملاً حقيبة جلدية، يوحي بأنه رسالة إلى الداخل السوري تهدف بالدرجة الأولى لتكريس الصورة القوية للأسد وإظهاره متماسكاً، غير خائف من الظهور العلني، لا تهزّه ضربات ولا تؤثّر فيه صواريخ. وهذه استراتيجية إعلامية اعتاد النظام تقديمها لمواليه كوجبة معنوية يطيب لهم تناولها، وهم يستمتعون بالنظر إلى قائدهم “الصامد” في وجه التحديات في كافة مراحل ومفاصل المعارك في سوريا.

هاجس الأسد في إظهار صورته في الإعلام على هذا الشكل الموجّه إلى طائفته ومواليه في الداخل السوري، يشكّل أولوية مطلقة ومهمة، كانت دوماً من أهم ركائز استمرار حكم والده ومن ثم حكمه. وذلك يرجع إلى ضرورة التغذية الدائمة للذهنية الطاغية على طائفته ومواليه، والتي تستوجب ظهوره كرمزٍ له قدسية وقدرات تفوق البشر العاديين. والإنطلاق من هذا المفهوم يجعل من السهل على أي مراقب إدراك مسار سياسات البطش والتنكيل والتحقير لكل من تجرّأ على الاعتراض على بشار الأسد ووالده من قبله.

كما أن ذلك يشكّل منطلقاً أساسياً ومهماً لفهم دوافع قراراته العسكرية التدميرية، والتي تنتهج التهجير والإبادة، في مختلف المعارك التي خاضها النظام، وآخِرُها تدميره الغوطة ومدينة دوما، التي قرر تسطير نهايتها بهجوم كيماوي، يهدف بالدرجة الأولى وقبل أي شيء، إلى كسر إرادة كل فرد من الشعب السوري عارضه أو ثار في وجهه. والحجة التي يطرحها النظام من اعتبار أنه كان قد حقق الانتصار فعلاً، تتعارض مع ضرب دوما بالكيماوي، وهي حجة مقلوبة عليه. إذ إنّ ضربه لدوما بالكيماوي في لحظة “انتصاره” متلازم مع قدرته على إخفاء معالم جريمته وطمس آثارها فور دخوله إلى المدينة. كما أنه يحقق هدفه الاستراتيجي الثاني بعد الترهيب، من حيث الدور المرعب للسلاح الكيماوي في تهجير أهل دوما وإرغامهم على ترك أرضهم وبيوتهم. أما الهدف الثالث، فهو توجيهه رسالة استباقية إلى إدلب أو أي منطقة يقرر النظام توجيه قواته نحوها من خلال إخضاعهم، كون الرعب قادم، ولا أحد قادراً على إيقافه أو ردعه، مستغلاً علمه بقناعة دول الغرب، بعدم تحويل سوريا إلى دولة فاشلة ما يستوجب بقاءه في الحكم، وبأن أحداً لن يجرؤ على المساس به، انطلاقاً من مصالح الغرب المتمثلة في عدم السماح لإعادة سيطرة وانتشار “داعش” والجماعات الإسلامية المتطرفة في سوريا، وعدم قدرة أوروبا ودول الجوار على استيعاب واستقبال موجة جديدة من اللاجئين المؤيدين له في حال سقوطه.

الإنكار الدائم للأسد وحلفائه باستخدام الأسلحة الكيماوية، رافقه إصرار ملفت هذه المرة، عقب هجومه على دوما، فيما راحت وسائل إعلام روسية وإيرانية تروّج بأن مزاعم الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا حول الهجوم الكيماوي تبدو غير منطقية، متساءلة: “لماذا يحتاج المنتصر لاستخدام السلاح الكيماوي؟”. كما تبنّت قناة “روسيا اليوم” ما صدر مؤخراً عن الجيش الروسي بأن الهجوم الكيماوي على دوما اختلقته جماعة “الخوذ البيضاء”، والتي يبدو، من وجهة نظرها، أن ترامب يبني قراراته بناءً على ما تبثّه هذه المجموعة.

هذه التغطية بما حملته من تشكيكٍ وادعاءات، تعكس تحدياً واضحاً للمجتمع الدولي، ضمن خطاب مكرور قائم على الشعارات وهلوسات “نظريات المؤامرة”، غير معني بتقديم أي تحليل أو قراءة منطقية أو شاملة لتطورات الأحداث. فالتمترس وراء حجة السؤال عن دافع الأسد لاستخدام السلاح الكيماوي وهو “المنتصر” في دوما، وجد له المحللون أكثر من إجابة وفي أكثر من اتجاه. معتبرين أن فهم رمزية الغوطة الشرقية له أهمية محورية لإلقاء الضوء على الجواب، فهذه المنطقة كانت من المناطق الأولى في سوريا، التي انطلقت منها التظاهرات المناهضة لنظام الأسد العام 2011، وقد تم تحويلها إلى نقطة انطلاق وعبور لكتائب المعارضة المسلحة التي حاولت اقتحام العاصمة. كما أن نفاد صبر الأسد وسأمه من الانتظار للتوصل إلى اتفاق مع “جيش الإسلام” الذي كان يسيطر على دوما في الغوطة الشرقية، جعله يذهب مرة جديدة إلى الهجوم الكيماوي، الذي أجبر “جيش الإسلام” بعد ساعات قليلة على تسليم أسلحته والانسحاب إلى الريف الشمالي، وهو ما أقرّ به متحدث باسمه، حين قال إن “قصف دوما بالكيماوي هو ما دفعنا إلى الانجاز السريع للاتفاق”.

كما اعتبر محللون أن الهجوم الكيماوي الأخير أتى إرضاءً وتعويضاً للمجتمع العلوي الملتف حوله والوفي له، الذي، من دون وقوفه إلى جانبه، كان لينتهي منذ سنوات، ما يجعله ملزماً بتقديم الأضاحي لأنصاره وإبقائهم سعداء خشية أن يتخلصوا منه في حال شعورهم بأنه خذلهم. وفي حين يبدو أن قصف دوما بالكيماوي طريقة غريبة ووحشية للوفاء، إلا أنها واقعية إلى حد كبير، خصوصاً أنها أجبرت المقاتلين على تسليم معتقلي النظام الذين كانوا في قبضتهم، إلى عائلاتهم، بعد سنوات من الأسر، ما بدا وكأنه يندرج في إطار الغاية تبرر الوسيلة.

هكذا، فإن الأسد الذي يصفه ترامب بـ”الحيوان”، أثبت بقاؤه في سدة الحكم، رغم كل الأحداث التي عصفت بسوريا، أنه “حيوان” ذكي للغاية. أدرك منذ البداية أن الغرب، وإن سعى دائماً لإضعافه، غير قادر على إيجاد بديل له. بالتالي، لم يعد يهتم لصورته الضعيفة والمشوّهة في الخارج، طالما أن آلته الإعلامية تعمل بأقصى طاقتها، وبشتّى السبل الدعائية، لتلميع شكله ونفخ إنجازاته واستغلال أي حدث، مهما كانت طبيعته، لتحويله إلى إنجاز ونصر مؤزّر يستأهل وضع الأوسمة والنياشين على صدر الزعيم المفدّى. لذا فإن الضربة الأخيرة لن تكون استثناءً عن هذه القاعدة، إذ تتيح ظروفها ومحدوديتها تحويلها إلى هزيمة للغرب ونصرٍ للأسد ومحوره الممانع، ولإطلاق الأهازيج وشعارات النصر والتصدّي والتحدّي من على الشاشات ومنصات مواقع التواصل.

المدن

 

 

 

 

إيران وروسيا… بعد ضربة سوريا/ خيرالله خيرالله

بعد الضربة الأميركية – الفرنسية – البريطانية التي استهدفت السلاح الكيميائي السوري، في ظل اعتماد روسيا موقف المتفرّج، ثمة ملاحظات لا يمكن تجاهلها. إنّها ملاحظات مرتبطة بالوضع السوري ككل، وموقع إيران وروسيا في هذا البلد الذي بات تحت خمسة احتلالات.

في مقدّم الملاحظات أن كلّ الإستراتيجية الإيرانية قائمة على شخص بشار الأسد، في حين أن لدى الجانب الروسي خيارات أخرى في ضوء الدور الذي لعبه في بناء المؤسسة العسكرية السورية وتغلغله فيها. هناك علاقة تاريخية بين موسكو ودمشق منذ صفقة السلاح الأولى، غير المباشرة، بين البلدين في أواخر خمسينات القرن الماضي وبدء تخرّج كبار الضباط السوريين، خصوصا العلويين منهم، من الأكاديميات العسكرية السوفياتية، ثمّ الروسية في مراحل لاحقة.

تتفوق روسيا على إيران بأن وجودها في سوريا غير مرتبط بشخص بمقدار ما إنّه مرتبط بطائفة ومؤسسة، هي المؤسسة العسكرية. مثل هذا الارتباط الإيراني ببشّار الأسد جرّ إلى مزيد من الاعتماد لدى رئيس النظام السوري على ميليشيا “حزب الله” اللبنانية، التي يتأكد كل يوم أنّها ليست سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني الذي ارتبط بالأسد الابن ارتباطا وثيقا، بل عضويا، وذلك منذ ما قبل خلافته والده في الرئاسة رسميا صيف العام 2000 وزيادة الحضور القوي للحزب في الأراضي السورية.

من هذا المنطلق، لن يكون سهلا على القوى التي تسعى إلى تحديد مستقبل سوريا في مرحلة ما بعد بشّار الأسد تجاهل الدور الروسي بوجوهه المتعددة، بما في ذلك العلاقة بالكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية التي مقرّها الأساسي في دمشق. هذا لا يعني أن روسيا في وضع مريح في سوريا، خصوصا أنها تتبع سياسة تقوم على معاداة أهل السنّة في بلد نسبة هؤلاء فيه تزيد على خمسة وسبعين في المئة. أسوأ من ذلك، أن الموقف الروسي يستند أساسا على أن النظام القائم في دمشق “شرعي”، في حين أنّه لا يمتّ إلى الشرعية بصلة لا من قريب ولا من بعيد.

ما تعنيه المقارنة بين الدورين الروسي والإيراني في سوريا أن الدور الروسي يمكن أن يكون له مستقبل، فيما لا وجود لهذا المستقبل للدور الإيراني. هذا عائد إلى سبب في غاية البساطة. يتمثّل هذا السبب في أن الدور الإيراني على الصعيد الإقليمي في مرحلة تراجع، فيما لا تزال روسيا قوّة عسكرية لا يمكن تجاهلها على الرغم من كلّ النكسات التي حصلت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع العام 1992، وحتّى في مرحلة سبقت الانهيار.

تخلل تلك المرحلة سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. لم يكن ذلك السقوط مجرد سقوط لجدار، بل كان إيذانا بدخول العالم مرحلة جديدة أسّس لها رونالد ريغان الذي باشر منذ دخوله البيت الأبيض مطلع ثمانينات القرن الماضي التصعيد مع الكرملين، وصولا إلى وصف الاتحاد السوفياتي بـ“إمبراطورية الشرّ” وإدخاله في سباق تسلح، عبر إطلاق مشروع “حرب النجوم”. تبيّن وقتذاك أن اقتصاد الاتحاد السوفياتي عاجز حتّى عن التأقلم مع فكرة “حرب النجوم”، وأنه ليس في واقع الحال سوى “نمر من ورق”، كما كان الزعيم الصيني ماو تسي تونغ يصف “الامبريالية الأميركية” التي تسعى بلاده منذ وفاته إلى الاقتداء بها، وإن على طريقتها الخاصة.

تفرض المقارنة بين الوجوديْن الروسي والإيراني في سوريا الاعتراف بأنّ الوجود الروسي يمكن أن يكون له أساس ما، كما قد تكون هناك حاجة أميركية إليه في مرحلة معيّنة في حال صار مطلوبا إيجاد صيغة جديدة تشمل حصول لملمة لكيان تعرّض للتفتيت. تزداد الحاجة إلى مثل هذا الوجود الروسي في حال بقي شيء من الجيش السوري يصلح نواة لجيش جديد.

أمّا الوجود الإيراني، فهو وجود مصطنع قائم على التدمير وإحلال الميليشيات المذهبية المستوردة مكان السلطة القمعية القائمة. لن تستطيع إيران تغيير كلّ التركيبة الديموغرافية لسوريا حتّى لو كان تركيزها على تدمير كلّ مدينة كبيرة وتهجير أكبر عدد من السوريين من بلدهم. لن تستطيع إيران ذلك نظرا إلى أنّ في المنطقة قوى كثيرة ترفض منطقها الذي لا علاقة له بالمنطق.

هناك العراق الذي يسعى كلّ يوم إلى الخروج من تحت الهيمنة الإيرانية. كان العراق في أساس الانطلاقة الجديدة لإيران بعدما سلمته لها الولايات المتحدة في مثل هذه الأيّام من العام 2003. تتراجع إيران حاليا في كلّ مكان بعدما وجدت في شخص وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان من يقول الأشياء كما هي، أخذا في الاعتبار أن المملكة العربية السعودية تمتلك ما يكفي من القوّة كي لا تكون لها أي عقدة تجاه نظام إيراني لم يتورّع عن استخدام الإرهاب والترهيب ووضعهما في خدمة سياساته.

تتراجع إيران في العراق. ستكون الانتخابات العراقية في الثاني عشر من أيّار – مايو المقبل اختبارا حقيقيا لمدى رغبة العراقيين في التحرّر من الاستعمار الإيراني. لكنّ المكان الذي سيكون فيه الامتحان الحقيقي لإيران، هو سوريا حيث ربطت مصيرها بمصير رجل لم يستطع في يوم من الأيام استيعاب خطورة أن يكون أسير “الحرس الثوري” وأدواته.

ستسعى إيران إلى التشبث بالورقة السورية. لا يسمح الوضع الداخلي للنظام بغير ذلك. يعلم “الحرس الثوري” وقادته أن الخروج من سوريا سيعني الخروج من طهران، وأن الهزيمة السورية ستكون لها انعكاساتها في الداخل الإيراني حيث لم يعد في استطاعة النظام مواجهة حال التذمر السائدة. هناك تذمّر على كل صعيد، خصوصا بعد انكشاف النظام الذي صرف أموال إيران في سوريا ولبنان وغزّة واليمن ولم يستطع أن يستجيب لأي مطلب شعبي في بلد يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر.

لن تكون روسيا مستاءة من الخروج الإيراني من سوريا. ستجد طريقة للتأقلم مع مرحلة ما بعد الضربة الأميركية. ستقبض ثمن الاستثمار في مؤسسة الجيش السوري وفي الطائفة العلوية. لم يكن بشّار الأسد في يوم من الأيّام رجلا لا يُستغنى عنه بالنسبة إلى فلاديمير بوتين… في حين شكّل الضمانة الوحيدة لإيران. تعرف موسكو هذه الأيّام أن هناك كلاما جديا في العالم عن بديل من بشار الأسد في مرحلة انتقالية تبدو سوريا مقبلة عليها.

ستدفع إيران، عاجلا أم آجلا، ثمن رهانها على شخص ظن أنه يستطيع إلقاء دروس في الوطنية والتنظير على العرب الآخرين في شأن كيفية مواجهة إسرائيل. انتهى الأمر ببشار أن قبل بضمّ إسرائيل لهضبة الجولان المحتلة التي رفض والده استعادتها كي تبقى حال اللاحرب واللاسلم سائدة في المنطقة ووسيلة ابتزاز للعرب الآخرين. لم يستطع بشّار حتّى ممارسة لعبة الابتزاز التي أتقن والده أصولها، والتي كانت إيران من بين الدول التي شملتها.

إعلامي لبناني

العرب

 

 

 

 

 

ماذا بعد الضربات الثلاثية على مواقع نظام آل الأسد؟/ جلبير الأشقر

تمخّض الجبل فولد فأراً. هذه العبارة الشهيرة فرضت نفسها على بال الجميع إزاء الضربات التي سدّدتها ثلاث قوى عظمى لمواقع محدودة جداً في المناطق الواقعة تحت سيطرة نظام آل الأسد في الرابع عشر من الشهر الجاري. فبعد عنتريات دونالد ترامب التغريدية وتوعّده نظيره الروسي بوابل من الصواريخ «الذكيّة» بحيث حبس العالم أنفاسه تحسّباً لهجمة قال بعض المعلّقين أنها قد تُشعل حرباً عالمية ثالثة بما يهدّد بإفناء البشرية، وبعد مشاورات مطوّلة بين واشنطن وباريس ولندن، استفقنا على ضربات كان وقعها العسكري أضعف بعد من وقع القصف الأمريكي لقاعدة الشعيرات الجوّية قبل عام وأسبوع.

والحقيقة أنها كانت ضربات لا يعدو الغرض منها حفظ ماء الوجه للرئيسين الأمريكي والفرنسي اللذين أعلنا أن استخدام السلاح الكيمياوي «خط أحمر» في نظرهما (أما العبرة من هذا الحظر، وقد أدركها الجميع، فهي أن الرئيسين منحا نظام آل الأسد مطلق الصلاحية في إبادة الشعب السوري بالأسلحة «التقليدية»). هذا وقد جاء استخدام النظام المجدّد للغازات السامة تعجيلاً لقضائه على ما تبقى من مقاوميه في الغوطة الشرقية ليحرج الرئيسين بما فرض عليهما ردّ الفعل. وقد انضمّت إليهما رئيسة الوزراء البريطانية، وكيف بها لا تنضمّ وقد غدت بريطانيا منذ حكم توني بلير تربطها بالولايات المتحدة «علاقة خاصة» شبّهها نقّادها البريطانيون بعلاقة «الكلب الصغير» (poodle) بصاحبه، فلا يجوز أن تتيح لندن لباريس أن تحلّ محلّها وتستأثر بهذا الدور البائس. وقد تشاور الزعماء الثلاثة وطلبوا من قواهم المسلحة تنفيذ ضربات من فئة «أضعف الإيمان».

وبعد، فماذا يلي ولادة الفأر؟ ها أن الزعماء الثلاثة عادوا يدعون إلى حلّ دبلوماسي للنزاع السوري، ويغازل الرئيسان الأمريكي والفرنسي نظيرهما الروسي فلاديمير بوتين لهذا الغرض. كما يماطل ترامب في فرض العقوبات الجديدة التي كانت ممثّلتُه لدى مجلس الأمن الدولي قد وعدت بها إثر محاولة الاغتيال الكيميائي للعميل الروسي المرتدّ في بريطانيا. وبالرغم مما قاله معلّقون كثر، ليس ثمة من تناقض بين إعلان ترامب نيّته سحب القوات الأمريكية من سوريا وحرصه على «الخط الأحمر» الكيمياوي، إذ أن الولايات المتحدة تستطيع في أي وقت أن تنفّذ ضربات كالتي نفّذتها قبل أيام أو تلك التي نفّذتها قبل عام، بدون أن يكون لها أي جندي على الأراضي السورية.

ولا بدّ من ربط إعلان ترامب عن سحب قريب للقوات الأمريكية بإعلانه المكرّر خلال حملته الرئاسية وبعد فوزه بها أنه يؤيد تشكيل منطقة آمنة داخل الأراضي السورية لإيواء اللاجئين السوريين المتواجدين حالياً في البلدان المحيطة بسوريا وفي أوروبا (وقد سبق له أن أضاف أن على عرب الخليج تمويل إنشاء تلك المنطقة). كما لا بدّ من ربط الموقفين المذكورين بوعد ترامب لنظيره التركي أنه سوف يوقف الدعم الذي تقدّمه بلاده للقوات الكردية التي يقودها «حزب الاتحاد الديمقراطي». فإن الجمع بين مواقف ترامب الثلاثة المذكورة يؤدي إلى نتيجة منطقية واحدة، هي أنه يودّ تسليم المناطق السورية الحدودية التي تسيطر عليها حالياً «وحدات حماية الشعب» الكردية بدعم أمريكي، يودّ تسليمها إلى تركيا (مثلما سلّمتها روسيا منطقة عفرين) أو إلى تركيا وروسيا معاً، وهذا يروق رجب طيّب أردوغان في كافة الأحوال إذ أن همّه الأساسي بات التخلّص من الحركة الكردية. لذا أيّدت تركيا رسمياً، ولو بصورة خجولة، الضربات الثلاثية على مواقع نظام آل الأسد، إذ لا يريد رئيسها أن يجازف بإثارة استياء الرئيس الأمريكي مخافة أن يغيّر هذا الأخير موقفه من المسألة الكردية.

والحال أن همّ الحكومات الأوروبية الرئيسي بات، بعد القضاء على تنظيم داعش، وقف تدفّق اللاجئين السوريين وإرجاع أكبر عدد ممكن منهم من أوروبا وتركيا إلى بلادهم. والحقيقة أن الحكّام الأوروبيين لا يزعجهم البتة قضاء نظام آل الأسد على المعارضة السورية بفضل التدخّل الروسي. ويتطلّعون بفارغ الصبر إلى تسوية تُديرها موسكو وتقوم على ترسيخ نظام آل الأسد تحت وصايتها. أما العقدة الأساسية التي تعيق هذا السيناريو فتبقى العقدة الإيرانية، إذ أن «الخط الأحمر» الأعظم لدى واشنطن، كما لدى الدولة الصهيونية حليفتها الحميمة، هو تحوّل التواجد الإيراني في سوريا إلى تواجد مستديم، بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية إيرانية ثابتة إسوة بالتواجد الروسي.

هذه العقدة الإيرانية هي ورقة بوتين الرئيسية في متاجرته مع الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، سعياً وراء صفقة شاملة تشمل إقرار الغرب بضمّ موسكو لشبه جزيرة القرم (ولو بعد إجراء استفتاء جديد فيها تحت إشراف دولي) ورفعه العقوبات التي فرضها على روسيا منذ ذلك الضمّ. وهذا ما سوف يكون في صميم المحادثات التي ينوي ترامب إجراءها مع بوتين، وقد دعاه إلى زيارته في البيت الأبيض بينما كانت أزمة محاولة اغتيال العميل الروسي المرتدّ في بريطانيا في أوجّها. ولو حصل بوتين على مبغاه، من المرجّح أنه سوف يفسح المجال أمام تسوية بإشراف دولي رسمي، تقوم على سيطرة نظام آل الأسد تحت وصاية روسيا على كافة الأراضي السورية مع إخلائها من كافة القوات الأخرى، عدا تلك التي قد يتم الاتفاق على ضمّها إلى القوات الروسية في مهمة حفظ سلام دولية في سوريا. أما بغير تسوية من هذا النوع، فيصعب تصوّر استتباب أي سلم في بلاد الشام.

٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

 

 

 

 

هل هناك سوريا بلا بشار وليبيا بلا قذافي؟/ نزار بولحية

كأنه كتب على أجيال كاملة من السوريين والليبيين أن تذعن رغما عنها لاختصار سوريا وليبيا في آل الأسد وآل القذافي فقط. فحتى المئة صاروخ أو يزيد التي أطلقت فجر السبت الماضي، زادت من صلف الأول وطموحه الجارف للبقاء في السلطة بأي ثمن. وحتى مسارعة البعض قبلها بأيام ايضا لنعي الثاني سليل العائلة القذافية العريقة حولته أو كادت تحوله من مرتزق منبوذ إلى بطل شعبي مرموق. أليس ذلك بالمختصر المفيد ما حصل مع بشار الأسد وخليفة حفتر؟

لقد بدا بشار واثقا مطمئنا وفي «مزاج جيد»، كما أخبر نواب روس قابلوه بعد أربع وعشرين ساعة من الضربات الجوية التي استهدفت بعض المواقع والمنشآت. فكل ما دمره قصف العدوان الثلاثي كما أطلق عليه إعلامه، لم يكن مهما أو مؤثرا أو ماسا بمعنوياته. فبما أنه مايزال سليما معافى لم يمسه خدش واحد، ولديه من الشجاعة ما يكفي لان يظهر ساعات قليلة بعد القصف الاطلسي ممسكا حقيبة وقاطعا إحدى ردهات قصره، مثلما اظهره شريط دعائي فكل شيء في سوريا من الرضيع إلى المعمل الكيماوي إلى المنشأة المدنية والعسكرية فدى بشار وفدى بقائه فوق رقاب السوريين إلى أن يرث الله الارض ومن عليها. لكن يبدو أن حظ حفتر في الشعور بالزهو سيكون أقل من حظ بشار فتقدمه في السن ومتاعبه الصحية لا تسمحان له بأن يخرج مثله بعد وقت قصير من إعلان وفاته ليكذّب الخبر جملة وتفصيلا، ويقول مثلا إنه فبركة اخرى من فبركات الإخوان والدواعش. ومن يدري فقد يتمكن إن كتب له العمر من أن يحتفل بالضربات الإعلامية القوية التي استهدفته وجعلته معلقا بين الحياة والموت، وكانت بمثابة شهادة ميلاد اخرى له كحاكم مطلق لليبيا، التي لم تخرج بعد من عباءة القذافي.

لكن ما الذي يمكن أن يعنيه بقاء بشار على قيد الحياة أو موت حفتر؟ وهل أن مصير السوريين والليبيين سيظل مرتبطا فعلا ببقائهما أو غيابهما عن الوجود؟ إن ما يجمع حاكم دمشق وجنرال طبرق بعيدا عن افتنانهما بالحلول القصوى هو أنهما استطاعا استجلاب مجموعة من الأعداء الوهميين الضرورين لبقائهما في مواقعهما في السلطة. ولا شك في أن الاختلاف الكبير في الظروف المحيطة بهما جعلت بشار يحصد عددا أكبر من أولئك الاعداء مقارنة بخبرة حفتر المحدودة والقصيرة في المجال. ولاحظوا جيدا كيف نجح الاثنان في تسويق نفسيهما كبطلين قوميين يدافعان عن استقلال بلديهما وسيادته، في وجه التدخلات الخارجية. ألم تكن كل الضربات الاسرائيلية والامريكية والفرنسية والبريطانية في سوريا مثل ضرب الحبيب، الذي يزيد الأسد حبا وهياما بكرسيه في دمشق، ولا يحل ولو واحدا من عشر آلام ومآسي مئات آلاف السوريين؟ ألم يكن كل العالم يعرف مثلا بأن «الغارات الجوية (الاخيرة) لم تغير من الوضع القائم، وتركت للأسد مواصلة شن الحرب على شعبه» مثلما كتبت «نيويورك تايمز» الاحد الماضي؟ أم أن الامر كان اكتشافا خارقا فات الامريكان وباقي دول التحالف الغربي؟ وبالمثل ألم يكن تقرير صحيفة «لوموند» الفرنسية الاربعاء الماضي، الذي اشار إلى أن «أن رجل الشرق الليبي القوي موجود في أحد المستشفيات الفرنسية بعد أن نقل إليها على عجل من العاصمة الأردنية عمان، في اعقاب اصابته بجلطة دماغية»، بمثابة كيس اوكسجين جديد ألقي لال القذافي ولدورهم مستقبلا في ليبيا؟ لم يكن مطلوبا من العالم بالطبع أن يصم آذانه ويغلق عيونه ولا يعاقب الاسد على جرائمه المريعة، ولا كان مطلوبا منه ايضا أن يتكتم على خبر وفاة الجنرال الليبي إن ثبتت وفاته بالفعل. ولكن هل كان القصف هو العقاب المناسب لكل دموية وجنون الاسد؟ وهل كان اعلان الوفاة بكل تلك النبرة الانتصارية هو السبيل لقطع الطريق على عودة ابناء القذافي واركان نظامه للحكم؟

لقد رأى الجميع كيف خرج بشار بعد الضربات اقوى مما كان عليه قبلها، وكيف استطاع أن يقدم نفسه على أنه ضحية عدوان ثلاثي لا يختلف كثيرا عما تعرضت له مصر منتصف الخمسينيات. وبدلا من أن يتركز الاهتمام على مصير الضحايا، أعطت سياسة الغرب في استغلال محنهم انطباعا قويا بأن حياة الأسد أغلى من كل الحيوات في سوريا، وأن التخلص منه يتطلب بالضرورة تدمير البشر والحجر، وتسوية البلد بمن عليه أو إعادته إلى العصر الحجري، أسوة بما حصل قبل سنوات في الحرب على صدام. إنه التطبيق العملي لسياسة «الأسد أو نحرق البلد» التي أطلقها انصار النظام، ولم يكن احد ليتصور أن من اعلنوا قبل سبع سنوات من الان انهم لن يسمحوا ببقائه يوما اضافيا واحدا في السلطة، سيكونون هم المبادرين لنحتها وتثبيتها على ارض الواقع بكل ما قاموا به من تواطؤ مفضوح معه، وما ارسلوه من قذائف وقنابل وصواريخ غبية على أهداف لا أهمية أو دور لها في التأثير على بقائه أو رحيله من السلطة. كانت الخدمة الاكبر التي اطالت عمر حكمه الافتراضي القصير هي دخول قوى اجنبية على خط المواجهة الوهمية معه، ما جعله قادرا على مناطحتها بقوى اقليمية ودولية اخرى، وتصوير نفسه مع ذلك على أنه المدافع المخلص عن الدولة الوطنية المستهدفة بالتجزئة والتفتيت. ولم يعد غريبا أن يعترف المسؤولون الاوروبيون علنا بذلك الدور في تأبيد استبداده وإطالة امده. ألم يقل الرئيس الفرنسي ماكرون في مقابلة تلفزيونية بثت الأحد الماضي «إن فرنسا لم تعلن الحرب على نظام الاسد» وإنها ترغب بحل سياسي شامل في سوريا، أي في حل لا يقصيه، رغم كل ما ارتكبه في حق شعبه، ولا يستثني استمراره في البقاء على رأس النظام. فهل كانت الغاية الاولى والاخيرة اذن من وراء الضربات هي شيئا اخر غير تجميل صورة بشار وتهيئته فعلا للبقاء للابد فوق جماجم السوريين؟

إن المفارقة هي اختلاف الطريقة لم يمنع من الوصول للنتيجة نفسها، فقد كان تضارب الانباء ايضا حول صحة حفتر وتقديمها محليا ودوليا بطريقة فتحت الباب أمام قدر واسع من الغموض لا حول حقيقة مصيره الشخصي، بل بالأساس حول مآل ليبيا من بعده، إشارة لا تخطؤها العين إلى أن القوى المتحكمة من وراء الستار في أقدار الليبيين لا تريد لهم أن يتحرروا من ظل القذافي. وأنها حتى إن كانت بصدد التفكير في بديل للعقيد الراحل، ثم من بعده للجنرال الفقيد، فلن يكون أمامهم من أحد آخر غير ابنه سيف الاسلام أو عسكري اخر من تلامذة القذافي، أو ممن تخرجوا من مدرسته في الحكم.

إنهم يرغبون ببساطة شديدة من خلال ضرب بشار وحبك روايات الرحيل الدامي لحفتر مصارعا المرض الخبيث، أن يقنعوا السوريين والليبيين بأن لا مجال لهم للتفكير في مستقبل خال من الأسد ومن القذافي، وإن كل طموحاتهم في التخلص يوما ما منهما ستظل مجرد اوهام. أما هل نجحوا في ذلك أم لا فربما سيكون باكرا معرفة الجواب؟

كاتب وصحافي من تونس

القدس العربي

 

 

 

رسالة ود مكتوبة بالصواريخ/ إبراهيم الزبيدي

إن أي حل للمسألة السورية لا بد أن يُفضي، بالضرورة، إلى تغيير شكل المنطقة، كلها، وإلى صياغة توازنات جديدة للقوى الدولية والإقليمية فيها. ولأن أطرافا عديدة دولية وإقليمية لها مصالح إستراتيجية تتأثر كثيرا بالوضع السوري، بشكل خاص، فلا يمكن تحقيق تقدم في الوضع المعقد العصيّ على الحل في سوريا إلا بالمشاركة الكاملة بين روسيا من جهة، وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى.

وقد ثبت أن أكثر المتضررين بصعوبة الحل في سوريا هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نفسه. وذلك نتيجة لبقائه سنوات وهو يعرقل الحل المعقول والمقبول، سوريا وإقليميا ودوليا، متوهما بأن في مقدوره عدم الاعتراف بمصالح الدول الأخرى، واحتكار الملف السوري، والمقايضة به مع أميركا وحلفائها في مناطق أخرى يحتاج فيها إلى مقايضة.

ومن أول التورط الروسي في العقدة السـورية حاولت أميركا وحليفـاتُها الأوروبية في مجلس الأمن الدولي ملاعبته وملاطفته بمشاريع قرارات مخففة مدهونة بالسمن والعسل، لاستدراجه إلى قبول مبدأ المشاركة في الملف السوري، إلا أنه كان يضرب بها عرض الحائط ويستخدم حق النقض (الفيتو) لإبطالها، حتى بلغ عـدد مرات استخدامه ذلك الحق اثنتي عشرة مرة في الشأن السـوري وحده، كان آخرَها مشروعُ القرار الذي لا يدعو لأكثر من التحقيق في استخدام الغاز الكيمياوي في دوما مؤخرا.

وهو بهذا لم يُبق أمام أميركا وبريطانيا وفرنسا، ومعها ألمانيا وحلف الناتو، سوى لغة أخرى أكثر بلاغة وفاعلية، لمخاطبته وتبصيره بمخاطر الاستمرار في المكابرة، ولتبصيره بفداحة تكاليف المواجهة التي قرر الحلفاء الغربيون خوضها باعتبارها آخر الصبر الجميل. ولكن أميركا وحليفاتها غلّفت رسالتها الصـاروخية بالـرغبة في منع بشـار الأسـد من استخدام السلاح الكيمياوي ضد المدنيين.

أولا لإظهار الرئيس الروسي الضامن والحاضن والداعم القوي والوحيد لجرائم لنظام السوري، وخاصة الكيمياوية منها، مقابل إنسانية الرئيس الأميركي دونالد ترامب والبريطانية تيريزا ماي والفرنسي إيمانويل ماكرون، الذين تحملوا مخاطر الصواريخ وأثمانها الباهظة لمعاقبة من قام بارتكابها.

وثانيا إفهام إيران وبشار الأسد أن الاعتماد على الحماية الروسية الدائمة ضرب من الهبل والخبل وتضييع المال والرجال. وبرصد موضوعي وجاد لجميع ردود الأفعال الروسية والإيرانية والسورية على الضربة الصاروخية، وتحليل دوافعها ونتائجها يتبين أن ما أدركه الإيرانيون والسوريون، مؤخرا، يختلف مئة في المئة عما فهمه بوتين من الرسالة.

خصوصا وأن أميركا والدول الأوروبية الأخرى حرصت على إرفاق صواريخها بترويج أخبار عن فرض عقوبات اقتصادية وسياسية جديدة على نظام بوتين، مع التلويح، في الوقت نفسه، بالرغبة في التعاون والتفاهم وإلغاء العقوبات وتخفيف الضغوط السياسية عليه، إن هو استمع لمنطق العقل وتخلى عن المواجهة وعاد إلى الحوار.

ولهذه الأسباب، مجتمعة، يصبح مفهوما سبب جعل الرسالة الصاروخية قصيرة وسطحية ودقيقة تفادت، بنجاح، أي إزعاج لا لقوات بوتين، ولا لعناصر الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والميليشيات العراقية التي تحمي النظام السوري وتشاركه في أغلب جرائم القتل والحرق التي ارتكبها ويرتكبها، سواء بالسلاح التقليدي أو الكيمياوي.

بالمقـابل لم يفعل بوتين أكثر من أن يهاتف الرئيس الإيراني لكي يقول له “إذا استمرت هذه الأعمال التي تمثل انتهاكا لميثاق الأمم المتحدة، فإنها ستؤدي حتما إلى فوضى في العلاقات الدولية”. وهو يعلم أنها لن تتكرر.

فقد بادرت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، إلى الرد المشفر مطالبة روسيا بالضغط على سوريا و”دفعها” إلى طاولة المفاوضات. كما نقلت وسائل إعلام روسية في وقت سابق عن فلاديمير إيرماكوف، المسؤول بوزارة الخارجية، قوله إن “الولايات المتحدة ستحرص على الحوار مع روسيا بشأن الاستقرار الاستراتيجي بعد الضربات على سوريا. وأضاف أن “في الإدارة الأميركية أشخاصا معينين توجد إمكانية للحديث معهم”.

ثم قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض ساره ساندرز إن “المهمة الأميركية لم تتغير”، مضيفة أن “الرئيس كان واضحًا، إنه يريد أن تعود القوات الأميركية بأقرب وقت ممكن إلى الوطن”.

وتابعت ساندرز “نحن عازمون على سحق تنظيم الدولة الإسلامية بالكامل، وخلق الظروف التي تمنع عودته. وبالإضافة إلى ذلك، نتوقع أن يتحمل حلفاؤنا وشركاؤنا الإقليميون مسؤولية أكبر عسكريا وماليا من أجل تأمين المنطقة”.

ومؤكد أن هذه الإشارات المتبادلة بين الكرملين والأميركان والبريطانيين والفرنسيين والناتو هي التي جعلت الإيرانيين وبشار الأسد وحسن نصرالله وقادة الميليشيات العراقية الإيرانية يخرجون على الدنيا غاضبين منددين بـ“العدوان الثلاثي” على السيادة السورية وعلى القانون الدولي، حتى أن بعضهم تنادى إلى التحرك الفوري لمهاجمة الأهداف والقواعد والمصالح الأميركية والبريطانية والفرنسية في الدول العربية والعالم.

وبما أن الصواريخ الأميركية الأوروبية لم تمس الإيرانيين ووكلاءهم بأي سوء، ولم تصب النظام السوري الذي يقاتلون لضمان بقائه في السلطة بمقتل حقيقي، فلا بد أن يكون لهذا الغضب والثورة والتهديدات أسبابٌ ودوافع أخرى غير الحرص المغشوش على السيادة السورية والقانون الدولي، أهمها الخوف من تراجع بوتين عن مشروعه السوري الإيراني المشترك، وقبوله بمشاركة أميركا وحلفائها الغربيين والعرب والسوريين والأتراك والأكراد في إدارة الملف السوري.

وأكثرُ ما يرعب النظام الإيراني أن يخرج من سوريا بخسارة ما أنفقه فيها من أموال ورجال، خصوصا في ظروف إيرانية داخلية حرجة جدا، الأمر الذي قد يشعل لهيب ثورة شعبية تهدد وجوده في الصميم.

ويعرف الإيرانيون ووكلاؤهم العراقيون أن أية هزيمة إيرانية في سوريا لا بد أن تقود إلى هزيمة لاحقة لهم في العراق، وهذا بالذات ما أشعل غضب العراقيين الإيرانيين.

خلاصة القول. إن الصواريخ الأخيرة الذكية جدا قبل أن تكون بردا وسلاما على بشار الأسد وطائراته وسلاحه المكدس في المستودعات، كانت أيضا، وبالمقدار نفسه، بردا وسلاما على جميع قواعد الحرس الثوري الإيراني في سوريا والميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية المنتشرة في الهواء السوري الطلق، ولا يخطئ رؤيتها إلا أعمى بصر وبصيرة، وبوارجُ أميركا وبريطانيا وفرنسا ليست كذلك.

كاتب عراقي

العرب

 

 

 

حديث ما بعد القصف في سوريا/ عدلي صادق

اختلطت الأوراق واختلفت المواقف العربية حيال مسألة القصف الأميركي على مواقع سورية عسكرية، بمشاركة البريطانيين والفرنسيين. فقد أطلقت الصواريخ التي وصفها دونالد ترامب، من مكتب تغريداته على فيسبوك؛ بأنها ذكية وجديدة. وبدت التناقضات في المواقف العربية انعكاسا للحال العربية وللمشهد السياسي العام في دنيا العرب.

ففي الأصل وفي الفروع، يرفض الوجدان العربي كل قنبلة تنفجر في الأشقاء السوريين أيا كان مُفجّرها، وأيا كانت ضحاياها، وأينما كان الانفجار، غير أن طبائع الطرفين أي الذي ضَرب، والذي تلقى الضربة، فيها الكثير مما يشكك في صدقيته. فلا الأميركي الذي يضرب، ولا النظام السوري الذي يتلقى، عُرف عنهما حُسن الأفاعيل.

فالأميركيون ليسوا حماة العدالة ولا حماة الأرواح، حتى في الحدود الدنيا، وليس النظام السوري طريدة بريئة ذات مآثر، يتقصدها الإمبريالي لوقف أفضالها على شعبها وأمتها. أما الروس الذين أغضبتهم الضربة ورأوها موجهة لكرامتهم، فإنهم أنفسهم الذين توحشوا ضد السوريين، وينسقون مع إسرائيل التي يُفترض أنها عدوة النظام السوري، بمعنى أن الطرفين، الذي يضرب والذي يتلقى الضربة، طرفان ضالاّن وصديقان لإسرائيل مع بعض التفاوت في الدرجات. أما النظام الذي بينهما، فلا قيمة له ولا فاعلية سوى أنه يضرب ناس سوريا دون تمييز، وهو، بغروره في بدايات الأزمة والانتفاضة الشعبية السلمية؛ كان ولا يزال صاحب المسؤولية الأولى عن انفجار الأوضاع وانفتاح بطن بلاده لكل الطامعين.

الانحياز لسوريا الوطن والشعب؛ هو أصل الموقف وقاعدة القياس. ولا يختلف اثنان على أن قطاعات شعبية واسعة من العرب، تمنت الهزيمة للأميركيين، لكي يتعلموا أن استرخاص تمنيات الشعوب وإنكار حقوقها، من شأنه أن يخلق رأيا عاما مضادا لهم، لا قناعة لديه بأن واشنطن تمتلك الحد الأدنى من الإحساس بالمسؤولية عن دفع المظالم والغضب من التعديات على أطفال دوما أو غيرها. فهم الآن رعاة أصحاب المقتلة المديدة لشعب فلسطين، ولمثيلاتها من المَقتلات، في العراق وليبيا والكثير من بلدان العالم في التاريخ المعاصر. فما زعمهم أنهم يعاقبون النظام على قصف “دوما” بالغازات، إلا وسيلة خداع في سياق المكاسرة بين الإرادتين الأميركية والروسية، وهذه مكاسرة يأخذ دونالد ترامب بناصيتها، لكي ينفي عن نفسه الاتهام بأن الروس مسؤولون عن نجاحه في الانتخابات الرئاسية الأميركية!

يصح التساؤل: كيف يقنعنا الروس أن رفضهم الهجوم الأميركي على سوريا، أو استعدادهم للتصدي له، هو محض التزام بالدفاع عنها أرضا وشعبا، وعن سيادتها، في مواجهة أي معتدٍ؟ فالسلاح الإسرائيلي هو شقيق السلاح الأميركي، فلماذا ينزل الأول بردا وسلاما على الروس وينزل الثاني جحيما. بل إن السلاح الثاني عندما يضرب في سوريا تحديدا، فإنه يتحاشى الروس بالتركيز على المواقع العسكرية، وبإحداثيات أقرب إلى الدقة، أما السلاح الإسرائيلي، عندما يضرب، تاريخيا، فلا يهمه التركيز، ويقصف أبرياء آمنين، وبالمحصلة يكون الأجدر هو أن الأطراف الأربعة، ومعهم فرعان، هما خفافيش الظلام أصحاب الرايات السوداء المنتحلة للإسلام بالخطابين الأصولييْن السُني والشيعي، ومن ورائهم إيران وتركيا؛ يضربون السوريين ويعتدون على وطنهم ويقامرون ويسفكون الدم، من أجل مصالحهم وهيمنتهم ونفوذهم وأحلامهم المريضة ونزعاتهم الطائفية.

سوريا الحرة الديمقراطية الموحدة التي يتساوى فيها المواطنون، والخالية من كل استطالات المعتدين والطامعين وتابعيهم، والمفرغة من الجموح الطائفي، هي أمل السوريين والعرب وبرهان العدالة. فلقد أثبتت سنوات الصراع على سوريا والرقص على جثث شهدائها، أن الأطراف الرئيسة الأربعة: أميركا وروسيا وإسرائيل والنظام السوري ببُنيته الراهنة ومنهجيته، ومعهم الطرفان الرديفان على جانبي الصراع، إيران وتركيا؛ هم الذين أحبطوا انتفاضة الشعب السوري وسعيه إلى الظفر بأمنياته. فقبل أن يتدخل الروس والإيرانيون، بكل ثقلهم لإنقاذ النظام، كان الشعب السوري، ومعه الفارون من الجيش، بعد أن تحول لضرب شعبه بالنيران؛ على وشك تحقيق الانتصار، لكن ارتهان تركيا، للأميركيين الذين خانوها بعدئذ، جعلهم غير مستعدين لمساعدة السوريين على تحييد الطيران واستكمال انتصارهم، وبدل دعم الطرف الساعي إلى الحرية أدخلت تركيا الأردوغانية، ذوي الرايات السوداء، الذين خانوها بعدئذ هي الأخرى، ثم تدخلت إيران من الموقع النقيض، وبدأت تتسع دوائر الذبح الممنهج للشعب السوري، وكان من المفارقات أن يتصالح الأتراك والإيرانيون على قاعدة مصالحهم، والأتراك والروس على قاعدة مصالحهم، وأن تنسق الأطراف المنخرطة في الصراع في ما بينها، في موازاة التنسيق الروسي الإسرائيلي، لكي يستمر سفك دماء السوريين وتمزيق سوريا.

لم يكن هناك الحد الأدنى من المبادئ، ولا من شرف الإحساس بواجب الدفاع عن السوريين الأبرياء ومقدراتهم وبيوتهم وحتى على حقوقهم في البقاء على أرض مدنهم وقراهم. وعندما يهجم الأميركيون، بهذه الطريقة التي قوّت النظام السوري ولم تضعفه؛ يزداد مشهد الصراع تعقيدا، ويتسع عيار نزف الدماء، كما دل عليه قصف طائرات النظام بعد الضربة، ما جعل اليائسين الذين فقدوا منازلهم وأبناءهم وسُفكت دماؤهم يتمنون أن تذهب الأطراف كلها إلى محاربة بعضها البعض بعد أن أخربت سوريا وأدمت شعبها وصولا إلى “دوما”.

كان الأجدر بالنظام السوري والروس والإيرانيين، بدل التشكيك في حقيقة استخدام الكيمياوي، أن يعملوا منذ سنوات، على منع استخدام هذا السلاح الحقير، ومنع القصف العشوائي على الأبرياء. كذلك كان الأجدر بهم، أن يساعدوا على تطبيق هذا المبدأ، ودعمه في كل الصياغات التي يطرحونها للتسوية. فالتلاعب بالألفاظ ورمي المعاني المعبرة عن المقاصد الحقيقية، في بطون الجُمل لإخفائها؛ يجرى على حساب الدم العربي السوري. لقد حان الوقت منذ سنوات، لأن يقول العرب والعالم كفى قتلا وتشريدا للسوريين. وحان الوقت لأن تُعطى الكلمة الفصل لشعب سوريا، في وطنه وفي شتاته، ولعل صيغة جنيف التي تعمد الروس إضعافها، هي الأصلح!

لم يكن الأميركيون والمستعمرون القدامى حريصين على تطبيق صيغة جنيف، ولم يكونوا يكترثون للبراميل المتفجرة، التي تفتك بالمدنيين دون تمييز. أما إسرائيل التي يشتقّون من تمنياتها كل خططهم، فلا تخيفها البراميل التي تحملها طائرات يصعب تحليقها في أجواء دولة الاحتلال دون إسقاطها، لكن الغازات السامة بكل أنواعها، هي سلاح تخشى إسرائيل مجرد وجوده، إذ يمكن الافتراض أن يجري في أي مواجهة، تحميله لصواريخ. وهنا مكمن خطورته بالنسبة لإسرائيل وللغرب تاليا.

كاتب وسياسي فلسطيني

العرب

 

 

 

 

ماذا تبقى من كرسي الأسد بعد حرق البلد/ حامد الكيلاني

وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس في كلمته أثناء اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ قال جملة مفيدة تؤكد استحالة أن يكون نظام بشار الأسد جزءا من الحل بعد استخدامه السلاح الكيميائي ضد شعبه. رغم أن كلمة “شعبه” فقدت مصداقيتها، لكنها تكفي بالغرض لموجبات الإدانة الدولية والتعبير عن لا مبالاة النظام بحياة الملايين من الشعب السوري.

تاريخ النظام بسيرته الدموية كان بمثابة تدريب واستعداد نفسي وميداني لمواجهة ثورة متوقعة يمكن أن تحصل اليوم أو غدا، بل إن بروفة الثورة الكبرى لم تكن ضلالة أو بدعة من ابتكار زهرة ياسمين تونس التي تضوعت، رغم الإخفاقات، برفض شعوبنا الانتحار على أعتاب مناهج وتعاليم الطغاة.

بقاء الحاكم إلى الأبد أو حرق البلد، ليس شعارا تعبويا، بل ديباجة فقه دستوري محفورة في الأداء العسكري والأمني والحكومي والسياسي والتربوي والإعلامي؛ وفكرة الأبد المقيدة بالحكم مدى الحياة نص واقعي جدا في الحياة السياسية منذ العام 1970؛ نص يلغي تهويمات الانتخابات والديمقراطية وما تكلفه الحملات الدعائية وهوس الترشيحات الثانوية لمجلس شعب أو إدارات محلية.

أي حوار بناء عن مرحلة انتقال سياسي لن يكون للأسد دور في نهايتها، هو من باب المعارضة، مجرد رفع عتب دبلوماسي لتجاوز اتهامات المجتمع الدولي بعدم الخبرة والحنكة في مجال السياسة والمرونة.

ازداد الأمر سوءا عندما استفردت روسيا فلاديمير بوتين وإيران علي خامنئي بمفاوضات أستانة رغم أنهما استفردتا أيضا برسم خرائط الدم على الأرض السورية.

وفود المعارضة قطعا لم يغب عنها المخطط الروسي الإيراني لإطالة أمد النظام في السلطة بتخدير مقررات جنيف وقرار مجلس الأمن بصددها في تزوير فج لصلاحية نظام منتهية منذ الأيام الأولى للثورة السلمية، إن كانت الديمقراطية تعني الاعتراف بالإرادة الشعبية.

ولأننا تحت سقف نظام يعاني من التوحد، نتفهم لماذا أعطى توكيلا مفتوحا مصدقا من مجلس “شعبه” لروسيا وإيران لحمايته والإنابة عنه في مجلس الأمن كغطاء سياسي مقفل باتجاه واحد لأن الهدف غير قابل للنقاش، لذلك لم تتهيأ للشعب السوري فرصة محادثات جادة خلال 7 سنوات من عمر الإبادة.

روسيا وإيران تلبستا جنون النظام في سوريا لتحقيق مآرب بمرجعيات فكرية متناقضة، لكنهما توحدتا في إجرام عدوانهما الثلاثي على الشعب السوري باستغلال تغافل القانون الدولي والإنساني ربما لمعرفتها المسبقة بطبيعة النظام الدموية، ولإدراكهما أن لحظة الحقيقة لا ريب فيها، بما تعنيه من انسحاب وترك النظام ليواجه مصيره متحملا أوزار جرائمه وجرائم حلفائه.

حرق البلد بعد حرف العطف “أو” الذي يفيد التخيير بين بقاء الحاكم وبقاء البلد في شعار ضمان وجود الدولة السورية، يفسر مغزى الهجمات الفتاكة على المدن والمدنيين بالنابالم والبراميل المتفجرة وأسلحة محرمة دوليا، عدا الأسلحة التقليدية من مدفعية وراجمات وقصف أيديولوجي وعقائدي وتغيير ديموغرافي وحصار وتجويع وسجون وتعذيب وتغييب.

هل بعد حرق سوريا من ذنب؟ وهل السلاح الكيميائي إلا ذنوب صغيرة على الساحة السورية؟ ذنوب لا ترى فيها روسيا وإيران إلا علاجات برد وزكام يعاني منها النظام بعد صدمة ثورة الشعب السوري التي هزت أركان نظام الأبد الفاشي.

صديق مقرب إلى نفسي ألجأ إلى تجربته الإنسانية في وصف تقطيع أوصال الجسد السوري عندما يكتب في مذكراته اليومية “وصلت إلى الشام، أقصد دمشق، بعد أن تجاوزت محنة الموت الجماعي في الأيام الماضية، ولهول القصف العشوائي بمختلف صنوف الأسلحة على مدار الدقائق تدحرجت المباني والحياة وتحولت تلك الضيعة الوادعة، التي تبتعد مسافة نصف ساعة عن العاصمة، إلى عيون معلقة بصمت مقبرة وشارع وحيد مغلق باحترام الموت. انتظرت لأكثر من أسبوع أن يسألني أحـدهم عن وقائع الحرب ولهفة الاطمئنان على الناس، لكن لا أحـد سوى رجل مجهول دفعته المجاملة ربما ليسألني دون اهتمام: هل حدث شيء هناك”. كان ذلك التاريخ في فبراير 2012.

طوق من عزلة يصنعه إرهاب السلطة على الإعلام والفضاء والاتصالات والمعلومة وحساب الكلمات وتهورها ولو بالدموع والبكاء في رسائل نصية؛ لإنسانية النظام تعليمات غاية في الوضوح ليست آخرها فقرة السلاح الكيميائي الذي بتر وقطع أنفاس المواطنين بغازات الموت الرحيم المفاجئ.

لو تخيل المجتمع الدولي المأساة السورية على طريقة وزير الخارجية الألماني لتأكد أن تقسيط الهجوم على حلب أو أي مدينة سورية منكوبة، إذا تم تجميعه بسلة ضربة واحدة لكانت النتيجة فاجعة على صعيد رد الفعل الإنساني لشعوب وقادة العالم وأيضا على صعيد السياسة ودور مجلس الأمن.

كسل وترهل وتخمة بعد شراهة اقتصاد الدول الكبرى بما يدفع إلى التساؤل عن سذاجة التفريق بين إرهاب تنظيمات متطرفة، وإرهاب منظم لحكام يتلاعبون بالسلم المحلي لدولهم وإقليمهم ويعرّضون الأمن العالمي ومصير البشرية إلى مجازفة ليست بعيدة جدا عن التوقعات، والأدلة في ضمانات استمرار نوع الكائنات وبنوك بذور المحاصيل الزراعية المحفوظة في ظروف مناخية قطبية.

الهجوم التكتيكي الثلاثي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا ردا على هجوم النظام الكيميائي في دوما، هو هجوم بمجمله “خلّب” على مباني خلب فارغة من مكونات الأسلحة الكيميائية.

مع كلمة الرئيس دونالد ترامب نستمر في رسم توصيلة بين هدوء ما قبل وما بعد الهجوم الثلاثي؛ أي توصيلة أميركية بالتهديد والتوقيت والتنفيذ لاستعادة التوازن في مسار الأزمة السورية مع روسيا في فرشة تسويات تغطي على مثالب عقود من الإخفاق في منطقتنا، بما يعطي الانطباع إن ثمن الدماء السورية والعربية مفتاح لمغاليق الأزمات الدولية الخطيرة مثل كبش الفداء النووي في هيروشيما وناكازاكي الذي أسدل الستار على الحرب العالمية الثانية.

الرأي العام للمواطن السوري والعربي والإنساني يتبرم بالتدرج من اختصار العقاب كرد فعل تجاه الهجمات الكيميائية للنظام، لأن قرار إحراق سوريا جاء بإرادة مجلس شعب منتخب بديمقراطية أسرة حاكمة وبدعم روسي إيراني لتكريس تطبيق معادلة لا دور فيها للشعب إلا بالاختيار بين عبوديته أو الموت.

الحل السياسي كان دائما هرولة تقطعت فيها أنفاس المعارضة، لكن مع حاكم للأبد كيف تستقيم المفاوضات والحل؟ وماذا عن القادم بعد دوما في إدلب من حشر وتخزين للفصائل المسلحة وزج 3 ملايين ونصف مليون مواطن في زاوية تهديد علني من علي أكبر ولايتي مستشار خامنئي بمجازر أخرى، نبه العالم لكارثتها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، وبتوقيت تصعيد خفي ومعلن من أقطاب الطائفية في العراق بما يسبق انتخابات مايو المقبل، لتبريرهم بأن إدلب بؤرة لمن يشملهم قانون الحاكم المدني الأميركي بول بريمر للاجتثاث الذي يخضع لتجاذب نماذج سلطات تنتهي غالبا بأشلاء الكراسي ورماد الحرائق.

كاتب عراقي

العرب

 

 

ضربات سوريا: نهاية تقاليد فرنسا الرافضة للتدخل العسكري/ أمين بن مسعود

تغيير ملحوظ حاصل في دوائر اتخاذ القرار الفرنسيّ، مقارنة بما كان عليه الإليزيه عند تهديد إدارة الرئيس باراك أوباما بتوجيه ضربات لدمشق في صيف 2013، أو عند الضربة العسكرية الأميركية لمعسكر الشعيرات في 7 أبريل 2017، (كلاهما في عهد فرنسوا هولاند)، وحتى مقارنة بموقف فرنسا (في عهد جاك شيراك) من التدخل الأميركي والبريطاني في العراق.

الدولة الفرنسية التّي كانت تتذرّع بضرورة موافقة المجالس التشريعية وبالمظلة الأممية لتأمين الضربات العسكريّة أصبحت اليوم تتصدر مشهديّة التصعيد العسكري المحدود ضدّ دمشق، وتؤكد -على لسان وزير خارجيتها، جان إيف لودريان- على الرد بالطريقة ذاتها على أي هجوم كيميائي جديد في سوريا.

يطرح تطور الموقف الفرنسي أسئلة حول الأسباب العميقة لهذه الاستدارة في عهد ماكرون، فهل تعبّر عن مجرّد تقابل أميركي فرنسيّ في الموقف الحازم ضدّ الرئيس السوري بشار الأسد، أم أن التحرّك الفرنسيّ مؤشر على سياسات قديمة جديدة لباريس تستجلب بمقتضاها نفوذها وقوّتها الناعمة وتعيد التموقع والتمركز في الجغرافيا المحبذة لعقل وجيب عاصمة الأنوار؟

مثّل الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك (1995 – 2007) آخر حفيد شرعيّ للسياسة الديغولية في الشرق الأوسط. رفض شيراك التدخل الأميركي في العراق عام 2003، كما عبّر عن مبدئية ميثاقية، قلّ نظيرها، حيال القضية الفلسطينية والزعيم ياسر عرفات في 2004. ومن بعد الديغولية العتيقة، جاءت صيغ جديدة في دبلوماسية الانسحاب من المواقع المعتادة في الشرق الأوسط لفائدة سياسات أخرى أكثر نزعةً أفريقية وأوروبية بشكل خاصّ.

في السنوات الأخيرة، فرضت قضايا الإرهاب في سوريا والعراق والأحداث في ليبيا تدخّلا عسكريا فرنسيا. في بعض المناطق، مثل مالي، كان هذا التدخل مضبوطا وفق المكان والزمان والمهمّة، وكان اضطراريا في مناطق أخرى، لا سيما بعد ورود أسماء العشرات من الإرهابيين الفرنسيين على قائمة الإرهاب في سوريا والعراق وتركيا، حيث مثلت أحداث شارلي إيبدو ونيس وغيرها محركات لتدخّل حذر ومحسوب ودقيق والأكثر من ذلك جماعيّ.

في تفسير تدخل فرنسا العسكري القوي لا يمكن الاقتصار على جهة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، ومعاقبة نظام الأسد على الهجوم الكيميائي، الذي يؤكد حصوله تقرير مخابراتي رفعت عنه باريس السرية عشية الضربة العسكرية، في انتظار تقرير لجنة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية.

يوم 17 أبريل عام 1946، تم إجلاء القوات الفرنسية عن كامل التراب السوري. ومنذ ذلك التاريخ، قد تكون هذه هي المرة الأولى التي تندفع فيها فرنسا بهذا الزخم العسكري نحو سوريا. ولئن كانت الضربة محدودة جدّا من الناحية العسكرية والحربية فهي عميقة ومتسعة للغاية من الناحية السياسية والاستراتيجية.

جزء من الجدل الحاصل حاليا في باريس من قبل المعارضة البرلمانية ومن طرف الأوساط المدنية الفرنسية متأت من هذه المفارقة السياسية، فهي من المرات النادرة التي تتحرّك فيها باريس ضدّ دولة دون قرار أمميّ تحت الفصل السابع وبلا موافقة برلمانية كاسحة.

لئن وقف وزير الخارجية الفرنسي الأسبق دومينيك دوفيلبان في 14 فبراير 2003 بمجلس الأمن الدولي رافضا التدخل العسكري الأميركي في العراق دون استدرار موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، فإنّ جزءا من الرأي العام الفرنسي يقف اليوم مشدوها من الاستدارة الفرنسية الكلية لا فقط حيال الشرعية الدوليّة وإنما أيضا حيال التقاليد الفرنسية العميقة في العلاقات الدولية.

تفسّر ثلاثة عوامل أساسيّة الإقدام الفرنسيّ وتخلي باريس عن الإحجام النسبيّ في قضايا الشرق الأوسط على مدى العشرية السابقة. أوّلها، إعادة تموقع فرضه التشبيك الجديد مع الرياض. ومن الملاحظ أنّ زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كانت إعلان تحالف جديد بين باريس والرياض ستكون له إفرازات وتداعيات واضحة في التعاطي الفرنسيّ مع الملفات اللبنانية واليمنية والإيرانية والسوريّة.

ثانيها، إعادة تموقع فرضه التقارب الفرنسي الكردي في سوريا. كانت وعود باريس بإرسال قوات عسكرية إلى المناطق الكرديّة لحماية الميليشيات الكرديّة مؤشرا واضحا على أنّ فرنسا ماكرون لن تترك الشمال السوري بيد الأتراك ولا الساحل بيد الروس ولا باقي الجغرافيا بيد الإيرانيين، وأنّها لن تقبل بأقل من دور مؤثر في جينيف وفي باقي مسارات الحلّ السياسي والعسكريّ، لذا فإنّ أوّل موقف أعلنت عنه باريس بعد الضربات العسكرية كان الدعوة إلى العودة إلى طاولة المفاوضات.

في العمق الاستراتيجيّ شيئان، إمّا مقارعة واشنطن التي تعاني بشكل واضح من غياب استراتيجية سياسية وعسكرية في سوريا إلا إذا اعتبرنا معارضة المشروع الروسي استراتيجية، وإما تقاسم أدوار وغنائم مع واشنطن في الشرق السوري ومن بعدها تقاسم نفوذ ومواقع سيطرة مع موسكو وطهران.

تمثّل الضربة العسكرية بشكل من الأشكال دليلا ماديا على أنّ باريس مستعدّة لدفع الأمور إلى نهاياتها ضدّ الخصوم، وأنها قادرة على التحرك بلا مظلة أممية، ومؤشرا عميقا على أنّه كما تحرّك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الشمال بلا مظلة أممية فباريس مستعدة للتحرّك في أي جغرافيا بلا تسويغ دوليّ.

وكما يبحث أكراد سوريا عن داعم وضامن دوليّ أكثر حسما وجزما مع تركيا من الفاعل الأميركي الذي تمثل أنقرة لبنة تفكيره الاستراتيجي الأطلسيّ حتّى في أكثر الأزمات الثنائيّة، فإنّ باريس تبحث في سوريا عن حصان طروادة ووكيل مسلّح وخيط هجوم ودفاع متقدّم على مصالحها في الشرق السوريّ.

يكمن ثالث عوامل التدخّل في البعد الأوروبي. وينقسم هذا البعد إلى جزأين، الأول يتعلق بتقوية الدور الفرنسي داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصا بعد انسحاب بريطانيا. ويتعلق الجزء الثاني بالمكاسرة الأوروبية الواسعة مع موسكو ومع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدءا بقضية محاولة اغتيال الجاسوس الروسي مرورا بسحب السفراء والدبلوماسيين والقناصل من الجانبين، وليس انتهاء بالتلويح الأوروبي المستمرّ بالمزيد من تسليط عقوبات اقتصادية جديدة على موسكو.

وكما جرى ترتيب الحسابات ما بين موسكو وبروكسيل في أرض محايدة، وهي أوكرانيا ومن قبلها جورجيا، فإنّ ترتيبا جديدا يحصل لتحجيم موسكو وتضخيم أدوار الفاعلين الجدد في سوريا. ومن الواضح أنّ دلالات التدخّل الفرنسي أكثر غزارة وامتدادا من الضربة العسكرية بحدّ ذاتها، وتؤكّد أنّ فرنسا في عهد ماكرون بدأت فعليا تفكّر خارج الشرعية الأممية وخارج تقاليدها السياسية الديغولية.

كاتب ومحلل سياسي تونسي

العرب

 

بين صدّام وبشّار/ علي نون

فُبركت لصدّام حسين قصّة أسلحة الدمار الشامل وشُنَّت عليه الحرب استناداً لها، في حين شنّ رئيس سوريا السابق بشار الأسد واحدة من الهجمات الموثّقة بذلك السلاح، فَفُبْرِكَتْ عليه ضربة صاروخية ليتها ما كانت!

طبعاً لم تكن تلك الأسلحة (المدّعاة) السبب الرئيس لإسقاط صدّام العراق، وليست هي (الفعلية) السبب الرئيس لبقاء بشّار سوريا في مكانه، كأنّ الأول استنفد مهامه وأكملها واستطرد خارج حدوده باتجاهات خطيرة فجرى إنهاء حُكمه وتقويض سلطته، في حين لا تزال عند الثاني بعض الوظائف غير المنجزة تماماً ما يستدعي “الانتظار” قبل وضع ملفّه كلّه دفعة واحدة على الطاولة!

الفبركة في قصّة صدّام لا تعني أنّه لم يمتلك تلك الأسلحة غير التقليدية، بل العكس الذي تأكّد في حلبجة في أواخر ثمانينات القرن الماضي، كانت سبقته محطات كثيرة في سياق الحرب مع إيران، والتي جرى فيها استخدام السلاح الكيماوي والسام على أنواعه وبطريقة مكشوفة! لكن المفارقة في الأمر، هو أنّه، أي صدام في تلك “اللحظة” كان شبيهاً إلى حدٍّ ما، بنظيره السوري اليوم! بمعنى أنّه عندما امتلك ذلك السلاح فعلياً لم يقترب منه أحد (جدّياً!) في مواقع صنع القرار الدولي! بل حصل ذلك عندما تخلّص من كل مخزونه المحرّم، وكشف كل أوراقه أمام المفتشين الدوليين، الذين لم يتركوا زاوية ممكنة إلا واستكشفوها.. وصولاً الى قصوره الرئاسية بما فيها غرف النوم!

خارج المناحة التي انطلقت غداة المذبحة الفظيعة في حلبجة، لم يشعر “القائد الضرورة” بأي خطر فعلي يتهدّد كيانه إلى أن ارتكب أولاً خطيئة أسلافه إزاء الكويت، (عبد السلام عارف وقبله عبد الكريم قاسم.. وقبلهما على ما يُقال في بعض المصادر التاريخية، الملك فيصل الثاني، أو بالأحرى الوصي على عرشحه عبد الإله). والتي كانت (تلك الخطيئة) من النوع الذي لا يُغتفر ولا يُسكت عنها، فدفع هؤلاء ثمن القول والنيّة! في حين دفع صدام نصف الثمن عن جريمته التامّة باجتياحه الأرعن للدولة الخليجية الجارة، قبل أن يصل الى خطيئته الثانية (أو يعود إليها) المتمثّلة بتوعّده “حرق نصف إسرائيل”، ويدفع بالتالي كامل الثمن المؤجل!

بشّار السوري غير ذلك: ينسّق خطواته وإجراءاته وكيماوياته وسمومه في إطار خطّ عريض جداً هو الإذعان التام للخطوط الحمر أمامه، وأولها عدم تهديد إسرائيل بأي شيء!! ليس فقط بالاستحالة الخاصة بالسلاح الكيماوي، بل بما دون ذلك بأشواط وأشواط.. بحيث أن سيبيريا وحدها كانت تُنَافس البرودة الجليدية التي خيّمت على مرتفعات الجولان (المحتلة!) في حين أنه انصاع من دون جدال لأوامر جورج بوش الابن بالانسحاب من لبنان غداة جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري.. وبسرعة قياسية برغم اللغو المديد بـ”وحدة المسار والمصير”! ثم برغم جدّية العروض التي كانت أمامه والمباركة إسرائيلياً، لجهة تنفيذ إنسحاب جزئي باتجاه البقاع!

وعلى العكس تماماً من صدّام الذي هدّد إسرائيل استباقياً وشرطياً، بالإعلان أنه سيردّ عليها، “إذا” اعتدت على العراق! فإن بشّار الكيماوي السوري “هدّد” إسرائيل من باب الحرص عليها! ودوام حفظ حدودها الشمالية مع سوريا من خلال إعلانه، منذ اللحظات الأولى لثورة السوريين عليه وعلى تركيبته المافيوزية الفئوية الأمنية الحزبية، من أنَّ سقوط نظامه “سيضرّ” بها وبأمنها واستقرارها!

لكن من مفارقات هذه الأحجية أن بشّار الأسد الناجي كيماوياً على عكس صدّام، قد يسقط نتيجة العامل ذاته الذي أبقى صدّام في مكانه غداة دحره من الكويت: إيران! ذاك سقط برغم كونه سدّاً في وجه التغلغل الإيراني، وهذا مرشح للسقوط لأنه قارب على إنجاز وظيفة تحويل سوريا ومؤسساتها وكيانها وجغرافيتها، “بيئة صحّية” لذلك التغلغل!

وفي المحرقة الموعودة (؟) لا شيء سينقذ الأسد من مصيره المحتوم! لا “السوخوي” الروسي! ولا التردّد الأميركي! ولا المدَدَ المذهبي الإيراني الذي سيكون مشغولاً، حسب الوعد!، بتصفية حساب عالق مع إسرائيل!

المستقبل

 

 

 

حدود الضربة الغربية في سوريا/ د. وحيد عبد المجيد

تثير العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا في سوريا قبل أيام، واستهدفت بعض المواقع التابعة لنظام بشار الأسد، أسئلة كثيرة تتعلق بأهدافها، والنتائج التي ترتبت أو يمكن أن تترتب عليها.

الهدف العام لهذه العملية كان واضحاً، وهو ضرب القدرات الكيماوية العسكرية للنظام السوري، لكنه لم يكن محدداً بدقة، إذ تراوح التعبير عنه في تصريحات أميركية وبريطانية وفرنسية بين إضعاف هذه القدرات، وتقويضها، كما أن ما فُهم من تغريدات الرئيس دونالد ترامب، ومن بعض ما ذكرت وسائل إعلام أنه قاله في اجتماعات مع مسؤولين أميركيين، كان موحياً بعملية أكبر وأكثر تأثيراً في مسار الصراع وميزان القوى الإقليمي والدولي في سوريا.

غير أن المواقع التي ضُربت في النهاية تدل على أن العملية التزمت منهج الحد الأدنى، فبدت رمزية لا تختلف إلا كمياً عن تلك التي استهدفت مطار الشعيرات العسكري في 7 أبريل 2017، رداً على الهجوم الكيماوي في منطقة خان شيخون. الاختلاف الأساسي بين العمليتين يكمن في أن الأخيرة ثلاثية الأطراف بخلاف سابقتها، وأن تسعة مواقع استُهدفت خلالها وليس موقعاً واحداً، وإن كان عدد الصواريخ المستخدمة لم يزد كثيراً؛ إذ وصل إلى 105 صواريخ وفق بيان البنتاجون مقابل 59 في عملية الشعيرات.

لذا بدت العملية العسكرية الثلاثية أصغر من أن تحقق نتائج مهمة، مثلما كان الأمر بالنسبة لعملية الشعيرات التي لم تترك أثراً في معادلات الحرب في سوريا، ولم تغير شيئاً في قواعد اللعبة التي تمسك روسيا بأهم مفاتيحها، أو في توجهات النظام السوري وحلفائه بشأن مواصلة السعي إلى حسم الصراع عسكرياً.

غير أن السؤال الذي لم يُطرح في هذا السياق، رغم أهميته الفائقة، يتعلق بطبيعة العملية العسكرية الأخيرة، وهو: هل كان ممكناً أو وارداً أن تحقق هذه العملية نتيجة مغايرة إذا استهدفت المزيد من المواقع، واستمرت لفترة أطول، أو حتى إذا شملت مواقع تتجاوز تلك المتصلة بالقدرات الكيماوية العسكرية؟ ومغزى هذا السؤال أننا إزاء عملية عسكرية مُعلنة مسبقاً ينتفي فيها عنصر المفاجأة، الأمر الذي أتاح الاستعداد لها، وإخلاء مواقع كان ضربها متوقعاً، وإعادة نشر أسلحة ومعدات كان سهلاً توقع استهدافها. كما أن الفرق الزمني بين تهديد الرئيس ترامب بشن عملية عسكرية وتنفيذها، والذي وصل إلى ثلاثة أيام ونيف، أعطى فرصة أكثر من كافية لدعم منظومة الدفاع بمساعدة روسية كثيفة في المناطق المتوقع استهداف مواقع فيها، سعياً لتقليل الخسائر.

وذلك ما حدث بالفعل، الأمر الذي جعل الخسائر في النهاية طفيفة إلى حد يُثير الشك حتى في تحقيق الحد الأدنى من أهداف العملية، بما في ذلك إضعاف القدرات الكيماوية العسكرية لنظام الأسد، رغم أن الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أعلن أنها تقلل إمكانات استخدام هذه القدرات في الحرب السورية.

لم يخسر نظام الأسد شيئاً يتعذر تعويضه، بل ربما كسب سياسياً ومعنوياً. كما لم تخسر إيران، إذ لم تستهدف العملية مواقع تابعة لها أو لحلفائها الموجودين في سوريا. أما روسيا، فثمة جدل حول ما إذا كانت قد خسرت بالنظر لتصريحات صدرت من بعض مسؤوليها حول الرد على أي عملية عسكرية أميركية في سوريا. فثمة من يرى أن كبرياء روسيا جُرح، ومن يذهب إلى أبعد من ذلك، ويعتقد أن هيمنتها على سوريا كُسرت ولو جزئياً، وأن هذه هي الرسالة المقصودة من مشاركة فرنسا وبريطانيا في الهجوم، رغم أن أميركا تستطيع شن أكبر منه منفردة.

لكن هناك من يرى، بالمقابل، أن ضآلة نتائج العملية تجعل الخسارة الأميركية الفرنسية البريطانية هي الأكبر، لأنها تكشف ضعف قدرة الدول الثلاث على التأثير في مسار الصراع على سوريا.

وأياً يكون الأمر، يظل الشعب السوري هو الخاسر الأكبر بعد العملية العسكرية، مثلما كان الحال قبلها، في غياب أي عمل جاد لإنهاء الحرب التي دمرت مقدراته، ومادام وطنه ساحة لصراعات دولية وأطماع إقليمية يقف العرب متفرجين عليها وغير قادرين على التأثير فيها. ومع ذلك، ربما يكون البيان الختامي الصادر عن قمة الظهران الأحد الماضي بداية لمراجعة جادة للمواقف العربية، على نحو قد يفتح الباب أمام توافق على تحرك مشترك لإنقاذ سوريا وشعبها.

الاتحاد

 

 

——————–

 

 

 

 

مقالات قبل الضربة

 

 

 

 

غموض «الضربة» في انتظار ترامب/ وائل السواح

أمسك السوريون– من كل المشارب والمنابت– وردة، يقطفون بتلاتها بتلة، بتلة، ويرددون، كالعشّاق، «سيضرب. لن يضرب. سيضرب. لن يضرب»! البتلة الأخيرة هي ما سيحدّد مصير الضربة الأميركية على سورية. الرئيس دونالد ترامب نفسه هو من جعل السوريين يعتمدون على التخمين وضرب المندل. في تغريدة صباحية يقول: «روسيا تتوعد بإسقاط الصواريخ الأميركية. عليك يا روسيا أن تستعدّي للصواريخ التي ستنهال على سورية، لأنها ستكون صواريخ جديدة وذكية! لا يجب أن تكونوا شركاء لمن يقتل شعبه بالغاز، الحيوان الذي يقتل شعبه ويستمتع بذلك». ثمّ بعد ساعات يغرّد: «لم أحدّد من قبلُ متى ستكون الضربة ضد سورية، قد يكون ذلك قريباً أو غير قريب على الإطلاق».

جزء من قرارات الرئيس ترامب يعتمد على مزاجه. فحين يكون مزاجه رائقاً أثناء مشاهدته برنامج «فوكس والأصدقاء»، يفكر في اتخاذ قرارات تختلف عن تلك التي يتخذها بعد مشاهدته برنامج «Saturday Night Live»، الذي يسخر من الرئيس وسياسته وعلاقاته النسائية المفضوحة.

العامل الآخر الذي يساهم في أخذ ترامب لقراراته هو حجم الضغط عليه من قبل الصحافة والكونغرس والمحقق الخاص روبرت مولر، الذي يتولّى التحقيق في احتمال وقوع تواطوء بين حملة ترامب الانتخابية والحكومة الروسية أثناء انتخابات عام 2016. وفي اليوم الذي اجتمع فيه مع كبار مسؤوليه الأمنيين لمناقشة الردّ الأميركي على ارتكاب الأسد مجزرة كيماوية جديدة ضدّ المدنيين في مدينة دوما قرب دمشق، أغارت دزينة من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي على سكن محامي الرئيس مايكل كوهين ومكتبه وصادروا حواسبه وهواتفه وأوراقه، بحثاً عن أشياء تخصّ ترامب نفسه. فكرّس ترامب جزءاً كبيراً من وقت الاجتماع لإدانة هذه الحادثة.

الأسد يمدّ لسانه من جديد للأميركان والأوروبيين والأمم المتحدة، ويستخدم من جديد أسلحة محرّمة كان ادعى أنه لم يعد يمتلكها. وهو انتهك اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية نفسها التي وقّع عليها مرغماً العام الفائت. بالمقابل، ترتفع وتنخفض حماسة الغرب، مع ارتفاع صوت ترامب وانخفاضه.

وفي أثناء ذلك، فالسوريون الذين كانوا يتوقعون ضربة قوية لنظام بشار الأسد، فتر حماسهم. وكان بيْن السوريين من بقي طيلة الليل ساهراً خشية أن تحدث الضربة وهو نائم. بالمقابل، الأسد وميليشياته تنفسوا الصعداء، واستغلوا الوقت في نقل طائراتهم وصواريخهم إلى المناطق التي يسيطر عليها الروس والإيرانيون، كما تؤكّد تقارير موثوقة. ثمّ خرج الأسد ليهدد العالم بـ «زعزعة الاستقرار في المنطقة وهو ما يهدد السلم والأمن الدوليين»، وذلك أثناء لقائه مع علي أكبر ولايتي المستشار الأعلى لقائد الثورة الإسلامية الإيرانية للشؤون الدولية وأحد صقور الحكومة الإيرانية.

مشكلة السوريين، على خلاف كل شعوب الأرض، شديدة التركيب والتعقيد، فهم لديهم مشكلة مع نظام الأسد الفاشي الذي قتل شعبه ودمّر ممتلكاتهم وعذّبهم وشرّدهم في كلّ بقاع الأرض، ولديهم مشكلة مع الروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية التي تقاتل مع الأسد وتحميه، ولديهم مشكلة مع التطرف الإسلامي الذي شوّه وجه الثورة السورية وألّب الكون ضدّها. لكن مشكلاتهم لا تنتهي هنا، فنتائج الانتخابات الأخيرة في ألمانيا ووجود حكومة قلقة كحكومة تيريزا ماي في المملكة المتحدّة والانتصار الساحق لليمين المتطرف في بعض البلدان الأوروبية وآخرها هنغاريا، وهو يمين شديد الإعجاب ببشار الأسد، كلّ ذلك يجعل حياة السوريين في الداخل والخارج جحيماً متواصلاً. ويتوّج كل هذا وجود الرئيس ترامب في البيت الأبيض.

يتّهم ترامب سلفه باراك أوباما بأنه سبب تعزيز مواقع بشار الأسد والدولة الإسلامية على حدّ سواء، ولكنّه ينسى أنه هو اليوم رئيس الولايات المتحدّة الأميركية وليس أوباما. ومعه في مجلسي الكونغرس أغلبية جمهورية، ويميل خمسة من تسعة أعضاء في المحكمة العليا نحوه. على أن سيرة الرجل وأخلاقه ومزاجيته وتعنّته ورغبته الهائلة في السيطرة ورفضه كلّ أشكال الانتقاد يجعله دائماً في موقع الهجوم. ومنذ أن حلّ الرجل في البيت البيض، طرد (أو تسبب باستقالة) اثنين وعشرين من وزرائه ومستشاريه ومساعديه. وحتى وهو يستعد اليوم لعملية عسكرية قد تكون كبيرة، فهو يقوم بذلك من دون وزير خارجية، بعد أن طرد ريك تيلرسون، ومع مستشار جديد للأمن القومي، جون بولتون، الذي يتمتع بجرأة تصل حدّ الوقاحة، ولكن ينقصه الكثير من الحكمة، بعد أن طرد مستشاره السابق لأمن القومي مكماستر، الذي كان يؤيد بقوة وضع حدّ لفجور الأسد والإيرانيين في سورية.

السوريون في حاجة إلى الجرأة بالتأكيد، في حاجة إلى إدارة أميركية تختلف في السياسة الخارجية عن إدارة الرئيس أوباما، المترددة والجبانة. ولكنهم في حاجة أيضاً إلى الحكمة، التي تضع خطة عمل متكاملة وسياسة منسجمة وواضحة في سورية، تقوم على أساس حقوق الإنسان ومبادئ الديموقراطية والأمن الإقليمي والدولي، بما يحقق ضمناً مصالح أميركا والغرب عموماً.

لذلك، فإن أي ضربة منعزلة فردية يوجهها ترامب للأسد ليحفظ ماء وجهه أو يستعرض عضلاته أو يحشد الشارع الأميركي وراءه أمر مرفوض من قبل معظم السوريين. يريد السوريون المعارضون لنظام الأسد في الداخل والخارج، وهم أكثرية السوريين، ضربات أميركية مترافقة مع استراتيجية سياسية وحركة دبلوماسية عريضة، تؤدي في النهاية إلى رحيل النظام الفاشي في دمشق وقيام مرحلة انتقالية يقوم فيها السوريون بتقرير مصيرهم. ولا يمكن أن يتمّ ذلك من خلال انبطاح الرئيس ترامب أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما أنه لا يمكن أن يتمّ بعيداً عن التفاهم مع الحكومة الروسية. إن اتباع سياسة العصا والجزرة أمر مهم للغاية هنا. المشكلة أن ملف الرئيس ترامب مع الروس لا يزال شديد الغموض، ولا تزال غيمة احتمال أن يكون تواطأ مع بوتين لإنجاح حملته ووصوله إلى الرئاسة يعكر هذه الإمكانية.

بانتظار ذلك، لم يبق أمام السوريين سوى الانتظار أمام شاشات التلفزيون وشاشات الحواسب والهواتف الذكية، بانتظار خبر ما عن ضربة ما. ولم يبق لديهم سوى الإمساك بوردة وقطف بتلاتها، ليروا على ماذا ستستقرّ البتلة الأخيرة.

الحياة

 

 

هذيانات على وقع تغريدات الرئيس/ حازم الامين

لم يكن ينقص سورية إلا دونالد ترامب. اللاعبون اليوم على مسرحها قيصر وسلطان وولي فقيه، ودونالد ترامب الذي يملك من اسمه صفاته، ذاك أن من الصعب رده إلى صفة وإلى سابقة وإلى خبرة. هو صاحب التغريدات التي يطلقها بمزاج مراهق، إنما مراهق يمكنه أن يُحرك العالم وأن يصيبه بالذهول.

والحال أن اللاعبين الأربعة اصطحبوا معهم إلى مسرحهم السوري أربعة أنواعٍ من أمراض العظمة وألقوا بها على رؤوس السوريين. القيصر صاحب المزاج المافياوي والمهجوس باستعادة أمجاد الحرب الباردة، والسلطان المسكون بخلافة منقضية وبأحلام تأخذه ساعة إلى الغرب وساعة أخرى إلى الشرق والمدفوع، برغبة قومية انتقامية، الولي الفقيه باني جسور المذهب فوق ركام المدن المدمرة، وباعث الشعائر على ضفاف هلاله بعد أن حول التقية سياسة وحروباً لا يقيم فيها وزناً لدمٍ ولأرحام. واليوم انضم إلى هؤلاء رئيس أقوى بلد في العالم، رجل أعمالٍ تتراوح أحلامه بين إيجاد زبائن وبين لهوٍ وتغريد قد يطيح العالم.

سورية اليوم هنا تماماً وسط هذا الشذوذ، لا بل إنها تحولت إلى جاذب وممتص كلّ هذا الشذوذ. وهي إذ تتخبط بين هؤلاء الشذاذ، تكابد في موازاتهم شذوذها الخاص المتمثل في رئيسها صاحب قرار قصف الغوطة بالسلاح الكيماوي. والمرء في سعيه إلى فهم ما يحصل هناك، لن يذهله أن بشار الأسد قصف العاصمة التي يحكمها بالكلور. فقبله بأسابيع احتل رجب طيب أردوغان مدينة عفرين، مصطحباً معه فصائل سورية معارضة، وأثناء ذلك وقبله بقليل زار فلاديمير بوتين القاعدة الجوية الروسية في حميميم وتعمد فيها إهانة الرئيس. أما الولي الفقيه فقد أقام هلاله وأمسك بالحدود وأعلن حربه المقدسة غير آبه بمستقبل الجماعات المتصلة عبر ثلاثٍ من ولاياته، أي العراق وسورية ولبنان، وها هو زاحف نحو الحدود ينتظره وراءها شاذ آخر هو بنيامين نتانياهو.

يسهر السوريون اليوم على تويتر. يترقبون تغريدات الرئيس الغريبة العجيبة. لا يمكن التوقع. التغريدة تصدر من تلقائها. هي فعل شخصي وغير سياسي. هذا ما يُصعّب المهمة، لكن بُعدها الانتظاري يخلو من التشويق. وهم، أي السوريين، ليسوا وحدهم المعلقين بتغريدات الرئيس. الصحافيون والمعلقون والنازحون والطائرات المدنية التي غيرت مساراتها، والمجلس النيابي اللبناني الذي ينتظر الضربة حتى تنجلي صورة التحالفات في الانتخابات المزمع إجراؤها. تغريدة واحدة تغير جميع هذه المسارات، أو تبقيها كما هي.

الحرب ليست مرهقة على نحو ما هو مرهق انتظار تغريدة من دونالد ترامب، لا بل أن التغريدة صارت جزءاً من ماكينة الحرب. ترامب صار شريك بوتين وخامنئي وأردوغان. للثلاثة مساحات في سورية، وله مساحته الافتراضية، وللمرء أن يتخيله رابعهم في قمة أنقرة الأخيرة.

وسورية التي هذه حالها، صار من المستحيل أن تكون سورية. القول مثلاً أن بشار الأسد هو رئيسها يستدعي تخيلاً من نوع: رئيس ماذا هذا الرجل؟ قد تقتصر رئاسته على نفوذ وظفه لقصف دوما بالسلاح الكيماوي، وعلى صور شرعت زوجته توزعها لهما يزوران خطوط قتال جيوش الحلفاء.

لا مكان في هذا المشهد للرصد. التخيل يفيد أكثر. علينا أن نتخيل القادة الأربعة، وكل واحد منهم حمل معه إلى سورية هذيانه الخاص، وجريمته الخاصة. الهذيان بانبعاث إمبراطوريات الشر بدأ في سورية. الأحلام بالعودة إلى ما قبل خريطة الحرب العالمية الأولى أو ما بعد الحرب العالمية الثانية بدأت في سورية. والإمبراطورية الساسانية هُزمت في العراق وها هي تنبعث في سورية. واشنطن تريد أن تؤدب طهران في سورية، وروسيا تريد قواعد عسكرية على المتوسط واختارت سورية، وطهران تريد الاقتراب من الحدود مع إسرائيل وها هي تسعى إلى ذلك في سورية، وتركيا تريد القضاء على حلم الأكراد بدولة وقد باشرت مهمتها في سورية.

هذا هو السياق الذي اختاره بشار الأسد لقصف دوما بالسلاح الكيماوي. أي هذه الاستحالة وهذا الاستعصاء اللذان يوفران أرضاً غير ثابتة لأي جريمة. فالكيماوي هو فرصة الرئيس لحجز مكان له في مسرح الاستحالات هذه. العاقل هنا هو من يقتل، ومن يكون شريكاً في الجريمة. ذلك هو منتهى العقل ومنتهى الواقعية. ففي جهنم هذه، عليك أن تعثر على وقود تقي فيه نفسك من أن تكون وقوداً.

لا يمكن الرئيس أن يكون رئيساً على هذا المسرح إلا إذا تفوق على نفسه. وأن تكون رئيساً لضحاياك خير من أن تكون رئيساً للاشيء.

بوتين هو رئيس سورية السوفياتية، وخامنئي رئيس الهلال الشيعي، وأردوغان رئيس الحرب على الأكراد، وترامب يحكم هؤلاء بتغريداته قبل صواريخه، إذاً لا مكان لرئيس سورية إلا في دوما التي يحكمها اليوم بالكلور.

منتظرو انطلاق الصواريخ الأميركية ليس أمامهم سوى إجراء تمارين ذهنية من هذا القبيل. فتوقع من ستصيب الصواريخ وماذا ستُحدث لن يكون مجدياً. جميع السيناريوات جُربت، ومهما كانت الضربة قوية فهي لن تطيح هذا المشهد، لا بل ربما شحنته بمزيد من القوة والوضوح. ثم إننا جميعنا في صلب هذا المشهد، لاعبين صغاراً فيه، وقليلون هم من يشعرون أنهم راغبون في الابتعاد من هذه المأساة، سواء كانوا ضحايا صغاراً أم جلادين صغاراً.

المأساة فعلاً هي أن من ارتكب مجزرة دوما هو الجلاد الأصغر، أو المجرم الأصغر. لكنه رأى العالم وقد جاء بجميع خرافاته إلى سورية فقرر أن تكون له مساهمته فيها.

الحياة

 

 

 

 

 

الكيماوي مرة أخرى/ بكر صدقي

من المحتمل أن الاجتماع الأمني الذي دعا إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يبحث في المعادلة التالية: كيف نعاقب بشار الحيوان (وهذا لقبه المعتمد عند ترامب) بطريقة صاخبة من غير أن نضعفه بأكثر من قدرته على التحمل؟

على الخطوة العقابية أن تكون صارمة ومشهدية إلى أقصى حد، وفي الوقت نفسه ألا تضعف النظام أو تشكل خطراً على بقائه. فالولايات المتحدة لا تريد أن تصبح طرفاً في الصراع، ووجودها العسكري في الشمال الشرقي يرتبط فقط بالحرب على داعش. بل إن ترامب مستعجل لسحب قواته من هناك بدعوى أن هذه الحرب قد حققت أهدافها إلى حد كبير.

وقد انتهت الإدارة، على أي حال، بعد اللغط الذي تسبب به تصريح ترامب بشأن سحب القوات من سوريا، إلى وجوب بقاء القوات الأميركية هناك لفترة إضافية.

الواقع أن النظام الكيماوي، ومن ورائه وفوقه روسيا وإيران، أراد بالضبط أن يحرج الأميركيين، حين قرر ضرب مدينة دوما، مجدداً، بالسلاح الكيماوي. فهو يعرف تماماً أنه مهما كان الرد الأميركي قاسياً، فهو لن يتجاوز ما يشبه ضربة مطار الشعيرات، قبل عام من اليوم. أي أن الأميركيين لن يستهدفوه وجودياً مهما فعل بالسوريين، كما فهم من جميع الاختبارات السابقة في عهدي أوباما وترامب. بل إن ورطة ترامب اليوم هي أكبر من ورطته العام الماضي.

لأن ضرب مواقع للنظام في العاصمة دمشق أو جوارها القريب، قد يكون مؤلماً لهذا الأخير بأكثر مما قد يريد الأميركيون، بخلاف مطار الشعيرات البعيد جغرافياً عن العاصمة والمواقع الحساسة فيها وبقربها. وهذه العوامل مما يمكن أن يدفع إدارة ترامب إلى استبعاد الخيار العسكري تماماً، واختيار وسائل أخرى. أو التذرع بمجلس الأمن المغلق، حتى إشعار آخر، من قبل الروس والصينيين.

حتى في ردة فعله على اتهامه باستخدام السلاح الكيماوي في ضرب مدينة دوما، بدا النظام مرتاحاً ووقحاً، حين تحدث بيانه الرسمي عن “أسطوانة الاتهامات المملة”! وذلك بخلاف الهلع الذي ظهر جلياً عليه حين أعلن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن نيته في توجيه ضربة عقابية له على قصف الغوطة في آب 2013، قبل أن يتراجع عن ذلك ويعقد صفقة مع الروس على نزع السلاح الكيماوي مقابل إعفائه من العقاب.

نعم، مملة. فهو يسمع الكثير من الجعجعة والاتهامات والإدانات، ولا يرى أحداً يضربه على يده. فيمضي في التحدي ليثبت لنفسه وللآخرين أنه فوق المحاسبة. بل أبعد من ذلك وأهم: يريد أن يثبت أمام العالم أن الأميركي، وكل ما يسمى بالمجتمع الدولي، عاجز عن فعل أي شيء، مقابل حريته المطلقة في ارتكاب كل الفظاعات. وهذه رسالة روسية إلى الأميركيين، أكثر من كونها رسالة من النظام الكيماوي الذي لا يملك من أمره شيئاً. كذلك هي اختبار إيراني لمدى جدية إدارة ترامب في محاصرة إيران ومواجهة نفوذها الإقليمي كما هو معلن في الاستراتيجية الأميركية الجديدة.

على المستوى المحلي، قد تكون ضربة الكيماوي بهدف الالتفاف على المفاوضات الغامضة الجارية بين روسيا وجيش الإسلام، ويقال في التسريبات إن هذا الأخير يسعى إلى الوصول إلى اتفاق بشروط أفضل بالقياس إلى الاتفاقات السابقة مع فيلق الرحمن وأحرار الشام. فجاءت ضربة الكيماوي بهدف الوصول إلى استسلام كامل بلا شروط من قبل جيش الإسلام. هذا ما يمكن استنتاجه من إعلان النظام، في اليوم التالي على ضربة الكيماوي، عن إنجاز اتفاق مع الفصيل المسلح فحواه مغادرة جميع مقاتليه لمدينة دوما. كأنه يقول إن الضربة حققت أهدافها وأرغمت “الجيش” على الاستسلام لشروط المنتصر.

لا بد، في هذا السياق، من التوقف قليلاً عند الرئيس الفرنسي الذي حاول، في الفترة الماضية، أن يستقطب الأضواء بتصريحاته الكثيرة بخصوص الصراع في سوريا، رغبة منه في الظهور بمظهر الدولة العظمى التي لها كلمتها في الصراع الأبرز في عالم اليوم. فعدا عن استقباله، في قصر الإليزيه، لوفد من قوات سوريا الديموقراطية، وطرح نفسه وسيطاً بينها وبين تركيا، فقد وضع الرجل “خطه الأحمر” بخصوص استخدام السلاح الكيماوي، على غرار أوباما. والآن ها هو بشار الكيماوي يرمي في وجه ماكرون قفاز التحدي. وها هي الخارجية الفرنسية تتحدث عن عدم توفر أدلة، بعد، على استخدام النظام للسلاح الكيماوي.

في زحمة التكهنات المتباينة، هناك شيء وحيد يمكن التأكد منه مسبقاً: سوف تكون جلسة مجلس الأمن التي دعت إليها فرنسا، بخصوص ضرب دوما بالكيماوي، مكرورة ومملة.

تلفزيون سوريا

 

 

 

 

الحيوان/ محمود اللبابيدي

على الرغم من التحقيقات في تورطه بعلاقة ما مع روسيا، يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مرتاحاً أكثر في رئاسته. الادارة الاميركية بدأت تلين له بعد سلسلة تغييرات لطواقم، هو من عيّن بعضها. مؤخراً، بدأ ترامب يتخذ وضعيته المناسبة لتطبيق شعاره “أميركا أولاً”. استغرقت هذه العملية السنة الأولى من عهده. طبعاً، ولم لا؟ هي عملية ترويض مزدوجة: ترويض ترامب للإدارة، لإدارة الدولة الأميركية، أكبر شركة ومستثمر عالمي، وأكبر ترسانة مسلحة، ومواطنوها أكثر شعوب الأرض اختلاطاً. وترويض الإدارة لترامب، الكاوبوي السبعيني، أحد أغنى أغنياء أميركا، الذي لم يكشف أصلاً عن سجله الضريبي.

وصول ترامب للرئاسة، هو مطلب الأعمال الكبرى، للتخلص من الصواب السياسي، وخطاب الليبرالية ووعود الديموقراطية وحقوق الانسان، لصالح التطبيق العملياتي الواضح للمصالح الرأسمالية. التخلص من الخطاب الشعري، مع جرعة أكبر من الواقع في تسمية الوقائع، باسمها. إدارة تطبق برامج مربكة، لتحقيق أفضل انتاجية اقتصادية للداخل الأميركي. عقلية رجل الأعمال، المهووس بـ”تويتر”، الشعبوي الطائش، الملتزم بالكثير مما تعهد به.

أميركا ليست أُمنا بعد اليوم. “أميركا فيرست” للأميركيين. للنخبة. هو البريكزت الأميركي. هو التخلي عن حلف عالمي ساد منذ الحرب العالمية الثانية، كانت أميركا المسؤولة الأكبر عن تمويله ورعايته، وحمايته من السوفيات. تناقضات الرأسمالية والشيوعية، الديموقراطية والديكتاتورية، الليبرالية والانغلاق، انتهت مع هدم جدار برلين، وانتصار الحلف. ولم يعد من جدوى اقتصادية مترتبة على استمراره، ولا منافع منه للأميركيين. هم يريدون العودة إلى ما قبل العام 1939، حين كان اهتمامهم منصبّاً على ذاتهم. البقاء في الحلف، يقتضي من بقية الأعضاء أن يدفعوا لأميركا لحمايتهم: “ادفعوا لنا لنواصل مدّكم بافضل تكنولوجيا، وأهم حماية عسكرية ضد أي تهديد. توقفوا عن التكلم بلغة الحلفاء المضمونين”. الرسالة الأميركية إلى أوروبا كانت واضحة: “قوموا بشؤونكم الخاصة، وتحملوا أعباءها”.

الحلف تفكك. خرجت بريطانيا، ثم أميركا. تصويت ناخبي بريطانيا على الخروج من نطاق الاتحاد الاوروبي، وخروج أميركا من الناتو وغيره من الاتفاقات الدولية، كان تأسيساً لنهاية العالم القديم. أوروبا فهمت الدرس. فلا مجال متاحاً حالياً للتحدث في السياسة، كمنظّري الأكاديميات والمحللين الاجتماعيين؛ لا مجال لمساعدة عالم يغرق. ليس من حق طهران امتلاك سلاح نووي، ولا مطامع امبراطورية لها. الاتفاق النووي باطل معها. الصين ستخضع للاقتصاد العالمي، ولا مجال للتسامح مع تهربها الضريبي أكثر. بمجرد رفع سقف التناوش بحرب اقتصادية، جلبت الصين، الطفلَ الكوري الشمالي المعجزة، إلى بكين، وتعهدت بضبط هذا الملف. الضغط الاقتصادي الاميركي على بكين هائل، ولن تتعافى من معركة كهذه.

لحظة الخروج هذه، كانت شديدة الكلفة على العالم القديم؛ أوروبا والشرق الأوسط، بشكل أساسي. أميركا كانت قد بدأت الانسحاب في عهد أوباما، لكنها لم تتنصل حينها من مسؤولياتها الدولية الكبرى، رغم أنها كانت لا تزال تتعافى من أزمة مالية خانقة.

هل حقاً ساهمت روسيا في إيصال ترامب للرئاسة؟ لا يبدو الجواب بسيطاً. روسيا تلاعبت بالانتخابات،  لكنها قد تكون أوصلت اللاعب الخطأ. ليست لترامب مصلحة سابقة في قتال روسيا، بل كان مستثمراً فيها، وربما للروس بعض الألاعيب معه. روسيا بلد صغير، اقتصاده بحجم اقتصاد ايطاليا، يغرق في أزمات اجتماعية خانقة، ويعيش على ريع النفط والغاز.

العرض الروسي للقوة في سوريا، لم يقنع أحداً. سلاح غير فعال، أخطاء بشرية وتقنية، وزِد على ذلك وقاحة روسية، وإصراراً على استخدام الكيماوي مراراً وتكراراً ضد المدنيين السوريين. وَهمُ القوة دفع موسكو لاستباحة بلد وتدميره بحجة الحفاظ على الاستقرار العالمي وحماية سيادة الدول، الكاذبة. الموقف الروسي الحقيقي يتجسد في فكرة بسيطة: أميركا تغادر.. وسنستعيد موقعنا القديم. هنا تلاقت مصالح موسكو مع طهران، وسط انسحاب أميركي.

لماذا استهدفت روسيا، العميلَ الروسي المزدوج سكريبال وابنته في ضاحية نائية في بريطانيا؟ ولماذا أشعل قرار ترامب الانسحاب من سوريا هذه اللحظة المجنونة في تاريخنا، تاريخ الجنس البشري؟ الإجابة ستبقى تكهناً. لماذا قرر بوتين ضرب دوما بالسارين، في الذكرى السنوية الأولى على قصف الولايات المتحدة الانتقامي لقاعدة عسكرية للنظام السوري انطلقت منها الطائرة التي نفذت اعتداء خان شيخون الكيميائي ضد المدنيين؟ التحدي الرمزي لواشنطن كان مبالغاً فيه. طَردُ “جيش الاسلام” من الغوطة الشرقية، بعد تركيعه بالكيماوي، هي رسالة مباشرة للسعودية، داعمته الرئيسية. الأمير محمد بن سلمان كان في طريقه من واشنطن إلى باريس، أثناء غزوة السارين.

القصف بالسارين على دوما، واستخدام أحد أنواع السارين في تسميم العميل سكريبال، هو التوقيع الروسي المرعب، على تبني العمليتين. الدبابات الروسية كانت قد عبرت ليل السبت/الأحد، حدود أوكرانيا الشرقية، في ما يبدو موجة تصعيد جديدة ضد كييف والغرب. القصف على دوما بالسارين، لا يمكن ألا يكون روسياً، فغرف العمليات القتالية، يُشرف عليها ضباط روس، بشكل مباشر. الروس فرضوا هيمنتهم الكلية على أجهزة النظام العسكرية، وهيئة أركانه. الطيران فوق الغوطة، كان يدار من قبل روسيا مباشرة.

قصف دوما بالسارين، في ليلة تسليم مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي هربرت ماكماستر، مهامه لخليفته جون بولتون، هو اختبار روسي للحدود الأميركية، وإرباك لعملية الانتقال بين المستشارين. فإما بداية ضعيفة لبولتون، في حال تجنب توجيه ضربة للأسد، وإما بداية متعثرة بالرمال السورية المتحركة. الهلع الروسي كان هائلاً، بعد ليلة الكيماوي. اختفى الطيران الروسي من الأجواء السورية لساعات طويلة، وسط أنباء عن سحب معظم الطائرات القتالية من مطار حميميم والتوجه إلى روسيا.

رهان بوتين على الفوضى، هو سلاحه الوحيد. لكنه، ربما قد بالغ قليلاً في استفزاز أميركا. وربما فعل ذلك عن قصد. مَن بإمكانه معرفة ماذا يدور في رأس أحد أغنى أغنياء العالم، وأكبر بلطجيته، فلاديمير بوتين؟

التنبؤ باللحظات المقبلة، ممتع جداً، كتمرين ذهني على الوجهة التي يمكن أن يتدهور إليها العالم برمته. ثمة إشارات كثيرة؛ الأحلاف التي تتشكل، مساندة أوروبا المذهلة لبريطانيا في لحظة تخلي بريطانيا عن حلفائها التاريخيين. ووقوف واشنطن للمرة الأولى أمام لحظة الحقيقة في سوريا. لحظة مربكة من التاريخ، سيترتب عليها الكثير من التداعيات. يبدو أن أقل ما فيها أهمية، هو أن “الحيوان” بشار الأسد، بحسب وصف الرئيس الأميركي له، قد استهدف دوما بالسارين.

المدن

 

 

 

 

الحشد الفكري للحيوان/ عمر قدور

ثمة استعراضات نصر بالغة الفجور يقوم بها شبيحة الأسد؛ هذا بالطبع ليس غريباً، بل هو متوقع جداً مع اقتحام غوطة دمشق وإبعاد شبهة الخطر عن تنظيم الأسد. أيضاً ثمة استعراضات نصر لم تكن متوقعة على نطاق واسع، يقوم بها علناً أو مواربة “مثقفون” يُفترض بهم عدم الانحدار إلى المستوى الرخيص للشبيحة. وإذا كانت احتفالات الشبيحة متوقعة بفجورها فإن احتفالات الفئة الثانية لم تكن مستبعدة نهائياً، ولم يكن هناك عشم يتعلق بهؤلاء الذين لم يتخذوا موقفاً إنسانياً إزاء نهج الإبادة الذي اتبعه تنظيم الشبيحة؛ فقط كانت هناك قيمة أُعطيت لهؤلاء مفادها أن مكانتهم وقدراتهم اللغوية ستنجيهم من الوضاعة المألوفة لأي شبيح شبه أمّي.

سيكون مستغرباً، للوهلة الأولى، أن يزداد تعبير هؤلاء المثقفين عن دعمهم لوحشية الأسد كلما تفاقمت الأخيرة، فخيار الصمت متاح تجنّباً لإحراج التضامن مع جرائم تُصنّف كجرائم ضد الإنسانية، مثل المشاهد الأخيرة التي وصلت من دوما وتفيد باستخدام السلاح الكيماوي. هذه المشاهد دفعت بترامب وماكرون إلى التواصل من أجل بحث سبل الرد، مع أن الاثنين ينقصهما الحماس والرغبة والدافع للقيام بأي عمل ضد الأسد، ولولا تأكدهما من الجريمة لفضّلا تجاهلها التام. إلا أن المشاهد نفسها لم تحرك أي وازع إنساني في الفئة إياها، حيث توزعت بين أخبث ما فيها وهو النوع الصامت عليها، لكنه يتذكر إدانة المعارضة في التوقيت نفسه، ومن ثم هناك الصنف الذي ينكر وقوع الجريمة، من دون أن يترك مجالاً للشك كأن يطالب على الأقل بالتحقيق فيها، أما الصنف الثالث فهو يذهب مباشرة إلى ما يريده زملاؤهم في الصنفين السابقين فيوجه التحية مباشرة للمجرمين في هذا التوقيت بالذات.

الحديث هو عن شريحة يمكن تسميتها بـ”الحشد الفكري” للأسد، ولا بأس في استخدام كلمة “الحيوان” بدل الأسد بما أن رئيس الدولة الأقوى لا يجد حرجاً في استخدامها، وبما أن نسب هذا الحشد لهذه الصفة لن يثير حفيظة أعضائه. الحشد الفكري دأب منذ بداية الثورة على التشكيك بها، وعلى النيل من البيئة الثائرة عموماً، بتصويرها بيئة اجتماعية متخلفة تارة، أو بيئة اجتماعية إسلامية متطرفة تارة أخرى. الهيئات التي انبثقت من الثورة، قبل وجود هيئات المعارضة التي نعرفها، تم تصويرها كهيئات ذات تبعية وأجندات خارجيتين. منذ البداية وفي الطور السلمي دأب هؤلاء على التشكيك في مسؤولية النظام عن قتل المتظاهرين، وفي الحد الأدنى التشكيك بعدد القتلى، وعندما أصبح هناك فصائل مسلحة واتتهم الفرصة ليلقوا بالمسؤولية عليها حتى عن الجرائم التي يرتكبها النظام.

الأكثر حذاقة بين أولئك سيجيب بأن نقد النظام تحصيل حاصل، فهو بالتأكيد يستحق النقد، إلا أن الاهتمام ينبغي أن ينصب على نقد المعارضة أو الثورة، هذا إذا اعترته زلة لسان واعتبرها ثورة. هذا النوع يرى أنه قد قال اليوم كلاماً سلبياً في حق النظام، بصرف النظر عن رقة كلامه إذا كان قد قاله حقاً بالمقارنة مع شراسة هجومه على الثورة، ولا يرى تالياً مبرراً لنقد أية جريمة يرتكبها النظام حتى إذا استخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، بينما تستحق المعارضة الشتائم ليلاً ونهاراً بدعوى أنها أسوأ من النظام، أو بدعوى أنها قاتلت النظام واستفزته، وهي في المحصلة تتحمل مسؤولية مقتل المدنيين بسبب سلوكها ذاك.

أما من ينسب إلى نفسه سوية أخلاقية أعلى فيتبع سياسة الإنكار التي أقلع عنها ممثلون مباشرون للأسد، ويعتنق نظرية المؤامرة بحيث أن كل جريمة ترتكبها قوات الأسد لم تحدث وتمت فبركتها من أجل معاقبته. لا يخفف من نظرية المؤامرة المزعومة أن الأسد لم يتعرض لعقاب دولي طيلة سبع سنوات، وأنه حظي في مجلس الأمن بدعم يوازي أو يفوق الدعم الذي حظيت به إسرائيل من قبل، وأن المؤسسات الدولية العاملة في سوريا كُشف في العديد من الحالات عن تورطها في دعم مؤسسات الأسد بدل أن يذهب الدعم إلى مستحقيه من المنكوبين.

خلال سبع سنوات لم يتوقف الحشد الفكري عن معركته لدعم الأسد، علناً أو مواربة، بما في ذلك استغلال الفرص للتواصل مع الغرب الذي يتهمه بالتآمر على الأسد، وتقديم تصور للغرب مفاده أن الأسد يخوض معركة ضد الإرهاب، وأنه يخوض هذه المعركة نيابة عن الغرب نفسه. بدءاً من صفحات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى لقاءات مع دبلوماسيين دوليين لم يقصّر الحشد الفكري في تصوير الحيوان على أنه مثال التحضر قياساً إلى الثائرين عليه، ويمكن القول بأنه خاض المعركة بجدارة، وغالباً من دون أن تلقى مواهب أصحابه تقديراً كافياً من قبل مناصري الثورة الذين نظروا إليهم كمجرد ثرثارين أو عديمي الضمير.

ومنعاً لأي التباس لم يكن الخلاف مع هؤلاء يوماً حول نقد الثورة، أو حول نقد المعارضة، وللأخيرة خاصةً أخطاؤها وخطاياها التي تنبغي محاسبتها عليها بلا هوادة. الخلاف هو مع ذلك التجاهل الخبيث المتعمد لأحقية السوريين بالثورة على تنظيم الأسد، وأحقية مطالبهم بمحاكمة هذه العصابة على تاريخ من الجرائم. الذين يتجاهلون ذلك هم داعمو نهج الإبادة وينبغي تسمية ما يفعلونه بكل صراحة، وليس أفضل من الوضوح في مواجهة من يحاولون طمس الجريمة الواضحة. إن خلافاً من هذا النوع لا محل له ضمن خلافات الرأي، مكان هذا الخلاف هو في المحاكم لو امتلكنا محاكم مستقلة وعادلة، لأن التشجيع على الإبادة أو إنكار حدوثها، أو إلقاء اللوم على الضحايا، جميعها بمثابة جرائم يعاقب عليها القانون في العديد من الدول. هذا إذا لم نأخذ في الحسبان الدوافع الطائفية لدى بعض داعمي الإبادة، وهذه أيضاً في حد ذاتها جريمة تمييز مستقلة إلا أنها تدعم ملف التحريض على الإبادة بوصفها جريمة ضد الإنسانية.

قد يلزم القول بأن المستقبل يوجب على السوريين مقداراً كبيراً من التسامح، إذا كان لهم مستقبل مشترك، وهذا التسامح ينبغي أن ينصرف أولاً إلى عدد ضخم من المتورطين الصغار، أو أولئك الذين ربما لم يكن لهم خيار رفض القتال. ثم إن هذه شريحة كبيرة لها هامشها العائلي والاجتماعي، والاقتصاص منها كلها قد يؤدي إلى كوارث مستقبلية على صعيد المجتمع ككل. لكن التسامح ينبغي أن يستثني فئتين أساسيتين بوصفها رأسي جرائم الإبادة والتهجير والتغيير الديموغرافي، وإذا كانت الإشارة تتكرر دائماً إلى رؤوس العصابة الأسدية فإن الفئة الثانية الجديرة بأن تكون شريكة لرؤوس العصابة هي فئة الحشد الفكري، وأيضاً للحشد الفكري رموزه المعروفة، ولرؤوسه مساهمات جليلة في خدمة العصابة الأسدية تفوق بمراحل مساهمات صغار الشبيحة العاديين. ثم إن الموقع الثقافي المفترض لرؤوس الحشد الفكري يجعلهم في موقع المسؤولية المضاعفة بحكم مسؤوليتهم الواعية عن كلمتهم، ومسؤوليتهم الواعية عن آثارها.

لقد كتب يوماً إدوار سعيد في كتابه “صور المثقف” عن أنماط عديدة للمثقف بما فيها مثقف السلطة، غير أن تلك التصنيفات تبقى شديدة القصور أمام تصنيفات يقترحها الحشد الفكري للحيوان، إلا إذا جاز لنا اعتبار الحيونة سلطةً وثقافةً.

المدن

 

 

 

 

الكيميائي في سورية.. الناجي من يموت/ راتب شعبو

الأساسي الذي يفسر لجوء نظام الأسد المتكرّر للسلاح الكيميائي في حربه “المفتعلة” ضد الجماعات الإسلامية، هو غطرسة القوة تجاه محكوميه، الغطرسة مع الداخل التي هي الوجه الآخر للصَغَار الذليل تجاه القوى الخارجية، أكانت القوى التي تدعمه (إيران، روسيا) أو التي توجه له الضربات حين تشاء (إسرائيل، أميركا) أو التي تدخل أراضيه، وتحتل وتدير منها ما يتيحه لها توازن القوى (تركيا). إنه الإفصاح البليغ عن الانعدام التام للشعور بالمسؤولية تجاه شعب البلد الذي يزعم أنه يحكمه.

لماذا يستخدم نظام الأسد السلاح الكيميائي؟ سؤال بديهي، ليس من باب الأخلاق السياسية أو العسكرية، فلا أخلاق من أي نوعٍ يمكن انتظارها من الأنظمة الشبيهة بنظام الأسد التي لا يردعها سوى الخوف، بل من باب الحاجة العسكرية. هل بعد كل هذا التفوق العسكري توجد حاجة للسلاح الكيميائي؟ السؤال بديهي أيضاً من باب مقارنة جدوى استخدام الكيميائي بالتداعيات التي يمكن أن تلحق بمثل هذا السلوك الذي يمتلك من الانحطاط ما لا يقوى “المجتمع الدولي” على تمريره كما يمرر القتل اللاكيميائي. لماذا إذن يكرر نظام الأسد استخدام السلاح الكيميائي، على الرغم من أنه في كل مرة يدفع الثمن بشكل ما، مرة بتسليم

سلاحه هذا بعد وقوفه على شفا ضربة أميركية بعد أكبر هجوم كيميائي ينفذه نظام الأسد على الغوطة في أغسطس/ آب 2013، ومرة بضربة أميركية على مطار الشعيرات في حمص، عقب هجوم كيميائي نفذته طائرات نظام الأسد على خان شيخون قبل عام، واليوم بضرب مطار التيفور عقب الهجوم الكيميائي (لم يتبن أحد هذا الهجوم حتى الآن، على الرغم من أن النظام وروسيا اتهما إسرائيل، ومن غير المعروف إن كان لهذا الهجوم علاقة بالغدر الكيميائي للنظام أم لا. الحقيقة أنه لم يعد ينقص الشعب السوري إلا أن تقوم إسرائيل بحمايته من حكامه وبمعاقبة نظام الأسد على بطشه بشعبه!) والوقوف أيضاً على شفا ضربة أميركية أو أكثر من أميركية؟ ما الذي يجعل نظام الأسد يكرّر هذه الجريمة/ المغامرة؟ حتى لو افترضنا أن النظام واثق من أن “المجتمع الدولي” لا يريد إسقاطه، فما الذي يضطره لدفع هذه الأثمان، وإن كانت تقصر دون إسقاطه؟

قبل التفكير بهذه الأسئلة، ينبغي أولاً تحييد المنطق “الأسدي” الذي يعتمد الأسئلة السابقة نفسها، للقول إن النظام لم يستخدم الكيميائي، وإنها فبركة.. وإلخ. كما ينبغي تحييد المنطق “الحقوقي”، الأسدي هو الآخر، الذي يطالب بالأدلة والقرائن والإثباتات. لا شك أن الأسديين ما كانوا ليحاججوا في هذا الموضوع، ويجتهدوا في تشتيت النظر عن هذه الجريمة الكيميائية أو ما سبقها، لولا أن أميركا تعتبر القتل الكيميائي ممنوعاً، ولكان هؤلاء يتفاخرون الآن بالقوة الكيميائية كما يتفاخرون بغيرها (وفي كل حال لا يخلو الأمر من أسديين ساذجين، لا يخفون بهجتهم بالقتل الكيميائي ويعلنون تأييدهم القتل الذري أيضاً، لو توفر. هؤلاء يقولون ما يخفيه الأسديون “الرزينون”).

على الرغم من أهمية إثبات الجريمة والتحقيق فيها، يبقى أن قابلية توجيه التهمة لنظام سياسي ما باستخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه، هو إدانة بحد ذاته. فكيف إذا كان نظام الأسد قد وقف في هذا المكان مرات عديدة، وكيف إذا كانت لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة أثبتت تورّطه مرات عديدة؟ حتى لو كانت هناك أطراف تريد توريط النظام بجريمةٍ لم يرتكبها، فإن تاريخ النظام الأسدي، وطبيعته السياسية والأمينة التي تسمح بلصق مثل هذه التهمة به، تعني أن النظام مدانٌ سلفاً، من دون تحقيقات ومن دون أدلة.

ينبغي التفكير بالأسئلة السابقة من موقع إدانة النظام، أي من موقع اليقين بأن نظام الأسد مارس قتلاً معمماً، وارتكب مجازر كيميائية “الناجي منها هو من مات فيها”، كما يقول تعليق عميق ومؤلم.

غطرسة القوة على الشعب، والصَغار والهوان تجاه القوى الخارجية، هذه هي مادة نظام الأسد اليوم. باستخدام الكيميائي يحقق النظام ثلاثة أهداف، الأول مخاطبة معارضيه بالقول: لا شيء

يمنعني من استخدام “أي شيء” لسحقكم، وعلى مرأى من العالم بوصفي جزءاً منه، وبوصفكم “خوارج” عليه، حين تخرجون عليّ (وهذا صحيح للأسف، وفيه مشاركة عالمية صريحة في قتل السوريين). وهي، في الوقت نفسه، رسالة “وحشية” لتعزيز لحمة أشدّ أنصاره تماهياً به، ولدغدغة غرائزهم “الحيوانية”، بحسب أحد تعابير ترامب الصائبة. يقوم مبدأ هؤلاء الأنصار على غريزة لاحمة تقول إن لم أقتلهم سوف يقتلونني. وأما الطيف الواسع الواقع بين “الخوارج” و”الحيوانات” فإنهم باتوا في موقع المستسلم لمجريات الأحداث، بعد أن خسروا أدوات الفعل الممكنة وسط عالم اللامعقول الذي شمل البلاد. الهدف الثالث أن المغامرة بالتعرّض لضربة أميركية أو غربية تعطيه فرصة استثمار الرصيد الذي بقي له بعض الحضور الشعبي، ولاسيما “اليساري”، وهو شرف المواجهة مع أميركا والغرب، وفق مبدأ باطل يقول إذا ضربتك أميركا أو إسرائيل فأنت على حق.

يبقى السؤال: إذا كان يمكن إيجاد ما يفسر لجوء نظام الأسد للسلاح الكيميائي، ما الذي يدفع الروس إلى قبول هذا الاستخدام؟ هل يعقل أن يحدث ذلك دون موافقتهم؟ أم أن الروس باتوا مرهونين للنظام بقدر ما هو مرهون لهم، وبات الحفاظ على هذا “الحليف” أمراً حيوياً من دونه قد تخسر روسيا ما حققته من ترسيخ لحضورها العالمي الذي أنفقت عليه الكثير في سورية منذ سنتين ونصف؟ بمعنى، هل بات الروس تحت رحمة تابعهم، أو قل في علاقة اعتماد متبادل معه؟

العربي الجديد

 

 

 

ما مصلحة الأسد في استخدام الكيميائي؟/ غازي دحمان

بعد كل مجزرة بالأسلحة الكيميائية يقترفها نظام الأسد بحق السوريين، ينبري معلقون، يبدو أنهم باتوا متخصصين بهذا الموضوع، بالسؤال عن المصلحة في استخدام الكيميائي، بذريعة أن النظام ينتصر ويحقق تقدماً على الأرض من دون واسطة الكيميائي، أو بذريعة أن النظام يعرف أن الضوء مسلط عليه، وبالتالي هو ليس من الحمق إلى درجة ارتكاب خطأ قاتل من وزن استخدام السلاح الكيميائي.

فات هؤلاء، هذا إذا اعتمدنا مبدأ حسن النية في تفسير مواقفهم، أن نظام الأسد، وأي طرفٍ يخوض معارك جارية، لا ينشر تقييماته العسكرية على الملأ، وبالطبع لا يذيع خططه وأساليبه العسكرية، وهذه تبقى من الأسرار الأمنية التي تحتاج وقتا طويلا للكشف عنها. ومعلوم أن نظام الأسد وداعميه الروس انخرطا في مفاوضات مع المقاتلين في دوما، ليس رغبة منهما في حقن الدماء، ولا تخفيض منسوب الدمار في الغوطة، وإنما لتقديرهم أن لدى مقاتلي دوما أوراق قوّة، ما هي؟ بالتأكيد لم يتم التحقّق منها، وبالتالي يصبح استخدام الكيماوي الوسيلة الأفضل لحل هذا المأزق.

إذا القضية تخضع بدرجةٍ كبيرةٍ لتقديرات ميدانية صرفة، كما أن لكل منطقة خصوصية معينة، ولا يمكن القياس على التقدم الذي حققه نظام الأسد في بقية مناطق الغوطة وتطبيقه على دوما، هذا إذا صدّقنا أن السيطرة على الغوطة كانت بأثمان رخيصة، في حين أن الوقائع تثبت أن النظام خسر مئات من نخبته.

وربما كان هذا السبب الأخير الدافع القوي لاستخدام السلاح الكيميائي، فخسائره في الغوطة

تخطّت حاجز تقديراته، والحد المقبول احتماله في هذه المعركة، خصوصا أن نظام الأسد بات في وضع محرج تجاه بيئته، نظراً إلى حجم خسائره على المستوى البشري.

بالإضافة إلى ذلك، لا تزال أمام نظام الأسد جولات صراعية عديدة، ومعارك يعتبرها أشرس بكثير من معارك الغوطة، سواء في إدلب أو في الجنوب، وكذلك في شرق سورية، وخصوصا بعد أن تكشّف أن القضاء على تنظيم “داعش” لم يكن سوى كلام متعجلٍّ، وهو كل يوم يقتل عشرات من جنوده. ونتيجة ذلك، يجد نظام الأسد نفسه مضطراً لعدم المخاطرة بأعداد كبيرة من جنوده، والحفاظ على حد أدنى من الخسائر، ما أمكنه ذلك.

على ذلك، يصبح استخدام السلاح الكيميائي حلاً لمشكلات كثيرة، بنيوية وتكتيكية، تعاني منها منظومة الأسد ميدانياً، وهي مشكلة وجدت منذ 2012، نتيجة الانشقاقات الهائلة في الجيش، وهروب عشرات آلاف الشبان السوريين من الخدمة الإلزامية. ويمكن للمراقب ملاحظة أن هذا التاريخ يتطابق مع تاريخ استخدام الأسد للسلاح الكيميائي، في محاولةٍ لحل هذه الإشكالية، ويؤشر الاستخدام المكثف للسلاح الكيميائي، منذ التاريخ المذكور، إلى أن هذا السلاح تحوّل إلى خيار تكتيكي، وواحدٍ من عناصر المعارك، يجري تحديد استخدامه بناءً على تراتبية تقنية، بحيث يصبح استخدامه طبيعياً، بعد أن يفشل الصاروخ والطائرة في تحقيق الغرض.

ولم يكن خافياً، في مسار حرب الأسد على السوريين، فعالية وتأثير الكيميائي في حسم بعض المعارك، وذلك لما له من تأثير على البيئة الحاضنة للمعارضة، إذ على الرغم من أن الأسلحة الأخرى قتلت مئات آلاف السوريين، إلا أن للكيماوي تأثيرا مختلفا، انطلاقاً من إدراك الناس أنه سلاحٌ لا تنفع معه إجراءات الحماية والتحوّطات التي تجريها في مواجهة الأسلحة التقليدية. ولم يخف الروس ونظام الأسد رهانهم على تفكّك البيئة الحاضنة للمقاتلين في دوما، وإجبارهم على الخروج، ليشكّلوا بذلك ضغطاً على المعارضين، ودفعهم إلى الاستسلام، وهو ما حصل فعلاً بعد الضربة مباشرة.

غير أن ما يدفع نظام الأسد وحليفه الروسي إلى استسهال استخدام السلاح الكيميائي تقديرهم أن الرد الأميركي اتخذ، بعد التدخل الروسي، نمطيةً يمكن تحملها، فهو يقوم على تبليغ الروس

بموعد الضربة وبنك الأهداف، وهو ما يمكن أخذ التحوّطات معه، وتقليل تكاليف الضربة الأميركية إلى أبعد الحدود، كما أن فوضوية سياسة الرئيس دونالد ترامب تجعل من ردود إدارته ذات فعالية منخفضة، وتحوّلها إلى مجرد سياسات آنية، وليست استراتيجية ردع دائمة. وقد شجّع قرار ترامب الانسحاب من سورية كلا من روسيا ونظام الأسد على اتخاذ هذه الخطوة، لاعتقادهم أن سورية خرجت نهائياً من اهتمامات الإدارة الأميركية، ولا يمكن بالتالي الإقدام على مغامرة الرد على الهجوم الكيميائي.

يبني نظام الأسد قرار استخدام الأسلحة الكيميائية على أساس حساباتٍ خاصة به، ورهانات لا يفهمها غيره، وليس لها علاقة بالعقلانية والرشد، وهو نظامٌ فريدٌ لا يجوز محاكمة سلوكه وفق أصول السياسة وطرائق إدارة الأنظمة السياسية للأزمات التي تواجهها، والغريب أن من يرى في نظام الأسد الرشد، وأنه ليس على تلك الدرجة من الحماقة لكي يورّط نفسه في جريمة شهودها كثر، يتغافل عن خوض هذا النظام حرب إبادةٍ ضد السوريين، بشراً وعمراناً، منذ ثماني سنوات، وكأنما كل هذا الدمار والتطهير الطائفي والتغييب في السجون قرارات عقلانية ذكية، واستخدام الكيماوي خارج عن هذا السياق؟

لم يكن نظام الأسد في أي يوم نظاماً سياسياً بمعنى الكلمة، كان خليطاً من عصابات مافياوية وزعران وشبيحة، أقاموا شكلاً من أشكال “الدولة” اللصوصية التي تسيرها أجهزة المخابرات، وتتلطّى بنتف شعاراتٍ عن القومية والاشتراكية، فمن أين لها بالسياسة؟

العربي الجديد

 

 

 

الكذب الروسي/ سلامة كيلة

تكرّر روسيا الآن خطاب النظام في سورية، وتدافع عنه بكل نواجذها. وهي في ذلك تكذب كما يكذب النظام، ولا شك أن عليها أن تكذب، لأن ما يفعله النظام من استخدام أسلحة كيميائية  يطاولها، لأنها الضامن له، بعد أن قالت إنها سحبت كل المخزون الكيميائي لديه، وضمنت ألا يفعل الأمر مرة أخرى، في الاتفاق الذي جرى سنة 2013 بعد قصف الغوطة بغاز السارين.

لهذا، تستعاد الحجة نفسها أن ما جرى هو فبركة من أجل تبرير التدخل الأميركي. لم يلحظ لا الروس ولا كل مرددي هذه الكذبة أن أميركا لم تتدخل في السنوات الماضية، على الرغم من استخدام أسلحة كيميائية. وعلى الرغم من أن النظام وروسيا كانا يكرّران النغمة نفسها، أي أن الأمر يتعلق بفبركة، أو أن المعارضة هي التي قامت بذلك، لتبرير تدخل أميركي، وكذلك كرّر هؤلاء المرددون. وظهر أن الضربة لمطار الشعيرات بعد استخدام الأسلحة الكيميائية في خان شيخون لم تكن سوى رفع العتب عن دونالد ترامب الذي عيَّر باراك أوباما بأنه لم يلتزم بخطوطه الحمر. وبالتالي، لم يكن حديث عن قصف بالكيميائي لبلدة خان شيخون فبركةً من أجل تدخل أميركي.

بهذا يظهر تهافت هذا الخطاب، وكذبه، كما يظهر أنه يستخدم هذه الفكرة للتغطية على فِعْلة ارتكاب جريمة استخدام أسلحة كيميائية. كما ظهر أن أميركا وكل المجتمع الدولي ليسوا معنيين بقتل الشعب السوري بأسلحة كيميائية، ولهذا يعرقلون التحقيق الدولي، وهو ما أوضحه عديدون من أعضاء اللجان المعنية بالتحقيق في ارتكاب جرائم حرب في سورية. لهذا، لا تريد أميركا التدخل لكي تفتعل مثل هذا الحدث، أو تفبركه. وأن ردّها السابق، وما يمكن أن يحدث الآن، مرتبط بمسائل أخرى تتعلق بالعلاقة مع روسيا، والتكاسر لإثبات مَنْ يهيمن على العالم (وهذا موضوع آخر)، لهذا يمكن أن تستغل أميركا حادثة حقيقية لإظهار إرادتها. لكن الأمر هنا أن خطاب فبركة استخدام أسلحة كيميائية من أجل التدخل الأميركي متهافت، وكذبة باتت في غاية الوضوح. لهذا، تحت هذه الحجة التي تتكرّر، استمرّ النظام باستخدام الأسلحة الكيميائية من دون أن يتدخل أحد، فالنظام يحضّر “الخطاب المضاد” قبل أن يقوم بممارساته الوحشية، هذا ما فعله منذ بدء الثورة. وكل خطابه هو ردود على ما سيفعل.

كما فعلت روسيا حين استخدم النظام الأسلحة الكيميائية في خان شيخون، حيث ضاعت في صياغة الرواية الكاذبة، الأمر الذي جعلها تتحدث بأكثر من رواية، تناقض كلٌّ منها الأخرى، ها هي تكرّر الأمر نفسه في دوما، حيث ذكر مركز حميميم أن الخبراء في الأسلحة الكيميائية الروس ذهبوا إلى دوما، ولم يجدوا شيئاً مما يقال عن استخدام أسلحة كيميائية، بينما قال مندوب روسيا في الأمم المتحدة إن “الكيمياني الذي استخدم اليوم كان بقنابل يدوية”، وجرى اتهام جيش الإسلام بأنه مَنْ فعل ذلك. وروسيا معنية بالكذب للتغطية على ما جرى، لهذا خرج وزير الخارجية، سيرغي لافروف، مرات عديدة في يوم واحد لكي ينفي استخدام النظام، وما زال الروس يكرّرون الدفاع عن النظام، بالضبط لأنهم الآن متهمون كما النظام، لأنهم يحتلون سورية، وبالتالي لا يستطيع النظام القيام بعمل من دون قرارهم، ولأن روسيا هي الضامن أن النظام قد سلَّم كل المخزون الكيميائي الذي كان لديه، وكل الأجهزة التي تُصنِّعه. بالتالي، باتت هي المتهمة، ولهذا فهي تدافع بشراسة.

لقد أصبح لافروف هو جوزيف غوبلز روسيا، وهو يعتمد نظريته بكل تفاصيلها، أي اكذب اكذب حتى يصدّقك الآخرون. هو يقوم بهذا الدور بـ “إتقان شديد”، في قضيةٍ باتت في غاية الوضوح، صارت بديهية. ويكرّر خطاباً بات مستهلكاً إلى أبعد الحدود، لدولةٍ يعترف رئيسها أنه جرّب على رأس الشعب السوري مائتي سلاح جديد، وهذه وحدها تشكّل جريمة حرب تطاول روسيا.

العربي الجديد

 

 

 

جولة جديدة من الصراع الدولي على الأراضي السورية/ بكر صدقي

قد يختلف الرد المرتقب على ضرب النظام لدوما بالسلاح الكيماوي، عن ضربة مطار الشعيرات، العام الماضي، ليس بحجمها ربما، بل بنشوء تحالف دولي يقوم بها، في مقدمته الولايات المتحدة وفرنسا، من غير أن يقتصر عليهما.

ربما هذا هو الجديد الذي علينا التركيز عليه لفهم أبعاده وتداعياته المحتملة.

وقد اتضح في جلسة مجلس الأمن الأخيرة التي انعقدت حول موضوع ضرب دوما بالسلاح الكيماوي، أن طرفي خط المواجهة: الروس من جهة، والأمريكيين والفرنسيين والبريطانيين من جهة ثانية، لا يأبهان كثيراً بما فعله «الحيوان» (على وصف ترامب لبشار الكيماوي) في دوما، بقدر ما هما مهتمان بصراع الإرادات فيما بينهما. واضح أن التحالف الغربي قد ضاق ذرعاً بتمدد روسيا العسكري ـ السياسي، ومحاولاتها فرض نفسها كلاعب في عالم ثنائي القطب، وتدخلاتها في الانتخابات في أكثر من دولة. وقد طفح الكيل بهذا التحالف بعد محاولة اغتيال الجاسوس الروسي المزدوج وابنته في سالزبوري. أما ضرب دوما بالكيماوي فقد وفر الفرصة المناسبة لتحجيم هذا «التضخم» الروسي بتنفيسه في أعز ما يملك، أي القدرات العسكرية التي استعرضها بوتين، قبل حين، بزهو ديك معجب بنفسه.

ذلك أن الأمريكيين لن ينتظروا نتائج تحقيقات أممية بشأن ما حدث في دوما، ومن الواضح أن القرار اتخذ، وقد لا يعني تأخير تنفيذه إلا الرغبة في تهيئة الرأي العام وتوفير أكبر مظلة دولية تعوض غياب القرار من مجلس الأمن. مع إبقاء الباب مفتوحاً لروسيا، لبضعة أيام فقط، لتقدم مشروع صفقة ما لقاء إلغاء الضربة، على غرار ما فعلت مع إدارة أوباما، في أيلول/سبتمبر 2013، حين طرحت فكرة نزع سلاح النظام الكيماوي مقابل إلغاء الضربة الأمريكية التي كان أوباما قد توعد بها.

ما الذي يمكن لموسكو أن تفعله في مواجهة التحالف الدولي الذي يتم إنشاؤه لمعاقبة بشار الكيماوي؟

فاستخدامها لحق النقض، في مجلس الأمن، يشير إلى نية المواجهة، أو، في أسوأ الاحتمالات بالنسبة لها، حرمان أي عمل عسكري محتمل لمعاقبة النظام من غطاء «الشرعية الدولية». وبالنظر إلى سوابق موسكو في سوريا، لا يمكن أن نتوقع ما هو أكثر من ذلك، أي الاشتباك مع قوات التحالف دفاعاً عن تابعها السوري. وعلى سبيل المثال فقد تجاهلت موسكو مقتل نحو مئة وخمسين من المرتزقة الروس قرب دير الزور، الشهر الماضي، تهرباً من المواجهة مع القوات الأمريكية. بل حتى مع إسرائيل، واظبت روسيا على التصرف كمن لا يرى ولا يسمع كلما ضربت إسرائيل مواقع للنظام أو لحلفائه الإيرانيين. إلى حد أنه يمكن الحديث، في هذا الباب، عن أن «قواعد الاشتباك» المتفق عليها بين روسيا وإسرائيل، في سوريا، تسمح للأخيرة بضرب أي موقع للنظام والإيرانيين كلما رأت ضرورة لذلك.

وقد تشير الغارة الإسرائيلية التي استهدفت مطار تيفور العسكري، قرب مدينة حمص، في غمرة التهديدات الأمريكية بمعاقبة النظام الكيماوي، أن إسرائيل نفسها قد تكون جزءاً من التحالف قيد الإنشاء. فهذه فرصة لها لتظهر في مظهر الدولة المنسجمة مع الإجماع الدولي في مكافحة استخدام الأسلحة المحظورة، لتغطي على تاريخ من العزلة الدولية تحت حماية الفيتو الأمريكي، كنظيره الروسي الذي أغلق مجلس الأمن طوال السنوات السبع الماضية أمام أي محاولة لمحاسبة النظام الكيماوي. كذلك أبدت السعودية استعدادها المبدئي للمشاركة في «تحالف معاقبة الحيوان» إذا جاز التعبير. وقد نشهد، في الساعات والأيام القليلة القادمة انضمام دول إضافية إلى هذا «الاحتفال الجماعي».

هل تملك موسكو أي حوافز جديدة تقدمها للأمريكيين وحلفائهم تجنباً للضربة التي ستؤذي صورة روسيا بوتين، أكثر من أذاها المحتمل على النظام الساقط، بالنظر إلى أنه ليس لدى واشنطن أي نوايا للإطاحة به.

إذا صح ما يشاع من أن أحد الخيارات التي طرحها البنتاغون أمام الرئيس ترامب هو ضرب المطارات العسكرية للنظام بما يشل قدرته على تنظيم أي غارات جوية بعد الآن، فيمكن لموسكو أن تلزم النظام بالإعلان عن التوقف عن استخدام سلاح الطيران بصورة نهائية في الصراع الداخلي. من شأن هذا المخرج أن ينقذ ما تبقى من سلاح الجو التابع للنظام، لكنه يقيد القدرات الروسية تماماً في تغيير موازين القوى على الأرض، على ما دأب طوال سنتين ونصف من تدخلها العسكري في سوريا. لتصبح القوة الروسية في سوريا قوة دفاعية فقط، فإذا خرقت ذلك كانت هي في فم المدفع بدلاً من النظام. فتتحمل مسؤولية كل ما قد ينتج عن غارات طيرانها الخاص من استهداف المستشفيات والأسواق الشعبية والمدارس وغيرها من المواقع المدنية.

إن نتيجة صفقة من هذا النوع لن تختلف كثيراً عن وقوع ضربات التحالف لمواقع النظام فعلاً. فسوف يثبت للعالم، في الحالتين، محدودية القدرة الروسية على حماية حليفها السوري حين يتعلق الأمر بمواجهة تحالف غربي.

شخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا تسمح بتوقع ما قد يصدر منه في الساعة التالية. فقبل أقل من أسبوعين أعلن الرجل عن نيته بالانسحاب من سوريا، وتركها للآخرين ليهتموا بها. وها هو اليوم يهدد بضربة عسكرية مشتركة مع حلفائها الذين أبدوا استعدادهم للمشاركة. لكن الثابت، إلى الآن، هو التصعيد ضد روسيا منذ محاولة اغتيال العميل المزدوج، تصعيد بدأ بطرد الدبلوماسيين الروس، ثم بفرض عقوبات على شخصيات مقربة من بوتين، وأخيراً المواجهة في مجلس الأمن والاستعداد لضرب النظام.

سواء وقعت الضربة أم تم تجنبها من خلال صفقة ما، فالروسي هو في وضع الخاسر.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

سورية.. حل كيميائي/ بشير البكر

يتطور الموقف في سورية من سيّئ إلى أسوأ في كل يوم، ولم يبق توصيفٌ في قواميس الخراب إلا وتم إطلاقه على هذه الأرض التي حملت من المعاني الإنسانية ما جعل البلدان الأخرى تغار منها، وتنظر إليها بعيون الحسد.

سورية اليوم بلد ملعون في لسان السياسة، ومكان يثير الرعب لدى الرأي العام الذي تصل إليه منذ سبعة أعوام أخبار المجازر والتهجير الديموغرافي وصورهما على شكل موجاتٍ اكتسحت العالم، ولم يحل دونها بحر أو برد أو جوع.

هرب السوريون من القتل، ومات كثيرون منهم على طرق النجاة، لكن ذلك لم يمنع آخرين من عبور الدروب نفسها، غير مكترثين بما ينتظرهم من أهوال في البر والبحر. منذ الأيام الأولى للثورة، لجأ النظام إلى القتل سلاحاً من أجل أن يحسم الموقف لصالحه. ولكن حين لم يتمكّن من إعادة الناس إلى بيت الطاعة زاد في منسوب القتل، وصار ينوّع في الأساليب والأشكال، مستنداً إلى دعم إيران وروسيا. الأولى أمدته بالرجال والمال، والثانية وفرت له كل ما ينقصه، بالإضافة إلى مظلة دولية، وحمته من المساءلة القانونية إلى حد أنها مارست حق النقض (الفيتو) 12 مرة في مجلس الأمن الدولي، لتحول دون إصدار قراراتٍ ما كانت لتوقف عمليات القتال في جميع الأحوال.

مرة واحدة خاف النظام، حين تلقى تهديداً أميركياً بضربة عسكرية بعد استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية في نهاية أغسطس/ آب على 2013. في ذلك الوقت، بلغ خوف النظام حداً قبل فيه التخلي عن ترسانته من الأسلحة الكيميائية بالكامل، وقايضها بتراجع الولايات المتحدة عن توجيه الضربة، وهذا ما حصل فعلاً، ولعب الروس في حينها دور الضامن للنظام أمام المجتمع الدولي، وتعهدوا في حينه أن يسلم النظام كل ما في حوزته من أسلحة محرّمة دولياً. ولم ينفع ذلك في شيء، لأن المجرم ظل مصمماً على ارتكاب الجريمة تلو الأخرى، وبالتالي لم يدم التزام النظام طويلاً، حيث استمر يستخدم الأسلحة الكيميائية بجرعاتٍ أقل وبنوعيات مختلفة. وكانت عملية خان شيخون في العام الماضي محطة رئيسية دفعت الإدارة الأميركية الجديدة إلى توجيه ضربة شبه تحذيرية لقاعدة الشعيرات العسكرية، تركت مفعولاً رادعاً على الرغم من محدودية تأثيرها.

لا يستطيع النظام أن يستخدم السلاح الكيميائي إلا بعلم الروس الذين باتوا يعرفون أدق التفاصيل والأسرار في محيط النظام منذ عام 2015، ولو لم يكن الروس راضين على هذه الأفعال المشينة التي تشكل جرائم صريحة ضد الإنسانية، لما امتلك الأسد الجرأة للتصرّف بمفرده، وتجلى التبني الروسي لجرائم الأسد من خلال التغطية عليها دولياً، والدفاع عنها في مجلس الأمن الدولي.

الغريب هو الصمت العالمي على استهتار روسيا والنظام السوري، وهو ما جعل النظام يتمادى في القتل، حتى صار حال السوريين عصياً على الوصف، وسورية أصبحت تقارن بالجحيم. ولو أن الأطراف الدولية أبدت جدّية في حماية المدنيين، لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، خصوصاً أن الدول الكبرى التي تمتلك الإمكانات اللازمة لردعه كانت قادرةً على تدمير بقية مخزونه من الأسلحة الكيميائية.

يتحرّك العالم اليوم ضد جرائم الأسد، وهناك بداية موقف دولي لمعاقبة النظام بسبب الجريمة الجديدة التي اقترفها في الغوطة يوم السبت الماضي، ولكن الرهان الفعلي أن يتطوّر الموقف إلى تشكيل جبهة لإجبار روسيا وإيران على إيقاف المجزرة نهائياً، وإذا استطاعت الولايات المتحدة الضغط على روسيا من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات، فسيكون ذلك أول محاولةٍ جديةٍ من أجل إيجاد حل لسورية، وغير ذلك سوف يستمر النظام بالقتل من دون عقاب.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

في معاني وآثار الضربة الأميركية المحتملة/ صادق عبد الرحمن

هل ستنفِّذُ الولايات المتحدة الأميركية تهديدات ترمب بتوجيه ضربة قاسيّة لنظام الأسد؟ أم أن الأمر سينتهي إلى مهزلة مُهينة كتلك التي حصلت عند توقيع الصفقة الكيماوية المشؤومة عام 2013؟ ليس هذا واضحاً بعد، لكن بالإمكان طرح سؤال إضافي: ومن قال إن تنفيذ الضربة القاسيّة لن يقود إلى مهزلة أيضاً؟

يبدو سلوك القوى العظمى والإقليمية كلّه أشبه بمهازل متتالية خلال السنوات الأخيرة، تعالوا نتذكر معاً بعضها: «عاصفة» الحزم السعودية وما تلاها من فشلٍ مخزٍ وجرائم حرب متبادلة؛ النزاع السعودي القطري الذي بدا في بعض محطاته مضحكاً بشكلٍ يبعثُ على الأسى؛ «التحالف» التركي الإيراني الروسي بخصوص الملّف السوري؛ مؤتمر سوتشي؛ أيُّ جلسة من جلسات مجلس الأمن بخصوص الملّف السوري… إلخ.

أما بخصوص الحديث عن الضربة الأميركية المحتملة، فإن الأمر يبدو برمّته مهزلة أيضاً حتى الآن، أياً كان ما ستؤول إليه الأحداث. جرت حرب إبادة وتهجير موصوفة على الهواء مباشرةً في الغوطة الشرقية، لكن الاحتجاج الدولي لم يتجاوز في أحسن أحواله الإدانات الغاضبة، وكان مترافقاً مع أجواء دوليّة توحي بأن المطلوب من الأسد وحلفائه هو إنجاز المهمة بسرعة، كي ننتهي من كلّ هذا ونبدأ إجراءات تثبيت الأسد على كرسيّه. وتصريحُ ولي العهد السعودي خير دليلٍ على هذا، عندما قال إن الأسد باقٍ، وينبغي أن يكون قوياً كي لا يصير أُلعوبةً بيد إيران.

يرتكبُ الأسد جريمته الكيماوية الجديدة في دوما، فتنقلبُ الأمور، وتبدأ التصريحات النارية المتبادلة وجلسات مجلس الأمن البهلوانية، ويعلن ترمب أن بلاده بصدد توجيه ضربة عسكرية، فيّغيرُ كثيرون أقوالهم. يهتزّ التعاون التركي الروسي في الملّف السوري، فيتبادل لافروف وأردوغان تصريحات متوترة حول مصير عفرين، ووليُ العهد السعودي نفسُهُ يقول إن بلاده مستعدة للمشاركة في قصف النظام السوري.

يعلن ترمب أكثر من مرّة، عبر تويتر، أن الصواريخ على وشك الانطلاق إلى أهدافها، ويرفع حدّة تصريحاته تجاه روسيا، ويبدأ النظام السوري بتغيير أماكن تمركز قواته، ثم يقول البيت الأبيض إن القرار بتنفيذ الضربة لم يُتخّذ بعد، وإن الضربة التي تحدّثَ عنها ترمب هي إحدى الخيارات بشأن سوريا.

لا شكَّ إذن أن مفاوضاتٍ ما تجري تحت الطاولات، وبعيداً عن تويتر وفيسبوك، وهي تتعلقُ بأشياء لا يعلنها أحد، وترسم ملامح مستقبل ملايين البشر في بلادنا المُستباحة، دون أن يعرف هؤلاء الملايين ما الذي ينتظرهم غير الموت الذي يبدو مفتوحاً بلا أفق.

تشير المعطيات والطبيعة «الكلبية» الصرفة والوقحة لحكام العالم والإقليم، إلى أن الضربة وأحاديثها وتغريداتها تتعلق بصراع النفوذ الأميركي الروسي في المنطقة والعالم، وفي ظلّه وهوامشه، صراعُ النفوذ الإقليمي الإسرائيلي الإيراني التركي السعوي القطري بتشعباته وتعقيداته وتفاهاته. يعني هذا طبعاً أن الضربة في حال حدوثها لن تعود بفائدة على السوريين إلّا بالصدفة، وهذا الأمل بالضبط هو ما يقود مئات آلاف السوريين المناهضين للنظام إلى انتظارها على أحرَّ من الجمر.

يحدثُ أن يستمرَّ كثيرون بترداد العبارة المريحة السهلة التي مفادها: «هل تعتقدون أن أميركا مهتمة بحقوق الإنسان وآلام الضحايا، أنتم حمقى إذن، لأن أميركا لا تتصرف إلّا من أجل مصالحها»، والقصدُ من هذه العبارة انتقادُ الفرحين باحتمال تنفيذ الجيش الأميركي وعيدَ ترمب. لكن هذه العبارة فارغةٌ من أي معنى، لأن الطفل الصغير في سوريا بات يعرف أن أميركا، وقادة هذا العالم الذي يضيقُ في وجوهنا يوماً بعد يوم، لا يحفلون بآلام السوريين، لكن الضربات إذا وقعت ستستهدف جزءً من القوات التي تذبح السوريين المناهضين للأسد، وربما تغيّرُ الأوضاع القائمة على نحوٍ يلجم الوحوش الهائجة في سوريا. هذا هو الأمل الوحيد الباقي، ولا شكّ أن من لا ينتظر شيئاً سوى الإبادة والتهجير والإذلال، سيفرحُ بأي أمرٍ قد يُغيِّرُ المعادلات القائمة.

قد لا تقعُ الضربة أصلاً، وتنتهي الأمور إلى تفاهمٍ روسي أميركي على أشياء لا يعلن حقيقتها أحد، ثم نكتشفها من خلال نتائجها يوماً بعد يوم. وقد تكون محدودةً بحيث تحفظ ماء وجه أميركا وحلفائها فقط، وقد تكون أوسَع وأكثر تأثيراً بحيث تُفضي إلى قصمِ ظهر إيران وما تبقى من جيش النظام، لتصبح الساحة كلها رهناً بتفاهمات روسيا وأميركا وحدهما. كلُّ هذا لا يزال ممكناً، لكن ينبغي أن نتذكَّرَ أن أي ضربة عسكرية لا تفضي إلى إجبار بشار الأسد على القبول بفكرة الانتقال السياسي، ستكون قليلة الفائدة على صعيد وقف المقتلة السورية، وربما معدومة الفائدة.

أيّاً يكن الأمر، لا شكَّ أن ما جرى خلال الأيام الأخيرة فَتَحَ نافذةً صغيرةً من الأمل أمام أولئك السوريين الذين يبدو أن ماكينة الإبادة متوجهةٌ دون أي رادعٍ إلى مدنهم وبلداتهم بالتتالي في قصة موتٍ معلنٍ رهيبة، وأظهرَ حجم هشاشة نظام بشار الأسد وسخافة ما يدعيه من قوّة، وهو يؤكّدُ أنَّ ما مكّنَ هذا القاتل المتسلسل المنفلت من ارتكاب جرائمه، هو السياسات الدوليّة التي بلغت حدّاً من التفاهة، يبشّرُ بانهيار العالم فوق رؤوسنا.

موقع الجمهورية

 

 

 

 

 

 

انتحار الأسد سياسياً وهزيمة المعارضة عسكرياً/ سميرة المسالمة

ثمة الكثير مما يمكن نقاشه بعيداً من العصبيات السياسة والعصبيات الطائفية التي أنتجها نظام الحكم في سورية خلال حربه الممتدة على الشعب السوري منذ سبع سنين، وبمناقشة لما تبقى لهذا النظام عملياً من إمكانات يستطيع من خلالها استعادة ذاته كنظام حاكم أولاً، ومن زاوية قراءة متحركة، بين مجموع مناطق النفوذ التي توزعت عليها سورية مآلاً، بعد استتباب خرائط اتفاقات «آستانة» بين الشركاء الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا)، حيث يمكن وصفها بأنها أقل من احتلال مباشر، واكثر من وصاية دولية مرجعية، بينما يبقى شكل سورية التي يتحدث عنها النظام حتماً على مسافة بعيدة جداً مما يمكن وصفه «دولة ذات سيادة». ولعل ذلك يجعل التساؤل اليوم بداهة، بين كل السوريين مؤيدين ومناهضين لهذا النظام، عن الناتج الحقيقي لما يسميه رئيس النظام بشار الأسد «انتصارات عسكرية» على الأرض، وضد مجموعات يسميها «إرهابية»، وهو الذي كان منذ حين قريب يجلس ممثلوه مقابلها «كشريك» على طاولة التفاوض في (آستانة والقاهرة وجنيف)، ثم عاد ليسحق أماكن نفوذها في المدن والمناطق السكنية بكل الأسلحة المتوفرة لديه، بما فيها المحظورة دولياً «كالكيماوي»، مبرراً ذلك بأنها حرب على الإرهابيين، رغم أن ما خرج من صور توثق ما حدث ويحدث في «الغوطة مثالاً» يؤكد أن المستهدفين، من قبل النظام ومن معه (إيران، روسيا)، هم من النساء والشيوخ والأطفال، وأيضاً من الشباب. والغريب بالأمر، أن هؤلاء الشباب الذين يصنفهم اليوم مع أهاليهم كإرهابيين، هم أنفسهم من يريد هذا النظام تجنيدهم في جيشه، لمتابعة حربه ضد ما تبقى من معارضيه، وكي يساعدوه في تثبيت أركان حكمه الواهية. فهل يتابع حربه على الإرهاب بجيش من «الإرهابيين»؟

إذا ذهبنا بعيداً في تصديق رواية النظام حول «انتصاراته»، وأنه فعلياً استطاع أن يعيد الغوطة ومحيطها إلى ما كانت عليه سابقاً تحت نفوذ قواته الأمنية والعسكرية، فهل هذا يعني أنه يستطيع استعادة نفوذه الدولتي والسياسي أيضاً؟ بمعنى آخر، ماذا عن النفوذ الإيراني والروسي الذي يعيق تبلور مظاهر السيادة السورية في المناطق التي يتجول فيها «الأسد» تحت الحراسة الروسية مرة والحماية الإيرانية ثانية؟ وما هو مصير النظام وسيادته حيث تتقاسم الولايات المتحدة وتركيا ما يقرب من 40 بالمئة من مساحة سورية في الشمال والشرق والجنوب؟ وأين تقع محافظة حلب الآيلة للانزياح إلى حكم تركيا، بعد كل معارك «التحرير» الوحشية التي خاضها نظامه مع روسيا وإيران عام 2016، ضد الفصائل المحسوبة على المعارضة تارة، وعلى تركيا تارة أخرى؟

وربما السؤال الملح اليوم هو: ماذا عن ما بعد الإدانات الدولية في استخدام الأسلحة الكيماوية، هل درس الأسد خياراته قبل أن ينفذ استشارات إيران الكارثية في استخدام أقصى حدود العنف، وكل أنواع الأسلحة ومنها المحرمة، لكسب معركة محيط دمشق، على حساب تقويض صدقية موسكو، والتزاماتها تجاه المجتمع الدولي في ضمان تخلص النظام من أسلحته الكيماوية؟

يعرف النظام السوري أنه ليس استثناء «دائما» في النجاة من العقوبات، وأن الحماية التي يلقاها اليوم من روسيا مرهونة بتحقيق مصالحها، واستعادة أدوارها دولياً، ما يعني أنها حماية موقتة تنتهي مع انفتاح المجتمع الدولي عليها، وتحقيق رغباتها في استحضار الملفات الدولية التي ترهق اقتصادها، وتعيق تطوير صناعاتها التكنولوجية وحتى العسكرية. وما يمكن الانتباه إليه أن العلاقات الروسية الإيرانية ليست استراتيجية، وإنما آنية ووليدة ظروف دولية، راهنت موسكو على أن استخدامها كورقة تفاوض، من شأنه أن يمنحها أسهماً إضافية في بورصة التفاوض الدولي على تقويض نفوذ إيران، وهو الأمر الذي يجعل من إيران حذرة ومتوجسة باستمرار تجاه مخططات موسكو التفاوضية، ما أدى أكثر من مرة إلى تعطيل وخرق الهدن التي عملت عليها موسكو، ضمن ما سمي المصالحات المحلية، كما أنها من عطل تنفيذ اتفاقات خفض التصعيد في الغوطة التي أبرمتها موسكو منفردة مع الفصائل في القاهرة وجنيف، وتسعى باستمرار لاستدراج الجنوب لمعارك تقوض الاتفاق الروسي- الأميركي الذي جرى في عمان، وهو ما يجعل الشك قائماً بأن إيران قد تكون الفاعل الرئيسي بقضية قصف دوما بالسلاح الكيماوي المحظور دولياً لإحراج روسيا من جهة، ولمعرفة أقصى حدود التدخل الأميركي الذي دأب الرئيس الأميركي دونالد ترامب على التلويح به خلال الفترة الماضية.

ووفقاً لما تقدم فإن النظام السوري الذي يعمل بخطة استرجاع هيمنته كقوة عسكرية، على المناطق التي تحيط بدمشق العاصمة أولاً، وصولاً إلى ما تبقى مما يمكن تسميته سورية المفيدة، عليه أن يتوقف عند حقيقة أن هذه المناطق بمجملها ليست ما كانت عليه قبل عام 2011، من حيث البنية المجتمعية التي عمل مع إيران على زعزعتها وتغيير أماكن تموضعاتها، بما يرضي إيران أولاً، لتشكل هذه التغييرات حزام أمان طائفي لإيران، وليس لكتلة النظام وخاصة في محيط دمشق، ما يؤجل المواجهة حالياً بين حاضنة النظام وحاضنة إيران، ولكنه في حقيقة الأمر لا يلغيها، على رغم وجود المصالح المشتركة بينهما الآن كمرحلة قابلة للانتهاء. ومن جهة ثانية، فإن هذا التغيير الديمغرافي القسري في ظل وجود حقوق ملكية لأصحاب الأرض الحاليين سيبقى مرهوناً بالوجود العسكري، أي بحالة حرب دائمة، لن تمكن النظام من تحقيق حلم العودة لممارسة سلطاته، والاستفادة من قطف ثمار قوانين استثماره،إلا بحدود المشاركة المتوقعة من إيران وموسكو، وهما الدولتان اللتان تنتظران التعويض عليهما من أموال إعادة الأعمار المحتملة وليس الانفاق من جيوبهما.

وخلاصة القول، نعم، بإمكان الأسد الآن ادعاء انتصاره على الفصائل المسلحة، وعلى المدنيين في محيط دمشق، ولكنه خلال مسيرة حربهالطويلة لم يترك فرصة لنجاته سياسياً، وأوغل في تسليم أمور دولته لكلا الشريكين غير النزيهين في التعامل معه، لجهة شراكتهما مع الجانب التركي الذي يحتسبه «عدواً»، ولجهة توريطه في استفزاز المجتمع الدولي، في لحظة يمكن تسميتها أنها «انتحار سياسي» مقابل نصر وهمي، ما يضع الأسد ونظامه أمام مراهنات كارثية، حيث بمسايرة شركائه يخسر نصف سورية لتركيا والولايات المتحدة الأميركية، وتصبح أنقرة صاحبة القرار في كبرى مدنهالاقتصادية حلب عاصمة الصناعة والتجارة، وإدلب مركز الثروة الزراعية وصولاً إلى أطراف اللاذقية، بينما تتحكم الولايات المتحدة بحدوده وثرواته الباطنية، ويبقى له تقاسم سورية «المفيدة» مع إيران وروسيا، له منها الحكم شكلاً، وليس فعلاً، ما يجعل تلك الحاضنة التي واكبته هي الخاسر الآخر، بعد النظام، في واقع العداء الذي قسم سورية إلى سوريات والسوريين، إلى أتباع وأعداء، وفي مواجهة بعضهم بعضاً.

* كاتبة سورية.

الحياة

 

 

 

 

دوما: التهجير بعد مجزرة الكيماوي/ عروة خليفة

تقفُ الباصاتُ الآن في شوارع مدينة دوما لتهجير أهلها، ولم تمضِ بعد ثمانٍ وأربعون ساعةً على مجزرة استُخدِمَ فيها السلاح الكيميائي ضد المدنيين، في الأحياء والشوارع ذاتها، إذ تمّ الإعلان البارحة عن الوصول إلى اتفاق لإجلاء المقاتلين ومن يرغب من المدنيين إلى الشمال السوري.

وكانت قوات النظام قد بدأت حملة قصف مركزة على المدينة ظهر يوم الجمعة الفائت، شملت قصفاً بالبراميل المتفجرة وصواريخ الراجمات، وفي اليوم التالي (السبت 7 نيسان) بالتوازي مع استمرار القصف، «سُجِّلَ استهدافُ المدينة مرتين بالسلاح الكيميائي، الأولى كانت في الأحياء الغربية ولم ينجم عنها سوى إصابةٌ واحدةٌ لطفل جرى إسعافه سريعاً، وفي قرابة الساعة السابعة والنصف استهدفَ الطيران الحربي ساحة الشهداء بقذائف محمّلة بغازات سامة تسببت بالمجزرة»، يقول ثائر حجازي مدير مكتب الغوطة في مركز توثيق الانتهاكات في سوريا (VDC) للجمهورية.

الأرقامُ الأولية التي أصدرتها الطواقم الطبية في اليوم الأول شملت أكثر من خمسمئة مصاب، واثنين وأربعين شهيداً من المدنيين بينهم نساء وأطفال، فيما ارتفع هذا الرقم لاحقاً ليبلغ عدد ضحايا المجزرة قرابة المئة وخمسين شهيداً، قُتِلَ معظمهم في الأقبية دون أن تستطيع الكوادر الطبية أو فِرَقُ الدفاع المدني الوصول إليهم نتيجة القصف العنيف المستمر، واستهداف النظام لنقاط الإسعاف المركزية ومشافي المدينة في أوقات متقاربة.

يقول ثائر حجازي للجمهورية: «الكوادر الطبية كانت شبه عاجزة نتيجة القصف المستمر والأعداد الكبيرة للمصابين والضحايا، وخاصةً أن المنطقة المستهدفة (الحيّ بالقرب من جامع النعمان) تعتبر من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في مدينة دوما».

وقد أفادت الجمعية الطبية السورية الأمريكية SAMS في بيان لها عن الحادثة، أنَّ الأعراض شملت حدقةً دبوسية وتباطؤاً في التنفس وضربات القلب، وخروجَ زبدٍ من الأنف والفم. ولا تتوافق هذه الأعراض مع التسمم بغاز الكلور، بل هي أقرب للتعرض لغازات مشابهة للسارين، حسب ما أفاد طبيب من المدينة لمركز توثيق الانتهاكات في سوريا، ضمن تقرير نَشَره عن المجزرة.

وقد وثَّقَ ناشطون وحقوقيون في المدينة المجزرة، صورٌ لأطفال مختنقين في الأقبية، عائلاتٌ بأكملها قضت اختناقاً، فبعد لجوئهم إلى الأقبية تخوفاً من القصف العنيف، قصف طيران النظام حيّهم بالغاز السام. كانت مشاهد الفظائع تلك، مشابهةً للمجزرة التي حدثت في آب 2013.

مساء اليوم التالي للمجزرة (الأحد)، أعلنت اللجنة المدنية المُشاركة في المفاوضات من مدينة دوما، التوصَّل إلى اتفاق بين «جيش الإسلام» وروسيا، يقضي بخروج مقاتلي الأول إلى الشمال السوري مع عائلاتهم ومن يرغب من المدنيين. وأضافت اللجنة المدنية للمفاوضات في مدينة دوما عبر حسابها على تلغرام أن: «من يرغب بالبقاء في دوما فستتم تسوية أوضاعهم مع ضمان عدم الملاحقة وعدم طلب أحد للخدمة الإلزامية أو الاحتياطية لمدة ستة أشهر، كما تضمّن الاتفاق دخول الشرطة العسكرية الروسية كضامن لعدم دخول قوات الجيش والأمن، ويمكن لطلاب الجامعات العودة لجامعاتهم بعد تسوية أوضاعهم».

ويشمل الاتفاق أيضاً إفراج «جيش الإسلام» عن مختطفين لديه منذ سيطرتهم على عدرا العمالية، وقد بدأ تسليمهم عند نقطة معبر مخيم الوافدين صباح اليوم، ونشر تلفزيون النظام السوري لقطات مصورة للعملية.

وعلى الرغم من إعلان الاتفاق، لم يخرج قادة تنظيم «جيش الإسلام» عن صمتهم، الأمر الذي أثار غضب السكان، ففي حين كانت تجري المفاوضات أعلنت مصادر روسية وقنوات تابعة للنظام السوري التوصل للاتفاق عدة مرات، في الوقت الذي كان ينفي فيه قادة التنظيم أي اتفاق نهائي، في ظل تعتيم كبير حول ما يجي عن السكان، وقد خرجت مظاهرة غاضبة لأهالي مدينة دوما البارحة ظهراً حول منزل شرعي «جيش الإسلام» سمير كعكة، طالبت بإعلان ما يجري للناس وهتفت «دوما حرة حرة… كعكة يطلع برا».

وأفادت صحيفة عنب بلدي في تقرير لها نُشِرَ مساء أمس، أن تركيا رفضت استقبال مقاتلي «جيش الإسلام» في مدينة جرابلس، وسيكون البديل هو التوجه نحو جبل الزاوية في إدلب، فيما سيتم استقبال المهجرين من المدنيين في جرابلس وريف حلب الشمالي.

ومن المرجح أن تخرج أعداد كبيرة من المدنيين نحو الشمال، وخاصة بعد تجربة مهجري الغوطة السابقة في مناطق النظام، والتي شملت حالات اعتقال بالإضافة إلى احتجاز العائلات في «مراكز إيواء»، في ظروف سيئة للغاية.

ردة الفعل الدولية على المجزرة، كانت متفاوتة، إلا أن الضربات الجوية التي تعرّضَ لها مطار T4 في ريف حمص ليل أمس، تشيرُ إلى أن هامش الردّ سيكون ربما في حدود المرة الماضية، حينما استهدفت صواريخ توماهوك أمريكية مطار الشعيرات، الذي انطلقت منه الطائرة التي قصفت مدينة خان شيخون بغاز السارين العام الماضي.

حتى اللحظة نفت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل توجيه هذه الضربة، فيما اتهمت روسيا إسرائيل بتوجيهها، ويبدو أن الإدارة الأمريكية اختارت أقل الخيارات إثارةً للصدام مع روسيا للرد على المجزرة.

لن توقِفَ صواريخ الجو-أرض تهجير مدنيي دوما نحو الشمال، مئة ألف مدني ينتظرون اليوم، ينشرون صور الباصات التي أتت لتهجّرهم من بيوتهم وحاراتهم. تلك الصور ليست أقلّ فظاعةً، لكن الأكثر قبحاً هو أن يستمر كل شيء كما هو بعد مجزرة دوما.

موقع الجمهورية

 

 

 

ما وراء مجزرة الكيماوي في دوما/ عمر كوش

تضيف مجزرة الكيماوي الجديدة التي ارتكبها النظام الأسدي بحق المدنيين المحاصرين في مدينة دوما جريمة جديدة إلى سجل هذا النظام وحلفائه الحافل بالمجازر المرتكبة بحق غالبية السوريين.

وإذا كانت الصور الفظيعة لأطفال دوما الصرعى والمصابين بحالات اختناق قد أثارت سخط القوى الحيّة في العالم كله، إلا أنها تثير أكثر من سؤال بشأن المعنى والخصوصية في قتل سوريين، محاصرين وجوعى، مدنيين وعزّل، بالأسلحة الكيماوية، وتكشف مستوى الانحطاط البشري الذي وصل إليه نظام الأسد الأقلوي، المدعوم من نظامي فلاديمير بوتين في روسيا والملالي في إيران، ومدى انحدار هذه الأنظمة الديكتاتورية إلى نمط مهين من التوحش واللاإنسانية، وتطرح أسئلة عن الفكر السياسي المنحط والمهيمن فيها. فكر الذين قادوا الحرب البشعة والبربرية إلى جانب نظام طائفي فاشي، وأوصلوها إلى محطةٍ قصوى من العذاب الإنساني للسوريين.

وعلى الرغم من كل التحذيرات الدولية والخطوط الحمراء التي أطلقها الرئيسان، الأميركي دونالد ترامب والفرنسي إيمانويل ماكرون، إلا أن كلا من النظام الأسدي والبوتيني وملالي طهران أراد من الجريمة الجديدة ضد الإنسانية توجيه رسائل متعددة الاتجاهات، وخصوصا إلى دول الغرب الأوروبي، بعد التهديد والتلويح الأميركي والفرنسي بشن ضربات عسكرية بشكل أحادي على النظام، في حال توفر أدلة دامغة على استخدامه الكيماوي مجدّداً.

وليس توقيت توجيه هذا الهجوم مصادفة، بل يتزامن مع مرور الذكرى الأولى لمجزرة خان شيخون التي ارتكبها النظام في الرابع من إبريل/ نيسان 2017، واستجلبت رداً اميركياً محدوداً جداً في السابع من الشهر نفسه، بقصف مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات التي قامت بالهجوم الكيماوي.

ويبدو أن الروس وملالي طهران والنظام أرادوا اختبار مدى جدية التهديدات الغربية، وخصوصا الأميركية والفرنسية، ومعرفة حجم ومستوى الرد الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة أو فرنسا، وبالتالي فإن الغاية من هذه الجريمة الجديدة إهانة الغرب، والحطّ من هيبة كل من الولايات المتحدة وفرنسا بشكل خاص، والغرب بشكل عام، في حال عدم القيام بالرد الذي يتناسب مع هول هذه الجريمة وبشاعتها.

“أراد النظام البوتيني ونظام الملالي الإيراني ونظام الأسد الإجرامي أيضاً كسر عزيمة الصمود لدى أهل دوما والمدافعين عنها”

أراد النظام البوتيني ونظام الملالي الإيراني ونظام الأسد الإجرامي أيضاً كسر عزيمة الصمود لدى أهل دوما والمدافعين عنها، ووضعهم أمام الخيار الذي يحاولون فرضه عليهم بالقوة الغاشمة، القتل أو التهجير القسري، وتعمدوا استخدام السلاح الكيماوي، لأن مليشياتهم لا تستطيع اقتحام تحصينات “جيش الإسلام” في دوما، ويصعب عليها اختراقها من دون أن تدفع تكلفة بشرية باهظة، ولذلك يظنون أن أسهل الطرق وأقصرها لإرغام “جيش الإسلام” على القبول بشروطهم، خصوصا بعد وضعه تحت ضغط الكلفة البشرية الباهظة على حساب أرواح المدنيين من الأطفال والنساء والرجال، المحاصرين والمجوّعين، والذي يريد النظام وحلفاؤه تحويلهم إلى مهجرين أو موتى داخل الأقبية والسراديب المظلمة.

وتوضح جريمة الكيماوي الجديدة أن نظام بوتين لم يحفظ وعوده التي قطعها مع “جيش الإسلام”، القاضية بوقف إطلاق النار طوال فترة التفاوض، بل انتهز فشل المفاوضات، لكي يعطي الضوء الأخضر للنظام الأسدي ليرتكب جريمته، لكن ذلك وحده لا يفسر السبب، كون الجريمة تشكل تحدّيا لكل دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، وستشكل إهانة لهما، إذا أفلت نظام الأسد من العقاب هذه المرة أيضاً.

ومعلوم أن الهجوم بالأسلحة الكيماوية على دوما يستلزم إجراءات لوجستية مسبقة، ويستلزم كذلك قراراً سياسياَ، اتخذه على الأرجح نظام بوتين بالتنسيق مع نظام الملالي الإيراني، خصوصا أنه جاء في وقت أعلن فيه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قراره الانسحاب من سورية، ربما بعد ستة أشهر أو سنة، ولذلك جاءت الجريمة لتكون إحراجاً للإدارة الأميركية وللرئيس ترامب شخصياً، حيث يظن ساسة النظام البوتيني أن ترامب في موقع يعجز فيه عن القيام بأي تحرّك، لذلك أرادوا الانتقام من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأميركية، وطاولت مقرّبين من الرئيس الروسي، وخصوصا صهره.

يضع ذلك كله الإدارة الأميركية أمام موقف حرج، يستوجب عليها الحفاظ على هيبتها، وهو أمر عكسته تغريدات الرئيس ترامب التي حمّل فيها النظام البوتيني ونظام الملالي الإيراني مسؤولية الهجوم الكيماوي على دوما، وتوعد بأن يكون الثمن باهظاً، وبالتالي يبرز التساؤل

“الإدارة الأميركية أمام موقف حرج، يستوجب عليها الحفاظ على هيبتها، وهو أمر عكسته تغريدات ترامب”

بشأن حجم التحرك الأميركي حيال نظام الأسد، وهل سيكون الرد مماثلاً للرد على مجزرة الكيماوي في خان شيخون، أم سيكون أقسى وأقوى، ويترك أثراً قوياً على نظام الأسد الإجرامي؟.

أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي يحاول أن يجد لفرنسا موطئ قدم في سورية، فقد اختار الانفصاليين فيها، ظناً منه أن ذلك سيعيد أمجاد الإمبريالية الفرنسية الغابرة، لكن الأجدى بالنسبة إليه أن يحترم تعهداته وتهديداته بضرب النظام إذا قام بهجمات “كيماوية مميتة”، وكأن الهجمات المميتة بالأسلحة الأخرى، كالبراميل المتفجرة والصواريخ وسواهما لا تعنيه، وإن حصدت أرواح مئات آلاف السوريين. غير أن مجزرة الكيماوي في دوما وضعته أيضاً أمام حرج واختبار قويين، فإما أن يتحرّك أو أن يضع رأسه في الرمال كالنعامة، ويغض النظر عما قاله في أكثر من مناسبة بلغة تهديد ووعيد مشروطة، بينما يكشف واقع الحال أنه سينتظر موقف الإدارة الأميركية، كي يبني موقفه بناء على موقفها، بوصفه عاجزا عن التحرك بمفرده، بعكس ما ادّعى.

وفي مطلق الأحوال، وضعت مجزرة الكيماوي في دوما الغرب عموماً، والولايات المتحدة وفرنسا خصوصاً، أمام تحدي الرد عليها، أو الاستمرار في سياسة الإفلات من العقاب التي دشنها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، حين اتبع نهجاً من المقايضة، قضى بتسليم النظام المجرم أسلحته الكيماوية، مقابل الإفلات من العقاب على الجريمة التي ارتكبها في مجزرة غوطتي دمشق في الحادي والعشرين من شهر أغسطس/ آب 2015، الأمر الذي جعل النظام يتمادى في جرائمه ضد غالبية السوريين.

العربي الجديد

 

 

دوما.. ضحية السلاح الكيماوي/ فاطمة ياسين

مرة أخرى، ربما تحمل الرقم عشرة أو أكثر، وبطريقةٍ أصبحت تقليدية، يستعمل النظام في سورية سلاحاً غير تقليدي، ويقصف، بشكل عشوائي، الأماكن المدنية، لإحداث أكبر أثرٍ وإسقاط أكبر عدد ممكن من الضحايا. يبدو توجيه العدسات إلى المنطقة المنكوبة أمراً مرغوباً لبلوغ صدمةٍ يرغب النظام بإحداثها، والهدف مرة أخرى كسر مقاومة المحاصرين لشراء شروط إذلالية جديدة. قاوم أهل دوما مصير التهجير طويلاً، وماطلوا في المفاوضات، ورفعوا سقف مطالبهم، وخفّضوه، في سبيل البقاء أطول فترة ممكنة فوق أرضهم، وتحملوا المقذوفات التقليدية التي تحملها الصواريخ الملقاة من الطائرات، في سبيل البقاء على الأرض التي ولدوا فيها، وخرجت من المنطقة بعض الباصات التي تحمل الجرحى والمصابين باتجاه الشمال، لكنها سرعان ما توقفت، لتشهد دوما أياماً حالكة، عاود فيها النظام قصفه المعتاد، قبل أن يستيقظ السكان على رائحة بدت مألوفةً تحمل الموت، وتذاكر التهجير الإجباري. بعد الاتفاقات المتلاحقة التي عقدت برعايةٍ روسيةٍ بين مناطق حرستا وعربين وجوبر وبقية مدن الغوطة الشرقية، بقيت دوما وحيدة وسط حصار قاتل، فباشر النظام بعزلها عن محيطها البشري واللوجستي، وكان يدرك أن معركته التالية ستكون هناك.

يسيطر على الغوطة تشكيلٌ إسلاميٌّ محليٌّ قواته الأساسية من أهل المنطقة أنفسهم، ولديهم دافع مضاعف للبقاء والدفاع عن المدينة، بالإضافة إلى العقيدة التي تطورت وأصبحت أكثر عمقاً، بعد أن أدرك جميع من في الغوطة أن النظام يريد دوما بأي ثمن، ولو كانت خالية من السكان، فبغيرها لن يكتمل نصره الذي بكّر في الإعلان عنه، حين كانت مفاوضات الغوطة لم تبدأ بعد. تعني مدينة دوما بالنسبة للسوريين الكثير منذ بواكير أيام الثورة، حين كانت تخرج عن بكرة أبيها في جُمع الانتفاضة أو في أيام التشييع التي تتبعها. ولم يكن النظام على استعداد للقبول بنصف انتصار على هذه المدينة بالذات، خصوصا بعد أن أظهرت مقاومة مضاعفة، وتبين أن التفاوض معها لا يمر بالسهولة التي تصوّرها، ولم يكن هناك خيار آخر أمام قائد الحملة، سهيل الحسن، وطفل روسيا المدلل، غير استخدام السلاح الذي برع في استخدامه.

ماج المجتمع الدولي بالإدانة، وأعاد دونالد ترامب وصف الأسد بالحيوان، وعبرت الدول، إنْ بشكل منفصل أو جماعي، عن رفضها واستنكارها هذا العدوان. قد تكون ردة الفعل هذه تعبيراً عن فهمٍ عميق لمغزى استخدام السلاح المحرّم، وما زالت فضيحة استعمال السلاح نفسه في لندن، ضد عميل روسي مزدوج، ومن روسيا، تأخذ مفاعيلها الدبلوماسية ضد فلاديمير بوتين.

لا يمتلك نظام الأسد تمثيلاً دبلوماسياً مع أيٍّ من البلدان الكبرى، باستثناء روسيا التي أغدقت عليه حمايةً فوق العادة في مجلس الأمن وخارجه. وقد تقتصر ردة الفعل الدولية على هذه الهبة الإعلامية التي تابعتها ضد الأسد، بعد أن كسب الغوطة، وضمن نصراً يهديه لأنصاره الذين لا يأبهون، كما يبدو، بالاتهام بقلة الأخلاق.

قبل الاستخدام الأخير للسلاح الكيماوي، كان الشارع يتساءل عمّا بعد دوما، وعن معركة الغوطة الشرقية الفاصلة. حُسمت المعركة الآن وشهد يومها الأخير مائة وخمسين ضحية ذهبوا اختناقاً، واتفاقية تهجير جديدة، قيل إنها وقعت، واستأجر النظام الباصات التي ستنقل “جيش الإسلام” إلى الشمال، وهي تنتظر ركابها للتحرك. بعد مجزرة خان شيخون، قصف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مطار الشعيرات. وكان قبلها قد أرغى وأزبد، ووصف الأسد بالحيوان، وهو الآن يعيد الكرّة، ولكنْ وبشكل مشابه فإن قصفَ مطار المزة المزمع لن تتعدّى نتائجه قضية مطار الشعيرات الذي عاد إلى الخدمة عشية اليوم التالي، وبالقدرة التعبوية نفسها على شن الهجوم الكيميائي، وما بعد دوما يشبه ما بعد خان شيخون، مجموعة مدنيين في مكان ما تنتظر دورها لتموت خنقاً بموافقة دولية.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

اللاّ ضربة الأميركية لجيش الأسد/ غسان المفلح

في شباط من العام 2012 ، أي قبل عام ونصف تقريبا من يوم الأربعاء 21 آب – أغسطس 2013،تاريخ مجزرة الغوطة، التي ارتكبها الأسد، راح ضحيتها المئات من سكان المنطقة، معظمهم من الأطفال، بسبب استنشاقهم لغازات سامة ناتجة عن هجوم بغاز الأعصاب. سرب عن الحكومة البريطانية انها اعدت تقريرا على ان الأسد، قام بتحريك سلاحه الكيماوي. قام الرئيس الأمريكي بارك أوباما، برمي الملف في سلة المهملات، ورفض التعاطي معه، ومع تخوفات الحكومة البريطانية،آنذاك. السبب كانت مفاوضاته السرية في مسقط،وغيرها من القنوات مع ايران، من اجل اتفاقه النووي. لايريد تعكير اجوائه المرتبة للجريمة المزمنة في سورية. قبل هذا التاريخ بشهرين أي في6 .2011.12 اجتمعت السيدة هيلاري كلنتون، بقادة المجلس الوطني السوري المعارض في جنيف. في هذا الاجتماع أيضا تم التطرق للسلاح الكيماوي الذي يملكه الأسد. هذا يؤكد ان السلاح الكيماوي الاسدي تحت النظر. رفضت بالطبع قيادة المجلس مناقشة هذا الامر!! معتبرة ان هذا السلاح ملكا للشعب السوري!! في حينها كتبت عن الموضوع اكثر من مادة. حول هذا الموقف” الوطني” المهترئ لقادة المجلس. على هذه الخلفية يمكننا ان نفهم مسألة السلاح الكيماوي الاسدية والان الروسية، وعلى هذه الخلفية بدا الأسد باستخدام سلاحه الكيماوي 2013 وما بعدها، لانه تيقن من عدم المحاسبة من قبل اوباما. بعد المجزرة الأخيرة قبل اقل من أسبوع في الغوطة أيضا، لكن هذه المرة في دوما لكي يتم اقتلاع أهلها من جهة، ولكي يتم إعادة أمريكا للملف السياسي والحل المطروح بصيغته الروسية. لان السلاح الكيميائي هذه المرة تم باشراف مباشر من بوتين. وربما يكون سلاحا روسيا يريد تجريبه أيضا على أطفال الغوطة، مزيج من السارين والكلور. الامريكان صرحوا بانهم تاكدوا من استخدام السلاح الكيمائي في دوما. الان الاعلام الأمريكي والعالمي والسوري بشقيه الاسدي والمعارض، لا حديث له الا الضربة الامريكية لنظام الأسد، ردا على هذه المجزرة. سألت بعض الشباب في قيادة المعارضة، وبعض الأصدقاء من النخب السياسية في هذه المعارضة” على ماذا تستندوا في في ان ترامب سيضرب الأسد؟ وان هذه الصربة ستكون نوعية على افتراض انها ستحصل؟ وهل تأتي في سياق تغير نوعي امريكي في الموقف من نظام الأسد وما يحدث في سورية، عما اسسه أوباما؟بالنسبة لي لا جواب مقنع. لهذا اسميتها اللاضربةالامريكية”. لانها لو حدثت فستكون نوعا من التاديبلشريك في الجريمة. هذا هو فحوى موقفي من التحركات الامريكية الان، ومن هذه الهمروجة في الاعلام عنها وعن قوتها. الملفت في هذه الهمروجةالإعلامية، انها حولت السفير الأمريكي السابق لدى سورية، روبرت فورد بوصفه كاذب وحقود على كل ما يخص الشعب السوري بصلة، وموالي للاسديةبوصفها مقتلة عامة للسوريين. وليس بوصفها شيئا آخر. صار نجما الان في هذه الهمروجة، وهو الذي شكل الائتلاف السوري المعارض لتقويض المجلس الوطني من جهة، ولشرذمة المعارضة من جهة اخرى،يطالب بألا تهدد الضربة ان حصلت نظام الاسد بالسقوط. هذا مزيج من وساخة الاسديين وطاقم أوباما سويا. بالمناسبة هو اول مسؤول غربي يتحدث” بعلوية النظام الاسدي” وعدم السماح بابادتها، من حرصه عليها!! من ثالث شهر بالثورة،رغم ان هذه القضية لم تكن لا في ذهن المعارضة ولا في ذهن شعبنا الذي خرج بالملايين ضد الاسد.عندما رمى هذه العبارة الحقيرة في وجه المعارضة،وتلقفتها روسيا، ليبدع بوتين ولافروف بعدها بالحديث، اننا لن نسمح بمجيء حكم سني في سورية!! فورد هو نفسه الذي كتب اننا اوهمنا الشعب السوري، باننا نقف معه في ثورته. خاصة من خلال زياراتنا كسفراء غربيين الى حماة وحمص لمشاهدة اكبر تظاهرتين في بداية الثورة آنذاك. الان يطالب الإدارة الحالية بعدم ضرب الأسد عسكريا من جهة، واذا ارادت ضربه، تضربه بما لا يؤدي الى سقوطه. في اول تعليق لي على هذه اللاضربة قلت” بصراحة لا تهمني الضربة العسكرية الامريكية،لانها لن تقضي على النظام، ولن تحمي ما تبقى من سوريين، ما يهمني بالضبط: عندما يعترف هذا العالم المأفون أن الاسد يستحق الضرب والموت منذ ايام اوباما، كما قال فرانسوا هولاند، والان ترامب. انما يؤكد للحثالة من اليسار الاسدي وغيرهم منالسوريين، وبعض الكوكبة التافهة معرفة، مما يسمى ظاهرة العلمانيين القومجيين العرب!! ان الغرب واسرائيل هما الحامي والراعي للاسد وحلفائه، لان شعبنا اراد التخلص من هذا الحيوان كما وصفه ترامب للمرة الثانية. وليس الروس والإيرانيين سوى قتلة. لايزال الغرب هو الحامي للاسد. لهذا لا تعنيني هذه الضربة. مرة أخرى شعبنا الجريح، يتمنى ان يأتي الشيطان ويخلصه من الأسد لكي يعود الى حياته، بعد تهجير وتشريد أكثر من 12 مليون سوري. الصورة الان باتت أوضح للذي لديه حد ادنى من الموضوعية في قراءة المشهد الإعلامي والسياسي الان، ان أمريكا المتدخلة في سورية والعالم، هي التي لاتزال تحمي الأسد من السقوط. سواء حصلت الضربة ام لا، لا أرى تغيرا نوعيا في الموقف الأمريكي عم تم تاسيسه اوباميا واسرائيليا،من تزمين للجريمة الاسدية في سورية

ايلاف

 

 

 

 

سفاح دمشق والمأزق الروسي/ محمود الحمزة

خمسون عاماً مضت، شهد خلالها السوريون جرائم النظام الأسدي، بلغت ذروتها في مجزرة حماه وسجن تدمر في ثمانينيات القرن الماضي، حيث ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من السوريين. ويستمر مسلسل العنف والقتل والانتهاك لأبسط حقوق الإنسان السوري، فعشرات الآلاف إما قتلوا تحت التعذيب أو اختفوا أو ما زالوا في سجون الأسد لمعارضتهم نظام العصابة، أو لتهم مزعومة ألصقت بهم عنوة.

نهبت العصابة اقتصاد سورية، وأفقرت السوريين وشرّدتهم، وليس مصادفةً أن حوالي 20 مليون سوري يعيشون في الغربة. وعندما طالب الشعب السوري بحقوقه وحرياته التي أقرّتها القوانين والشرائع الدولية والإنسانية، انهالت العصابة على الشعب بالقتل والإبادة والتهجير القسري وتدمير البلد، تطبيقا لشعار “إما الأسد أو نحرق البلد”، وهم بالفعل حرقوا البلد. والأنكى من ذلك كله أن هناك محاميا وحلفاء لهذه العصابة، ممثلا بايران وروسيا. وهم ليس فقط يتحالفون مع عصابة الأسد، بل إنهم يبرّرون كل ما تقوم به من جرائم، ويقدمون باستمرار وعلى مدى سبع سنوات صورة كاذبة ومعكوسة لما يجري في سورية.

مَنْ يقصف السوريين؟ هل هي المعارضة، أم طائرات العصابة وروسيا؟ ومع ذلك، وبعد مقتل مليون سوري، لم نسمع كلمة إدانة واحدة من روسيا لقتل المدنيين، وخصوصا الأطفال والنساء، وتدمير المستشفيات والمنازل على رؤوس أصحابها.

استخدمت العصابة، قبل أيام، الغازات السامة للمرة الثانية في الغوطة، لأنها حاصرتها خمس

“إذا استمرت روسيا بسياستها الخاطئة في سورية ستخسر كل شيء”

سنوات، ولم تكسر إرادة أهل الغوطة، وقصفتهم وأحرقت الغوطة بنصيحة من روسيا التي لديها تجربة في الشيشان، وضربتهم بالغازات السامة، لكي تقتل المدنيين وتجبرهم على ترك منازلهم مدعومةً من حلفائها الذين لا يريدون عربا سنة بالقرب من دمشق، بل يريدون شيعة من كل أنحاء الأرض.

استخدم سفاح دمشق الكيماوي لقتل أطفال الغوطة، وهذا مثبتٌ بأشرطة فيديو، ولكن موسكو تنفي، كما فعلت ذلك عشرات المرات، وتقول إنها فبركات وحجج أميركية لقصف مواقع النظام. كل ما يقال عن النظام ويُثبَت بالأدلة تقول عنه موسكو إنه مفبرك. أما مجلس الأمن فهو عاجز عن اتخاذ أي قرار لإدانة نظام العصابة في دمشق، وبالتالي فمصير شعبنا وأهلنا أصبح رهينة بيد موسكو التي تتخذ سياسة خاطئة في سورية، وستكون موسكو أكبر الخاسرين إذا استمرت بهذه السياسة.

نصب الأميركان فخاً لروسيا، فجرّوها إلى التدخل العسكري، والانخراط في المستنقع السوري الذي قد يتحول إلى مستنقع أفغاني. ويجر الأميركان موسكو إلى حربٍ باردة وسباق تسلح، وهذا يذكّرنا بالأجواء المرافقة لانهيار الاتحاد السوفييتي. كما يفرض الغرب، وخصوصا أميركا، العقوبات الاقتصادية والعسكرية والمالية على موسكو، ويهددون بتجميد رؤوس أموال النخبة المحيطة بالرئيس فلاديمير بوتين، وهذا سيعني الإمساك باليد التي توجع.

وهناك مؤشر جديد على موسكو أن تلحظه، وهو الموقف الأوروبي الأميركي المؤيد للموقف البريطاني، بخصوص حادثة تسميم الجاسوس الروسي البريطاني المزدوج، سيرغي سكريبال، في بريطانيا، حيث نظمت ضد روسيا حملة دبلوماسية كبيرة، تنذر بمواقف عدائية لاحقة.

وقد اعتقد الروس مخطئين أنهم أبرزوا عضلاتهم في سورية، وجرّبوا أسلحة حديثة، وظنوا أنهم سيقنعون الغرب بقوتهم، لكي يحصلوا على تنازلاتٍ في الملف الأوكراني. وأخطأ الروس عندما وضعوا كل بيضاتهم في سلة سفاح دمشق ونظام الملالي، فسورية ليست الأسد، وإنما هي بلد له تاريخ حضاري كبير، وشعبها حي ومتحضر، ولا يقبل التطرّف، ولا استلاب الإرادة، وقام بأعظم ثورة في التاريخ، لكن دولة عظمى، وهي روسيا، تدخلت بقوتها العسكرية الفتاكة إلى جانب سفاح دمشق، فالأسد سقط وعصابته تعرّت للعالم، وما تحقق في سورية ليس نصرا عسكريا للنظام، بل هو لروسيا، وهذا لا يزيدها شرفا، لأنها حاربت مواطنين ومقاتلين بإمكانات متواضعة.

وتبقى أسئلةٌ تخص مستقبل سفاح دمشق، ومصير الوجود الروسي والمصالح الروسية في

“كيف تضمن روسيا وجودها في سورية في أجواء من عدم الاستقرار والفوضى”

سورية. .. على الرغم من الانتصار العسكري المحدود لروسيا، والحفاظ حالياً على عصابة الأسد، كيف تضمن روسيا وجودها في سورية في أجواء من عدم الاستقرار والفوضى، إلى درجة أن روسيا لا تعرف من أين ياتيها الخطر؟ كيف لشخص هزيل وضعيف كالأسد أن يحمي مصالح روسيا؟ وكيف ستجني روسيا ثمار كل تدخلها وحمايتها لعصابة الأسد؟ قد يحكم بشار السفاح جزءاً من سورية، ولكن سورية مدمرة ومحطمة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وبنيةً تحتيةً، فمن أين ستحصل موسكو، متعهدة نظام العصابة، على أموال لإعادة إعمار اقتصاد سورية؟ فلا روسيا لديها إمكانية التمويل ولا إيران.

إذا استمرت روسيا بهذه السياسة الخاطئة ستخسر كل شيء. أما إذا أدركت ضرورة تعديل موقفها، بحيث تتجه نحو مصالح الشعب السوري، وتعترف بحقه في الحياة الحرة الكريمة في ظل دولة المواطنة التي لا تتناقض مع المصالح الروسية في سورية، فإنها حينها ستضمن مصالحها في سورية، لكنها لن تضمن صداقة الشعب السوري.

قد يأتي يوم تكتشف موسكو أنها ذهبت لتحارب الثورة في سورية البعيدة عنها جغرافياً، لإبعاد رياح التغيير عن حدودها، تجد أن ذلك الخطر اقترب منها على قول المثل “جنت على نفسها براقش”.

العربي الجديد

 

 

 

 

الكلام الكيماويّ/ حازم صاغية

ضُرب أهل دوما، وسوريّون غيرهم، بالكلام الكيماويّ قبل أن يُضرَبوا بالسلاح الكيماويّ. الكلام الكيماويّ له أشكال كثيرة: حين سُكّ تعبير «سوريّة المفيدة»، وحين وُصف نزوح النازحين بأنّه يجعل الشعب أكثر تجانساً، وحين نُعتت أكثريّة السوريّين بـ «الإرهاب» و «التكفير» و «الإسلاميّة»… هذا كلّه كان كلاماً كيماويّاً. إنّه يقوم على نوع من التبويب الماهويّ الذي تكون تتمتّه القتل. مؤدّى هذا المنطق: أنتم فئران وحشرات، وللفئران والحشرات علاج واحد: الرشّ بالكيماويّ. أهميّة هذا العلاج تتضاعف حين تعاند الحشرة رافضةً أن تستسلم: حشرة وترفض؟ إذاً، فليكن الكيماويّ مضاعَفاً.

إدانة التبويب ليست رفضاً شعبويّاً لعلوم اجتماعيّة وتجريبيّة تميّز معرفيّاً داخل المجتمع الواحد: تميّز تبعاً للجنس والعمر والدخل والتعليم والدين والطائفة والإثنيّة… المقصود بالتبويب الذي يقترحه الكلام الكيماويّ ذاك التأويل الأيديولوجيّ المسبق الذي يلغي كلّ نشاط تجريبيّ وكل امتحانات الواقع. إنّه يصدر عن مُركّب وعي طائفيّ– طبقيّ شُيّد وراء سور كثيف يفصله عن البرابرة– البرابرة المحكومين فحسب بشرطهم البربريّ.

بالطبع، لا تزال النازيّة والشيوعيّة النموذجين الأشدّ تعبيراً واكتمالاً عن هذا الوعي: الأولى في تبويبها البشر تبعاً لداروينيّة مشوّهة. الثانية في اعتمادها «قوانين التاريخ» لتبويب البشر وموضَعَتهم.

ولأنّ هذا «الفكر» لا يرى الواقع، ولا يُعنى بدلالاته، فهو يمضي متماسكاً في خرافته المغلقة إلى ما لا نهاية. إنّه، على عكس الحركات الثوريّة التي تريد تحويل المجتمعات، يسعى إلى تحويل الطبيعة الإنسانيّة نفسها بما يلائم «قوانينه». أمّا النهاية الكابوسيّة التي يفضي إليها «الفكر» المذكور فهي جعل البشر فائضين عن الحاجة، أو عن اللزوم، وفقاً لتعبير شهير لهنه أرنت. ذاك أنّ القتل هو الدواء المنطقيّ لهؤلاء الواقعين خارج ضفّة الخرافة، الضالعين جوهريّاً في الشرّ والتخلّف وفي ما كان يسمّيه هاينريش هملر «روحيّة العبيد».

طبعاً سيكون من المبالغة أن نفترض امتلاك النظام الأسديّ المتهافت تماسكاً خرافيّاً من النوع النازيّ أو الشيوعيّ. لكنْ ليس من المبالغة النظر إلى عقل ذاك النظام بوصفه جَمْعاً لنُتَف مبعثرة من الخرافتين الفاشيّة والشيوعيّة. وليس صدفة أنّ القوى والأحزاب المتفرّعة عن هاتين الخرافتين، والتي لا تزال مقيمة فيهما، تلتقي عند تأييد بشّار الأسد وسياساته الكيماويّة.

وقد نضيف خرافة أخرى بدأت، منذ 2005، تؤثّر في التكوين العقليّ للنظام المذكور: إنّها ما ينجرّ عن النيوليبراليّة من تبويب لا يقلّ ماهويّةً، تبويبٍ يفصل الناجح عن الفاشل والقويّ المقتدر عن الضعيف المهيض الجناح. وأيضاً ليس صدفة أنّ رجال الأعمال وكبار المليونيريّين يقفون حيث تقف الغالبيّة الكاسحة من «قوميّين وتقدّميّين ويساريّين» على أنواعهم.

لكنّ ما حضّ على تسريع الانتقال من الكلام الكيماويّ إلى الفعل الكيماويّ عنصران: أنّ النظام عاجز فيما هو ينتصر. إنّه الصلعاء التي تتباهى بشَعر جارتيها الروسيّة والإيرانيّة، مدركةً أنّ رأسها لا يُنبت شعراً، وأنّ الفجور والتوحّش هما القبّعة والستر.

أمّا العنصر الثاني فأنّ العالم يجيز التوحّش الفاجر. انهيار «الخطّ الأحمر» الأوباميّ كان محطّة بارزة في هذه الإجازة. أمّا ضرب مطار الشعيرات بالأمس، ومطار تيفور اليوم، فقليل جدّاً ومتأخّر جدّاً بقياس الكيماويّ وأشكال القتل الكثيرة الأخرى. هذا في انتظار أن يقنعنا ترامب وماكرون بالعكس.

لقد حوّل الأسدان سوريّة إلى سجن، والسجن الأسديّ نصف الطريق إلى موت السجين. في موازاة ذلك، أسّست لغة «الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة» قاعدة صواريخ لغويّة ومفهوميّة ينطلق منها اليوم الكلام والفعل الكيماويّان سواء بسواء. هذان ليسا شيئين منفصلين. إنّهما الشيء عينه.

الحياة

 

 

غاز الكلور في دوما بعد قمة أنقرة/ حازم الأمين

لعل أكثر ما يلفت في قصف النظام السوري مدينة دوما بغاز الكلور، هو أن الجريمة وقعت في أعقاب القمة الروسية التركية الايرانية التي عقدت لتناقش الشأن السوري. النظام شعر أن بإمكانه ارتكاب هذه المجزرة وأن ثمة غطاء دولياً مؤمناً له. لكن المجزرة وقعت أيضاً في أعقاب تصريحات لولي العهد السعودي محمد بن سلمان كشف فيها أن شرط إزاحة الأسد لم يعد شرطاً للتسوية في سورية. وجرى أيضاً في أعقاب تصريحات “عابرة” للرئيس الأميركي دونالد ترامب قال فيها إن بلاده بصدد انسحاب وشيك من سورية.

على هذا النحو يستقبل بشار الأسد الإشارات، وعلى هذا النحو يوظفها. فقد شعر الرئيس أن العالم عاد وقبل به رئيساً، فتحرك من فوره وقصف دوما.

والحال أن وجوه هذا المشهد الدولي مساهمون بجريمة النظام. فأنقرة التي كانت أول من أدان قصف دوما هي شريكة راعيي النظام الكيماوي في دمشق، أي موسكو وطهران. وهي شراكة وظيفتها بعد توزيع مغانم الحرب، تعويم النظام وتسويقه بصفته خياراً لا بديل عنه. والرياض التي التحقت بركب الدول القابلة بهذا الأمر الواقع تسعى بدورها لفصل النظام الكيمياوي عن طهران، ضاربة عرض الحائط بحقيقة أنه نظام قتل ما يزيد عن خمسمئة ألف سوري وهجر ما يزيد عن ثمانية ملايين منهم. الشرط الايراني يتقدم الشرط السوري في الرياض، والشرط الكردي يتقدم الشرط السوري في أنقرة، وروسيا تدير أوركسترا القصف الكيميائي مبردة “غضب” أنقرة من جهة ومستعينة بمراوغة طهران من جهة أخرى.

لقد تأسس تقليد القصف الكيمياوي في سورية على سابقة إعفاء الرئيس الأميركي باراك أوباما بشار الأسد من عقاب تجاوزه “الخط الأحمر” بعد قصفه الغوطة الشرقية بغاز الكلور وقتله المئات من أهلها في العام 2013. المجتمع الدولي فقد قدرته على ضبط هذا الانتهاك منذ ذلك التاريخ. كما أن دخول روسيا مباشرة على خط الحرب في سورية تم أيضاً في أعقاب هذا التاريخ. هذا عام مؤسس للمأساة السورية، ففيه جرت الانعطافة الكبرى نحو الهاوية الأخلاقية التي يقبع فيها العالم اليوم، ولم يعد ممكناً بعدها الوقوف في وجه الجموح الكيمياوي للنظام. واليوم بعد مجزرة دوما من غير المتوقع أن يجري ما كان يجب أن يجري في العام 2013. موسكو سترسل خبراءها للتحقيق بهذه “الإدعاءآت، وسيعودون بتقارير تفيد بأن مصدر القصف مواقع الإرهابيين، والعالم الذي أقر بأن النظام فعل ما فعله، لن يترتب على إقراره بذلك أي خطوات أخرى.

دونالد ترامب اكتفى اليوم بتوجيه شتيمة للأسد. قال إنه “حيوان”، وهذا ما لن يزعج ساكن قصر المهاجرين. والاتحاد الأوروبي قال، “إن النظام السوري قصف دوما بالسلاح الكيميائي وعلى العالم أن يتحرك”. هذا رد فعل لا ينطوي على رغبة في التحرك. فالإنكفاء الدولي عن الوضع السوري والتسليم بالدور الروسي بصفته دوراً وحيداً، جعل من مهمة التحرك لضبط جموح النظام نحو مزيد من القتل، مهمة شبه مستحيلة. لا قدرة لأحد اليوم على معاقبة النظام السوري، والأسد ما كان ليفعلها لولا يقينه من هذه الحقيقة، والجريمة المتمادية لم تعد جزءاً من منطق العلاقة بين السوريين وبين نظامهم وحسب، انما أيضاً جزء من حقيقة التخلي الكبرى التي كان باشرها أوباما، والتي يبدو أن خلفه ترامب بصدد مواصلتها.

لكن في مقابل هذا الاستعصاء تلوح حقيقة أخرى، وهو أن العالم المتذمر من فاتورة الحرب السورية لجهة ضخها ملايين من اللاجئيين إلى دول الجوار وإلى المهاجر الأوروبية، ولجهة تضاعف فرص الجماعات الإرهابية وتصديرها العنف إلى الغرب، لم يدرك بعد أن ترك السوريين في العراء في ظل نظامٍ كنظام البعث، وفي ظل هيمنة امبراطوريات الشر الثلاث، أي روسيا وطهران وأنقرة على بلدهم، لن يفضي إلى غير تضخيم هذين المأزقين.

الجواب الوحيد الذي يملكه بشار الأسد على قبول العالم به مجدداً، هو غاز الكلور. هذا درس تكرر في السنوات الأخيرة عشرات المرات، والعالم في لحظة عجز كامل عن التعامل مع هذه التراجيديا. وقبوله بها يمثل اختلالاً أخلاقياً هائلاً لن تقتصر ارتداداته على سوريا.

درج

 

 

 

 

 

 

تغريدات بدل الغارات/ حسام عيتاني

تقول التجربة إن أي ضربة عسكرية أميركية أو غربية ضد مواقع النظام السوري، لن تكون مؤثرة إلى الحد الذي تهدد بسقوط بشار الأسد وحكمه. هذا إذا وقع الهجوم بعد مستوى التردد العالي الذي أضفاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المسألة برمتها في تغريداته الأخيرة في شأن الرد على استخدام الأسد السلاح الكيماوي في الغوطة.

الصواريخ «الجميلة والجديدة والذكية» التي قال ترامب قبل يومين إنها آتية إلى سورية، قد تأتي قريباً وقد تتأخر، وفق ما أوضح لاحقاً. وقد لا تأتي أيضاً، ذلك أن ما من شيء يدعو إلى الاعتقاد بأن قراراً في شأن الضربة قد يتخذ سريعاً، مقابل غياب مواز لأي معطى ينفي قرب اتخاذ هذا القرار. العملية المعقدة التي ينبغي أن يمر بها تحول أي موقف إلى غارة جوية أو صاروخية، تأخذ في الاعتبار الحسابات الداخلية للرئيس المحاط بسلسلة لا تنتهي من الفضائح والمشكلات وبالتوقعات بخسارة حزبه انتخابات الكونغرس الجزئية بعد شهور.

وكأن الساحة السورية كان ينقصها بعد هذه اللزوجة والتردد اللذين يعكسان وضع ترامب المهتز وسياساته المضطربة وتغييره الدائم للطاقم المحيط به. بيد ان ذلك يفتح الباب أمام ممارسة سياسية تقليدية أيضاً: تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج، إذا ضمن المُصدّر عدم ارتداد صادرته إليه مع مضاعفاتها المشؤومة.

يضعنا هذا أمام موقف جديد، مشابه للمفترقات التي تعمل وفقها خوارزميات الحاسبات الآلية: «إذا اتخذ ترامب قرار القصف سنكون في الوضع «أ» وتبعاته تتدرج من عدم التأثير الكامل على غرار ما جرى بعد قصف مطار الشعيرات قبل عام، إلى مستوى إصابة نظام الأسد بالشلل وتعرقل خططه وخطط حلفائه السياسية والعسكرية. وإذا لم يتخذ القرار بشن عملية عسكرية سنكون أمام المتسلسلة «ب» التي تؤدي إلى متابعة الأسد وأنصاره مسارهم السابق». كثرة المعطيات والمحفزات والموانع لا تفعل غير تعقيد وضع شديد الغموض والتعقيد أصلاً.

لكن الجانب الآخر من الساحة لا يقل اضطراباً. إسراع علي ولايتي كبير مستشاري المرشد الإيراني علي خامنئي إلى زيارة سورية والتجول في الغوطة بعد أيام من اقتحامها، إضافة إلى ما يقال عن إجراءات أمنية واحتياطات عسكرية تتخذها القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها، تقول كلها إن التحالف الإيراني – السوري – الروسي يشعر بانزعاج شديد مما يصدر عن العواصم الغربية حتى لو لم يتجاوز الكلمات وأوامر تحريك القطع البحرية إلى قرب الشواطئ السورية.

يستحق هذان التحرك والانزعاج نظرة ثانية. فالرطانة الممانعة تُصرّ على أن ما من شيء سيغيّر الواقع الذي فرضته الانتصارات التي حققتها القوات الموالية للأسد، منذ كسر المد المسلح للثورة في حمص مروراً بالاستيلاء على حلب الشرقية وتحطيم رمزية المقاومة في داريا وصولاً إلى جعل «الباصات الخضراء» التي تنقل المسلحين المنسحبين من الجبهات الساقطة إلى الشمال، علامة على فشل الانتفاضة السورية. في المقابل، يكشف الذعر الإيراني والرسمي السوري أن هذه الانتصارات تفتقر إلى العمق الذي يجعلها راسخة لا راد لها في مستقبل سورية. ويضع الذعر من ضربة اميركية قد لا تحصل علامة استفهام كبيرة على قدرة النظام السوري وحلفائه على الإمساك بالوضع في البلاد من دون غطاء دولي للأمر الواقع الجديد خصوصاً أن الحليف الروسي لا يبدو شديد الإخلاص للأسد، على ما يُفهم من تعامله الفاتر مع الغارة الإسرائيلية على مطار التيفور الذي قالت تل أبيب إن الروس كانوا على علم مسبق بها.

ولعل في هذا «التوازن» بين مجموعة من التغريدات الصادرة عن رئيس مهتزة الثقة الداخلية فيه وحالة الارتباك التي يعيشها التحالف الإيراني – السوري- الروسي، مؤشر إلى هشاشة ما يجري الإعداد له من مستقبل لسورية.

الحياة

 

 

 

 

 

موقف دولي يتنشق “السارين” في دوما/ علي الأمين

الصواريخ التي استهدفت مطار التيفور العسكري السوري في حمص فجر أمس الاثنين هي إسرائيلية وليست أميركية، ولم تأت ردا على استخدام الأسلحة الكيماوية في مدينة دوما السورية في غوطة دمشق السورية، فالنظام السوري الذي استخدم هذا السلاح كما أشارت العديد من التقارير المحلية والدولية، وسببت ضربات قواته العسكرية سقوط المئات من القتلى والجرحى في هذه المدينة نتيجة استخدام غاز السارين، يبدو مطمئناً إلى ردود الفعل الأميركية والدولية التي لم تصل في اعتراضها على استخدام هذه الأسلحة إلى حد القيام بخطوات عسكرية رادعة، وهذا ما أظهرته الوقائع منذ العام 2012 إلى اليوم، حيث اقتصرت ردود الفعل على ضربات عسكرية محدودة لمواقع سورية في أحسن الأحوال ومواقف منددة باستخدام هذا السلاح.

وصف “الحيوان” الذي أطلقه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الرئيس بشار الأسد بعد واقعة دوما الأخيرة، هو أفضل ما يمكن أن ينتظره النظام السوري من الموقف الأميركي، على الرغم من الإشارات الأميركية التي صدرت عن إمكانية قيام واشنطن بخطوة عسكرية ردّا على استخدام السلاح الكيماوي، لكن في ظل التوجهات الأميركية للانسحاب من سوريا كما أعلن دونالد ترامب عنها فإن أحدا من المراقبين لا يتوقع أي خطوة أميركية رادعة للنظام السوري وحلفائه في سوريا.

الطائرات الإسرائيلية التي قصفت صواريخها مطار التيفور، تطور في سياق آخر لا علاقة له بما يجري في دوما، فهذا المطار الذي تتواجد فيه مواقع للجيش السوري، تؤكد العديد من التقارير أن إيران تستخدمه كقاعدة لإطلاق الصواريخ والطائرات من دون طيار. وفيما أكد ناشطون سوريون أن الطائرات الإسرائيلية شوهدت تطلق دفعة من الصواريخ من فوق الأراضي اللبنانية، فقد تحدثت تقارير رسمية سورية عن سقوط عدد من القتلى والجرحى من الجيش السوري في مطار التيفور.

الموقف الأميركي يضع عنوان الانسحاب من سوريا كاستراتيجية للقوات الأميركية، تاركاً للدول المتواجدة عسكرياً على الأراضي السورية مهمة إيجاد الحلول، خصوصاً أنّ الرئيس ترامب أكد أن المهمة الأميركية تنتهي مع القضاء على تنظيم داعش في هذا البلد، وعلى الرغم من محاولات التشكيك بهذا الانسحاب من داخل الإدارة الأميركية، إلا أن الثابت هو عدم وجود أي استراتيجية أميركية تجاه سوريا تقوم على الضغط لفرض حلول أو للجم أدوار عسكرية لروسيا وإيران، وكانت معارك الغوطة الشرقية بما شهدته من وقائع تدميرية ولا تزال، مؤشرا على أنّ الموقف الأميركي غير معني بمواجهة هذا السلوك الدموي والعسكري، ولا يرى خطراً على مصالحه في إعادة سيطرة النظام السوري على ما تبقى من مناطق نفوذ المعارضة في محيط دمشق.

على هذه القاعدة في الموقف الأميركي، فإنّ المشهد السوري ذاهب إلى المزيد من إطلاق يد النظام وحلفائه دوليا في سحق المعارضة السورية، إذ لا يبدو أن هناك أيّ عائق يحول دون تنفيذ هذه السياسة لا سيما في المناطق التي تقع ضمن سيطرة النظام وحليفيه الروسي والإيراني، وجل ما يمكن أن تقوم به واشنطن هو الرد الشكلي عسكرياً على استخدام النظام للسلاح الكيماوي، ذلك أن المعارك الجارية في الغوطة الشرقية بكل ما انطوت عليه من جرائم ضد المدنيين لم تحدث أيّ تغيير في السلوك الأميركي والدولي. جل ما أثار حفيظة الإدارة الأميركية هو استخدام سلاح محرم دوليا، لن تكون نتائجه أكثر من تسجيل اعتراض عسكري محدود يندرج في تسجيل الموقف، وهو موقف له حساباته الدولية بالدرجة الأولى لا السورية.

وفي المقابل شكل الفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي، الحصن المنيع ضد أي قرار دولي يمكن أن يُلجم النظام السوري عن ارتكاب جرائمه، وهذا يؤكد إلى حدّ بعيد أنّ روسيا وإيران معنيتان مباشرة بالخطوات التي ينفذها النظام، وتدركان في نفس الوقت حدود المصالح الأميركية التي تتجنبان المساس بها، وهذا ما لمستاه حين اقتربتا قبل أشهر من مناطق شرق الفرات حيث كان رد الفعل الأميركي عنيفا، عندما أسقط في ليلة واحدة مئات القتلى من الجنود الروس وقبل ذلك بأسابيع أسقط عشرات العناصر من الميليشيات الإيرانية والعراقية حين حاولت الاقتراب من مناطق النفوذ الأميركي في تلك المنطقة.

المفجع في المشهد السوري هو الغياب العربي، ففيما يشكل استخدام السلاح الكيماوي مجال جدل ونقاش دولي، ثمة صمت عربي يعكس حالا من الاستسلام أو العجز إن لم يكن التواطؤ، لا سيما أن سوريا تشهد عملية تدمير ممنهج للبنية الاقتصادية والعمرانية، والأهم عملية تغيير ديمغرافي لم تعد خافية على أحد. في المقابل تجري عملية رسم دقيق لمعالم النفوذ الإيراني والإسرائيلي بإشراف روسي، ولعل الضربات الإسرائيلية الأخيرة على المطار في ريف حمص، تظهر إلى حد بعيد حدود الاهتمامات التي تتجاوز الاعتبارات الإنسانية أو السياسية المتصلة بالشعب السوري.

خلاصة الموقف الأميركي والدولي تشير إلى أن التطورات السورية السياسية والعسكرية والإنسانية في محيط دمشق، لن تشكل استفزازا لواشنطن، مهما كان الصوت عاليا للرئيس الأميركي ضد جرائم الأسد وحلفائه، فيما مجلس الأمن الدولي سيكون عاجزا عن إصدار أيّ موقف لا تقبل به روسيا، علما أن أيّ تطور عسكري ينتج عن تدخل أميركي هو ليس في حسابات واشنطن ولا ترغب الدول الأوروبية فيه، لا سيما أن إسرائيل التي تبدو مطمئنة إلى حدّ بعيد للإدارة الروسية للاستقرار على الحدود السورية الإسرائيلية، إلى جانب الاستقرار على الحدود مع لبنان، ليست في وارد المغامرة بهذا الاستقرار، وعلما أيضا أنّ التطورات السورية أتاحت لها القدرة على توجيه ضربات عسكرية لكل ما تعتبره تهديدا لأمنها في سوريا من دون أن تشكل هذه الضربات أي استفزاز أو رد فعل من الجانب السوري أو الروسي.

فعلى الرغم من سقوط الطائرة الإسرائيلية قبل أشهر بمضادات سورية، فإن الثابت أن إسرائيل تبدو غير مقيدة في الرد على ما تعتبره يهدد أمنها في سوريا، فيما تبدو القوى المقابلة لها ملتزمة إلى حد بعيد بشروط الأمن الإسرائيلي. هذا ما تقوله وقائع الميدان التي أظهرت بوضوح أن الموقف الدولي سيبقى عاجزا أو متفرجا أمام المجازر التي يرتكبها الأسد وحلفاؤه ضد المدنيين، وشديد الحسم والقوة عندما يتصل الأمر بأمن إسرائيل أو بمناطق نفوذ واشنطن في الشمال السوري أو في جنوبه.

كاتب لبناني

العرب

 

 

 

استباحة سوريا: الأسد في دوما وإسرائيل في التيفور

رأي القدس

تؤكد تقارير متقاطعة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي هو المسؤول عن تنفيذ الضربة الصاروخية التي استهدفت مطار التيفور العسكري، الواقع بين حمص وتدمر في وسط سوريا. وكانت وكالات الأنباء الروسية قد نقلت عن مصادر رسمية في وزارة الدفاع الروسية أن طائرتين إسرائيليتين من طراز «إف ـ 15» قصفت المطار فجر أمس بثمانية صواريخ موجهة، عبر الأجواء اللبنانية.

ومن المعروف أن هذا العدوان الإسرائيلي ليس الأول على المطار ذاته، فقد قصفته إسرائيل في شباط /فبراير الماضي بذريعة أن طائرة مسيرة انطلقت منه واخترقت عمق إسرائيل. كما أن استهداف المطار يندرج ضمن سلسلة طويلة من العمليات الإسرائيلية ضد مواقع عسكرية تابعة للنظام السوري، وضد قوافل تزعم إسرائيل أنها كانت تنقل أسلحة إلى «حزب الله» في لبنان.

ولكن يلفت الانتباه في هذا العدوان الجديد أن جيش الاحتلال الإسرائيلي اختار تنفيذ الضربة دون دخول المجال الجوي السوري، ربما تفادياً لإحراج الرادارات والدفاعات الجوية الروسية المنتشرة في مواقع عديدة داخل سوريا، إذا لم يفترض المرء احتمال أن تكون السلطات الإسرائيلية قد أبلغت موسكو مسبقاً بالضربة، وجرى التوافق على الأجواء التي ستنطلق منها طائرتا الـ»إف ـ 15».

يلفت الانتباه أيضاً أن القوات الروسية سبق أن استخدمت هذا المطار في عملياتها داخل سوريا، ويصعب بالتالي أن تجازف إسرائيل بقصف موقع يُحتمل أن تكون مقاتلات روسية رابضة فيه. وما يعزز الارتياب في أن موسكو لم تتفاجأ بالضربة الإسرائيلية، هو حقيقة أن وزارة الدفاع الروسية هي التي سارعت إلى توجيه الاتهام إلى إسرائيل، في حين أن وسائل إعلام النظام السوري اتهمت الطائرات الأمريكية أولاً قبل أن تستبدل التهمة وتحذو حذو وكالات الأنباء الروسية.

وفي كل حال يثبت هذا العدوان الجديد أن قواعد الاشتباك، التي قيل إنها تغيرت مع إسقاط طائرة إسرائيلية خلال المواجهة الأخيرة بين الطيران الإسرائيلي وجيش النظام السوري، باقية على حالها من حيث عربدة إسرائيل في أجواء سوريا دون رد رادع فعال. وهذه حصيلة تؤكدها حقيقة أن مطار التيفور يؤوي أيضاً وحدات إيرانية متقدمة التسليح، وأن استهدافها قد يكون الغرض الأبرز والوحيد من العملية الإسرائيلية الأخيرة.

كذلك فإن الانطلاق من أجواء لبنان في توجيه الضربة قد يكون رسالة إضافية تبعث بها إسرائيل إلى طهران و«حزب الله» معاً، حول استمرار العمل بقواعد الاشتباك الراهنة تحديداً، ثم التأكيد على أن «الخط الأحمر» الذي ترسمه إسرائيل بصدد أمنها الاستراتيجي، لا يشبه في شيء تلك الخطوط الحمر التي سبق أن رسمها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بصدد استخدام الأسلحة الكيميائية.

ويبقى في طليعة المفارقات المأساوية أن يتعرض مطار عسكري سوري إلى مثل هذا العدوان، في وقت يُحتمل فيه أن يكون المطار ذاته قاعدة لانطلاق طائرات النظام السوري الحربية وحواماته لضرب المدن والبلدات والقرى السورية، بما في ذلك قصف المدنيين بغاز السارين والأسلحة المحرمة كافة. ولا جديد تحت الشمس في استباحة سوريا وشعبها: الأسد في دوما، وإسرائيل في التيفور.

القدس العربي

 

 

 

استخدام الكيماوي في سوريا: ضربات في انتظار التصعيد؟/ منير الربيع

ماذا بعد استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي مجدداً في دوما هذه المرة؟ تشي المواقف الدولية بأن الأمور ستذهب نحو تصعيد كبير، على خلاف المرّات السابقة. فالتوتر الغربي الروسي يبلغ أوجه. بالتالي، يأتي موقف روسيا مختلفاً عن موقفها إزاء استخدام النظام السلاح الكيماوي للمرة الأولى في الغوطة الشرقية. وثمة مواقف دولية تذهب في اتجاه التصعيد بشكل يختلف عما كانت عليه الأمور بعيد ضرب خان شيخون بالكيماوي وردّة الفعل الأميركية بضرب مطار الشعيرات. لا تزال المؤشرات متضاربة في شأن ما سيفعله الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لا أحد قادراً على التوقع أو التنبؤ بما سيفعله، لكن لا شك أن الخطوات التصعيدية تأتي بعد جملة متغيرات دولية في المنطقة، وفي أعقاب جولات للمسؤولين الخليجيين في واشنطن. فولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان غادر واشنطن إلى باريس، والاتجاه واضح. السعودية تطلب بقاء الأميركيين في سوريا، وتحجيم النفوذ الإيراني، وهي جاهزة لتكبّد كل التكاليف.

أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وصل إلى واشنطن بعد زيارة إلى موسكو، في مؤشر إلى تطورات كثيرة يجري الإعداد لها. ووفق التوقعات فإن أمير قطر سيتوجه من الولايات المتحدة إلى المملكة العربية السعودية لترؤس وفد بلاده إلى القمة العربية. وهذه ستكون خطوة أولى في سلوك الأزمة الخليجية الطريق إلى الحلّ. لن يكون الحلّ سهلاً، لكن مجرد حصول الزيارة، يعني تخفيف التوتر ونقل الأمور إلى مكان آخر، خارج سياق التهديد والاتهامات. الموقف التركي- القطري كان لافتاً في إدانة النظام السوري على المجازر التي يرتكبها.

لكن الحسابات الدولية قد تكون في مكان، والوضع الميداني في آخر، بحيث لا تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر. وقد تكون الضربات التي وجهت إلى مطار التيفور العسكري، والتي وصفها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنها تطور خطير للغاية، هي عامل لتنفيس الاحتقان. وتفيد المعطيات بأن هذه الضربات إسرائيلية، ما يعني أن تل أبيب دخلت مجدداً لامتصاص صدمة الكيماوي عن الأسد. والاكتفاء بهذه الضربات، مقابل استعادة تل أبيب نشاطها العسكري في الاجواء السورية، قد يعني أن النظام تجنّب ضربة أكبر أو تصعيداً أخطر.

حتى الآن، لا تزال الضربات في إطار محدود، لكن اللافت هو في الموقف الدولي الأميركي والفرنسي والبريطاني. الموقف الفرنسي كان سباقاً. فمنذ أكثر من عشرة أيام ثمة اشارات فرنسية في اتجاه موقف من النظام إذا ما استخدم الكيماوي. تحتاج هذه الدول إلى ذرائع من خلال تحقيقات منظمة حظر الأسلحة الكيماوية.

هناك أمر من عالم الغيب في سوريا، فمثلاً يخرج الرئيس الأميركي ليعلن استعداد بلاده للانسحاب من سوريا، وبعدها يؤكد الأميركيون أنهم يريدون زيادة عدد قواتهم فيها. وبعد استخدام النظام الكيماوي يبرز موقف أميركي جديد، بالتزامن مع تصعيد في مواقف دول أخرى حيال النظام السوري، والتشديد على جعله يدفع ثمن استخدام السلاح المحرّم. هذا دليل على التخبّط الدولي، وعلى عدم وجود رؤية واضحة لأفق الصراع والتدخل فيه.

بالتالي، تأتي المواقف، كمن يريد حفظ حقّه، وهي تنحصر في مسألة الكيماوي واستخدامه. لذلك، تجد الدول نفسها مضطرة إلى الرد على هذه الاستخدامات، بينما لو سحق الأسد سوريا كلها لا مشكلة في الموقف الدولي مما يفعله، إنما حينما يصل الأمر إلى استخدام الكيماوي لا بد من توجيه ضربة لرد الاعتبار، فلا استراتيجية أو خطّة سياسية للتعامل مع النظام على المدى البعيد. أي ضربة حصلت أو قد تحصل هي مرتبطة بالرد على الكيماوي فحسب، وتمثّل تنفيساً للاحتقان.

ولكن، لا بد من انتظار تطورات المواقف الدولية، إذا ما كانت ستتغير أم أنه سيتم امتصاص التصعيد. وفق تقديرات البعض فإن أي ضربة لن تكون استراتيجية وذات تأثير في موازين القوى، ولكن لا مجال للتراجع عن الضربات. بعد كل التصعيد، إذا لم يحصل أي تطور اليوم، فالمؤكد أن هناك تطورات ستحصل لاحقاً. وهذه ستكون مرتبطة بأسس التفاوض الغربي مع روسيا، في سياق تحجيم نفوذ إيران في سوريا، وتوجيه ضربات عسكرية لمواقع إيرانية ومواقع حزب الله، مقابل إطلاق يد النظام السوري.

المدن

 

 

قتل الناس مثل الحشرات/ عبد الرحمن الراشد

في سوريا، هذه ليست المرة الأولى، ولا الثانية، ولا العاشرة، التي يُرش فيها أهالي المدن ويخنقون مثل الحشرات بالغازات الكيماوية.

إن لم تكن حياة آلاف السوريين بذات قيمة عند الذين يتفرجون بلا مبالاة فإن العالم كله في خطر من هذه السوابق التي أصبحت عملاً مألوفاً ومقبولاً بالسكوت عنه وعدم محاسبة المجرمين. السكوت عما تفعله الأنظمة الثلاثة في سوريا سيجعل كل مدن المنطقة مفتوحة للقتل بالغازات مع توسع الحروب وبرودة ردود فعل العالم حيالها.

القتل الجماعي ضد المدنيين بدأ منذ أربع سنوات ولا يزال مستمراً. أول ما سمعنا به في حرب سوريا كان في 19 مارس (آذار) عام 2013 في ضواحي حلب، وتلاها هجوم كيماوي آخر في 29 أبريل (نيسان) في سراقب، وتلاها هجوم على الغوطة في 21 أغسطس (آب)، وبعدها بثلاثة أيام رشت بلدة جوبر، وبعدها بيوم هوجمت كيماوياً صحنايا في 25 أغسطس. كل هذه الهجمات المتعددة والمتلاحقة نفذت في العام نفسه ورغم كثرتها لم يحاسب أحد. ورغم تكرر الجرائم والأدلة ظل النظام السوري ينكر أنها كيماوية، كان يقول إنها مجرد مسرحية إعلامية ومبالغات، مما اضطر المعارضة السورية، بالتعاون مع الأمم المتحدة، إلى جلب جثة ماتت بالسارين ونقلها إلى الولايات المتحدة لتحليلها وثبت قطعاً أنه غاز الأعصاب المحرّم.

المشكلة ليست في توفر الأدلة، وهي كثيرة، وليست في المجرمين الأنظمة الثلاثة، بل في المجتمع الدولي ومؤسساته الذي صار يتجاهل وبشكل خطير سلوك المجتمع الدولي الغريب تجاه جرائم عادة يعتبرها هجوماً عليه وخطراً على الجنس البشري. جرأة الأنظمة الثلاثة، السوري والإيراني والروسي، على استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في سوريا والسكوت عنها، تشجع حكومات وتنظيمات في اللجوء إليها لأنها سلاح رخيص وسهل وفعال ومرعب نفسياً.

لنقارن بينها وبين ردة الفعل على حادثة محاولة اغتيال العميل الروسي في بريطانيا التي ارتكبت فقط نتيجة للاستهانة والاستكانة. فهي لم تكن الأولى، وما سبقها من جرائم تركت بلا محاسبة. فقد مات أحد الروس وهو يركض وطوي ملف التحقيق رغم أن هناك شبهة في أنه قتل بالسم، كان ذلك عام 2012. البوليس أغلق التحقيق. تكررت الجريمة قبل شهر مضى في إحدى الحدائق، عندما وقع عميل روسي مزدوج وابنته من اعتداء غامض استهدف الاثنين، ويعتقد أنه غاز كيماوي للأعصاب. اعتبرته بريطانيا هجوماً خطيراً على أراضيها، وطردت عدداً كبيراً من الدبلوماسيين وأعلنت مقاطعتها بطولة كأس العالم لكرة القدم في روسيا. وما كان للخطوة البريطانية وحدها ثقل كبير، حيث قوبلت بالسخرية في موسكو لولا أن تضامنت معها عشرات الدول في العالم، وفرضت عقوبات على روسيا وطردت عدداً كبيراً من الدبلوماسيين في ردة فعل لم يشهد لها مثيل منذ الحرب الباردة. الآن موسكو تريد الحوار لأنها شعرت بخطر ما حدث ونسب إليها سواء كان فعلاً لها علاقة أم أنها بريئة.

مثل نظام سوريا، فإن إيران دولة لا تبالي بالتضحية بمواطنيها ولا تتردد في القتل الجماعي لمن تعاديهم. مثل إيران لن تتوانى غداً عن اللجوء إلى مخزونها الكيماوي لقتل الآلاف من الناس في كل مكان تحارب فيه، الحروب تزداد ووسائل القتل الجماعي والدمار الشامل لم يعد يعرف حدوداً.

الشرق الأوسط

 

 

 

ترمب يدرس خيارات عسكرية للرد على «كيماوي دوما}/ هبة القدسي

قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمس إنه سيعلن عن قراره للرد على الهجوم الكيماوي بسوريا خلال 24 إلى 48 ساعة، مؤكداً أنه ليس لديه شك في إقدام النظام السوري على شن هذا الهجوم الذي وصفه بـ«المشين والمروع والبربري». وشدد أنه سواء قام بشار الأسد بالهجمة أو روسيا أو إيران أو الثلاثة مجتمعين {سنكتشف ذلك، وسيدفع (المسؤول) ثمناً باهظاً}.

وقال الرئيس ترمب قبل اجتماعه بأعضاء الإدارة الأميركية بغرفة مجلس الوزراء بالبيت الأبيض صباح أمس الاثنين، إن «الهجوم الكيماوي على دوما كان فظيعا ومريعا»، مشيرا إلى أن الأمر يتعلق بالإنسانية ولا يمكن السماح بحدوثه وعلينا الرد على هذا الحادث البربري. وأضاف: «سنقوم باتخاذ القرار بسرعة كبيرة، ربما بنهاية اليوم. لا يمكننا السماح بحدوث مثل هذه الفظائع».

وردا على سؤال حول الخيار العسكري، قال ترمب إن {كل الخيارات على المائدة}. وحين سُئل عن المسؤول عن الهجوم، قال: «إنهم (النظام السوري) يقولون إنهم ليسوا المسؤولين وبالنسبة لي ليس هناك شك كبير لكن القادة العسكريين سيكتشفون ذلك».

وعما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتحمل أي مسؤولية عن الهجوم في سوريا، قال ترمب: «احتمال، وإذا فعل ذلك فسيكون الأمر صعبا للغاية وسيدفع الجميع ثمناً».

وعقد ترمب اجتماعا آخر مع القادة العسكريين بالبيت الأبيض مساء أمس. وأشارت مصادر مسؤولة بالبيت الأبيض إلى أن الرئيس يدرس خيارات عدة للرد على الهجوم الكيماوي السوري ويتشاور مع عدد من الحلفاء والدول حول إجراء تحقيقات لتحديد الجهة المسؤولة عن استخدام الأسلحة الكيماوية في دوما ومقتل العشرات مساء السبت الماضي.

وأمضى جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي يومه الأول، أمس، في منصبه الجديد في اجتماعات ومشاورات مكثفة للإشراف على وضع خيارات ونقاط نقاش أمام الرئيس ترمب للتعامل مع سوريا والهجوم الكيماوي. وقد سبق لبولتون الدفاع بقوة عن توجيه ضربات جوية كبيرة ضد سوريا، وشارك في الاجتماع بين ترمب وأعضاء إدارته.

من جانبه، صرح وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس صباح أمس بأنه لا يستبعد أي خيار للرد على استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، وقال: «أنا لن أستبعد أي شيء في الوقت الحالي». وأضاف خلال استقباله أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في البنتاغون: «أول شيء يتعين علينا النظر فيه هو لماذا لا يزال هناك استخدام للأسلحة الكيماوية في الوقت الذي تضطلع روسيا بالقيام بدور الجهة الضامنة لإزالة جميع الأسلحة الكيماوية من سوريا». وأضاف: «نعمل مع الحلفاء والشركاء… للتعامل مع هذا الأمر».

وكان قد توعد ترمب، في تغريدة أول من أمس، المسؤولين عن هجوم دوما بـ «ثمن باهظ» ووصف بشار الأسد، رئيس النظام السوري، بـ «الحيوان».

وفي سلسلة من التغريدات الأحد انتقد الرئيس الأميركي دعم كل من إيران وروسيا لنظام الأسد، وخص بالذكر في سابقة من نوعها الرئيس الروسي بوتين ملقيا عليه اللوم في دعم نظام بشار. وقال ترمب «الكثير من القتلى بمن فيهم النساء والأطفال قتلوا في هجوم كيميائي طائش في سوريا، إن الرئيس بوتين وروسيا وإيران مسؤولون عن دعم الأسد الحيوان».

كما حمل ترمب المسؤولية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وقال: «لو كان الرئيس أوباما نفذ الخط الأحمر الذي رسمه على الرمال لكانت الكارثة السورية قد انتهت منذ فترة طويلة، ولكان الأسد الحيوان مجرد تاريخ».

واقترح ترمب عبر موقع «تويتر» فتح مناطق للإغاثة الطبية والفحص وقال: «إنها كارثة إنسانية أخرى دون أي سبب».

ونقلت وسائل الإعلام الأميركية مقاطع فيديو تظهر الأطباء وهم يحاولون إنقاذ أطفال ونساء يعانون من تأثير التعرض للهجوم الكيماوي. وتشير بعض التقارير إلى أنه يبدو مزيجا من غاز الكلور وغاز الأعصاب.

وفي الكونغرس، الذي عاد للعمل أمس بعد إجازة استمرت أسبوعين، شجع الكثير من المشرعين إدارة الرئيس ترمب لاتخاذ رد عسكري قوي ضد النظام السوري بعد هذا الهجوم الكيماوي. وقال ماك ثورنبيري، رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب إنه يتعين على الولايات المتحدة النظر بعين الاعتبار بشكل حاسم في توجيه جولة جديدة من الضربات الجوية ضد سوريا لمعاقبة الرئيس بشار الأسد على الهجوم بالغاز الكيماوي.

وشجع النائب الجمهوري عن ولاية تكساس إدارة ترمب بالتعاون مع الدول الأخرى والحلفاء الأوروبيين في توجيه تلك الضربات ضد نظام الأسد، وقال: «من المهم جدا لحلفاء مثل بريطانيا وفرنسا الوقوف معنا». وانتقد ثورنبيري سياسات الرئيس السابق باراك أوباما وأكد أنه كان من الخطأ رسم خط أحمر وعدم القيام بأي شيء مما أرسل رسالة للأسد وبوتين أنه بإمكانهما «القيام بأي شيء دون أن يكون هناك رد». وشدد ثورنبيري: «نعم يجب التفكير في استخدام القوة العسكرية لكن يجب القيام بها مع الحلفاء لتبدو كرد دولي على هذه الهجمة الكيماوية».

وشجع ثورنبيري أن تقوم إدارة ترمب بتكرار الضربة العسكرية الأميركية في أبريل (نيسان) الماضي حينما أمر ترمب بإطلاق أكثر من 60 صاروخ توما هوك من حاملة طائرات أميركية بالبحر المتوسط ضد أهداف داخل سوريا لتدمير قاعدة جوية تسيطر عليها الحكومة السورية، والتي كانت وفقا للتقارير مكان انطلاق الهجوم الكيماوي على بلدة خان شيخون في شمال غربي سوريا، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 100 شخص.

وانتقد السيناتور الجمهوري جون ماكين تصريحات ترمب بإمكانية خروج سريع للقوات الأميركية من سوريا، مشيرا إلى أن تلك التصريحات شجعت بشار الأسد للقيام بالهجوم بالأسلحة الكيماوية. وقال ماكين: «الرئيس ترمب قال للعالم الأسبوع الماضي بأن الجيش الأميركي سيغادر سوريا قريبا. وسمعه بشار الأسد ومؤيدوه الروس والإيرانيون وشجعهم التقاعس الأميركي. وأطلق الأسد هجوما كيميائيا آخر ضد الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، وهذه المرة في دوما».

وشجع السيناتور ماكين، رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، فكرة شن ضربة صاروخية أميركية ضد سوريا مثلما حدث العام الماضي.وقال «يجب على الرئيس أن يفعل ذلك مرة أخرى، وأن يثبت أن الأسد سيدفع ثمن جرائم الحرب التي يرتكبها». وفي إشارة إلى الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس أوباما ولم ينفذه، قال ماكين «لقد ورث الرئيس ترمب خيارات سيئة بعد سنوات من التقاعس من قبل سلفه».

من جانبه، قال السيناتور الجمهوري ليندسي جراهام بأن المجتمع الدولي يجب أن ينظر إلى الرئيس السوري بشار الأسد الآن على أنه «مجرم حرب»، مشيرا إلى أن توجيه ضربات عسكرية أميركية هي ضربات مشروعهة. وقال لشبكة «فوكس نيوز»: «يجب اعتبار الأسد ودائرته الداخلية مجرمي حرب، وهدف عسكري مشروع. وإذا كان لدينا الفرصة لإسقاطه فعلينا القيام بذلك».

وأضاف: «العالم يراقب الرئيس إيران تراقب وروسيا تراقب وكوريا الشمالية تراقب، ولدى الرئيس ترمب الفرصة للقيام بعكس ما قام به أوباما وإرسال إشارة قوية أن هناك رجلا جديدا في المدينة». وطالما طالب غراهام باتخاذ خطوات عسكرية حاسمة ضد الأسد وبإنشاء مناطق آمنة داخل سوريا.

الشرق الأوسط

 

 

 

لماذا يفضل الأسد وبوتين التوقيع بالأسلحة الكيميائية؟

رأي القدس

لم تعد تحسب، ربما، المرات التي استخدم فيها نظام الرئيس السوري بشار الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه، كما لم تؤد كل أشكال التوثيق التي قامت بها منظمات الأمم المتحدة، والمنظمات الأخرى، لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لهذا النظام، ولم تنته دعوات إحالة قادته، وحلفائه الذين يشاركون أو يغطون جرائم الإبادة الجماعية المستمرة في سوريا، إلى المحاكم الدولية المختصة، إلى أي نتيجة حتى الآن.

وكما انتهت خطوط الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الحمراء لحظر استخدام النظام للسلاح الكيميائي في مجرور التاريخ، كذلك هبطت ردود فعل الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، (بعد ضربته اليتيمة المحدودة لمطار الشعيرات بعد قصف بلدة خان شيخون قبل عام بالضبط بغاز السارين) من التهديد للأسد بضربه إذا تجرأ مرة أخرى على استخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه، إلى درجة أن يقرر فجأة، ومن دون سابق إنذار، أن يترك سوريا بأكملها ويرحل بدعوى التكاليف العسكرية الكبيرة التي تتحملها بلاده هناك.

أما لماذا تحسس ترامب جيبه وتضايق من مصاريف جيشه في سوريا ولم يفعل ذلك في العراق أو أفغانستان أو على الحدود مع المكسيك أو في باقي أنحاء المعمورة التي تنتشر فيها القوات الأمريكية، بما فيها دول أوروبية لا تتعرض لتهديد، كألمانيا وبريطانيا مثلا، فهذا لغز من ألغاز السياسة الكبرى، والأمل الوحيد في فهم المسألة، ربما، هو ملاحظة أن المستفيد الأكبر من انسحاب كهذا ستكون روسيا (وحليفها الأسد الكيميائي بالضرورة)، وبعد ربط هذا بالمشهد المعقد لطرد واشنطن عشرات الدبلوماسيين الروس، ومعاقبة بعض المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما تستمر الدلائل تتوالى على تدخل موسكو الكبير في تأمين نجاح ترامب بالوصول إلى سدة الرئاسة، يتبادر للذهن أن سوريا هي التعويض الخفي المقدم لروسيا مقابل اضطرار ترامب لصد الاتهامات ضده حول تدخل روسيا في تنصيبه، وكذلك اضطراره لتصعيد العقوبات ضد الكرملين مجاراة لحلفائه الأوروبيين.

تأتي هذه المرايا المتعاكسة من المواجهات والصفقات الخفية في الوقت الذي يتضامن فيه الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، مع بريطانيا في موضوع الجاسوس الروسي السابق الذي تعرض لتسميم بغاز الأعصاب، وهو الأمر الذي دفع كثيرين للتساؤل عن سبب منطقي يدفع بوتين، وهو على أهبة تسلم عهدة رئاسية جديدة لاتخاذ قرار خطير كهذا، وقد تم طرح هذا السؤال من قبل كثير من المدافعين عن روسيا وبوتين، فما الفائدة، برأيهم، التي سيجنيها القيصر من رفع درجة التوتر والتأهب إلى صيغة حرب باردة جديدة، ثم ألا يمكن أن أمريكا وبريطانيا، كما تقول موسكو، هما من نفذتا العملية الكيميائية لتأليب العالم ضد روسيا ورئيسها القوي؟

ثم، لماذا يقوم الكرملين بمحاولة التخلص من جاسوس «خائن» سابق بسلاح يكشف دور المخابرات الروسية في الأمر؟ أما كان الأفضل أن يتم الاغتيال بالطرق الخفية المتعارف عليها بين أجهزة الأمن في العالم والتي تمنع اكتشاف القاتل ولا تحرض ضده مخابرات الدول التي يتعرض فيها الجواسيس للاغتيال، وهو ما حصل في مرات سابقة حيث غض البريطانيون، وغير البريطانيين، أنظارهم عن عمليات القتل «الناعمة» التي لا تترك بصمات القاتل؟

تذكر قضية تكرار استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي، ولاستخدام المخابرات الروسية للتسميم الكيميائي بتقليد معروف في الروايات البوليسية عن توقيع خاص يختاره القاتل ليكون إبلاغا عن قدراته الكبيرة في القيام بجريمته والإفلات من العدالة.

والحقيقة أن قصف الأسد، الذي أوقع مئات المصابين، وقتل العشرات بالسلاح الكيميائي في مدينة دوما عقابا على عدم استسلامها أول أمس، وكذلك تفسير محاولة اغتيال سيرغي سكريبال، وقبله اغتيال ألكسندر ليتفينينكو بالسلاح الكيميائي أيضا في لندن، إضافة إلى كونه توقيعا خاصا بالقاتل، يمكن أن يفسر تفسيرات عديدة، أحدها يرتبط طبعا بتقاليد الأنظمة الهمجية القديمة التي تعتبر العقاب الوحشي ضد الفرد الخارج على سلطة الحاكم أمثولة موجهة للشعب بأكمله وإعلان عام عن عاقبة التمرد والعصيان.

القدس العربي

 

 

 

أبعد من دوما/ معن البياري

استجاب نظام بشار الأسد في سورية لمطلب ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، أن يكون قويا، فتوسّل الكيمياء سبيلا في ذلك، عن خبرةٍ سابقةٍ في إحداث الترويع الدالّ على هذه القوة، ولكن، على ناسٍ آمنين. وفي هذا، يُحافظ على مواظبته المعهودة في الحرب التي يشنّها على الشعب السوري، منذ سبع سنوات، مطمئنا تماما للمألوف الذي اعتاد عليه، أي الثرثرة اللفظية التي تمارسها بعض الوقت وزارات الخارجية في واشنطن وباريس ولندن وغيرها، في إدانة جريمة الإبادة، ثم يجري العبور إلى مستجدّاتٍ أخرى، إلى أن تطرأ جريمةٌ تاليةٌ من اللون نفسه، يُردُّ عليها بثرثراتٍ مثيلة، ومن المعجم نفسه، وهكذا دواليك.. لم ترم قوات الأسد الغازات السامّة، الكلور وغيره، على من لاذوا بالأقبية من الصواريخ الروسية، المحمّلة بقنابل عنقودية، كما ذكرت أخبارٌ غير مغرضة، إلا لأن المستوى السياسي الحاكم في دمشق على ثقةٍ فادحةٍ بأن هذا مرخّصٌ له، إذ لم يُعاقَب بغير تعليقاتِنا، نحن الكتاب والصحافيين والمتحدثين في الفضائيات، غاضبين ومندّدين بصمت المجتمع الدولي، وغير ذلك من كلامنا التقليدي برطانته إياها.

لم يقتل جيش الأسد نحو مئتين من أهل دوما، ويخنق مئاتٍ آخرين، بغازي الكلور والسارين وغيرهما، ثم يستأنف رمي البراميل المتفجرة والصواريخ، فقط لأن “جيش الإسلام” يرفض صيغةً مطروحةً لرحيل عناصر منه عن المنطقة، ولأن سلطة الفتك الحاكمة، وحليفيها الإيراني والروسي، يريدون إنجازا ميدانيا محدّدا على الأرض، بل إلى الأمرين ليعرف السوريون، في كل مطرح، في الداخل والخارج، ومعهم كل العالم، أن عدو هذه السلطة ليس من يناهضها أو يقاومها فحسب، وإنما أيضا من لا يلهج بنعمة العيش في فيئها وظلها. ليس مطلوبا فقط من السوري أن يعرف مصلحته، فلا يزاول ثورةً أو احتجاجا على النظام أو تبرّما منه، وإنما أن يصبح مولعا بالأسد، وأن يُشهر ولعه هذا، وأن ينطق محيّاه بالحبور الذي يغشاه، تعبيرا عن فائض السعادة الذي يرفلُ فيه تحت جناح آل الأسد. تدلّ فعلة النائب المنحطّ الذي قايض عبوات ماءٍ لناسٍ عطاشى في الغوطة بالهتاف بمحبّة بشار الأسد على ما ينكتب هنا. ولكن، لأن أهل الغوطة، وملايين من السوريين ليسوا مستعدّين لأن يفعلوا هذا السخف، فهم مخيّرون بأن يموتوا بالكيماوي أو بغيره، بأن يُختطفوا في الزنازين أو يهاجروا. وعندما يهاجرون، فإن سورية تكسب مجتمعا متجانسا، بحسب قول الأسد غير مرة. ولصفاءٍ أكثر لهذا المجتمع، تصير أملاك المهاجرين الغائبين في مهبّ المصادرة، اقتداءً بما فعل نظام الاحتلال الإسرائيلي العنصري في إسرائيل.

عيون الأطفال غير المحدّقة في أي شيء، الأجساد المرميّة كيفما اتفق، والرّوع المهول الذي ينطق به صمت الذين أماتهم غاز الكلور وما شابه، الليلة قبل الماضية في دوما، كما مرّت مشاهد هذا كله وغيره قدّامنا في صور عابرةٍ على غير شاشة، أي مجازٍ، في لغات الأرض كلها، في وسعه أن يقع على التعبير الأدقّ عنها، وعن فظاعة المذبحة المخيفة هاته؟ لم تنفع كل المجازات والبلاغات والاستعارات التي استُعين بها في استفظاع نوباتٍ أسديةٍ سابقة في مزاولة عقاب السوريين بالكيماوي، في جائحة الغوطة الأولى في 2013، وفي خان شيخون قبل عام، وما بينهما. وعندما لا تفعل السياسة شيئا لوقف هواية الأسد الكيماوية هذه، وعندما تختنق اللغات كلها، ولا تصيبُ ما يُشتهى أن تصل إليه في لعن فضيحة الإنسان الساطعة، الماثلة في سورية كلها، فإن حال أهل هذا البلد يصبح أصعبَ مما يُظن، وأمرَّ تعاسةً.

يحتاج شعب سورية إلى معجزةٍ ما، تنقذه من الوحوش التي تأكله. أما متى نُفاجأ بها، فذلك ما لا قِبل لأحدٍ أن يحزره.

العربي الجديد

 

 

 

بشار الكيماوي… لا انشغال عربياً بالتشابه/ ناصر السهلي

يقيناً، وليس ظناً، أن حلبجة العراقية – الكردية، مندهشة أكثر من كل هذا الاندهاش العربي المفتعل.. “علي الكيماوي”، لو قدر له أن يرى ما يحدث في سورية منذ 2013 لطلب المغفرة من ضحاياه.

ثمة واقع آخر في كل هذا الذي يجري لإنسان عربي يقتلع من أرضه، تهجيرا باسم “القومية العربية”، وللأسف الشديد باسم “الحاجة للقائد الضرورة”، حاجة لا توجد عند غيرنا. لا؟ ربما لست مصيبا، فلدى تيارات وأحزاب شعبوية وفاشية أوروبية، وغيرها، التهليل للقائد “الضرورة” جار منذ زمن، فلا عجب بدفاعها عن “الفارس” في معبد التطهير.

حكاية شعب يقتل بالكيماوي بالطبع ليست جديدة، وحالة الإنكار الفظ والمقرف أيضا ليست كذلك. في عرف الاستباحة، للعقل والمنطق السليم، يصبح للرواية وجه آخر.

لا مفر من مقارنة بسيطة، في مستواها الأعلى، من انشغالات البطل العربي الهمام الذي وجد “فتحا”، في لقائه مجرم حرب احتل بغداد في مثل هذه الأيام، باعتبار “مشهد الخنوع دلالة تحضر”، فالقتلة المتسلسلون على الجانب الصهيوني لهم حماتهم في واشنطن، أليست قضية مفروغاً منها؟ أم ثمة شك، حتى عند القبائل التي تتمايل وفق نسائم القائد الضرورة؟

في تسجيل التاريخ لا يهم كم قطيعا ردد الرواية، التأريخ له مساراته، بمنهجية لا تخفي أدق التفاصيل، رغم كل الجهد المنكب على التزوير.. إذا، مقابل تلك الصورة، حيث يحمي الأميركي كل مذابح الصهاينة، ثمة حام جديد في دنيا العرب: موسكو..

شئنا أم أبينا، صارت موسكو، التي كانت يوما ما كانت في السياسة باسم “الصداقة العربية -السوفيتيية”، قبل أن تصبح جزءا من مشهد إمبريالي متجدد، بأدوات أوروبا ما قبل بداية القرن الماضي.

عليه، “روسيا بوتين” تجد استحالة أن يستخدم بشار الكيماوي سلاحاً كهذا ليقتل الشعب السوري. الدفاع المستميت عن قاتل مهووس في قصر المهاجرين ليس فيه فضيحة البتة، فبوتين لا يرى أصلا في أدواته ما يستدعي طرح سؤال. الفرجة العربية، جماهيرا وحكاما وأحزابا وصحافة، تتسع لتصل عصرا أميركيا بعصر روسي – إيراني.

في الشام، ليس بعيدا عن المخنوقين بالغاز، ثمة متسع لرقصة، ولطمية تتأسى على زينب. وفي الشام نفسها أيضا، وبكل برودة أعصاب يتصدر الشاشة، متنقلا من المزة إلى ساحة الأمويين، “الدكتور بسام”، الفلسطيني الذي اختار سيده أحمد جبريل أن يكون مسدسا للإيجار، يتباكى على أفعال دولة الاحتلال في محيط غزة، لكنه حين يصل إلى الغوطة يطل الفرح من عينيه “هذه أعظم انتصارات.. ستغير وجه العالم”.

التهجير بالقتل والمذابح، لمن احتضنت أرضهم شعبنا الفلسطيني قبل أن تولد عائلة معاتيه القتل القرداحي، والكيماوي ليس السلاح الوحيد، هو “انتصار”.

باسم القومية ومعاداة إسرائيل مستعد كل عقل متمنطق بغياب الضمير والمنطق أن يطل علينا شاهرا مسدسه أن “اقتنعوا.. اهتفوا لسيادة الرئيس مقابل ربطة خبز وقطرات ماء”.

واقع الحال، كما هو، يروي رواية أخرى. بالأمس قالت “سانا” (الوكالة الدعائية الرسمية المتشبهة ببرافدا الرفاق في موسكو) إنه “لا يمكن لحملة شعلة النور نحو صيدنايا أن يقتلوا بالكيماوي”. لكن، سانا نفسها لم تذكر مرة واحدة جوابا عن سبب تسليم الكيماوي في 2013 للإمبريالية الغربية بمعية موسكو.

حتى صحافيو بيروت، من الرفاق القدامى، المتحولون بمقدمات كثيرة إلى عباءات المذهبية باسم “زينب لن تسبى مرتين”، وبأن “خسف حرستا ودوما لا بد منه قبل خروج المهدي”، لا يرون مظلومية في اختناق الأطفال بالغاز، فالفاعل “بطل قومي”، دون تعريف بالظاهر لأية قومية نتحدث، هل هي “لا عرب ولا عربان فلتحيَ إيران”؟

كل شيء، من البداية حتى النهاية ليس سوى “مزحة سمجة”، مثلما هي “فوتوشوب” و”كاتشاب” منذ بداية 2011. الكاتشاب ها هنا يغيب، إذ إن أداة القتل لدى “القائد الضرورة”، حتى في عرف سياسة “التحضر” العربية الجديدة، الداعية لمنح القاتل كرسيه في جامعتهم، لشدة التشابه بينهم، تستعجل لفرض الاستسلام فلا يبقي للمقتولين شيئا سوى زبد الاختناق، ترويعا لبقية باقية من سوريي 2018. هل هو تطبيق “سورية أنحف.. سورية أحلى”.. راجعوا هذا الشعار وستدرون عن أي قتلة يرقصون على جثث داريا نتحدث..

أتذكرون، قبل أسابيع، حين كان التهجير بالقتل في أوسع صوره؟ خرج علينا الرفاق في بيروت وموسكو يخبروننا: سيقوم الإرهابيون بفعلة كيماوية لاتهام هذا الحمل الوديع بشار..

الآن فقط نفهم وجه التشابه الذي ساقه ابن خالة بشار، رامي مخلوف، في مثل هذا الشهر قبل سنوات، عن ترابط الأمن الصهيوني – الأسدي. نفهمه على طبيعته لكل الصور العربية التي تذب ما قبلها من شعارات الأكاذيب الكبرى.. تسابقا نحو قتلة متشابهون، وإن اختلفت الأدوات.

هنيئا لجمهور الفرجة.. فرجته.. هنيئا لقيادات عربية بزميلها بشار الكيماوي، الداعية له بالبقاء وحضور قمتهم، هنيئا لأحزاب قومجية ويسارجية وسلفية وليبرالية وجمعيات التزوير من أقصاها إلى أقصاها.. هنيئا في تكرار مشهد يعطي كل أعداء العرب حقا أن يرفعوا اصبعهم الأوسط بوجوهنا جميعا حين ننتقد فظائع قتل العربي وهم يرددون “على الأقل لم نقتلكم بالكيماوي”.

العربي الجديد

 

 

التهجير القسري” لدوما بدأ..بعد التركيع بالكيماوي/ عمار حمو

بدأ تنفيذ الاتفاق المبرم بين “جيش الإسلام” والجانب الروسي، في مدينة دوما، ليل الأحد/الإثنين، بعد ساعات من توقيعه، بإطلاق دفعة أولى من أسرى للنظام لدى المعارضة، وانطلاق أولى الحافلات التي تقل مقاتلي “جيش الإسلام” إلى الشمال السوري.

وعرضت وسائل إعلامية موالية للنظام، صوراً تظهر وصول الدفعة الأولى من أسرى للنظام كانوا في سجون “جيش الإسلام” إلى صالة الفيحاء في العاصمة دمشق، وقالت إن الحافلات الأولى لنقل المسلحين بدأت بالوصول إلى معبر مخيم الوافدين تجهيزاً لانتقالها إلى الشمال السوري. وهذه القافلة هي الأولى بعد توقيع الاتفاق.

وكان “جيش الإسلام” قد توصل إلى اتفاق، الأحد، بعد يومين داميين شهدتهما مدينة دوما، قتل خلالهما عشرات المدنيين، وأصيب المئات، نتيجة قصف النظام للأحياء السكنية بمئات الغارات الجوية والقذائف، وأتبعها بثلاث ضربات كيماوية. الاتفاق المبرم بين “جيش الإسلام” والروس لم يحدد عدد الدفعات أو مدة خروجها، ولكن بحسب إعلام النظام فإن 8 آلاف مقاتل من “جيش الإسلام”، ونحو 40 ألف مدني، سيتم نقلهم من دوما، إلى الشمال السوري.

ونصّ الاتفاق على خروج مقاتلي “جيش الإسلام” مع عائلاتهم ومن يرغب من المدنيين، و”تسوية أوضاع” الراغبين بالبقاء في دوما، وضمان عدم ملاحقتهم أو سوقهم للخدمة الإلزامية والاحتياطية قبل 6 شهور، بحسب ما ذكرته اللجنة المدنية المشاركة في المفاوضات مع الروس.

وتضمن الاتفاق، بحسب بيان اللجنة المدنية، دخول الشرطة العسكرية الروسية كـ”ضامن” لعدم دخول قوات النظام إلى دوما، وضمان عودة الطلاب المنقطعين عن الجامعات إلى مقاعدهم الدراسية بعد “تسوية أوضاعهم”، كما يُفتح معبر مخيم الوافدين أمام الحركة التجارية بمجرد دخول الشرطة الروسية، وتقوم لجنة من محافظة ريف دمشق بتسوية القضايا المدنية بالتنسيق مع اللجنة المدنية المشكلة في مدينة دوما.

مصدر محلي قال لـ”المدن” إن الاتفاق قضى بخروج عناصر “جيش الإسلام” إلى جبل الزاوية في محافظة إدلب الذي يسيطر عليه “صقور الشام”، فيما يخرج المدنيون إلى جرابلس في ريف حلب الشمالي الواقعة تحت سيطرة “درع الفرات” كمنطقة نفوذ تركي، ومنع دخول السلاح. ولكن تم تغيير وجهة مقاتلي “جيش الإسلام” من جبل الزاوية، إلى جرابلس أيضاً.

مصدر مقرب من “جيش الإسلام”، قال لـ”المدن”، إن “خروج جيش الإسلام من الغوطة الشرقية سيكون على شكل كتلة منظمة: الكتائب على شكل كتائب، والألوية على شكل ألوية، والهيئات على شكل هيئات، ويسمح للمسلحين بحمل بندقية ومخزنين وقطعة سلاح واحدة”.

تغيير وجهة “جيش الإسلام” إلى جرابلس تعني أنه قد يصل إلى الشمال السوري منزوع السلاح. وتتضارب الأنباء حول مصير سلاحه. مصدر محلي، قال لـ”المدن”، إن “تركيا اشترطت عدم دخول جيش الإسلام إلى جرابلس حتى يسلم السلاح الفردي”، ولكن مصدراً آخر قال إن ذلك مجرد إشاعة، وسيدخل “الجيش” بسلاحه إلى جرابلس.

وكانت القوافل الأولى لمهجري مدينة دوما، قبل ضربة الكيماوي الأخيرة، قد أُوقفت لساعات على حواجز “درع الفرات” في ريف حلب الشمالي، وذكرت تقارير إعلامية أن السبب وجود سلاح على متن الحافلات.

تأخر التفاوض بين الروس و”جيش الإسلام” الذي سعى لتحسين شروط الاتفاق، وعدم استنساخ اتفاق “أحرار الشام” و”فيلق الرحمن” في حرستا والقطاع الأوسط، خاصة بند “التهجير القسري”. وأصرّ “جيش الإسلام” على التفاوض من أجل البقاء. ولكن استخدام الكيماوي في ضرب دوما، جعل من الاتفاق المبرم بين الطرفين، نسخة عن اتفاق “الفيلق” و”الأحرار” مع روسيا، مع اختلاف في بعض حيثياته.

مصدر مقرب من “جيش الإسلام”، قال لـ”المدن”، في تعليق على بنود الاتفاق إن “النظام سيخرج أيضاً من الغوطة الشرقية، وستدخل الشرطة الروسية لمدة ستة شهور، وبعدها سيتم تشكيل كتيبة من جيش الإسلام تحمل اسمه، وقوامها من الشباب الراغبين بالبقاء في مدينة دوما والرافضين للتهجير القسري”. ولكن مهمة الكتيبة محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” في المناطق السورية، بحسب المصدر.

يبدو أن التزام روسيا بتطبيق بنود الاتفاق مثار شكّ أهالي مدينة دوما، فاتفاق “فيلق الرحمن” في القطاع الأوسط بالغوطة الشرقية مع الروس نصّ على نشر نقاط شرطة عسكرية روسية في البلدات والمدن التي كانت تحت سيطرة “الفيلق”؛ كعربين وزملكا وعين ترما وجوبر، و”ضمان” عدم ملاحقة النظام للراغبين في البقاء. ولكن مليشيات النظام دخلت إلى تلك المدن، وارتكبت انتهاكات بحق تلك المدن وأهلها، من “تعفيش” لممتلكات المدنيين والاعتداء عليها، وسوق عشرات الشبان للتجنيد، والإعدام الميداني، وحملات الاعتقالات.

آخر إحصائية للمدنيين في مدينة دوما، قدرت عددهم بـ130 ألف، من أهالي المدينة ونازحين إليها من مدن أخرى تقدم النظام إليها في وقت سابق، فضلاً عن 8 آلاف مقاتل لـ”جيش الإسلام”.

ومنذ الإعلان عن التوصل لاتفاق بين “جيش الإسلام” والروس، سارع المدنيون، الإثنين، في دوما إلى مراجعة المراكز الخاصة بتسجيل أسمائهم للخروج، وسط فوضى تعمّ المدينة. مصدر محلي قال لـ”المدن” إن المئات ممن كانوا يرفضون الخروج من المدينة، قبل مجزرة الكيماوي، باتوا في عداد الراغبين بالتهجير، خشية انتهاكات مرتقبة ضدهم.

المدن

 

 

 

الغارديان: لهذه الأسباب يستمر الأسد باستخدام الأسلحة الكيماوية

ترجمة منال حميد – الخليج أونلاين

شنت صحيفة الغارديان البريطانية هجوماً لاذعاً على المجتمع الدولي، محمّلة إياه مسؤولية الجرائم التي يرتكبها نظام بشار الأسد في سوريا، وآخرها عملية القصف بالكيماوي التي استهدفت مدينة دوما في الغوطة الشرقية.

وقالت الصحيفة في افتتاحيتها، إن الاستخدام المفرط للأسلحة الكيماوية من قِبل نظام الأسد عمل “وقح وبربري”، فلقد اختنق عشرات الأشخاص في المدينة، التي ما زالت تحت سيطرة قوات المعارضة السورية.

وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا؛ فمنذ استخدام غاز السارين في خان شيخون عام 2013، أقدم النظام على عشرات الهجمات الكيماوية، ما يمثل ازدراءً للبشرية وتجاهلاً لكل قوانين الحرب.

وتقول “الغارديان” إن استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية مرة أخرى يعود لسببين؛ الأول أنه يملك تلك الأسلحة وهي رسالة مهمة يريد إيصالها لمعارضيه، كما يملك في الوقت نفسه الإرادة لاستخدامها، والأمر الآخر أنه فعل ذلك لأنه يعرف أنه يستطيع أن يفلت من العقاب، فحتى العقوبات القانونية والدبلوماسية التي تُفرض عليه، غير فعالة.

وربما يتساءل البعض: لماذا يلجأ الأسد إلى استخدام هذه الأسلحة المحرمة، في وقت تضيق قواته الخناق على الفصائل المسلحة بالغوطة الشرقية؟

للإجابة عن ذلك، تقول “الغارديان”، ينبغي العودة إلى علم النفس، الذي يفسر هذه الظاهرة بأنها محاولة من النظام لترهيب المدنيين، وأيضاً معاقبة معارضيه بهذا السلاح الفتاك.

وتقول الصحيفة: إن “روسيا تتحمل مسؤولية كبيرة في تمكين سلاح الجوي السوري من قصف دوما، فهي تسيطر على المجال الجوي الغربي لسوريا، والمستشارون الروس موجودون في القواعد الجوية التي تنطلق منها الطائرات السورية”.

وتضيف: “ربما لا يكون الروس منخرطين بشكل مباشر في هذه القرارات وهذا القصف، ولكنهم يوفرون غطاءً عسكرياً ودبلوماسياً نشطاً لاستخدام نظام الأسد الأسلحة الكمياوية، كما أن استخدام موسكو المتكرر حق النقض (الفيتو)، منع أي تدابير فعالة ضد هذا النظام، ومنَحه الضوء الأخضر للمزيد من هذه الجرائم”.

أما السياسة الأمريكية، فهي ومنذ حرب العراق، باتت غير حاسمة، وخاصة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما. واليوم في عهد الرئيس دونالد ترامب، فإنها تبدو فوضوية، فقبل عام وبعد هجوم كيماوي من قِبل النظام السوري، والذي أدى إلى مقتل العشرات في خان شيخون، قصف ترامب مطاراً للنظام بـ59 صاروخاً من نوع “كروز”. ومنذ ذلك الحين، تقلبت سياسة واشنطن إزاء سوريا، خاصة مع الأكراد الذين كانوا حلفاء لأمريكا في حربها ضد “داعش”.

وترى الصحيفة أن سقوط الغوطة الشرقية بيد النظام السوري لن يمثل نهاية للصراع في سوريا، وإنما سيكون بداية لمرحلة أخرى من مراحل الصراع، وبما أن دمشق ما زالت تمثل المساحة الأكثر هدوءاً في سوريا والتي لم تصل لها نيران “داعش”، فإنه يمكن القول إن سوريا فعلياً وبعد معارك الغوطة ستنقسم إلى ثلاث مناطق: الأولى خاضعة لسيطرة النظام وروسيا وإيران، والثانية تخضع لسيطرة الأكراد بحماية أمريكية، والثالثة وتقع شمالي حلب ستخضع لسيطرة القوات التركية.

إزاء هذا الوضع في سوريا، تقول “الغارديان”، وفي ظل غياب أي حل دبلوماسي للصراع، فإنه يمكن القول إن الهجمات على دوما لن تكون الأخيرة.

 

 

 

ضربات خاطفة أو حرب موسعة.. هذه خيارات ترمب بسوريا/ أمين محمد حبلا

الجزيرة نت

تتوجه أنظار العالم من جديد نحو البيت الأبيض تحسبا للقرار الذي ينتظر أن يتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب ردا على الهجمات الكيميائية التي استهدفت مدينة دوما في الغوطة الشرقية وراح ضحيتها مئات الضحايا بين قتلى ومصابين بينهم أطفال ونساء.

سيد البيت الأبيض هو من سيحسم ما إذا كانت واشنطن سوف “تنتقم لأطفال دوما” بشكل مباشر أم ستواصل سياسة التهديد والوعيد التي مكّنت الأسد من الإفلات من العقاب طيلة السنوات الماضية.

وكان ترمب قد شنّ هجوما لاذعا على الرئيس السوري بشار الأسد، واصفا إياه بـ”الحيوان”، كما هاجم داعميه روسيا وإيران. وقال في تغريدة على حسابه على تويتر إن الرئيس السوري “سيدفع ثمنا غاليا” على استخدام السلاح الكيميائي.

الاثنين الحاسم

وينتظر أن تتضح قبل نهاية اليوم الاثنين توجهات الإدارة الأميركية في التعاطي مع هجمات الأسد الكيميائية، إذ سيعقد اجتماع لمجلس الأمن دعت إليه تسع دول لبحث تداعيات هذا الهجوم، كما سيعقد ترمب اجتماعا مع كبار القادة العسكريين لبحث الخيارات المتاحة للتعامل بعد هذه الهجمات المميتة.

وكان الرئيس ترمب قد أمر قبل اكتمال مئويته الأولى بتوجيه ضربة عسكرية خاطفة بعشرات من صواريخ “توماهوك” ضد عدد من الأهداف في مطار الشعيرات بريف حمص الشمالي، وذلك قبل عام من الآن بعد هجوم بالغاز السام على مدينة خان شيخون بريف إدلب.

ولا يعرف ما إذا كان نظام الأسد قد تعمد إعادة الكرة واستخدام سلاح الهجمات الكيمائية في الذكرى السنوية الأولى للضربة الأميركية كنوع من التحدي والاستعراض في ظل التخفف الأميركي المعلن من الوجود العسكري في سوريا وفي ظل الزخم الذي أحدثته الانتصارات الأخيرة لنظام الأسد.

لكن الواضح أن دلالة “التزامن والاقتران” المقصود بين الحدثين ستكون حاضرة ضمن قراءات واشنطن لهذه الهجمات وستمثل رسالة غاية في السلبية، ومن شأنها أن تستحث صناع القرار هناك على القيام برد “يعيد الاعتبار” ويذكر الجميع بقوة أميركا وتفوقها.

خيارات محدودة

لا تبدو الإدارة الأميركية في سعة من أمرها وهي تبحث خيارات الرد على هجمات كيميائية مدمرة كانت قد اعتبرتها خطا أحمر سواء في ظل الإدارة السابقة أو الحالية.

ويتبدى ضيق الخيارات الأميركية ومحدوديتها أكثر عند النظر في مستوى تشابك الأوضاع في سوريا وكثرة اللاعبين فيها، فضلا عن حالة الفوضى والارتباك التي تتخبط فيها إدارة ترمب نفسها في ظل الإقالات والاستقالات والتحقيقات التي تعصف بفريقه الحاكم وسياساته الخارجية.

وتتراوح الخيارات الأميركية المطروحة للتعامل مع تداعيات هجمات دوما الكيميائية بين الخيارات السياسية والعسكرية، ومن أهم الخيارات ما يلي:

– التصعيد السياسي: يمثل الاكتفاء بالتصعيد السياسي أحد أبرز الخيارات الأميركية في التعاطي مع هذه الأزمة عبر الشجب والتنديد والتهديد والوعيد، وقد ظل هذا الخيار هو الوحيد المطروح على الطاولة الأميركية طيلة أغلب السنوات الماضية.

وليست دوما هي أولى مسارح استخدام المخزون الكيميائي لنظام الأسد، فقد استخدمه 207 مرات ضد أبناء شعبه طبقا لتقرير صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أغسطس/آب الماضي، وذلك منذ استخدامه أول مرة يوم 23 ديسمبر/كانون الأول 2012.

وأدت هذه الهجمات إلى مقتل 1420 شخصا، من بينهم 1356 مدنيا، ضمنهم 186 طفلا و244 سيدة، بالإضافة إلى إصابة 6672 شخصا.

ولم تلجأ الإدارتان الأميركيتان المتعاقبتان منذ العام 2012 إلى الخيارات العسكرية مهما كانت محدودة وضعيفةً إلا مرة واحدة حين أراد ترمب أن يظهر حسمه وعزمه وتفوقه على سلفه فأمر بضربة محدودة على مطار الشعيرات قبل عام من الآن.

ورغم استبعاد أن تكتفي الإدارة الحالية بالتصعيد السياسي فقط في الرد على هجمات دوما نظرا لاعتبارات متعددة، فإنه مع ذلك يبقى الخيار الأكثر حضورا في الأجندة الأميركية بسوريا.

– الخيارات العسكرية: يتوقف احتمال توجيه ضربة أميركية للنظام السوري -وفق محللين- على اعتبارات عديدة، من بينها تقديرها لحجم ونوعية الغاز المستخدم في دوما، وتوقع مستوى رد الفعل الروسي سياسيا وعسكريا بالذات، فضلا عن مستوى التوافق على خيار من هذا القبيل داخل إدارة ترمب نفسها.

ويرى الخبير الإستراتيجي اللواء مأمون أبو نوار أنه “إذا وجدت واشنطن أن الغاز المستخدم هو غاز الكلورين فلا أتوقع أن تكون هناك ضربة أميركية لسوريا، أما إذا كان الغاز المستخدم هو السارين فإن الولايات المتحدة ستوجه ضربة للنظام السوري بغض النظر عن نوعيتها وحجمها”.

وتتراوح الخيارات العسكرية المطروحة بين ضربة خاطفة ومواجهة شاملة مع نظام الأسد وداعميه في سوريا. وبينما لا يتوقع أحد أن تلجأ أو تسمح الإدارة الأميركية بانزلاق الأمور نحو مواجهة شاملة في سوريا، فهي أبعد ما تكون عن خيار من هذا القبيل، لا يستبعد مراقبون أن تقوم بضربة خاطفة يرجح أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد أن تكون محدودة مثل ما جرى بعد خان شيخون.

وبينما يرى ماجد في حديث مع الجزيرة أنه ليس من الوارد أن تسعى الولايات المتحدة لتعديل موازين القوى داخل سوريا، لا يستبعد أن تقوم بخطوات أخرى تعقّد الحل السياسي الذي تسعى إليه روسيا من أجل ترجمة انتصارها العسكري إلى نتيجة سياسية.

ويضيف أنه مع ذلك إذا ذهبت واشنطن نحو مواجهة واسعة وأرادت أن تظهر للعالم أنها قادرة على تغيير الأوضاع في سوريا، رغم الحضور الميداني الروسي الإيراني، فيمكن لقوتها العسكرية أن تفعل الكثير، ولكن إذا بقي رد فعلها في إطار محدود مثل ما جرى المرة الماضية بعد خان شيخون فلن يكون هناك تغيير جذري بميزان القوى في سوريا.

واعتبر الباحث المختص في الشؤون السورية والسياسة الأميركية أندرو تابلر هجوم دوما فرصة ذهبية لتأديب الأسد على استخدامه الأسلحة الكيميائية، وذلك من خلال ضربات مركزة تجعل نظام الأسد يدفع ثمن استخدامه تلك الأسلحة، لكنه يعتقد مع ذلك أن نظام الأسد يشعر بأنه سيفلت من العقاب، لذلك شن هذا الهجوم ومن قبله الهجمات السابقة بالأسلحة الكيميائية.

وبينما يخوض الناس في خيارات ترمب تجاه نظام الأسد، يرقد أطفال دوما ونساؤها الذين قتلهم كيميائي الأسد بسلام، ويتجرع الأهالي والسكان المرارة والألم وكثيرا من الغاز الكيميائي كاتبين بذلك صفحة طويلة الأسى من كتاب المجازر الأسدية والعذابات السورية.

المصدر : الجزيرة + وكالات

 

 

 

هل توقف ضربة أميركية – فرنسية لسورية وحشية نظامها؟/ رندة تقي الدين

فظاعة منظر ضحايا الهجمات الكيماوية في سورية التي يرتكبها النظام جعلت الرئيس دونالد ترامب يصف بشار الأسد وصفاً مقذعاً، ويتلقى من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتصالين خلال ٤٨ ساعة لتنسيق المواقف إزاء الهجوم الوحشي الكيماوي على دوما الذي أدى إلى سقوط أكثر من ٥٠ قتيلاً من بينهم عدد كبير من الأطفال. هذا الهجوم الوحشي سيكون في صلب المحادثات التي يجريها الرئيس الفرنسي مع ضيفه السعودي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في الإليزيه، الذي سيعطيه صورة مفصلة عما تقوم به إيران في المنطقة بأسرها، من سورية إلى اليمن إلى العراق، وتزويدها الأسلحة القاتلة والمسمة إلى النظام السوري والحوثيين و «حزب الله».

الجهود التي قامت بها فرنسا لدفع مفاوضات للمرحلة الانتقالية في سورية فشلت كلها بسبب تعنت روسيا التي تريد حلاً يبقي بشار الأسد على رغم تمزيقه سورية وتدميرها. والانطباع العام الذي يحب الجانب الروسي إعلانه ويتباهى به بشار الأسد هو أن النظام السوري انتصر واستعاد المناطق التي كان خسرها، في حين أنه يستعيد مدناً مدمرة وبلداً بلغ النازحون فيه الملايين ولن يعودوا. وتتوسع مطامع تركيا في سورية مع تخلي الأميركيين عن الدعم الحقيقي للأكراد. أما إيران فتتركز في سورية في شكل يهدد حتى روسيا نفسها التي ما زالت تحتاج إلى حلفها مع طهران في هذه المرحلة.

ماكرون أعلن باسم فرنسا أكثر من مرة أن استخدام النظام السلاح الكيماوي في سورية خط أحمر، وإذا تجاوزه سيتم ضرب القواعد التي اطلق منها الكيماوي. وفي واقع الحال أن الكل مدرك أن بشار الأسد تجاوز الخط الأحمر في الوحشية ولن يوقفه العالم الغربي حتى بضربات محددة على مواقع وقواعد عسكرية، لأنه محمي من ديكتاتوريي روسيا وإيران اللتين لا تباليان برأيهما العام وما إذا كان شعباهما يوافقان أم لا على التدخل العسكري في سورية، فمثلاً هناك جدل في إيران على الصعيد الشعبي حول جدوى التدخّل العسكري في سورية وصرف المبالغ الهائلة لتمويل «حزب الله» ومقاتليه في لبنان، لكن النظام لا يهمه معارضة شعبه إزاء الموضوع. وروسيا استفادت من تدخّلها في سورية باعتراف العالم بأن الرئيس بوتين هو مفتاح الحل، لأن الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، لم يعد مستعداً بعد كارثة حرب العراق للتدخل العسكري المباشر. وترامب لن يغير رأيه، على ما غرّد بأنه يريد مغادرة القوات الأميركية سورية، فهو مستعد لضرب «الحيوان» لمعاقبته ولكنها ضربة محددة الهدف لموقع بعينه. والدول الديموقراطية أضعف في التصدي لوحشية النظام السوري بعد فشلها الذريع بعد قلب نظام صدام حسين في العراق والقذافي في ليبيا.

أصبحت هذه الدول حذرة جداً من إرسال قوات أو القيام بضربات لقلب النظام وإن كان هذا النظام يهجّر جزءاً كبيراً من شعبه إلى دول الجوار وأوروبا وغيرها، ويشكل مشكلة كبرى من لاجئين صاروا عبئاً على دول الجوار بما يرتّب على الأسرة الدولية جزءاً من المسؤولية.

ولسوء الحظ أصبح الحل الوحيد في يد القيادة الروسية التي لا تتردد من إبقاء قواتها في سورية طالما سلّمها الأسد مفتاح بلده. واللافت أن القيادات الثلاث الروسية والسورية والإيرانية تتسابق في نفي استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي في حين أن كل الصور تؤكد ذلك. فإذا ضربت الولايات المتحدة وفرنسا قواعد عسكرية لسورية لن يرتدع النظام من الاستمرار مع الدعم الإيراني والروسي في تخريب البلد والمنطقة.،

الحل هو في التوصّل إلى توافق أميركي- روسي على وضع جديد في سورية يضمن انتقالاً من دون الأسد، ولكن، لا أحد يثق بالسياسة الأميركية لأنها منحازة كلياً لما تريد إسرائيل التي حرصت دائماً على حماية حكم آل الأسد، وهذا لا يدفع إلى التفاؤل بمستقبل سورية، لأن الحل معضلة والديموقراطيات لن تتدخّل عسكرياً للتصدي لإيران وروسيا، والهيمنة ستبقى للقوة على الأرض من دون حل نهائي.

الحياة

 

 

 

الضربة الأمريكية لسوريا: وشيكة جدا… لكن محدودة/ محمد كريشان

الكل يتحدث، يرعد ويزبد ويهدد، يدافع أو يختلق الأعذار، إلا هو: بشار الأسد.

خذ راحتك الآن في التحليل وفسر الأمر كما تفهم أو تريد: الرجل مرعوب، لا يعلم ماذا يقول، لا يدري كيف سيدافع عن نفسه، طلب منه حلفاؤه السكوت، لا..لا.. هو غير عابئ بأي شيء، لا يهمه رأي العالم فيه، شديد الثقة ببراءته، فقد الثقة في فهم العالم له ناهيك عن تفهمه أو إنصافه… إلخ.

الكل يخوض مع الخائضين في ما يتعلق بما جرى في دوما إلا هو فقد قرر أن يلوذ بالصمت، مع أن «بشار الآخر»، بشار الجعفري اعتبر كل ما جرى «حملة شعواء تفتقر إلى الحد الأدنى من المصداقية» نظرا إلى استنادها إلى «معلومات مفبركة تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي» وساهمت في ترويجها «المجموعات الإرهابية» ومن يقف معها. واللافت هنا أن الجعفري هنا لم يكن أول من بادر أمام مجلس الأمن للإعلان عن استعداد حكومته لاستقبال بعثة تحقيق من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية «فورا» للذهاب لمعاينة مسرح الاستعمال «المزعوم» للأسلحة الكيميائية في دوما بالغوطة الشرقية فقد سبقه المندوب الروسي الذي قال إن دمشق مستعدة لاستقبال مثل هذه البعثة «غدا» في تجاوز بين على نظام تقول إنها جاءت لإنقاذه والحفاظ على سيادته!!

روسيا تجد نفسها اليوم في وضع ربما أسوأ بكثير من وضع حليفها في دمشق فما يتضح إلى حد الآن هو أن جزءا أساسيا من هذه الهبة الدولية ضد نظام بشار الأسد، الذي استعمل السلاح الكيميائي لعشرات المرات من بينها ثمانية خلال العام الجاري فقط، تبدو موجهة في المقام الأول إلى موسكو الذي تحولت تدريجيا في الأسابيع الأخيرة إلى «مطارد» في كل المحافل بعد حادثة تسميم العميل الروسي السابق وما أعقبها من موجات طرد دبلوماسيين متبادلة بينها وبين واشنطن وعواصم دولية عديدة أخرى.

ما يجري الآن من ردود غاضبة تمهد لعمل عسكري وشيك في سوريا لا يتعلق فقط بأن الأسد بالغ في غيــّه وإنما أيضا بضرورة وضع حد لــ «تنمر» روسيا الذي بلغ هو الآخر حدا لم يعد يحتمل. لقد وصل الأمر بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن صرح بأنه تم تفقد الموقع المفترض لاستعمال الأسلحة الكيميائية في دوما ولم يعثر فيه على أي دليل على الاتهامات التي سيقت في هذا الشأن، و ذلك بعد تصريحات لمسؤول روسي آخر أشار فيها إلى أن بلاده سبق لها أن نبهت من احتمال إقدام «المجموعات الإرهابية» في سوريا على استعمال أسلحة كيميائية بغرض إلصاق التهمة لاحقا بالنظام.

إذن موسكو ليست على قلب رجل واحد في محاولاتها إبعاد التهمة عن بشار الأسد فرأيها لم يستقر بعد بشكل نهائي على نفي الحادثة برمتها جملة وتفصيلا أو إلصاقها بالمسلحين. يزداد الأمر صعوبة عندما لا توجد فيه استجابة لدعوات إنشاء لجنة تحقيق فيما جرى رغم كثرة الحديث عن ضرورة «تحديد المسؤوليات» أو اللجوء إلى تلك اللغة المائعة التي استعملها المبعوث الدولي إلى سوريا ستافان دي ميستورا الذي فضل في كلمته أمام مجلس الأمن الإثنين أن يترك كلامه حمال أوجه في كل الاتجاهات، يرتاح له النظام وخصومه في نفس الوقت، فهو لم يكن حاسما قي أي شيء مؤثرا المنطقة الرمادية الآمنة.

وبغض النظر عما ستؤول إليه المداولات الحالية في مجلس الأمن فإن الضربة العسكرية الأمريكية على سوريا مرجحة ووشيكة رغم أن نقطتين هامتين لم يتضحا بعد بشأنها: الأولى من يمكن أن يشارك فيها إلى جانب الولايات المتحدة وما المدى الذي يمكن أن تصل إليه:

بالنسبة إلى شركاء واشنطن المحتملين في الضربة تبدو فرنسا الأقرب إلى الانخراط بدرجة أو بأخرى في ما يعتزم الرئيس ترامب القيام به وربما بدرجة لا تبعد عنها كثيرا بريطانيا وألمانيا، لا سيما وأن لندن تبدو متشوقة إلى نوع من الرد على ما قامت به موسكو ضدها وبإمكانها هنا أن تحمي ظهرها بمشاركة جماعية تبعد عنها مخاطر التصدي منفردة لروسيا.

أما بالنسبة إلى المدى، فالكل يكاد يجمع أن الضربة آتية لا محالة لكن واشنطن لن تتورط أكثر مما يجب ولن تجازف بأكثر من الوصول إلى مشارف خط المواجهة المباشرة مع موسكو على الأرض السورية دون أن تجتازه. وكما قال المبعوث الأمريكي السابق إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل في مقابلة أمس إلى شبكة «سي أن أن» الأمريكية فإن العالم «سيساند ضربة أمريكية» ضد نظام بشار الأسد ولكن «الشعب الأمريكي لا يتحمل دخول بلادهم حربا في سوريا».

صحيح أن واشنطن تمتلك «خيارات عسكرية كثيرة» على الطاولة وفق تعبير الرئيس ترامب لكن جميعها في النهاية ستكون حريصة على مراعاة «حدود معينة للتحرك» على حد وصف نائب الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف. ولهذا ورغم كل الضجيج الحالي، لن تكون أي ضربة مقبلة لسوريا نوعية أو حاسمة فكل من واشنطن وموسكو يدركان جدا أن شعرة معاوية بينهما يجب ألا تقطع أبدا… لكن إلى متى؟!!

٭ كاتب وإعلامي تونسي

 

 

فليُقتل الأسد: يجب إعادة تقييم سياستنا في عدم التدخل في الحرب في سوريا

اندلعت الحرب الأهلية في سوريا قبل سبع سنوات. وفي السنة الاولى شهد بشار الأسد الهزائم أساساً. فالأرض التي حازها النظام العلوي أخذت في التقلص. وبأذني سمعت وزير الدفاع إيهود باراك يقدر بأن أيام الأسد معدودة. وحسب أفضل ذاكرتي، لم يعطه أكثر من أسبوعين.

جهازنا الأمني تردد في حينه في التوصية التي يقدمها للقيادة السياسية. هل ما يحصل في سوريا ـ جيد لليهود؟ هل سقوط الأسد كجزء من الربيع العربي (والذي كان عندنا محللون وخبراء شاذون علقوا عليه آمال عظمى للتحول الديمقراطي في العالم العربي) هو بشرى لدولة إسرائيل أم لعل البدائل التي ستنشأ في سوريا ستكون أخطر علينا؟ في البداية كانت هناك محافل تقدير عندنا مقتنعة بأن سقوط الأسد محتم، وعليه فليس هاما على الإطلاق ما نريد. ولكن بعد ان صمد حاكم سوريا حتى عندما كانت معظم دولته يسيطر عليها داعش وميليشيات متنوعة ومختلفة بلورت إسرائيل سياسة الجلوس على الجدار: دعم انساني فقط للثوار على طول حدود الجولان، «خطوط حمر» بالنسبة لنقل «السلاح محطم التوازن» من الأسد إلى حزب الله في لبنان، ومحاولة، عقيمة في هذه الاثناء لمنع تثبيت التواجد الإيراني في سوريا.

هكذا استمر هذا في السنوات الأخيرة. فقد قررت إسرائيل عدم التدخل في الحرب الاهلية في سوريا. «فهذا هو خيار بين الطاعون والكوليرا»، قال عندنا وتمنوا النجاح لكل الاطراف. نظرنا من الجانب إلى كل ما يجري في سوريا. وكان الثمن بالطبع تجاهل مصالحنا في المداولات التي جرت بين اولئك الذين تدخلوا فيها عمليا. لم نكن موجودين في المداولات بين الولايات المتحدة وروسيا، وبالتأكيد ليس في المداولات بين بوتين، أردوغان وروحاني. وفي كل الوقت واصل خبراؤنا ينقطون في آذاننا المسلمة التي لا جدال فيها: سوريا لن تعود لتكون ما كانت عليه قبل الحرب الأهلية. مرة أخرى لن تكون عدوا خطيرا لإسرائيل، لن تعود دولة مع وحدة اقليمية، بل إطار هزيل ومفكك من المصالح المحلية والاجنبية، القبائل والميليشيات، ليس دولة.

ولكن حان على ما يبدو الوقت لإعادة تقويم الوضع. إذ رغم الخبراء، فإن الأسد، بمساعدة إيران وروسيا، ينتصر في الحرب. فبعد أن خرب مدنا بكاملها، قتل اكثر من نصف مليون من مواطنيه، جعل ملايين آخرين لاجئين ينتشرون في الاردن، العراق، لبنان، تركيا وفي الدول الاوروبية المختلفة، فإنه لا يزال الحاكم في سوريا.

صحيح أنه منح الروس قاعدة دائمة في صورة مطارات جوية وموانىء بحرية لن يخرجوا منها بسرعة، وصحيح أنه جعل نفسه متعلقا بإيران، بحرسها الثوري والميليشيات المختلفة التي تقاتل باسمها من أجله. صحيح أنه باع روحه للشيطان حزب الله، ولكن سوريا ستعود لتكون إطار دولة واحدة، مع حكم مركزي واحد، وكذا ستعود لتكون ما كانته: عدوا خطيرا لإسرائيل، بل واخطر مما كانت قبل ان تصبح وادي القتل والخراب، إذ حين تنتهي هناك الحرب، ستكون سوريا رأس جسر إيراني في حدودنا. لا يمكن لا هجوم على قاعدة سلاح جو سوريا كهذه أو تلك ان تغير هذه الصورة.

شيء واحد فقط يمكنه أن يوقف الآن هذه المسيرة: تصفية الأسد. الاستخدام الوحشي الذي يقوم به الأسد للسلاح الكيماوي الاجرامي ضد مواطنيه: الشيوخ والنساء والاطفال، يدحرج إلى يد إسرائيل فرصة لتغيير مجرى الامور المتوقع هذا. الأسد هو في نظر العالم الحر مجرم حرب، قاتل الجماهير الذي دمه مباح. تصفيته الشخصية ستؤدي أيضاً إلى سقوط نظامه. داعش لم يعد يشكل اعتبارا، أو ذريعة للامتناع عن التدخل في الحرب الأهلية. الأسد هو المرسى الإيراني في سوريا، وكذا المرسى الروسي، إذ ان بوتين يعرض تأييده للأسد كخطوة دعم للحكم الشرعي ضد المتمردين على الملكية. وهو يمنع كل خطوة ضده في مجلس الامن. الدول الاوروبية التي وافقت في الماضي في أنه في نهاية الحرب لن يكون بوسع الأسد مواصلة الحكم في سوريا تصطدم الان بالموقف الروسي الذي يعتقد بأن الأسد ليس المشكلة في سوريا بل جزء من الحل. هذه الخطوة الروسية هي الاخرى يجب أن تتشوش. ولمثل هذا التشويش سيكون لنا أيضاً شريك أمريكي. وعليه، فيجب قتل الأسد، وجميل ساعة واحدة أبكر.

آريه الداد

معاريف 10/4/2018

القدس العربي

 

 

 

السارين مقابل «فركة الأذن»: تجارة الأسد الرابحة!

رأي القدس

تتابع الإدارة الأمريكية التلويح بتوجيه «رد عسكري» على الهجوم الكيميائي بغاز السارين ضد مدينة دوما مؤخراً، والذي تؤكد مؤشرات عديدة مسؤولية النظام السوري عن تنفيذه. وإلى جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أعلن بنفسه عن «قرارات مهمة سوف تُعلن بشأن سوريا» خلال الساعات المقبلة، شارك في إرسال الإشارات وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس الذي لم يستبعد «استخدام القوة العسكرية»، ولجأت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي إلى لغة خشنة في وصف تواطؤ موسكو وطهران مع «الهجمات الوحشية» التي يشنها النظام السوري على الغوطة الشرقية.

من جانبه كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد اعتبر أن كل «هجوم كيميائي مميت» في سوريا هو خط أحمر يُلزم بلاده بالرد، ولهذا فقد تشاور مع نظيره الأمريكي، واتفقا خلال محادثة هاتفية على «رد قوي مشترك». ولم تتأخر رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي في اللحاق بالركب، فوصفت النظام السوري بـ«الوحشي» الذي «يهاجم شعبه ونحن واضحون تماماً في ضرورة محاسبته ومحاسبة داعميه أيضاً». وأما المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل فقد تبادلت الرأي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد أن كان الناطق باسم الحكومة قد أعلن أن «أفعال النظام السوري خسيسة، إنهم غير آدميين ويخرقون القواعد الأساسية للقانون الدولي ولا يجب أن يمر ذلك دون عقاب».

وبالفعل، قد لا يمر هجوم السارين دون «عقاب»، ولكن ليس أكثر من هذا! فالتجربة الأحدث عهداً تمثلت في الضربة الصاروخية الأمريكية ضد مطار الشعيرات التابع للنظام السوري، عقاباً له على الهجمة الكيميائية التي استهدفت خان شيخون في مثل هذه الأيام سنة 2017، وأودت بحياة 100 ضحية معظمهم من الأطفال. والدليل على أن ذلك العقاب لم يسفر عن أي نتيجة رادعة هو لجوء النظام السوري إلى تكرار استخدام السارين في دوما، وكأنه يحيي ذكرى جريمة خان شيخون ويجدد التعاقد على هذه الصيغة من التجارة الوحشية الرابحة: هجمة سارين ينفذها أينما شاء ومتى سنحت السانحة، مقابل «فركة أذن» من المجتمع الدولي لا تتجاوز حفنة صواريخ في أقصى «عقاب»!

والحال أن بشار الأسد سوف يكون أبرز السعداء بضربة أمريكية جديدة، فكيف إذا تناغمت مع مشاركة فرنسية او بريطانية أو أطلسية، لسبب أول هو أنه آخر من يكترث بأي أذى يصيب سوريا ومرافقها المدنية أو العسكرية، فهو ألحق بها من الخراب والدمار ما تعجز عنه آلاف الصواريخ الأمريكية. والسبب الآخر هو أن ما تبقى من جيشه بات اسماً على غير مسمى، والأسد لا يدين ببقائه إلا للجيش الروسي وحرس إيران وميليشياتها المذهبية. هذا إذا لم «يتنافخ الممانعون» شرفاً فتنشق حناجرهم دفاعاً عن «نظام الصمود والتصدي» الذي تعتدي عليه الإمبريالية العالمية.

وإذا كانت تجارة الأسد هذه رابحة مع نفاق المجتمع الدولي، العاجز حتى عن إيصال مجرمي الحرب إلى قفص العدالة من باب أضعف الإيمان، فإن ميزانها عند الشعب السوري ليس خاسراً تماماً مع الأسد ونظامه ورعاة بقائه فقط، بل مع الذين اكتفوا بوصف جرائم الوحش، وتابعوا التفرج عليها مكتوفي الأيدي.

 

 

 

دوما.. البحث عن وطن للسوريين/ حامد الكيلاني

تعرضت الثورة السورية منذ انطلاقتها في العام 2011 إلى إطلاق نار متعدد، إن في وضح النهار أو من تلك البنادق المجهولة، ومع جراحها النازفة اقتيدت إلى حفلات إعدام استهدفت إسكات أصوات الثورة ومحو أي أثر لها.

ما فعله النظام السوري من جرائم مشينة يدل على أن الرعب الذي يسكنه أسوأ من نهايته كنظام سياسي يرفض التسليم بحقيقة العمر الافتراضي لأي سلطة مهما طاولت في البقاء على قمة الاستبداد؛ فما من وسيلة للتخلص من الأصوات الرافضة للعبودية التي سيظل شيء منها، بل شيء كبير منها في الغد؛ فلا معنى للصمود إلا بعد الصدمة وبعد الانكسار.

ماكنة التدمير تسحق في طريقها الآلاف من الأبرياء العزل، لكن ما لا تدركه آلة العنف أن أرواح الضحايا تزدحم في نهاية الممر لتطلق كلمة لها معنى في لحظة طالما صنعتها حياة الشعوب، وهي تركل بأقدامها رؤوس الطغاة وكبار عتاة القتلة الذين تصادف مرورهم العابر مع حظ الشعب العاثر في فترة لم تكن من اختيارهم، لكنهم تحملوا أعباءها ونتائجها، وتكبدوا التضحيات في كل محطة من يومياتهم ويوميات الثورة.

من يتصور أن الغوطة الدمشقية بعد الهجوم الكيمياوي عليها أصبحت بمثابة إعلان رثاء أو شهادة وفاة الثورة السورية يرتكب مغالطة سعى لها النظام في سوريا، ومن خلفه النظام الحاكم في إيران، ومن خلفهما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لترسيخها في مفاضلة الاختيار بين بقاء الحاكم أو المجهول، رغم أن خروقات العنف والانتهاكات ماثلة في كيفية تصدير الموت كسلعة تبور أمامها كل منتجات العقل واللغة ومخرجات الأمل.

توديع الثورة من قبل بعض الأحرار في العالم على طريقة التغيير الديموغرافي في الغوطة الدمشقية أقرب ما يكون إلى الاستسلام للميليشيات الإيرانية والشرطة الروسية وطائرات السوخوي 24 و25 و34 وقنابل زاب المحرقة وقنابل ك وقنابل أوداب وصواريخ 13SBS وضربات غاز السارين المعدل والهجوم الكيمياوي بالكلور المعالج بقصف البراميل المتفجرة.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب يلقي باللوم على إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في عدم حل الأزمة السورية في العام 2013 بعد الهجوم المروع بغاز السارين على الغوطة الدمشقية في تلك الضربة التجريبية لسياسة حافة الهاوية لاختبار مقياس الخط الأحمر لأوباما، والذي تراجعت من بعده الولايات المتحدة الأميركية عن دورها كدولة عظمى في الشرق الأوسط تاركة فراغاً نوعياً أدى إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، مقابل إغراق المنطقة بالفصائل الطائفية المسلحة وتمدد النفوذ الروسي كقوة دولية راعية للشرعية في أسوأ استخدام لشرعية سلطة كسلطة النظام الحاكم في سوريا. لقد أدت مهمات الإرهاب الإيراني وإرهاب تنظيم داعش إلى ما يشبه عملية بزل واسعة تسبق غرس التواجد الروسي كمبرر لإنهاء الأزمات، دون الالتفات للخسائر البشرية أو المادية أو تبعات القانون الدولي الذي تم ترويضه على تقبل الإحباطات والانتكاسات.

ثورة دامية وتاريخية كالثورة السورية أقرب إلى قصيدة راقية في تاريخ الثورات الإنسانيةثورة دامية وتاريخية كالثورة السورية أقرب إلى قصيدة راقية في تاريخ الثورات الإنسانية

الرئيس ترامب بدأ يطبق شعاره الانتخابي “أميركا أولا” على قرار سحب القوات الأميركية من الشمال السوري، كجزء من تخفيض الإنفاق بعد الانتهاء المفترض من مرحلة داعش ثم تراجع بعد توصيات كبار قادة البنتاغون بالإبقاء على تلك القوات لمرحلة زمنية قادمة.

ترامب قدم هدية غير متوقعة وغير مبررة للنظام السوري وللنظام الإيراني ولروسيا بما يعادل انسحاب الرئيس أوباما من تعهداته في معاقبة النظام السوري في حالة تماديه بارتكاب المجازر الكيمياوية ضد الشعب السوري.

ترامب برغبته في الانسحاب وتهديده المسبق بالرد الساحق تجاه أي هجوم كيميائي أعاد النظام السوري للتجريب مرة أخرى بحياة المئات في مدينة دوما، مستغلاً الظهير الروسي في الدفاع عن مكتسباته العسكرية والتفاوضية على الأرض، وفي مجلس الأمن لتعطيل أي قرار أو تنديد إجرائي من المجتمع الدولي، وبدعم الخارجية الروسية التي لم يعد لها سوى النفي والسخرية من الموت الجماعي للأبرياء، أو إصدار شهادة حسن الأخلاق للنظام السوري.

توقيتات جريمة الكيمياوي في دوما ترافقت مع الذكرى السنوية الأولى لمجزرة خان شيخون واستهداف مطار الشعيرات بالصواريخ الأميركية، وتأتي بعد يوم واحد من اجتماع مجلس الأمن لمناقشة تداعيات استمرار الهاجس الكيمياوي في الحرب السورية، وبعد تحذيرات استباقية متتالية من الجانب الروسي من احتمال توجيه اتهامات للنظام السوري بشن ضربات كيمياوية في مرافعة دفاع ساذجة.

الولايات المتحدة الأميركية استلبت دورها في العراق تحديدا عندما لوحت بهشاشة سياستها غير المستقرة على تصعيد لهجتها مع إيران واقتراب مراجعة الاتفاق النووي الموقع معها في 12 مايو، مع ما يرافق ذلك الموعد من تهديد إيراني برد غير متوقع إذا قرر الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق.

القرار المرتبك بالانسحاب الأميركي من سوريا فتح الأبواب الإيرانية بقوة للتصدي لتواجد القوات الأميركية على أرض العراق وبتشكيلات ميليشياوية استوعبت عناصر متطرفة حتى من تشكيلات داعش وتحت إشراف قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في صيد احترافي لمزاج الرئيس ترامب ومؤثراته في السياسة الأميركية، بما يعتبر هجوماً مضاداً ومبكراً لاستشعار رد الفعل تجاه المتغيرات الجوهرية في فريق الرئيس ترامب.

كان الإرهاب عموما، وتنظيم داعش خاصة، فرس الرهان لخلط الأوراق على الثورة السورية رغم أن المعارضة والفصائل المسلحة المعتدلة انتبهت إلى الشرخ الذي تسبب به الإرهاب وتوجهت لمحاربته في معارك متعددة لكنها لم تستطع، بحكم تواجد العديد من الفصائل بمرجعيات سياسية وعقائدية مختلفة، تنقية خطها الوطني العسكري.

كان بديل الثورة السورية في مواجهة الإرهاب هو القتال إلى جانب النظام، لكن أي نظام سوري يتقبل الانقلاب على نفسه وإرهابه لصياغة سوريا أخرى، وأي معارضة سياسية مسلحة يمكن أن تثق بنظام كالذي في دمشق بتاريخه المتفرد في القمع والاستئثار بالسلطة. أهم رافد استقى منه النظام السوري الاستبداد، كامن في معرفته بتورط المجتمع الدولي في دعم الانقلابات ضد بعض الأنظمة وما تخلف منها من فوضى غير مسبوقة، ولدرايته بعدم تلقي العقاب بما يتناسب وحجم الإبادات، إلا باحتمال انتصار الثورة السورية.

لكن مع إقحام الميليشيات المذهبية الخاضعة للمشروع الإيراني في الصراع واكتشاف روسيا لمنجم سوريا كمقايضة على المدى البعيد أو القريب بالعقوبات المفروضة عليها لضمها شبه جزيرة القرم، وملابسات علاقتها مع أوكرانيا وما يجري في بحر البلطيق، أصبح النظام السوري ربما لا يمثل نفسه إلا بما يتعلق بغروره وتعاليه في ذاكرة سلطة لم يتبق منها سوى أوهام حاكم إلى  الأبد. تحولت سوريا إلى جيوش من اللاجئين والنازحين والمشردين والأرامل والأيتام والمعوقين والقتلى، تماماً كما حدث في العراق، وذلك ما يسمح للنظام الحاكم في سوريا بالقول إن الاتهام الموجه إليه باستخدام السلاح الكيمياوي بالغوطة الشرقية إسطوانة مملة وغير مقنعة.

ذلك لأن الملل سلاح يعتمده محور الأنظمة في روسيا وإيران وسوريا، فهو السلاح الذي مهد تماما لتقبل المجتمع الدولي لوقع الجرائم ضد الإنسانية، وأعطى الانطباع أن القتلى الأبرياء من المدنيين هم مجرد عدد في عجلة الأمس تؤسس لواقع تجاذبات سياسية ترسي مصالح استخبارية أو اعتداد بكبرياء شخصي، يمكن أن يتحول إلى هجوم كيمياوي أو لغة تأديب مقابلة أو إهانة لم تعد تعني شيئا لنظام متوحش يخاطر باستقرار العالم.

لذلك نؤكد أن أي ضربة للنظام في سوريا، سواء كانت منفردة من الولايات المتحدة الأميركية أو بمشاركة فرنسية، تصب في النهاية في مصلحة النظام وإيران وروسيا إذا كانت النتائج غير حاسمة ولا تؤثر في حل العقدة السورية للضغط باتجاه إيجاد مسار للحل السياسي بفرض فترة انتقالية تؤسس لسوريا بنظام ديمقراطي لجميع السوريين.

ثورة دامية وتاريخية كالثورة السورية أقرب إلى قصيدة راقية في تاريخ الثورات الإنسانية؛ ثورة لن تُرثى أبداً وستحملها الأيام بنشوة غامرة إلى لحظة فارقة تستحق الذكر؛ أما الإبادات والرعب والموت فلا تعني بعد هذه التضحيات إلا بقدر ما تعني أسئلة المقاومة من الآمال فوق حطام الأجوبة المنهارة.

كاتب عراقي

العرب

 

 

 

 

 

كيماوي دوما إذ يشيع مناخ مواجهة دولية/ عبدالوهاب بدرخان

غداة الغارة الكيماوية التي شنّها نظام بشار الأسد على دُوما لم يتوقّف النقاش الدولي عند مصير المدينة وأهلها، لأن إنقاذهم فشل منذ تُرك الروس والإيرانيون والنظام ليتجاهلوا قراراً دولياً بوقف إطلاق النار. لم يكن «إنقاذ» الغوطة الشرقية وأهلها الهمّ الرئيسي للأطراف الخارجية على رغم أنها خاضت معركتها الديبلوماسية باسم «حماية المدنيين»، بل محاولة إثبات أن الضغط الدولي لا يزال قادراً على فرملة جنوح روسيا وحلفائها نحو الاستفراد بسورية وفرض إرادتها وحلولها على مستقبلها. ومع انحسام المعركة عسكرياً وتفكيك الغوطة قطعةً قطعةً، بتهجير السكان والمقاتلين، لم يكن متوقّعاً أن تُمنح دُوما وحدها وضعاً «تصالحياً» خاصاً، لكن المدافعين عن المدينة راهنوا على مرونة خادعة أبداها المفاوضون الروس، وحاولوا إقناع هؤلاء بأن أي صيغة تحافظ على السكان في موطنهم مفيدة لروسيا لتبرهن اختلافها عن الإيرانيين والنظام المهووسين بالتهجير تحقيقاً لتغيير ديموغرافي جذري في المنطقة.

كان ذلك أجمل من أن يُصدّق، فكل التجارب التي سبقت الاحتلال الروسي طُبّقت بعده وبمساهمته التي اتسمت أخيراً بالمباشرة على الأرض في الغوطة. لم يفكّر الروس يوماً خارج العلبة الإيرانية – الأسدية ولم يبلوروا أي ضمانات للسكان بعد اجتياح أرضهم وبيوتهم، ولم يشاؤوا أن يفهموا أن الفصائل المقاتلة نشأت أساساً بعدما ارتسم الخيار بين أن يُقَتَّل الناس على أيدي النظام وميليشياته أو يُقتّلوا فيما يحاول أبناؤهم الدفاع عنهم، بالتالي فإن قتل الأبناء أو إجبارهم على الانسحاب يعني رفع أي نوع من الحماية للمدنيين وجعل مناطقهم حقولَ موتٍ وإذلالٍ تصول فيها جرائم الأسديين والإيرانيين بلا حسيب أو رقيب. كل ما فكّر فيه الروس هو استعادة السيطرة، كما يفهمونها وكما يريدها حلفاؤهم، أي بجعل المناطق أرضاً محروقة أو مهجورة تماماً، وفرض حال اللاأمن واللاأمان لإجبار السكان على الخروج منها مجرّدين حتى من «حقّ العودة» إليها.

لماذا استُخدم السلاح الكيماوي طالما أن الروس كانوا في تفاوض لم ينقطع مع فصيل «جيش الإسلام»، وطالما أن هذا الفصيل أقرّ بالهزيمة وأراد فقط تأمين وضع يُبقي السكان في المدينة؟ لم يرغب الروس أصلاً في توفير ضمانات وفاوضوا فقط لإنهاء الوضع القتالي غير مبالين بما بعده، ثم إن وجودهم الرمزي على الأرض يحول دون تنفيذ أي ضمانات حتى لو كانت محدودة وبموافقة النظام، بدليل ما حصل في المدن والبلدات والمزارع التي استعيدت وشنّت عليها ميليشيات «قوات النظام» غزوات نهب و «تعفيش» موثّقة بكاميرات الضباط من دون أن يقلقها وجود مراقبين روس أو «شرطة روسية». لذلك، كان الهدف من القصف بالغازات السامة كسر ثبات مفاوضي دُوما وتحميلهم مسؤولية الموت الجماعي لمواطنيهم.

كان هذا السلاح حاسماً في تحقيق ذلك الهدف، ويمثّل استخدامه القرار الأول والجريمة الأولى لفلاديمير بوتين في ولايته الرابعة، بل التحدّي الأول بوضعه الولايات المتحدة وحلفائها في اختبار تهديداتهم بالردّ عليه. لا أحدّ يشكّ في أن الضرب بالكيماوي حصل من دون علمه أو أن نظام الأسد أقدم عليه بدفع من الإيرانيين من دون موافقة روسيا وتحديداً رئيسها. فالأرجح أنه هو مَن أمر بضربة كهذه ليستخدمها في مواجهاته الدولية وليس لأنه مهمومٌ بمعركة الغوطة أو مجريات التفاوض مع دُوما. قبل عام تجاوز بوتين تداعيات الواقعة الكيماوية في خان شيخون وتحدّي القصف الأميركي لمطار الشعيرات، فمن جهته كان يريد إعطاء دونالد ترامب فترة سماح في انتظار ما لديه من سياسات، ومن جهتهم كان الأميركيون يعتقدون بإمكان العمل معه في سورية، وقد اتضح الآن أن ما حافظ عليه الطرفان كان مجرّد وهم، إذ تضاءلت احتمالات التوافق بينهما، ودخل «الصقور» إلى البيت الأبيض، فقذف بوتين بجثث أطفال دُوما إلى المكتب البيضاوي لإحراج مَن فيه والتعرّف إلى ردودهم وخياراتهم.

إذا كان الأميركيون يريدون الردّ على جريمة استخدام السلاح الكيماوي فحسب فإن الأمر لا يقلق بوتين، لأنه يعلم جيداً أن لا موسكو ولا واشنطن تقدمان على أي عمل عسكري احتراماً للقانون الدولي، أو لاعتبارات إنسانية فحسب. وإذا كانت الولايات المتحدة تتهم روسيا بتعطيل مجلس الأمن الدولي ففي إمكان بوتين أن يقول في الأقل أن الدولتين متساويتان في هذا التعطيل، سواء في سورية أو في فلسطين، وتكفي النظرة إلى وقائع الحاضر المحتقن من دون العودة إلى التاريخ الحافل. فهذا الـ «فيتو» الأميركي المسبق ضدّ إدانة القتل الإسرائيلي المتعمّد للفلسطينيين، ثم الـ «فيتو» الآخر ضد التحقيق في جريمة تُنفّذ بناء على قرار رسمي أعلنته حكومة الاحتلال الإسرائيلي مسبقاً بهدف كسر أي مقاومة سلمية وغير مسلّحة. في المقابل، تلاحقت الـ «فيتوات» الروسية لإحباط أي إدانة للنظام السوري على جرائمه متعدّدة أسلوب الوحشية، وقد توّجتها موسكو بعدم الاعتراف بنتائج أي تحقيق أممي وصولاً إلى عرقلة وحتى إلغاء أي تحقيق في استخدام السلاح الكيماوي.

هذه «الفيتوات» وجّهت وتوجّه رسائل بالغة الوضوح بوجوب نسيان شيء اسمه «القانون الإنساني الدولي»، إذ قالت وتقول للسوريين أن استغاثاتهم ونداءاتهم لحمايتهم لم تُلبَّ حين تعرّضوا لعنف النظام وحده وبعدما جاء الإيرانيون والروس يشاركونه البطش والوحشية. قالت أيضاً أن جرائم السلاح الكيماوي وقنابل النابالم والبراميل تُعالج بـ «تسويات» بين الدول من دون معاقبات المجرمين، لأن هذه الدول هي التي تحمي أولئك المجرمين من أي مساءلة أو محاسبة. لذلك، باتت سلبية النظام الدولي ومجلس الأمن أداة لـ «تشريع» جرائم نظام بشار الأسد وتحصينه وأسلحته من أي حظر أو عقوبة… وقالت تلك الرسائل وتقول أيضاً للفلسطينيين أنهم مستثنون من أي حق في حماية دولية ومن أي حق في الدفاع عن أنفسهم أو في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم ووجودهم، لأن نظام بنيامين نتانياهو يتمتّع بـ «شرعية» القوّة المفرطة والقتل… أي أن العنف الاستبدادي في الحالَين السورية والإسرائيلية بات من ثوابت النظام الدولي وتوافقاته.

وحين تقول واشنطن أنها تحمّل روسيا «مسؤولية» سقوط قتلى بقنابل الغاز في دوما، وتدعو المجتمع الدولي إلى التحرّك، فإنها تبلغ موسكو أنها تستطيع أن تتعايش مع استخدام غاز الكلور، فهو مصنَّف «سلاحاً غير فتّاك» ولا يؤدّي إلى موت عشرات بل مئات الضحايا اختناقاً. وحين تردّ موسكو بنفي استخدام النظام السوري الغازات، فإنها تبدو كأنها تطمئن واشنطن إلى أنها والأسد لم يتجاوزا السلاح المتوافق عليه. إذاً، فقد بلغت انتهازية المساومات بين الدول حد التمييز بين قتل وقتل، بين الخنق والفتك، بين موت بالقصف المباشر وموت في الملاجئ تحت ركام الأبنية، ولم تعد مهتمّة بإظهار الفارق اللازم والضروري بين أن ينتصر «عنف الدولة» وأن ينتصر «عنف الإرهاب»، إذ يصرّ بوتين على أنه حارب الإرهاب من أجل أن يعيد الشعب السوري إلى حكم الأسد، ولا يرى مشكلة في إرهاب الأسد ونظامه. أما دونالد ترامب فجعل من القضاء على الارهاب هدفه الأول إلى حدّ تدمير تسعين في المئة من الموصل والرقّة، وبما أنه لا يرى مشكلة في إرهاب إسرائيل فقد تبنّى معظم شروطها لصوغ «صفقة القرن» ومع ذلك لا يزال نظام نتانياهو يرفض أي تسوية تعيد إلى الفلسطينيين بعضاً من حقوقهم، تماماً كما يرفض نظام الأسد أي تسوية تصون للسوريين بعضاً من حقوقهم، فكلاهما يعارض بشدّة «حق العودة» لمن هُجّروا من مواطنهم.

شاركت روسيا النظام للمرّة الأولى في «اتهام» إسرائيل بالإغارة على مطار تيفور قطعاً لأي تردّد أميركي، وشكّل استهداف هذا المطار إشارة إلى أنه بات موقعاً إيرانياً خاصّاً وأن منظومة صواريخ مضادة للصواريخ جرى تفعيلها فيه أخيراً. وضعت موسكو على الطاولة احتمال المواجهة الدولية، فمعاركها المقبلة ستركّز على أمرَين، أولهما كل الأطراف المتدخلة من موافقة نظام الأسد، بما فيها تركيا (من عفرين، بحسب سيرغي لافروف)، والآخر ترجمة الحسم العسكري بحل يُبقي الوضع السياسي على حاله مع بعض التنقيح.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

هل توقف ضربة أميركية – فرنسية لسورية وحشية نظامها؟/ رندة تقي الدين

فظاعة منظر ضحايا الهجمات الكيماوية في سورية التي يرتكبها النظام جعلت الرئيس دونالد ترامب يصف بشار الأسد وصفاً مقذعاً، ويتلقى من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتصالين خلال ٤٨ ساعة لتنسيق المواقف إزاء الهجوم الوحشي الكيماوي على دوما الذي أدى إلى سقوط أكثر من ٥٠ قتيلاً من بينهم عدد كبير من الأطفال. هذا الهجوم الوحشي سيكون في صلب المحادثات التي يجريها الرئيس الفرنسي مع ضيفه السعودي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في الإليزيه، الذي سيعطيه صورة مفصلة عما تقوم به إيران في المنطقة بأسرها، من سورية إلى اليمن إلى العراق، وتزويدها الأسلحة القاتلة والمسمة إلى النظام السوري والحوثيين و «حزب الله».

الجهود التي قامت بها فرنسا لدفع مفاوضات للمرحلة الانتقالية في سورية فشلت كلها بسبب تعنت روسيا التي تريد حلاً يبقي بشار الأسد على رغم تمزيقه سورية وتدميرها. والانطباع العام الذي يحب الجانب الروسي إعلانه ويتباهى به بشار الأسد هو أن النظام السوري انتصر واستعاد المناطق التي كان خسرها، في حين أنه يستعيد مدناً مدمرة وبلداً بلغ النازحون فيه الملايين ولن يعودوا. وتتوسع مطامع تركيا في سورية مع تخلي الأميركيين عن الدعم الحقيقي للأكراد. أما إيران فتتركز في سورية في شكل يهدد حتى روسيا نفسها التي ما زالت تحتاج إلى حلفها مع طهران في هذه المرحلة.

ماكرون أعلن باسم فرنسا أكثر من مرة أن استخدام النظام السلاح الكيماوي في سورية خط أحمر، وإذا تجاوزه سيتم ضرب القواعد التي اطلق منها الكيماوي. وفي واقع الحال أن الكل مدرك أن بشار الأسد تجاوز الخط الأحمر في الوحشية ولن يوقفه العالم الغربي حتى بضربات محددة على مواقع وقواعد عسكرية، لأنه محمي من ديكتاتوريي روسيا وإيران اللتين لا تباليان برأيهما العام وما إذا كان شعباهما يوافقان أم لا على التدخل العسكري في سورية، فمثلاً هناك جدل في إيران على الصعيد الشعبي حول جدوى التدخّل العسكري في سورية وصرف المبالغ الهائلة لتمويل «حزب الله» ومقاتليه في لبنان، لكن النظام لا يهمه معارضة شعبه إزاء الموضوع. وروسيا استفادت من تدخّلها في سورية باعتراف العالم بأن الرئيس بوتين هو مفتاح الحل، لأن الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، لم يعد مستعداً بعد كارثة حرب العراق للتدخل العسكري المباشر. وترامب لن يغير رأيه، على ما غرّد بأنه يريد مغادرة القوات الأميركية سورية، فهو مستعد لضرب «الحيوان» لمعاقبته ولكنها ضربة محددة الهدف لموقع بعينه. والدول الديموقراطية أضعف في التصدي لوحشية النظام السوري بعد فشلها الذريع بعد قلب نظام صدام حسين في العراق والقذافي في ليبيا.

أصبحت هذه الدول حذرة جداً من إرسال قوات أو القيام بضربات لقلب النظام وإن كان هذا النظام يهجّر جزءاً كبيراً من شعبه إلى دول الجوار وأوروبا وغيرها، ويشكل مشكلة كبرى من لاجئين صاروا عبئاً على دول الجوار بما يرتّب على الأسرة الدولية جزءاً من المسؤولية.

ولسوء الحظ أصبح الحل الوحيد في يد القيادة الروسية التي لا تتردد من إبقاء قواتها في سورية طالما سلّمها الأسد مفتاح بلده. واللافت أن القيادات الثلاث الروسية والسورية والإيرانية تتسابق في نفي استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي في حين أن كل الصور تؤكد ذلك. فإذا ضربت الولايات المتحدة وفرنسا قواعد عسكرية لسورية لن يرتدع النظام من الاستمرار مع الدعم الإيراني والروسي في تخريب البلد والمنطقة.،

الحل هو في التوصّل إلى توافق أميركي- روسي على وضع جديد في سورية يضمن انتقالاً من دون الأسد، ولكن، لا أحد يثق بالسياسة الأميركية لأنها منحازة كلياً لما تريد إسرائيل التي حرصت دائماً على حماية حكم آل الأسد، وهذا لا يدفع إلى التفاؤل بمستقبل سورية، لأن الحل معضلة والديموقراطيات لن تتدخّل عسكرياً للتصدي لإيران وروسيا، والهيمنة ستبقى للقوة على الأرض من دون حل نهائي.

الحياة

 

 

 

صواريخ ذكية ورؤساء أغبياء؟

تبرّع بعض محترفي القول السياسي إلى صوغ تخريجات لإنكار حصول مجزرة الكيميائي الأخيرة في الغوطة، أو لوضعها في سياق مؤامراتي معقد ينكر مسؤولية النظام السوري ورئيسه بشار الأسد ويحمّله لآخرين (من قبيل أن الضحايا هم من قصفوا أنفسهم)، أو يعزوه إلى خلافات بين الدول الداعمة للمعارضة السورية، بينما استنكر البعض الآخر الاهتمام الإنساني أو الأخلاقي بالضحايا باعتبارهم إرهابيين لا تجوز عليهم الرحمة، واستشاط البعض الآخر، الأكثر وضوحا وصراحة، غضبا لأن الضربة لم تقتل عددا كافيا من أولئك الرجعيين من الأطفال والنساء والكهول.

إحدى تلك التخريجات لخّصها سؤال: ماذا يستفيد الأسد من قصف منطقة كانت في حكم الساقطة عسكرياً، وهو سؤال يصحّ لو أن الرئيس السوري ليس مسؤولا بالأصل عن حرب طاحنة أوقعت مئات آلاف القتلى، وأكثر منهم من الجرحى والمعاقين، وأكثر من 11 مليون نازح ومهجر، وخسائر مهولة في البنى التحتية تقدر بـ 300 مليار دولار، واحتلال معلن لبلاده من قبل عشرات الدول والجيوش. هذا السؤال «الذكي» لا يُسأل لرئيس من هذا النوع.

حصل أمر مناظر حين طرحت أجهزة إعلام وكتاب من مختلف المشارب أسئلة شبيهة بالسؤال السابق بصيغة: ما الفائدة التي سيجنيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من محاولة اغتيال الجاسوس المنشق سيرغي سكريبال وابنته يوليا بغاز الأعصاب (نوفيتشوك) وهي طريقة تصيح بأعلى الصوت أن مخابراته هي التي نفّذت العملية. يتجاهل السؤال طبيعة عمل الدولة الروسية وطريقة تفكير رئيسها، القادم هو أيضا من جهاز الاستخبارات، والتي يشرحها تاريخ طويل يمتد من الشيشان وجورجيا إلى أوكرانيا وسوريا.

ضمن هذا الموضوع يمكن إدراج مجموعة من أفعال وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان آخرها تغريدته التي قال فيها «إن روسيا تتعهد بإسقاط كل الصواريخ التي ستطلق على سوريا. استعدي يا روسيا، لأن الصواريخ قادمة، وهي صواريخ ظريفة وجديدة و«ذكية». لا يجب أن تكونوا شركاء لحيوان مجرم يقتل شعبه ويتمتع بذلك!».

يأتي هذا التصريح بعد فترة غير طويلة من إطلاق ترامب نفسه تصريحا بأن قواته ستنسحب «فوراً» من سوريا، وبين تصريح الانسحاب الفوري و«الصواريخ قادمة استعدي يا روسيا» مسافة ضوئية لا يمكن أن يعبرها بهذه الفترة القصيرة إلا رئيس من طراز ترامب.

يعلن تصريح ترامب الأخير عن طبيعة وحدود ما ستفعله قوات جيشه في سوريا في مخالفة لمنطق العمليات العسكرية، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع الأمريكية للقول إنها «لن تعلق على أي عمل مستقبلي ستقوم به»، وهو أمر يشبه الزجر المبطن لرئيس لا يريد أن يكف عن الطيش.

طريقة ترامب في الحديث عن «الصواريخ الذكية» إلى كونها متنفجة وطفولية وخرقاء فهي لا تحمل دليلا كبيرا على ذكاء قائلها يعطي معنى لوجوده على رأس أخطر منصب في العالم.

المعارضون للنظام السوري مستبشرون لأن «الضربة» المتوقعة ستكون صفعة لرأس النظام المجرم، لكنّ حسابات الأمريكيين، ما بعد الضربة المحتملة، لا تتطابق، بالتأكيد، مع مصالح أولئك المعارضين، وقد سارعت الخارجية الأمريكية للرد على معلومات تحدثت ان المعارضة تستعد للاستفادة لاستعادة ما خسرته من أراض بالقول إنها «ملتزمة بمسار جنيف، والجهود الدبلوماسية لإنهاء الصراع، وتفادي العنف الخ..».، وبالتالي فإن بناء أحلام وتوقعات كبيرة على عمل عسكري يستخدم «الصواريخ الذكية» أمر غير محمود وغير «ذكي» بالتأكيد.

الفائدة التي يمكن جنيها من الضربة المحتملة هي زعزعة شرعيّة الأسد بفعل أول عمل عسكري تتشارك فيه دول غربية وعربية ضده، وهو أمر يمكن البناء عليه والاستثمار فيه ضمن آليات النظم والشرع الدولية… إلا إذا غيّر ترامب رأيه من جديد وقرّر الانسحاب «فورا».

القدس العربي

 

 

 

قصة ضربة أميركية مُعلنة/ محمود اللبابيدي

مع تأخر الضربة الأميركية/الغربية، المُعلن عنها، ضد نظام الأسد لاقترافه جرائم إبادة باستخدام الأسلحة الكيماوية، تظهر احتمالات أوسع لإمكانية حدوث صفقة مع روسيا حول الموضوع السوري. وفي الوقت الذي يتعذر فيه توقع ماهية الاشتراطات والمطالب الأميركية/الغربية، وقابلية روسيا للوفاء بها، إن قبلتها، فإن الضربة إن حدثت، هي إعلان فشل للتفاوض، أو محاولة لتحسين شروطه.

قنوات التواصل بين روسيا والغرب، تبدو محصورة بإسرائيل وتركيا والأردن، التي تشترط، كل على حدة، تحقيق أهدافها في سوريا، للتوسط. روسيا كانت قد فشلت في ضمان تعهداتها السابقة بخصوص جميع مناطق “خفض التصعيد”، لا بل حوّلت بعضها لأهم نقاط النزاع. إنهاء جيب المُعارضة الأخير في غوطة دمشق الشرقية، بعد حملة عسكرية بربرية، قادتها مليشيات النظام وإيران، بغطاء جوي روسي، لم تكن سوى أخر حلقة في نهج حلفاء النظام بعزل واحتلال مناطق المعارضة، تباعاً، رغم الاتفاقات الدولية السابقة حولها.

الحاجة لاستخدام الكيماوي بغرض تركيع “جيش الإسلام” واجباره على قبول “التهجير القسري” من الغوطة الشرقية، رغم امكانية التوصل إلى اتفاق مماثل بوسائل قتال تقليدية، تبقى لغزاً. استخدام النظام للسلاح الكيماوي، قد يكون لفرض معادلة جديدة على الروس، وإثبات نفسه كصاحب القول الفصل، عبر ضمان استمرارية اللعب على تناقضات حليفيه الروسي والإيراني. إلا أن التحذيرات الروسية السابقة على هجوم دوما، بتحضير المعارضة لهجمة كيماوية وإلقاء اللوم فيها على النظام، يجعل من هذا الاحتمال ضعيفاً، إلا إذا كان الروس غير قادرين على ضبط سلوك النظام رغم توقعهم حدوثه. ومع ذلك، يبدو الاحتمال ضعيفاً.

الفرضية الأكثر انسجاماً، تقول بإن روسيا وإيران والنظام، نفذوا العملية، بغرض اختبار حدود النظام العالمي من جديد. من تجاربهم السابقة، مرّ قصف الغوطة الشرقية بالسارين، في آب/أغسطس 2013، بخسارة لا تذكر. الصفقة الأميركية-الروسية، في عهد الرئيس باراك أوباما، سحبت بعض مخزون الأسد الكيماوي، وتغاضت عن بقائه، في حين أمسكت روسيا بشكل نهائي بمستقبل سوريا والأسد. ضربة خان شيخون الكيماوية، في نيسان/إبريل 2017، استدعت هجوماً أميركيا محدوداً، كرمي حجر في بركة راكدة.

لا يمكن قراءة الغضب العالمي من مجزرة دوما، من دون ربطها بمحاولة تسميم العميل الروسي المزدوج وابنته في بريطانيا، وتدخل روسيا بالانتخابات الأميركية وغيرها، والتحقيق الأميركي الداخلي في تواطؤ محتمل بين حملة الرئيس ترامب وروسيا. الأمر ذاته، ينطبق على صواريخ الحوثيين المنهمرة على السعودية، والتهديدات الإيرانية المتواصلة لإسرائيل والمملكة السعودية. زيارة مستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي، الأربعاء، إلى الغوطة الشرقية، وإعلان انتصار المحور الإيراني من هناك، على خرائب دوما، هو جزء من التصعيد الإيراني المتواصل ضد المنطقة. مطالبة إيران المتواصلة لتركيا بإعادة عفرين إلى النظام، والتعزيزات العسكرية الإيرانية في الجنوب السوري، هو اختبار متواصل من إيران، لإعادة التفاوض بخصوص كل الاتفاقات السابقة، مراراً وتكراراً، وهو الأمر الذي ترفضه طهران في حالة تفاوض الغرب معها حول ملفها النووي.

روسيا وإيران، وعميلهما السوري، ما زالتا يختبرون حدود النظام العالمي، بأعمال مزعزعة للقيم الليبرالية والمنظومة الدولية. عدم الرد الغربي على هذه الاختراقات المتواصلة، هو تشجيع لكوريا الشمالية والصين، أيضاً، على ممارسة المسالك ذاتها، وسط توقعهم عدم الرد الجدي.

الرهان على الضربة الأميركية بات متصاعداً، والمؤشرات العملية على قرب حدوثها مبهرة. نقل المعدات العسكرية المهمة، بما فيها مخزون الكيماوي السوري، إلى مواقع تحت حماية روسية، ونقل أهم قيادات النظام إلى مواقع محمية، وربما إلى إيران. ربما لم يتوقع حلفاء النظام ردة الفعل هذه. فترامب غارق في مشاكله المحلية، وغير راغب بمواجهة مع روسيا في ظل تصريحاته السابقة عن اقتراب موعد انسحاب قواته من سوريا. إلا أن وجهاً آخر للمسألة، قد يحل بعض الغموض فيها. الضربة قادمة في حال تعذرت الصفقة. الضربة الأميركية/الغربية، ستكون كبيرة جداً، إذا ما تمت، وستجعل من بشار الأسد، صدام حسين آخر بعد حرب الخليج الثانية. معزول كلياً، يحكم بشكل محدود، يعتمد كلياً على مساعدات النفط مقابل الغذاء. هذا السيناريو بحد ذاته، مرعب للروس والإيرانيين، الذين يريدون حلّ جزء من مشاكلهم الداخلية بإعادة انعاش نظام الأسد، والاستفادة من برامج إعادة الإعمار الدولية، القادمة لا محالة.

التلاعب الذي يقوم به ترامب، في “تويتر”، بالنفي والتأكيد، التهديد والمغازلة، تحميل مسؤولية سوء العلاقات مع روسيا للديموقراطيين وتحقيق مولر، يرسل إشارات متناقضة. والمؤكد هنا، أن تفاوضاً بين الروس والأميركيين، عبر الوسطاء، قائم على قدم وساق. وإلى جانب الكيماوي، يبدو الوجود الإيراني في سوريا، على رأس بنود التفاوض، في حين أن مصير الأسد قد لا يبدو ملحاً إلا إعلامياً.

إسرائيل كانت قد أعلنت أنها ستقلب نظام الأسد، إذا ما تعرضت لهجوم إيراني، وأكد نتنياهو لبوتين أن بلاده لن تقبل وجوداً إيرانياً في سوريا، لا بل وتسللت مقاتلاتها بعد ليلة الكيماوي، لتقصف قاعدة إيرانية في سوريا.

تغريدات ترامب المتناقضة في “تويتر”، ليست خروجاً عن طريقته العامة في التعامل مع ملفات داخلية وخارجية. الخميس، قال بعدما استيقظ، إن “الضربة قد تكون قريبة جداً، وقد لا تكون”. في حين تركزت تغريداته الصباحية على مواضيع محلية، وصراعاته الداخلية مع الإعلام الأميركي. الأمر ذاته كان قد حدث بعد تصعيد مرعب مع كوريا الشمالية، وكاد أن يُشعل حرباً نووية.

وفي حين تذهب قراءات بعض المحللين إلى توقع حرب عالمية ثالثة، يبدو أن الأكثر احتمالاً، هو زيادة الضغط الغربي على موسكو لدفعها إلى عقد صفقة مُلزمة، قد تخدمها أيضاً. التخلص من شريكها الإيراني، ودفع النظام إلى تقديم تنازلات سياسية. التصعيد الغربي رافقته عقوبات على روسيا، مسّت بمصالح أوليغارشيا رجال الأعمال الحاكمة، وجعلتها تخسر قرابة 12 مليار دولار خلال ساعات. انهيار قيمة التومان الإيراني، والليرة السورية، والروبل الروسي، في لحظات ما قبل الضربة، هي مؤشرات على تزاوج أكثر من وسيلة للتصعيد، قبل الوصول إلى حائط مسدود، تصبح فيه الغارات ضرورة حتمية.

التصعيد العالمي، المنقول مباشرة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، يبدو أشبه بقصة هجوم معلن، الكل بات يعلم تفاصيله العمومية، ويشاهده كما في برامج الواقع. المشكلة الوحيدة، أن هذا الواقع المنقول مباشرة، بات لا يشبه الواقع أبداً. وحدهم أولئك الذين حاولوا صعود الدرج بحثاً عن الهواء، بعدما تسلل الغاز السام إلى قبوهم في دوما، من أدركوا، أن هذا العالم لن يسمح لهم بالتنفس مرة أخرى، ولا متابعة هذا “العرض الكبير”.

 

المدن

 

 

كيف يستعد النظام وحلفاؤه لمواجهة الضربة الأميركية؟/ رائد الصالحاني

تشهد القيادة العسكرية الثلاثية؛ السورية والإيرانية والروسية، في العاصمة دمشق، تخبطاً على الصعيدين السياسي والعسكري، تزامناً مع التصريحات الدولية باقتراب استهداف النظام بعد استخدامه السلاح الكيماوي في مدينة دوما، آخر معقل للمعارضة السورية المُسلحة في ريف دمشق.

الروس والإيرانيون استبقوا نية الغرب شنّ ضربات عسكرية موسعة، تستهدف مواقع النظام السوري، وبدأوا عمليات إخلاء سريعة ومنظمة لمحتويات وعناصر عشرات المواقع العسكرية في محيط العاصمة السورية.

مصدر خاص، قال لـ”المدن”، إن طائرة أقلعت من مطار دمشق، فجر الخميس، باتجاه طهران، وعلى متنها شخصيات عسكرية وأمنية سورية مهمة.

وأمر الروس بإخلاء عدد من النقاط العسكرية وأماكن التمركز ومستودعات الذخائر الموجودة في محيط الغوطة الشرقية، والتي كان لها الدور الأبرز في الهجمات الكيماوية خلال الحملة الأخيرة للمليشيات ضد المعارضة في الشيفونية وحمورية وسقبا ودوما وحرستا.

وشملت عمليات الإخلاء في محيط الغوطة قسماً من “الفوج 41″ القريب من ضاحية الأسد، والذي يُعتبر مركز قصف مهم ونقطة لتجميع العناصر ومقر استطلاع ومراقبة لسير المعارك. كما أخلى الروس محيط محطة تشرين الحرارية التي تحوي نقاط مراقبة وتجميع للقوات الروسية، وهي بوابة البادية السورية من جهة مطار دمشق الدولي.

ونقلت الميليشيات الإيرانية أغلب مستودعات الذخائر والأسلحة من المقرات العسكرية الموجودة داخل مطار دمشق الدولي وفي محيطه إلى منطقة السيدة زينب ضمن أقبية وأماكن في العمق السكني لتجنيبها الضربات المُحتملة.

مصادر خاصة أكدت لـ”المدن” انسحاب المئات من مقاتلي مليشيا “حزب الله” المنتشرين في محيط دمشق والقلمون الغربي نحو الأراضي اللبنانية، من خلال المعابر الشرعية وغير الشرعية، المخصصة لمقاتلي الحزب. ونقلت المليشيا بعض المستودعات إلى إنفاق وغرف تحت الأرض، في سلسلة جبال القلمون التي يسيطر عليها “حزب الله” منذ وقت طويل.

وفي سفح جبل قاسيون المطل على العاصمة، وحيث تتواجد عشرات القطع العسكرية التابعة لـ”الحرس الجمهوري”، ومستودعات أسلحة نوعية وذخائر كبيرة، أجريت عمليات إخلاء خلال الأيام الماضية لمستودعات تم نقلها إلى ثكنات أخرى “غير مقاتلة”، مثل ثكنة الدريج التي يتم فيها تجميع مقاتلي الإحتياط.

مصادر “المدن” أكدت إخلاء “مركز البحوث العلمية” في بلدة جمرايا، بشكل جزئي، إلى مكان مجهول.

مصادر إعلامية متقاطعة أكدت نقل الروس عشرات الطائرات من المطارات المحيطة بدمشق؛ السين والضمير وخلخلة، نحو قاعدة حميميم العسكرية الروسية، خاصة الطائرات الحديثة منها، والتي شاركت مؤخراً في العمليات العسكرية التي استهدفت الغوطة الشرقية.

مصادر عسكرية رفيعة المستوى، أكدت لـ”المدن”، أن اجتماعات يومية تجري على مستويات عالية، في مبنى الأركان، في غرف تحت أرضية، لبحث آلية تجنب الضربات العسكرية والعمل على تقليل نسبة الضرر الحاصل منها إن حصلت.

ومن الشخصيات التي تحضر تلك الاجتماعات اليومية رئيس إدارة “الاستخبارات الجوية” اللواء جميل الحسن، ورئيس مكتب “الأمن الوطني” اللواء علي مملوك، بالإضافة إلى كبار ضباط “الحرس الجمهوري” و”الفرقة الرابعة” وعدد من الجنرالات الروس والإيرانيين.

وأصدر الروس أوامر لكبار الضباط، في المواقع العسكرية التي تم إخلاؤها، بعدم المبيت ضمن تلك المواقع، والخروج منها قبل حلول الليل، وإيقاف الجولات التفتيشية الروسية للمواقع العسكرية مؤقتاً، وسحب كبار الضباط الروس للإقامة في مواقع سكنية بحتة داخل دمشق، بحسب ما قاله مصدر عسكري، في تصريح “غير رسمي” لـ”المدن”، وأضاف: “من المتوقع أن تكون سلسلة الأهداف كبيرة وضمن أماكن غير متوقعة، لذلك تم رفع الجهوزية بالتنسيق مع الروس والإيرانيين، واتخاذ كافة التدابير اللازمة لتقليل الخسائر المُحتملة من تلك الضربة”.

وبدأت أجهزة المخابرات السورية والمليشيات الموالية التي تفرض سيطرتها على أكثر من 250 حاجزاً أمنياً وعسكرياً داخل دمشق وفي محيطها القريب، بتعزيز الحواجز بسلاح فردي وخفيف ومتوسط، وزيادة عدد العناصر، وتعيين ضباط جُدد ليكونوا مسؤولين عنها. اجراءات قد تكون نوعاً من التحضيرات الظاهرية لطمأنة موالي النظام.

مصادر خاصة أكدت لـ”المدن” أن معظم قيادات المجموعات التابعة لـ”كتائب البعث” و”الدفاع الوطني” و”اللجان الشعبية”، جمعت عناصرها ضمن مناطق سيطرتها، وأعلنت النفير العام لصد “الغزو الخارجي على سوريا”، كنوع من التحريض ورفع المعنويات لدى المليشيات التي تُعتبر قوام القوات المُقاتلة على الأرض.

ولم تشهد مدينة دمشق على الصعيد الشعبي أي تحضيرات لتلك الضربة، خلافاً لما جرى في العام 2013 بعد التهديدات الأميركية باستهداف سوريا إثر مجزرة الكيماوي في الغوطة والتي راح ضحيتها أكثر من 1400 مدني وعسكري من المعارضة. حينها شهدت دمشق حركة نزوح كبيرة باتجاه بيروت عبر الحدود البرية، وشهدت الأفران أزمة بشرية خانقة وكذلك الأسواق وبدأت البضائع تنفذ بشكل حقيقي. تلك الظواهر لم تسجل هذه الأيام. أحد تجار الأغذية في سوق باب سريجة، قال لـ”المدن”، إن “المدنيين باتوا يعرفون قواعد الحرب تماماً، وأن تلك التصريحات يمكن أن لا تتجاوز الجانب الإعلامي، وإن تجاوزته ستكون بعيدة كل البعد عن المناطق المدنية والسكنية، ولن تؤثر بشكل مباشر على حياة المدنيين اليومية أو الدوائر الرسمية والأسواق، وأن الشعب بات يعرف تماماً أن الاضطرابات الداخلية تكون في هذه الأوقات من أجل التحكم بالسوق ورفع الأسعار مع بدء نفاذ البضائع”.

وكان مفترضاً أن تشهد الحركة الاقتصادية في الأسواق المحلية، وسعر صرف الدولار، تحسناً ملحوظاً بعد انتهاء النظام وحلفائه من ملف الغوطة الشرقية، لكن تداعيات الهجوم الكيماوي زادت من جمود السوق، وانخفضت عمليات الاستيراد والتصدير، وتراجعت حركة السوق السوداء. سعر صرف الدولار الأميركي عاود الارتفاع ووصل إلى قرابة 475 ليرة سورية، بعدما قارب 400 ليرة سورية منتصف آذار/مارس.

المدن

 

 

 

وسقطت دوما../ عمار حمو

غادر قادة “جيش الإسلام” مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية، ليل الأربعاء/الخميس، إلى مدينة جرابلس في ريف حلب الشمالي، بعد ساعات من دخول وفد النظام برفقة الشرطة العسكرية الروسية في جولة تفقدية للمدينة، التي سقطت بيد النظام وحلفائه بعد 5 سنوات من الحصار والقصف والمجازر.

وقال ناشطون إن قادة من الصف الأول في “جيش الإسلام” غادروا دوما على متن سيارات دفع رباعي. مصدر مقرب من “جيش الإسلام”، قال لـ”المدن”، إن 40 سيارة دفع رباعي تجهزت لنقل القادة إلى الشمال السوري. في حين أشار مصدر آخر إلى أن القافلة ضمت 5 سيارات فقط أقلت قادة “الجيش” وكان برفقتهم سيارات أخرى تابعة لـ”الأمم المتحدة”.

وكان قادة آخرون قد غادروا المدينة في القوافل الأولى التي خرجت. مصادر قالت لـ”المدن” إن دخول وفد النظام وخروج قادة “جيش الإسلام”، هو خروج مدينة دوما رسمياً عن سيطرة ثوارها، رغم عدم انتهاء عمليات “التهجير القسري” المتفق عليها، ووجود عناصر لـ”جيش الإسلام” في المدينة. وتجمهر مدنيون من أهالي دوما أمام وفد النظام ورفعوا أعلام النظام وهتفوا له.

المعارضة كانت قد حررت مدينة دوما في أواخر العام 2012، لتفرض عليها قوات النظام حصاراً خانقاً من حينه، وكانت ذروة الحصار الأولى في العام 2014، وعاد الحصار إلى ذروته في العام 2017 بعد تفجير النظام للأنفاق الواصلة إلى الغوطة وإغلاق معبر مخيم الوافدين “الوحيد”، وتقدمه على أحياء دمشقية كالقابون وبرزة وتشرين. أهل دوما، والغوطة الشرقية عموماً، رفضوا الخضوع لسلطة الأسد، وفضلوا عليها الحصار والتجويع ومنع المواد الأساسية من دخول المدينة، بما في ذلك الأغذية والأدوية والماء الصالح للشرب، وسط هجمات عسكرية متواصلة، واستخدام الأسلحة الكيماوية على نطاق واسع لمرات متعددة، كان أخطرها في آب 2013 والتي تسببت بمقتل المئات، وآخرها التي وقعت قبل أيام.

وكان على رأس وفد النظام الذي دخل الغوطة، الأربعاء، مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي، والرئيس السابق لمجلس بلدية دوما راتب عدس، وهو أحد المرشحين لرئاسة مجلس المدينة، بحسب اتفاقيات سُرّبت خلال المفاوضات بين روسيا و”جيش الإسلام”، والتي نفاها “الجيش” آنذاك. مصدر قال لـ”المدن” إن وفد النظام ضم شخصيات من مدينة دوما كانت تعمل مع النظام على ملف “المصالحات”.

وشهدت المدينة إطلاق نار بالقرب من مكان تواجد وفد النظام، ما دفع الوفد إلى المغادرة. وفي وصفٍ للحادثة، قال مصدر من مدينة دوما لـ”المدن”، إن “لجنة من النظام دخلت برفقة الشرطة الروسية إلى دوما وأثناء لقائها بالمدنيين رفع بعض الشبان أعلاماً للنظام وهتفوا له، وبعدها حدث إطلاق نار في الهواء من آخرين غاضبين، وعلى إثرها غادر الوفد”.

وأضاف المصدر أن “الشرطة الروسية دخلت مرات متعددة للمدينة، بعد توقيع الاتفاق، لتسلم نقاط رباط من جيش الإسلام”، وكان أول دخول لها برفقة الكولونيل الروسي ألكسندر زورين،  عرّاب “المصالحات” في دمشق وريفها، لـ”التحقيق” في الهجوم بالكيماوي الذي تسبب بمقتل وإصابة مئات المدنيين، واستسلام “جيش الإسلام” والموافقة على “التهجير القسري” منها.

ومنذ توقيع الاتفاق مع الجانب الروسي لم يُعلّق “جيش الإسلام” رسمياً على بنود الاتفاق، وخطة التنفيذ، ما أدى إلى وقوع فوضى عارمة في المدينة. وزاد على ذلك خروج بعض قياديي “جيش الإسلام” وعناصره، في دفعات المُهجّرين الأولى، على عكس عملية التهجير من القطاع الأوسط، إذ كانت قوافل العسكريين هي الأخيرة، وبعدها تم تسليم المنطقة للروس.

مصدر مدني من ريف حلب قال لـ”المدن” إن القاضي الشرعي في “جيش الإسلام” سعيد درويش، وشرعي “الجيش” سمير كعكة، وصلوا مساء الأربعاء إلى جرابلس في ريف حلب الشمالي. وخرج من دوما، إلى الشمال السوري، في 6 قوافل، 30 ألف مدني وعسكري، ممن رفضوا البقاء تحت سلطة النظام.

مصدر مدني قال لـ”المدن” إن آلاف المدنيين يتجمعون عند ساحة تجمع حافلات “المهجرين” وأعدادهم تفوق أعداد الحافلات المتاحة، ويتخوفون من أي مكروه قد يصيبهم إذا أصبحت المدينة رسمياً مع النظام قبل أن يتم ترتيب خروجهم. وأشار المصدر إلى أن بعض الراغبين في الخروج هم شخصيات ثورية قد تتعرض حياتهم للخطر بعد سيطرة النظام.

مصدر مقرب من “جيش الإسلام”، قال لـ”المدن”، إن عمليات الإجلاء لا تزال مستمرة وقد تستغرق ثلاثة أيام إضافية، مشيراً إلى أن عناصر وقياديين من “جيش الإسلام” لا زالوا في مدينة دوما، ولم يكشف إذا ما كان هؤلاء سيغادروا في القوافل الأخيرة أو سيخضعون لـ”التسوية” ويبقون في المدينة.

بعض أهالي المدينة ممن كانوا يرغبون في “الخروج”، ومنهم عناصر من “جيش الإسلام”، عادوا وعدلوا عن قرارهم بناءً على تطمينات “غير رسمية” بأن بنود الاتفاق تؤكد على عدم تعرض النظام للراغبين في البقاء، وتقديم تسهيلات لـ”تسوية أوضاعهم” بمن فيهم العسكريون.

مصدر قال لـ”المدن” إن “عدم خروج قيادة جيش الإسلام ببيان رسمي واضح ومفصل قد يوقع المدنيين في شرّ قراراتهم”، لا سيما أن رسائل “تهديد وكراهية” بدأت تخرج عن موالين للنظام بعد الإعلان عن انتهاء ملف أسرى النظام الذين كانوا في سجون “جيش الإسلام”، ومطالبات الموالين بالكشف عن مصير المئات من ذويهم.

المدن

 

 

 

 

هل تتحول الضربة إلى حرب؟/ منير الربيع

كل المؤشرات تفيد بفصل الضربة الإسرائيلية لمطار التيفور العسكري في ريف حمص، عن تداعيات استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي والحملة الدولية المتصاعدة للردّ على استخدام النظام هذا السلاح. لكن، لا شك أن المسارين لا ينفصلان، حيال التوجه الغربي في التعامل مع الوضع في سوريا، وتحديداً مع الوجود الإيراني هناك. استفادت إسرائيل من الوضع الضاغط لاستعادة نشاطها العسكري في السماء السورية، وتجلى ذلك في الضربة التي وجّهت إلى مطار التيفور والتي أدت إلى سقوط قتلى إيرانيين. وفيما إيران أعلنت عبر مسؤوليها عن استعدادها للردّ، تؤكد مصادر قريبة من حزب الله أنه حين تتعرض إيران إلى هجمات من هذا النوع، فهي غالباً ما تردّ عليها ولكنها تنتظر اللحظة المناسبة، خاصة أن الضربة أدت إلى سقوط قتلى إيرانيين، وهذا أمر لا يمر في طهران، وتتوقع المصادر أن يكون الردّ بعد فترة عبر عملية تستهدف إسرائيليين سواء عبر صاروخ أو عبر تفجير.

يبدو أن الردّ الآن على هذا الهجوم غير مطروح، بسبب الوضع الدولي، واستعداد الولايات المتحدة الأميركية لتوجيه ضربة ضد النظام السوري والمواقع الإيرانية في سوريا. بالتالي، أي رد إيراني سيؤدي إلى تصعيد الحملة العسكرية وتوسيع نطاقها، فيما تفضّل طهران السكوت لامتصاص الصدمة والانحناء أمام الريح. والأمر نفسه يفعله الروس، الذين يبحثون عن إبرام صفقة معينة مع الأميركيين، بشأن إعادة رسم مناطق النفوذ في سوريا، وتجنّب التصعيد الأميركي واقتصار الضربة الأميركية المزمع توجيهها على ضربات محدودة لا تغير في موازين القوى والمعطيات على الأرض.

في المقابل، تستمر واشنطن بحملتها الضاغطة على موسكو وطهران، في سوريا ومن خلال العقوبات الاقتصادية. فاقتصادا البلدين يواجهان ضغوطاً هائلة. وهذا دليل على أن واشنطن تريد استدراج صفقة معينة من منطق القوة، بدون الحاجة إلى اللجوء إلى معركة عسكرية. الأكيد، وفق المعطيات، أن واشنطن غير جاهزة للدخول في حرب واسعة أو طويلة الأمد في سوريا، بل تريد توجيه الضربة لتثبيت نفوذها ورسم خطوط حمر، لا سيما أمام مناطق النفوذ الإيرانية.

هنا، يحصل التلاقي الاستراتيجي بين الإسرائيليين والأميركيين. وهذا ما تؤكده المعلومات في شأن استهداف مطار التيفور، الذي يبدو أنه يتخطى مجرّد استهداف شاحنة أسلحة لحزب الله، أو قاعدة لإطلاق الطائرات بدون طيار للإيرانيين. إنما هي رسالة أساسية إلى عنوان المرحلة المقبلة، وهو أن هناك خطوطاً حمراء سترسم أمام إيران، وممنوع عليها تجاوزها. وهذا ما يؤكده المسؤولون الإسرائيليون الذين يشددون على منع إيران من الوجود في الجنوب السوري. وهذا قد يدلل على وجهة الضربة الأميركية التي قد تتعرض لها المواقع الإيرانية في سوريا. وتشير بعض المعطيات إلى أن الضربة ستكون مختلفة عن ضربة مطار الشعيرات وأكثر فعالية منها. من خلال تحديد بنك أهداف لمواقع تابعة للإيرانيين والنظام السوري، يشمل مخازن أسلحة، ومواقع لحزب الله، ومطارات. فيما تشير المعلومات إلى أن الحزب والإيرانيين أجروا عمليات تموضع وانسحابات من بعض المناطق والمواقع.

لكن الأساس، هو أن هذه الضربات لن تؤدي إلى تغيير موازين القوى على الأرض، لا سيما أن الوجود الروسي في سوريا يمنع اتساع رقعة الحرب وإطالة أمدها. ولن يحصل صدام أميركي روسي في سوريا، بل ما يريده الأميركيون وبالإتفاق مع حلفائهم العرب ولا سيما الخليجيين هو إيصال رسائل بالنار للإيرانيين في شأن تحجيم نفوذهم في سوريا. وهذا يتضح من خلال التنسيق الدولي بشأن الرد على الهجوم الكيماوي، ويبرز التناغم في المواقف الأوروبية مع أميركا ودول الخليج.

لكن السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه في حال حصول أي ضربة عسكرية من هذا النوع، هو عن موقف إيران وروسيا من ذلك، وهل ستردّان على هذه الضربات؟ البعض يشير إلى إبلاغ أميركي للروس بشأن الضربة المزمعة. وهذا سيؤدي إلى إبعاد الروس عن ذلك. أما في حال ردّ الإيرانيون فهذا يعني توسيع نطاق الحرب، وربما قد تشمل جبهات أخرى من بينها جبهة الجنوب اللبناني. لكن هذا يبقى مستبعداً في إطار المعطيات المتوافرة، وفي ظل مظلّة الحماية التي يؤكد المسؤولون اللبنانيون توفّرها لمنع لبنان من الإنزلاق إلى هذا المستنقع.

 

 

 

 

تغريدة التوماهوك/ روجيه عوطة

تغريدة التوماهوك الجميع ينتظر هذه الضربة، لدرجة أنها بدأت بالوقوع قبل أن تقع

الجميع ينتظر الضربة العسكرية التي قررت الولايات المتحدة الأميركية، وبحسب رئيسها دونالد ترامب، أن توجهها إلى نظام بشار الأسد على إثر استخدامه السلاح الكيماوي من جديد في إبادته المتواصلة للسوريين. الجميع ينتظر هذه الضربة، ومن شدة انتظاره لها، تبدو أنها بدأت بالوقوع قبل أن تقع، لا سيما أن الجلبة الإعلامية حولها، بمقالبها التكهنية، قد انطلقت على قدم وساق، ورأي وموقف.

ولكن، الجميع أيضاً، يدرك أن تلك الضربة تأخرت، وتأخرت كثيراً، لدرجة أن الكلام عن حدوثها، ولو ردده ترامب إياه، غالباً ما يقترن بالحذر، وغالباً ما يترافق مع الإستعداد للخيبة.

ففي لحظة معينة، قد تنقلب الضربة ذاتها إلى مجرد وفاق، إذ قد يرسم أحدهم، السيد باراك أوباما مثلاً، خطاً أحمر، ثم يسرع إلى إزالته كأنه لم يكن من قبل. وعندها، تستمر المجزرة، وعندها، يعود القتل وسفاحه ليأخذ كل المكان بلا أن يسنح  للإنتظار بالظهور مرة أخرى.

“إما الإنتظار، وإما الإغتيال”، هذا ما جرى تقديمه للسوريين منذ العام 2011. إذ ألزموا بخيارين، خيار تعرضهم للقتل، وخيار تعرضهم للترقب، وطبعاً، تعرضهم للثاني يحصل خلال تعرضهم للأول. ففي حين القضاء عليهم، يخبرهم العالم، وأي عالم، أنه سيأتي لإنقاذهم، وفي النتيجة، يجب أن يخمنوا مجيئه، وهو، عادةً، لا يحضر. من وقت إلى آخر، على السوريين أن يتحولوا من معدومين، كما يريدهم نظام الأبد، إلى منتظرين، كما يريدهم أي غير له.

ولكن، ومثلما أن إعدامهم يقوي ذلك النظام، انتظارهم يؤدي إلى الأمر نفسه أيضاً، لا سيما أن موضوعه لا يلوح سوى لفظياً، يحدث في الحكي، وليس في الممارسة. فمن الممكن القول أن الضربة صارت خطاباً. فكما يعلم أحد عظماء القرن المنصرم، كل خطاب هو عمل مخفق، كل خطاب هو عمل جرى القفز عنه بدون إدراك الفشل فيه.

على هذا النحو، الضربة، ولأنها على هذا الحال، قد يشعر منتظروها أنها وقعت قبل أن تقع، وأنها عندما تقع، لن تقع فعلياً لأنها وقعت مسبقاً، ولأنها، وفي الوقت نفسه، تباطأت جداً في الوقوع. وعلى هذا النحو أيضاً، تتغير هذه الضربة إلى مجرد موضوع تشويقي، بحيث أنها، وكلما كان حدوثها مؤجلاً على الرغم من إعلان قربه، تصير محط متابعة، ومحط إدلاء، ومحط تعليق، ومحط تجاذب. وهكذا، تصير محط كل شيء سوى محط جريانها، كما لو أن الحديث عنها أكثر وفرة من حدوثها. “تضرب” الضربة على الشاشات، في الأخبار، في البوستات، وأينما كان، أكثر مما تضرب وقبل أن تضرب، تندلع في الإفتراض أكثر مما تندلع وقبل أن تندلع خارجه.

من المثير أن ترامب يجاهر بها عبر “تويتر”، وأن كل المشتركين يتفاعلون ويتواصلون معه. من المثير مشاهدة التحضير لها، التهديد بها، الرد عليها، فورياً. إلا أن هذا كله يبقيها تغريدة، محكومة بقوانين تسجيلها وبمعاييره وبطرقه، بحيث قد تلحقها أخرى، تكون متناقضة معها، أو تكون لاغية لها.

فعندما تبرز الضربة كتغريدة، من المتاح للا-ضربة أن تصير على شاكلتها، وبعد قليل من الوقت أيضاً. إختلاف بين مشهدين: مشهد إعلان الضربة عبر مؤتمر صحافي، أو طقس إنقاذي، ومشهد إعلانها عبر تغريدة. ثمة وقع كبير للتراجع عنها في حال المشهد الأول، وقع يشير إلى ما يسمى “فضيحة”. لكن، في حال الإقلاع عنها في المشهد الثاني، سيكون ذلك مجرد تغريد آخر لا يستدعي التوقف عنده، “سجلت ما سجلت في تلك اللحظة، وها أنا أسجل معاكسه الآن، هكذا يعمل تويتر وفايسبوك وغيرهما”.

بديهياً، لا يمكن إطاحة نظام المجزرة التأبيدية في سوريا، بواسطة ضربة على شكل تغريدة، أو بواسطة تغريدة على شكل ضربة!

المدن

 

 

 

نحو مواجهة أميركية روسية؟/ بسام مقداد

يحبس العالم أنفاسه وهو يتابع التطورات المتسارعة بشأن استعداد الولايات المتحدة وحلفائها للرد على هجوم دوما الكيماوي، في مشهد يذكّر بأزمة “خليج الخنازير” في البحر الكاريبي العام 1962، حين كان العالم على مسافة دقائق من وقوع كارثة نووية بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.

وتأتي هذه التطورات في سياق التوتر المتصاعد في العلاقات بين روسيا والغرب عموماً، والولايات المتحدة، على وجه الخصوص. وهي تثير كماً هائلاً من التساؤلات والتوقعات حول الضربة المرتقبة، التي تعلن الولايات المتحدة وحلفاؤها عن نيتهم بتوجيهها إلى قوات النظام السوري، بعدما حمّلوه المسؤولية عن مجزرة الكيماوي في دوما.

الفيتو الأخير، الذي استخدمته روسيا في مجلس الأمن الدولي، واللهجة الحادة، التي استخدمها مندوبها في التهجم على الغرب، دفاعاً عن النظام السوري، لم يخفض من كمية التساؤلات حول ردة الفعل الروسية المحتملة على الضربة المتوقعة إلى النظام السوري، وما ستكون عليه ردة الفعل هذه. فلم تترجم روسيا لهجتها الحادة والفيتو في مجلس الأمن الدولي إلى رد عسكري على القصف الأميركي لقاعدة خان شيخون السورية في نيسان/أبريل العام الماضي، كما تهدد الآن في الرد على الضربة الغربية القادمة. بل إن روسيا بقيت صامتة، صمتاً شبه مطبق، حيال مقتل المئات من المرتزقة الروس في شباط/فبراير الماضي في ديرالزور تحت قصف الطيران الأميركي.

يتساءل المراقبون، بمن فيهم الروس، عن المتغير في الوضع الراهن، الذي جعل روسيا تهدد بالرد على الضربة الأميركية المقبلة للنظام السوري “رداً قاسياً وغير متوقع”، وتحذر الغرب من “حرب عالمية ثالثة”، رداً على “مسرحية” كيماوي دوما، على ما كتبت وكالة نوفوستي قبل يومين. ونقلت الوكالة عن ممثل روسيا الدائم في الإتحاد الأوروبي، أن روسيا قد حذرت الولايات المتحدة رسمياً، من خلال القنوات المناسبة، بما فيها العسكرية، من “تلك العواقب الجدية التي يمكن أن تحدث في حال توجيه الولايات المتحة ضربات إلى سوريا، وإذا ما تعرض مواطنون روس أثناء هذه الضربات للأذى. كما تذكّر الوكالة بما جاء على لسان ممثل روسيا الدائم في الأمم المتحدة، أن روسيا أبلغت الجانب الأميركي بأن “العمليات العسكرية، تحت حجج كاذبة ضد سوريا، التي يتواجد فيها عسكريون روس، بدعوة من الحكومة الشرعية، بوسعها أن تؤدي إلى أفدح العواقب”.

في مقالة بعنوان “شبح الحرب العالمية الثالثة”، ينقل موقع “Newsader” المعارض عن مقالة في صحيفة أميركية من أن روسيا “لا تخادع”، حين تهدد بالدفاع عن عسكرييها في سوريا، لاسيما وأن أجهزة دعايتها تردد، بأن روسيا لن تتمكن هذه المرة من البقاء جانباً.

ويقول الموقع، إنه من غير المفهوم لماذا لا يستطيع بوتين الصمت مجدداً، والبقاء جانباً كما في السابق، لاسيما وأن جل ما يستطيع تقديمه “لشقيقه الكيماوي”، هو زاوية لطائراته في قاعدة حميميم، التي لا تضمن، برأيه، الحماية من الضربات الأميركية. فأجهزة الدفاع الجوي الروسية يسهل تخطيها من قبل الطائرات الأميركية غير المرئية، وواشنطن غير راغبة في التحقق من مدى استعداد موسكو لاستخدام الصواريخ النووية.

ويرى الموقع، أن الخيارات ليست كثيرة أمام موسكو عسكرياً واقتصادياً. لكنه بوسعها، بالطبع، استغلال مواقع ضعف أميركية حول العالم، إلا أنها سرعان ما ستتلقى الرد المناسب في المجالين الإقتصادي والعسكري من قبل معسكر الناتو ككل. وهي لا تملك ما يكفي من موارد لخوض حرب طويلة الأمد ضد الماكينة الأوروبية الأطلسية الحديثة والغنية والمنظمة والمسلحة بنقنيات عالية. ولذلك يبقى الرد النووي، هو السلاح الوحيد في ترسانة روسيا، الذي يذكر به قادة الكرملين دائماً، كما في المرة الأخيرة، حين تحدث الرئيس فلاديمير بوتين، في رسالته إلى البرلمانيين الروس، عن صواريخ غير موجودة ذات محركات ذرية.

ويتفق موقع “NG”، الذي يدور في فلك الكرملين مع استنتاجات الموقع أعلاه. فقد علق الموقع على أحداث “الإثنين الأسود” في 9 نيسان/أبريل الحالي، حين انهارت أسهم الشركات الروسية في البورصات العالمية وبورصة موسكو أكثر من 7 في المئة، وخسر أوليغارشيون روس أكثر من 12 مليار دولار في يوم واحد، وبدأ الروبل رحلة انخفاض متواصل أمام الدولار واليورو. وكان “الإثنين الأسود” هذا قد حدث تحت تأثير العقوبات الأميركية الأخيرة على عدد من كبريات الشركات الروسية وكبار الأوليغارشيين الروس.

وقد كتب موقع “NG” في تعليق له على “الإثنين الأسود”، مقالة بعنوان “أميركا تملك سلاحاً أقوى من سلاح سارمات وبوريفسنيك”، اللذين أعلن عنهما بوتين في رسالته الأخيرة إلى البرلمانيين الروس. يقول الموقع، إن لدى أميركا سلاح آخر غير خوض المعارك الحربية وبلوغ حافة النزاع النووي الشامل، فهي بوسعها خنق موسكو بالعقوبات الإقتصادية.

ويضيف الموقع، إن أحدث الصواريخ الروسية وأحدث وسائل حرب الإتصالات الإلكترونية تقف عاجزة أمام هذه العقوبات. فهذا السلاح، ومن خلال إفلاس مصنع الدبابات الرئيسي في البلاد، بوسعه القضاء على كل الآليات المصفحة الروسية، وهي الأفضل في العالم، مثل دبابة “أرماتا” وسواها. والأمر عينه يمكن قوله عن أي مصنع آخر ينتج أي نوع من أنواع السلاح.

من الطبيعي، أن جميع المواقع الروسية معارضة وموالية، إضافة إلى متابعة أنباء انهيار العملة الروسية، منهمكة هذه الأيام بمتابعة تطورات الضربة الأميركية الغربية القادمة لسوريا، وما إن كانت ستتطور إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وأميركا، تنطوي على مخاطر كارثة نووية. ويقول موقع “Newsader” في هذا الصدد، بأننا سنعرف في الأيام القريبة القادمة مصير البشرية، وما إن كان الأميركيون سيكتفون بعرض الحزم من أجل الحصول على تنازلات دبلوماسية من جانب الكرملين-الأسد، أو أنهم يستعدون لنزاع دولي كبير؟

لكن تصريح ترامب الأخير، الذي يدعو فيه روسيا لتكون مستعدة لضربات صاروخية على سوريا، يظهر أن خيار الأميركيين قد حسم لصالح النزاع المحدود، الذي يسعى للحصول على “تنازلات دبلوماسية” من الكرملين والأسد.

المدن

 

 

 

الضربة العسكرية الغربية قد تعزل روسيا لكنها ستقوي النظام/ أحمد أبو دوح

الضربات الغربية القادمة على النظام السوري هي نتيجة عابرة لعملية الاختبار الاستراتيجي المستمرة بين القوى العظمى منذ بداية الحرب السورية. أهم أدوات الاختبار هو السلاح الكيمياوي.

ليس السبب الوحيد وراء رد الفعل الغربي المتصاعد الآن الخوف من كسر أهم قواعد النظام العالمي المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيمياوية منذ اتفاق هلسنكي بين الشرق والغرب عام 1975. المسألة لها بعد محلي أيضا متصل بمفاتيح التحكم في مجريات الصراع في سوريا على الأرض.

كلما يحدث تغير جوهري على الساحة الدولية، خصوصا في الولايات المتحدة، تظهر حاجة الروس والإيرانيين لاختباره، وتلمّس حدود الإطار الذي يمكن التحرك داخله وفقا لهذا التغير.

الهجوم الكيمياوي الأكبر على الغوطة الشرقية عام 2013 كان اختبارا للخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، واستكشافا لمدى تمسك إدارته بالمحادثات مع إيران، التي كانت تجري بشكل سري آنذاك، حول برنامجها النووي. أثبت أوباما أن التوصل إلى اتفاق نووي مع الإيرانيين أولوية مقدمة على أي “خط أحمر” في سوريا أو غيرها.

عندما صعد الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2017، كان المعسكر المؤيد لنظام الرئيس السوري بشار الأسد في حاجة إلى تلمس خطاه في التعامل مع الإدارة الجديدة، واكتشاف ما هو مسموح وليس مسموحا به. لذلك جاء الهجوم على بلدة خان شيخون، أيضا بالأسلحة الكيمياوية.

رد الفعل الأميركي باستهداف مطار الشعيرات كان إيذانا بأن ثمة شرطيا جديدا قد وصل إلى الساحة الدولية. تعلّم ترامب ماذا يحصل للرؤساء الذين لا يلتزمون بالخطوط الحمراء التي يضعونها لأنفسهم، وأراد تجنب نفس المصير. العقلية التي تدير قناعات ترامب والاتهامات بالعلاقة مع روسيا التي لا تزال تلاحقه منذ أن كان مرشحا، دفعته لتبني هجوم محدود ومدروس وتفاصيله معلنة، حتى للروس أنفسهم.

لم يكن هدف ترامب وقتها إلحاق خسائر كبيرة بالنظام السوري، بقدر ما أراد الوصول إلى النتيجة الأبعد من ذلك، وهي وقف الانهيار المتسارع لنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة حينها، واستعادة زمام المبادرة، من دون التورط أكثر في الصراع.

الهجوم الكيمياوي على دوما له أبعاد مغايرة، من حيث الظـروف الـدولية والإقليمية ووضع ترامب نفسه في الداخل الأميركي.

ثمة صراع محتدم مع الروس، منذ محاولة اغتيال العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال على الأراضي البريطانية.

قادت بريطانيا زخما دوليا تهدف من ورائه إلى عزل روسيا تماما. مسألة سكريبال نفسها تكاد تتطابق مع الهجوم على دوما بالكيمياوي، من حيث النظرة الروسية للهجومين، والأهداف التي تسعى موسكو للوصول إليها من خلالهما.

كما كان هجوم دوما، ومن قبله الهجوم على الغوطة وخان شيخون وغيرهما، اختبارا روسيا للتحولات الاستراتيجية في العالم، يظل استهداف سكريبال، كما كان اغتيال العميل السابق ألكسندر ليتفينينكو عام 2006، اختبارا مماثلا.

مات ليتفينينكو، واكتفى الطرفان بطرد متبادل لعدد قليل من الدبلوماسيين، وبحرب تصريحات لحظية سرعان ما هدأت. لكن رغم بقاء سكريبال وابنته يوليا على قيد الحياة، يشن الغرب حربا أكثر من باردة على روسيا. صحيح أن روسيا كانت قادرة على طرد دبلوماسيين وعملاء استخبارات غربيين، ردا على طرد دبلوماسييها وعملائها من دول غربية عدة، لكنها أيقنت أنها لا تستطيع الرد على طردها تماما من دائرة التحكم بأدوات النظام العالمي الجديد.

الفرق بين الرد المحدود على الروس في حادثتي اغتيال ليتفينينكو واستهداف خان شيخون بالكيمياوي، والتصعيد الذي نراه اليوم إزاء استهداف سكريبال وضرب دوما بالكيمياوي أيضا، هو التغير المتسارع في معطيات الصراع الدولي.

حادثة دوما تحافظ على الزخم الذي خلقته بريطانيا بعد محاولة اغتيال سكريبال. أي متابع للصراع الدبلوماسي يوم الثلاثاء مساءً في مجلس الأمن سيلحظ منذ الوهلة الأولى عزلة روسيا المتزايدة. الأمر كان أشبه بمباراة ملاكمة غير متكافئة بين لاعبين، أحدهما يكيل اللكمات للآخر، الذي يتظاهر أمـام الجمهور بأنه قادر على تحملها، بينما تتفجر الدماء من كل أنحاء جسده. دم روسيا سال بين الأمم في هذا اليوم.

لن يكون التحرك العسكري الغربي في سوريا ضربة قاضية للروس، ولا للنظام السوري، طالما ظل “تحركا عسكريا”، وليس أكثر من ذلك. ما قد يؤذي النظام حقا هو استغلال الماراثون الدبلوماسي الحاصل الآن خلف الكواليس لتعديل المسار السياسي الذي صار بلا أفق.

مشكلة الولايات المتحدة والقوى الأوروبية أنها لم تعد ترى في الصراع السوري في مرحلة ما بعد داعش سوى الوجود العسكري المحدود لقواتها في شرق الفرات والمناطق الغنية بمصادر الطاقة، والسلاح الكيمياوي. هذا هو ملخص الأزمة ومفتاح إدارة ما تبقى منها ضمن حصص الغرب. لا اهتمام غربيا آخر إزاء المسألة برمتها.

لم يعد الغرب مثلا يرى مشكلة في القبول بالحل العسكري والتسوية الروسية، القائمة على تثبيت الأسد في الحكم، وإبقاء غالبية السوريين خارج المعادلة الجديدة في بلادهم. الغرب يعلم أن هكذا تسويات لا تستمر طويلا، وتقود حتما إلى واقع فوضوي لا ينتهي سوى بإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، لكن بعد دفع كلفة كبيرة. لكن يبدو أن الأميركيين خصوصا فقدوا صبرهم، وقرروا توريط الروس بتحمل عبء الأزمة بالكامل.

إضعاف الأسد لا يتم عبر الضربات العسكرية. الدبلوماسية، المصاحبة لهذه الضربات، هي السلاح الحقيقي الذي يخاف منه معسكر النظام. هذا ما قام به بيل كلينتون عندما أراد فرض حل في يوغوسلافيا.

لو كان الأميركيون يسعون حقا إلى دفع كل أطراف الصراع، بما فيهم الروس والإيرانيون، إلى التوصل إلى حل نهائي، لكانوا في سباق الآن مع الزمن للضغط على موسكو ودمشق لتقديم تنازلات سياسية، مقابل إلغاء الضربة أو تحديد نطاقها.

ثمة كثير من هذه التنازلات. بعضها قصير الأمد، كدفع الروس لامتصاص اندفاع تركيا والضغط عليها لوقف التهديدات باجتياح منبج، وتوقف موسكو عن العمل على توسيع الفجوة في العلاقات بين تركيا وحلفائها في الناتو، من خلال تفاهمات أستانة.

أول التنازلات بعيدة المدى التراجع عن فكرة اختصار المسار السياسي في كتابة دستور جديد، وتهميش مسار جنيف تماما، ومحاولة خلق آلية جديدة تتحكم بها روسيا مع تركيا وإيران حصرا.

هذه المقاربة الغربية المفترضة كافية كي تكون بداية لتعديل موازين القوى، إذا فهم أطراف الصراع أن المكاسب العسكرية السـريعة التي يحققها الأسد كل يوم ليس لها معنى من دون إعادة إدماج الأغلبية السنية، التي شكلت حاضنة الثورة على الأسد، في المعادلة السورية. المسألة تحتاج فقط إلى قيادة غربية قـادرة على تحجيم طموح روسيا الذي يتخطى إمكانياتها الحقيقية.

الضربة العسكرية القادمة على سوريا لن تفعل أي شيء سوى تقوية نظام الأسد، لو لم تصاحبها ضربة سياسية أقوى.

كاتب مصري

العرب

 

 

سوريا بين الكيمياوي والنووي/ نور الدين فريضي

نطاق الضربات العسكرية المتوقعة ضد قدرات النظام السوري، إذا ثبتت، سيؤثر إلى حد كبير على مستقبل الحرب التي دخلت الشهر الماضي عامها السابع وعلى نفوذ حلفاء النظام الاقليميين وخاصة ايران وحزب الله. وقد تطال مضاعفات الحملة العسكرية أزمة الاتفاق النووي.

قبل استهداف المدنيين في دوما في نهاية الأسبوع الماضي، رأى خبراء الشؤون العسكرية أن التغيرات التي طرأت على موازين القوى في الميدان، ومنها إجبار قوات النظام المجموعات المسلحة على الانسحاب من الغوطة، وتدخل تركيا في عفرين، وتواجد القوات الأميركية في شرق الفرات، لا تشكل مؤشرات حسم الحرب لفائدة النظام. فالمجموعات المسلحة التي تجمعت في محافظة إدلب قد تعيد حساباتها وبعضها قد ينتقل إلى مرحلة حرب العصابات ضد النظام وكذلك ضد الخصوم الآخرين سواء ضمن صفوف المعارضة أو قوات النظام السوري، أو القوات التركية والأجنبية الأخرى. ويلاحظ الخبراء أن النظام، إذا ضمن السيطرة على محافظات دمشق والغوطة وحمص وحلب، إضافة إلى الساحل المتوسطي، فانه لا يمتلك أعدادا كافية من الجنود ورجال الأمن لتأمين مناطق نفوذه. وقد تجد القوات النظامية نفسها عاجزة عن مواجهة حرب العصابات مهما كان حجم دعم الميليشيات الايرانية والغطاء الجوي الذي توفره روسيا.

هذا الواقع الميداني سيتغير في سيناريو حملة القصف الغربي الذي قد تستهدف قدرات النظام. وإذا تركزت الحملة على البنية التحتية التي استخدمت في قصف المدنيين بالسلاح الكيمياوي، فانها ستطال شبكة الردارات والقوات الخاصة والقواعد الجوية التي انطلقت منها المروحيات والمختبرات والمستودعات التي يستخدمها النظام لخلط المواد السَّامة. وسيكون تأثيرها محدودا إذ هي تضعف قدرات النظام من دون القضاء على الوحدات الأساسية في الجيش السوري. وسيصحو النظام، بعد انتهاء الحملة، يفاخر بالصمود ويزيد في بطشه بالمدنيين في المناطق التي تتواجد فيها، أو تسربت داخلها، المجموعات المسلحة. هذا السيناريو قد يناسب مصالح أطراف عدة لا ترغب في سقوط نظام بشار الأسد كي لا تشهد سوريا سيناريو تفكك الدولة العراقية أو الدولة الليبية.

لكن جريمة استخدام السلاح الكيمياوي في دوما قد تكو ن الفرصة المناسبة بالنسبة إلى الدول الغربية وبعض الأطراف الاقليمية كي تشنَّ حملة قصف مكثف ضد مراكز القوة العسكرية المتبقية في الجيش السوري ومن دون استثناء الأجهزة السيادية مثل وزارة الدفاع ووزارة الداخلية وأجهزة الاستخبارات. ولن تستثني طبعا تجمعات القوات الايرانية وورشات تصنيع الصواريخ والميليشيات المذهبية التي استخدمت من الدول الأخرى لدعم النظام. ودون انتظار نهاية حملة القصف، قد يتيقن رأس النظام أن مصلحته تكمن في إعلان قبوله الجلوس إلى طاولة المفاوضات والانخراط الجدي في مسار جينيف التفاوضي. لكن المشكلة تكمن في أن النظام السوري لا يمتلك قراره. وقد تخرج عنه مجموعات مسلحة ترفض وقف الحرب لحماية مصالح الطوائف والأوساط التي خاصت الحرب منذ سنوات. ولعلها استفادت من تجربة المقاومة العراقية. فتتهيأ للمرحلة المقبلة من الحرب وتعدُّ ترسانتها العسكرية والتحالفات التي قد تنشأ على أطلال النظام.

وفي كل خطوة قد يخطوها بشار الأسد، يتوجب عليه أخذ الإذن من رعاته: روسيا التي حمته مرار من السقوط وخاصة منذ خريف 2015 وايران التي تزوده بالذخيرة البشرية والعتاد والمال طوال سنوات الحرب. وإذ يتفق الراعيان حول وجوب حماية النظام من السقوط فكلاهما له حساباته ومصالحه السياسية والاقتصادية والعسكرية. روسيا معنية بمستقبل القواعد العسكرية في المتوسط والاستثمارات النفطية وايران ستحاول الحفاظ على نفوذها المتسع من خلال دعمها الميليشيات المذهبية من جنوب العراق حتى لبنان وعلى بعض الوجود العسكري، إذا وافقت اسرائيل على طبيعة وحجم وحدود الانتشار الايراني، بعيدا عن حدود هضبة الجولان المحتل.

وقد تخلط ايران الملفات الاقليمية من أجل الحصول على بعض التنازلات كأن تقبل التراجع عن نفوذها في أزمة اليمن في مقابل وجود محدود في سوريا، وأن تضمن خاصة الحفاظ على الاتفاق النووي ولو انسحبت منه الولايات المتحدة. فالاتفاق يعني خلاص ايران من العقوبات الاقتصادية المؤلمة. ويرجح أن يصدر الاتحاد الأوروبي عقوبات ضد ايران قبل نهاية الشهر الجاري على خلفية ضلوع ايران في نزاعات المنطقة وتطويرها الصواريخ الباليستية. وستصدر العقوبات قبل أيام عن الموعد الذي حدده الرذيس ترمب لمراجعة الاتفاق النووي في 12 ايام المقبل. وإذا أقر الرئيس الأميركي انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، فذلك سيعني فرض عقوبات شديدة قد تشمل حظر شراء النفط الايراني والتعامل مع المؤسسات المصرفية منها البنك المركزي الايراني. كل هذه المتغيرات ستجري في أسابيع قليلة وقد ترسم مستقبل حرب سوريا وأزمة الاتفاق النووي أقله في الأمد القريب والمتوسط.

 

 

 

ترامب… صولة المقامر في سوريا/ سامح المحاريق

لم ينتظر الرئيس الأمريكي أن يتصرف المعنيون من العسكريين المحترفين بعد صدور قراره السياسي بعمل عسكري يتوجه إلى سوريا، وانطلق إلى تويتر ليعلن الحرب عملياً على روسيا، ويخرج بالعمل العسكري المقرر عن حدوده التي أعلنها بلهجة استفزازية، تضع الجانب الروسي أمام خيارات التصعيد في المواجهة. والمفارقة أنه بينما يجري التحقيق مع مؤسس موقع الفيسبوك حول استخدام موقعه في حملة تضليل تعلقت بالانتخابات الأمريكية، فإن الرئيس الذي يدين بجزء من رحلة وصوله للبيت الأبيض، لم يتحدد مدى حجمه إلى اليوم، يلجأ إلى موقع آخر للتواصل لإعلان حرب، لا يمكن الوقوف على المدى الذي يمكن أن تصله، ولكن هل يمكن أن يبدأ العالم حقبة الإدارة من خلال تويتر، على أنقاض مرحلة الثورة في زرقة الفيسبوك.

يتحدى ترامب الروس بصواريخ ذكية جديدة، بمعنى أنه يحدد مدى قواعد الاشتباك، وهو قصف، مهما كان اتساعه لا يمكن إلا أن يضيف المزيد من الضحايا للحرب الدائرة في سوريا، على امتداد السنوات الماضية، وهو ما لا يمكن أن يحدث فارقاً نوعياً، إلا إذا كان ذلك مقدمة لعمليات أوسع على الأرض، وهو الأمر المستبعد، نظراً لأن الوضع في سوريا لم يترك شيئاً يمكن للجيوش النظامية أن تتعامل معه، والأمريكيون بدخولهم في الوضع القائم يطرقون أرضاً غير معروفة، وحافلة بالفخاخ والمستنقعات، والانتظار للرد الروسي يعني الدخول في حرب أوسع من الأرض السورية كلها.

الصواريخ الترامبية الذكية أثارت لغطاً كثيراً، فهذه الغارة على تويتر جعلت الأمور ضبابية ومعقدة، للدرجة التي جعلت البنتاغون يقوم بإحالة الاستفسارات التي وردته حول طبيعة العمل العسكري المرتقب إلى الناطقة الرسمية عن البيت الأبيض، فالحقيقة أن أحداً لا يمتلك إجابة عما يدور في مخيلة الرئيس ترامب، الذي ترقب العالم صواريخه لساعات بدأت تطول مع صباح يوم الخميس، للدرجة التي أقلقت السيناتور بوب كوركر رئيس لجنة العلاقات الدولية وجعلته يعبر عن خشيته من عدم قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بوعودها وتنفيذ ضربتها الموعودة، وهذه الضربة قد تكون أو لا تكون انطلقت حتى تاريخ النشر لهذه القراءة، ومع ذلك، فالقلق يبقى قائماً حول الثقة في قدرة الأمريكيين على تحقيق ضربة مؤثرة، في ظل الوقت الذي يحصل عليه الروس والإيرانيون والسوريون للاستعداد لمواجهة الضربة المرتقبة.

يحتاج ترامب لهذه الحرب، فالأمريكيون الذين لم يحركوا ساكناً تجاه أعداد كبيرة من القتلى المدنيين من جميع الأطراف في سوريا، لا يمكنهم إقناع أحد بأن شهيتهم للتدخل تحركت، بمجرد اختلاف وسيلة القتل، وهذه الضربة يمكن أن تخفف من إيقاع مكتب التحقيقات الفيدرالية في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، كما يمكن أن يمنح واشنطن مخرجاً من حرب تجارية متعجلة أطلقها ترامب بطريقة استعراضية في مواجهة الصين.

تبدو هزيلة أيضاً مصداقية التنافح الروسي للرد على التهديدات الأمريكية، إذا ما اقترنت بالمواقف الفعلية الروسية التي شاهدت اسرائيل تضرب في العمق السوري بدون أي رد فعل حقيقي، والتي مررت أيضاً تدخلاً تركياً واسعاً في عفرين في صفقة يبدو أنها تجاهلت الحد الأدنى من المحافظة على صورة السيادة في دمشق.

السوريون وحدهم يخسرون في هذه اللعبة الأممية، والسنوات المهدرة بدون الوصول إلى حل سياسي معقول، ستبقى دليلاً على مدى الاستهانة بدماء الشعب السوري، فالجميع توجه لأن يختزل الصراع في شخص بشار الأسد، لا في مصير الشعب السوري، وفي هذه اللحظة التاريخية يبدو أن النار ستواصل توسعها على الأرض السورية لتلتهم ما تبقى من جيوب آمنة في دمشق وغيرها من المدن الساحلية.

الحرب في سوريا في هزيعها الأخير، فلا الأمريكيون ولا الروس يستطيعون التقدم إلى الأمام كثيراً، في ظل الأجواء المحتقنة، وستبدأ رقصة نارية لن تلبث أن تنطفئ بموجة البحث عن حل سياسي يعفي الجميع من التوتر القائم، بعد أن يتمكن الطرفان من لملمة ما يستطيعان من مكتسبات، وأن يترجما الاشتباك بفوارق كبيرة في الترجمة لتقديم رواية مرضية للجمهور في موسكو وواشنطن، ولا يستطيع أي من الرجلين في الكرملين أو البيت الأبيض أن يتحمل أكثر من مئة نعش تعود إلى دياره، وحتى إذا توسعت الحرب فإن الطرفين سيجدان سوريا أصغر من أن تتحمل حرباً واسعة، وغالباً ما ستجد الدولتان نفسيهما في طريق مسدود، أمام عالم لا يستطيع أن يتحمل هذه النزوة، وستتراجع قيمة سوريا في الصراع بين البلدين، وهو أمر جيد في حد ذاته، على الأقل سيوقف سكب البنزين على النار.

يحفل التاريخ بنماذج كثيرة من خذلان الروس للحلفاء، ولا يعدم كذلك مواقف كثيرة تخلت فيها أمريكا عن أصدقائها، ففي النهاية فإن تقييم الصراع عند اندلاع أي حرب لا يبقى تحت سيطرة الإدارة السياسية بالكامل، ويتراجع دور الدبلوماسية لتفسح الطريق للجنرالات بزيهم العسكري المرقط والمموه، وإذا كانت فيتنام ما تزال تمثل درساً للأمريكيين، فإن أفغانستان لم تزل إلى اليوم كابوساً لموسكو، والقوتان العظميان لا تفكران حالياً في اختبار أسلحتيهما في سوق ما زال متعطشاً لصفقات الشراء، ولا ترغبان في مواجهة حقائق يفضل أن تبقى نائمة في أحلام التفوق والتنمر، ولذلك، لم يلبث الرئيس الأمريكي بعد أن أطلق قفاز التحدي بأن يغري الروس بصفقة مبطنة في تغريدة أخرى، يتحدث من خلالها عن مساعدة الروس في تدبر الأمور الاقتصادية، مؤكداً بأن الأمر سهل بالنسبة للأمريكيين، مقابل أن يعمل الروس معهم، وأن يوقفوا سباق التسلح.

تطغى سياسة العمل بالقطعة على مزاج الرئيس الأمريكي، فبعد حديث عن انسحاب وشيك من سوريا، يحرك قطاعات عسكرية واسعة تجاه المتوسط لضرب سوريا، في رد فعل يبدو أنه لم يجر تدارسه أو إنضاجه بصورة جيدة، والروس الذين تخيلوا أنهم أنجزوا مهمتهم في سوريا، وأن أياماً تفصلهم عن تحقيق انتصار مبرم، وجدوا أنفسهم أمام تصريحات أمريكية استفزازية تجعلهم مضطرين للحرب من أجل صورتهم على الأقل، في موقف شبهه رئيس الوزراء التركي يلدريم بسلوك المتنمرين في الشوارع، مذكراً بأهمية التركيز على محاربة الإرهابيين والمحافظة على وحدة أراضي سوريا والعراق، في موقف يبدو أنه كان من نتائج اجتماع أنقرة الأخير مع روسيا وايران.

الساعات القليلة المقبلة، أو الفائتة، حسب أجندة الرئيس ترامب وتوقيته الخاص، ستكون صعبة على العالم بأسره، وعلى المنطقة العربية بوجه خاص، فالرئيس الأمريكي يثبت بأنه ليس الشخص المناسب لإدارة ملفات السياسة الخارجية الأمريكية، وأنه يمكن أن يقود العالم بتنمره واستعراضيته إلى مآلات خطيرة، فالعالم لم يعد طاولة شطرنج كبرى، بل أقرب إلى عجلة الروليت، والمشكلة أن المقامرين يفوزون أحياناً، بدون فهم أو جهد أو إبداع.

كاتب أردني

القدس العربي

 

 

 

تصريحات ترامب: طار الحمام حطّ الحمام

رأي القدس

تعرّضت الصحف الأمريكية أمس، لموضوع تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتناقضة في قضايا تؤدي فيها تقلبات زعيم أعظم قوّة في العالم إلى ردود فعل خطيرة داخل وخارج أمريكا.

في «واشنطن بوست» على سبيل المثال، تابع مقال يمكن ترجمة عنوانه بـ«ما الذي يقوله ترامب بحق السماء؟» الخطّ الذي أثاره « » لعدد أمس حول المفارقة التي خلقها تصريح الرئيس الأمريكي الأسبوع الماضي حول الانسحاب الفوري من سوريا، فحسب كاتب المقال فإن الرئيس السوري بشار الأسد لابد أنه فهم من ذاك التصريح أن بإمكانه استخدام الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، وهذا ما حصل السبت الماضي في دوما، ليفاجأ بعد ذلك بالتصريح اللاحق قبل يومين بأن «الصواريخ الذكية قادمة» وأن على روسيا، حليفة الأسد، أن تستعد لتلقي تلك الصواريخ.

وكما حصل مع التغريدة التي سبقته فإن التصريح الهجومي العنيف لم يستغرق غير يوم واحد حتى يتحوّل من «الصواريخ قادمة» إلى القول إن الهجوم على سوريا يمكن «ألا يكون قريبا على الإطلاق».

وكما ساهم التصريح الأول، حسب رأي المجلة، في اندفاع الأسد نحو استخدام الغازات السامّة ضد شعبه، فقد رأينا أن التصريح الثاني دفع النظام وحلفاءه إلى إخلاء المطارات والمقرات العسكرية من الجنود والعتاد الجوّي، وإلى انسحاب السفن الحربية الروسية في سوريا إلى عرض المتوسط، وإلى إعلان الكرملين أنه قام بتحييد الشخصيات السورية التي يمكن أن يستهدفها الأمريكيون (أي أنه قام بنقل الأسد وطغمته إلى أماكن آمنة)، أما التصريح الثالث، فالأغلب أنه فسّر أنه تردد أمريكي ـ غربيّ في استهداف النظام، أو أن مفاوضات سرّية مع الروس تجري تحت الطاولة، أو… اعتبار كل ما يصدر عن ترامب لا يمكن التعويل عليه.

الأمثلة على هذه التقلبات أكثر من أن تعد، ومن ذلك ما صرحه ترامب في الأسبوع الماضي أن لا أحد كان أكثر صرامة منه ضد روسيا… ولذلك فهو يعتقد أنه «يمكن أن يؤسس لعلاقة جيدة جدا مع الرئيس بوتين»… ولكن كل ذلك، حسب ترامب «يمكن ألا يحصل. من يعلم؟». يقدم ترامب في هذه الفقرة جملتين متناقضتين منطقيا، فحديثه يدور عن زعيم بلد يستعرض قدراته في إخضاع الشعوب والدول والزعماء واحتلال البلدان، ويتباهى بطاقاته الذكورية في الطيران وركوب الخيل والمصارعة والسباحة، وفوق كل ذلك فهو متهم بالتأثير في انتخابات جاءت بترامب نفسه رئيسا، ومخابراته متهمة بتسميم جاسوس في بلد حليف (بريطانيا)، وجيشه متهم بالتستر على مجازر الأسد ووحشيته، فهل هناك أسس لقيام «علاقة جيدة جدا» أكثر من هذه؟

أحد أسباب هذه الظاهرة لدى ترامب، حسب الإعلام الأمريكي، أنه لا يقرأ الملخص الرئاسي الذي يعرض أهم ما عرفته المنظمات الأمنية والاستخبارية الأمريكية من أنحاء العالم، وبدلا من ذلك فإنه يقوم بالاعتماد على بعض الآراء والتعليقات السخيفة التي تظهر على قناة «فوكس» للأخبار، فإذا قامت المحطة بإخباره أن قافلة لاجئين تتجه لاجتياح أمريكا فإنه سيتصرف بناء على تلك المعلومة الهستيرية، بل إنه عادة ما يتصل بشون هانيتي أو لو دوبس، وهما مقدما برامج في المحطة، لأخذ آرائهما في قضايا السياسة.

لهذه الأسباب فإن تغريدات وتصريحات ترامب تبدو منفصلة عن سياسات إدارته ووزرائه، وبخصوص سوريا فالواضح أن وزارتي الدفاع والخارجية تحاولان تجميع تحالف لقصف النظام السوري بينما أظهرت تغريدته أن الهجوم جاهز وأن الرئيس قد وضع يده على زر انطلاق الصواريخ، والأمر نفسه يقال عن تصريحاته حول روسيا والصين وكوريا الشمالية، وكذلك بالطبع، حول قضايا أمريكا الداخلية أيضا.

القدس العربي

 

 

 

 

النفاق الدولي في مجلس الأمن: غزة – سالزبري – دوما/ عبد الحميد صيام

ثلاثة أحداث سيطرت على جدول أعمال مجلس الأمن الدولي، وأخذت وقتا طويلا من المندوبين الخمسة عشر في الأسبوعين الأخيرين داخل قاعة المجلس وخارجها، لإيجاد موقف موحد حولها، وفي الحالات الثلاث عجز المجلس عن حسم الجدل واتخاذ موقف موحد، مرة بسبب تباعد المواقف وتصنيف الضحايا بين ضحية لا قيمة لها وأخرى تستحق من أجلها إعلان الحرب. كل واحدة من الأحداث الثلاثة كشفت جانبا من سباق النفاق الذي ميز مواقف الدول دائمة العضوية، لكنني مضطر أن أبعد الصين قليلا من هذا السباق والتي تتصرف بهدوء ووضوح موقف أكثر من بقية الدول الأخرى.

لقد اتضح لنا أن هناك حلفا جديدا يتكون من دول الاستعمار القديم، بريطانيا وفرنسا، والإمبريالية الأمريكية الجديدة، بهدف السيطرة الكاملة على العالم، ويعتقدون أن الفرصة الآن سانحة تماما بعد تدمير الدول العربية الأساسية، وتحويل دول عربية أخرى إلى بقر حلوب تدر ضروعها في خزانات تحالف الشر الجديد. أما روسيا، ورغم خلافنا الشديد معها لأسباب عديدة، أهمها دعم الطغاة العرب، إلا أنها تستشعر الفخ الذي ينصب لها والحفر التي يعمل الغرب على زجها فيها، لقلع ما تبقى لها من أنياب بعدما طوقوها من كل جانب، ووقف الناتو على أبوابها من بوابة أوكرانيا، آخر مواقعها خارج حدودها. هذه هي الصورة التي تبلورت يوم الثلاثاء الماضي، والتي تذكرنا بأيام الحرب الباردة.

غزة والسقوط الأخلاقي لمجلس الأمن

ما حدث في غزة على مدى أسبوعين وسقوط عدد من الضحايا يزيد عن 30 شهيدا وأكثر من 2500 جريح، كشف عجز المجلس ورعونة موقف الولايات المتحدة التي منعت صدور بيان ناعم بسيط أعدته الكويت يقر بالحق بالتظاهر ويعبر عن القلق- فقط القلق- لوقوع ضحايا من المدنيين الذين يتظاهرون على أرضهم. في الجمعة الأولى سمح للمجلس بأن يجتمع، أما في الجمعة التالية فلم يسمح له حتى بأن يجتمع. عندما ترتكب إسرائيل مذبحة تتم حمايتها والتغطية عليها ويكرر المتكلمون الكلام الواحد وراء الآخر، خاصة بعض الأعضاء الجدد في المجلس المتزلفين للولايات المتحدة مثل البيرو وبولندا وهولندا. ضحايا الفلسطينيين ليست لهم قيمة عند هؤلاء وليسوا بحاجة إلى تحقيق دولي أو مستقل، لأن المجرم أصلا معروف ولا يخفي هويته أو سلاحه المغمس بالدم. إنه يشهر بندقيته التي يحملها قناص ويعلن سلفا أنه جاء ليقتل. ومع هذا يشيح المجلس بوجهه عن الضحايا، بل يضع اللوم عليهم لأنهم عرضو أمن الدولة للخطر. لا نفاق أقبح من هذا… لا يقولن أحد أنهم معنيون كثيرا بسقوط سبعين ضحية في دوما.

 

محاولة اغتيال العميل المزدوج سكريبال

تقول النظرية الكلاسيكية في محاولة التعرف على الجاني، في أي جريمة غامضة «إبحث عن المستفيد». وهذا سؤال أكثر من منطقي في محاولة اغتيال العميل المزدوج سيرجي سكريبال هو وابنته يوليا في مدينة سالزبري، حيث يقيم منذ عام 2010 بهدوء بعدما سجنته روسيا بين عامي 2004 و2010 ثم أطلقت سراحه، بناء على برنامج تبادل العملاء، وسمحت له أن يغادر أراضيها ويستقر في بريطانيا. وبدأت ابنته يوليا تزوره بشكل طبيعي. يوم 4 مارس تعرض سكريبال وابنته إلى هجمة بغاز أعصاب قاتل اسمه «نوفوشيك»، نقل على أثره إلى المستشفى وكادت يوليا أن تموت، لكن في النهاية تعافى الوالد وابنته. الأمر المحير أن بريطانيا أعلنت فورا أن روسيا هي من قامت بالعملية بحجة واهية تدعي أن المادة الكيميائية كانت تصنع في الاتحاد السوفييتي سابقا، وأن المعامل ما زالت تنتجها. اعتبرت تيريزا ماي أن هذه المحاولة بمثابة إعلان حرب من روسيا على بريطانيا، وبدأت تهدد وتتوعد. دعت سفيرتهم الجديدة، كارن بيرس، إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن، الذي انصاع للأمر وعقد المجلس بدل الجلسة جلستين (13 مارس و5 أبريل). وراحت الدول الثلاث تنسق في ما بينها في تضخيم هذا الحادث، واعتباره تهديدا للأمن والسلم الدوليين، ويجب ألا يمر بدون عقاب. ولشدة المبالغة في تهديد السفيرة البريطانية اضطر السفير الروسي فاسايلي نيبنزيا لأن يقول لها: «إن بريطانيا تلعب بالنار وستأسف على ذلك».

عدة أسئلة أثارتها هذه الحادثة وليس لها جواب – لماذا تناقش «محاولة اغتيال شخص» في مجلس الأمن بينما لا يجد المجلس وقتا لمذابح الروهينغا، وتشريد الآلاف واغتصاب النساء وحرق الأطفال أحياء، وإدارة ظهر حكومة ميانمار للعالم؟ المجلس لم يتخذ أي قرار بخصوص مجازر الروهينغا، ولم يعقد إلا جلسة مشاورات مغلقة واحدة وأخرى مفتوحة وانتهى الأمر. ثم لماذا تحتاج روسيا أن تغتال من كان عميلا وكان في سجونها وأطلقته ولم يعد له أي قيمة ولا أحد يتذكره؟ وإذا كان خطيرا لماذا انتظرت ثماني سنوات؟ ولماذا لم تتقن العملية وتجهز عليه؟ روسيا الآن مقبلة على استضافة مباريات كأس العالم لكرة القدم بعد نحو شهرين فقط، فهل من المنطق أن تجر على نفسها مصيبة كهذه قد تؤدي بالعديد من الدول إلى مقاطعة المباريات، خاصة أن بوادر المقاطعة بدأت بآيسلند التي أعلنت أنها لن ترسل فريقها لمونديال موسكو. إذن لا بد أن يكون هدف هذه الدول الثلاث التي تتقاسم الأدوار أكبر من سكريبال وابنته يوليا.

دوما والسلاح الكيميائي مرة أخرى

هذا التباكي الغربي على ضحايا الهجوم الكيميائي الذي قيل إنه وقع مساء السبت الماضي على دوما مخلفا سبعين قتيلا ونحو 500 جريح لا يقنع أحدا أنه صادق. فمئات الألوف من الشعب السوري قضوا ليس بسبب الأسلحة الكيميائية، بل بالأسلحة التقليدية الأخرى كالطيران والبراميل المتفجرة والقذائف الصاروخية. وقد وقع مؤخرا ضحايا أبرياء في مدينة دمشق نفسها، من قصف الميليشيات المسلحة التي صنفتها الأمم المتحدة بأنها إرهابية، بدون أن يذكرها أحد في كلماته ولو من باب حفظ ماء الوجه، وكأن السوري العادي إذا كان في دمشق يجوز قتله أما إذا كان تحت سيطرة «جيش الإسلام» فهو ضحية. ركزت كلمات الوفود الثلاثة على اتهام روسيا أكثر من الهجوم على النظام نفسه. توقيت الهجوم نفسه يثير التساؤل فقد وقع في الذكرى السنوية الأولى لهجوم خان شيخون، الذي استخدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقصف قاعدة الشعيرات بـ59 صاروخا، لم تترك أي أثر بل أنقذت ترامب من ورطاته الداخلية وارتفاع شعبيته وخاصة لدى اليمين المتطرف.

وزارة الحرب التي شكلها ترامب الآن اكتملت، بعد إضافة بومبيو للخارجية وجون بولتون للأمن القومي. اليمين المتطرف لا يهمة مقتل 70 سوريا ولا يعنيه شيء إلا سلامة إسرائيل، وتحجيم روسيا وضربها على أنفها في سوريا، وإضعافها وتفكيك تحالفاتها الجديدة، خاصة بعد إعادة انتخاب بوتين. قامت إسرائيل بضرب مطار تي فور قرب حمص… لم يتطرق أي من المتحدثين إلى هذه الحادثة وكأنها لا تعني شيئا، فإسرائيل فقط مسموح لها أن تكون فوق القانون. وضعت الولايات المتحدة مشروع قرار لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، ليس للتأكد من استخدام السلاح الكيميائي، بل لمعرفة الفاعل الذي حدد سلفا بدون تحقيق. كانت السفيرة الأمريكية تعرف أن مشروعا قويا كهذا سيطيح به الفيتو، وهو بالضبط ما تريده هي وحليفتاها في المجلس. إنه المبرر الذي يبحثون عنه للقيام بضربة عسكرية كبيرة لن تؤثر كثيرا على نظام الأسد، بل ستلحق هزيمة معنوية بروسيا، أو جرها لمعركة محدودة لاختبار أسلحتها أو استعداداتها. روسيا من جهتها طرحت مشروعين مرة واحدة تفصل بين التحقيق في صدقية الهجوم والتحقيق فيمن هو الفاعل، وهي تعرف أن المشروعين لن يمرا بسبب تركيبة مجلس الأمن والعجز عن حصول الحد الأدنى من الأصوات المطلوبة لاعتماد القرار. وانتهى المجلس يوم الثلاثاء بالفشل في اعتماد أي من المشاريع الثلاثة فترك الباب مفتوحا لعمل خارج المجلس.

كل الأمور تسير الآن كما خططت لها الدول الثلاث. الفيتو الروسي الثاني عشر سيستخدم غطاء لعمل عسكري قد يكون كبيرا هذه المرة، ولكن ليس من أهدافه إنقاذ الشعب السوري بالتأكيد بعد كل هذا الدمار والخراب الذي لحق بسوريا الوطن وسوريا الشعب وسوريا التاريخ وسوريا الحضارة. هذا ما تريده إسرائيل. وهؤلاء هم طبعة جديدة من – سايكس بيكو وبلفور- الضحايا من العرب والمال من العرب والمسرح في أرض العرب. ولتتابع إسرائيل مجازرها في غزة على مرأى ومسمع من حلفائها العرب الجدد المعجبين بإنجازاتها والمتبرعين لها بفلسطين.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

القدس العربي

 

 

 

 

وعيد ترامب.. ليس لنا من الأمر شيء/ أسامة أبو ارشيد

أكتب هذه السطور قبل إنفاذ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعيده بشن هجوم عسكري على النظام السوري، انتقاما من استخدامه أسلحة كيميائية في دوما في ريف دمشق يوم السبت الماضي. وقد لا تجد هذه المقالة طريقها للنشر إلا ويكون الهجوم المرتقب قد وقع. وبغض النظر عن طبيعة الهجوم ونطاقه، ضيقا عبر قصف مواقع عسكرية للنظام، كما جرى في إبريل/ نيسان العام الماضي في مطار الشعيرات العسكري في حمص، أم واسعا، كما تقترح بعض التقارير، فإن أمرا واحدا نعرفه يقينا هو أن السوريين والعرب، ممن هم مع الهجوم الأميركي – الغربي الموعود على نظام بشار الأسد، أم ممن هم ضده، ليس لهم من الأمر شيء، وأمنياتهم أو تخوفاتهم لا تغير في واقع الأمر مثقال ذرة. إننا جميعا متلقون لا فاعلون، ونحن موضوعٌ لا طرف، كما أننا نقع في عقدة الصراعات الإقليمية والدولية، وتجري المعركة على أراضينا وبدمائنا. حال مؤلم، لكنه الواقع كما هو.

لن يختلف أصحاب الضمائر الحية في أن نظام الأسد، وداعميْهِ الروسي والإيراني، ومن يدور في فلكهم جميعا، لم ولن يرعووا عن ارتكاب جرائم بشعة ومجازر رهيبة. هم فعلوا ذلك مرارا وتكرارا، وسيبقون يفعلون ذلك، ما دام بقي في صفوف الشعب السوري من يرفض أن يخضع لطغيانهم وجبروتهم. ومن ثمَّ، فإنه وإن كان من المفهوم إثارة بعضهم شكوكا حول مسؤولية النظام السوري عن مجزرة دوما الكيميائية، خصوصا بعد أن نجح في حسم معركة الغوطة الشرقية، تقريبا، بدعم الروس والإيرانيين، غير أن هذا لا يغير شيئا من حقيقة إجرام هذا النظام، والذي قتل، ولا يزال، عبر الأسلحة “التقليدية” أضعاف أضعاف من قتلهم بالأسلحة الكيميائية.

وتقود هذه النقطة إلى مسألة أخرى، أن الولايات المتحدة، ومعها دول غربية كثيرة انتفضت

“انتهينا، نحن العرب، إلى ملعب للآخرين، إقليمياً ودولياً، بل إننا أيضاً الكرة التي تتقاذفها أرجلهم”

الآن بسبب الكيميائي، هي نفسها من سكتت وتسكت عن البراميل المتفجرة التي حصدت من السوريين آلافا مؤلفة، ولم نر منهم هذه “الإنسانية” الزائفة. ولعل في إعلان بعض الدول الغربية أنها تحقق في نوعية الغاز المستخدم في مجزرة دوما لتحدّد موقفها من عمل عسكري ضد النظام من عدمه ما يختزل المشهد كله. حسب هؤلاء، فإنه إذا كان الغاز المستخدم هو الكلور، حينها يمكن تفويت ذلك، أما إذا كانت المجزرة تمت بغاز السارين، مثلا، عندها سيكون هناك جواب آخر! وكان وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، نفسه، قد قال بوضوح، في شهر فبراير/ شباط الماضي، إن ثمة أدلة على أن النظام السوري استخدم غير مرة الكلور في هجمات “لكن أشد ما يثير قلقنا هو احتمال أن يكون غاز السارين استخدم”، وهو الأمر الذي لم تملك واشنطن دليلا عليه، حينها، كما قال. إذن، المسألة، في المنظور الأميركي – الغربي، لا يحددها عدد الضحايا والصور الصادمة لهم، وإنما طريقة قتلهم! أيهم أكثر وحشية الآن، الغرب، أم روسيا وإيران ونظام الأسد؟ كلهم متوحشون، ويتراشقون بدمائنا، كما أوضح مقال سابق لكاتب هذه السطور في العربي الجديد (30/3/2018).

مسألة ثالثة تبرز هنا، وتتعلق بالحال الآسن والمخزي الذي وصل إليه سوريون وعرب كثيرون، عبر تمنيهم قصفا أميركيا وغربيا للنظام انتقاما من جريمة دوما، وغيرها كثير. هذا ما جنته علينا أنظمة الإجرام العربية. نقتل بأيديهم، ثم نتمنّى أن نقتل وإياهم بأيدي مجرمين آخرين! لقد أوصلتنا هذه الأنظمة، بفجورها، إلى حد أن يفرح كثيرون فينا بتدمير القدرات العسكرية لأوطاننا، والتي الأصل أنها ملك لنا، ولحمايتنا، لكننا اكتشفنا أنها سخط علينا، في حين أنها برد وسلام على أعدائنا. لا أدين من يتمنى قصفا أميركيا وغربيا لنظام الأسد، فأنا أتفهم منطلقاتهم، مع تحفظي عليها، ولكني أريد أن أسجل هنا أن هذا قاعٌ لم نبلغه في تاريخنا قط من قبل. وأن أنظمة الطغيان والتخلف العربية هي التي أوصلتنا إليه.

في ما يتعلق بداعي التحفظ على منطلقات من يرتجي ضربة عسكرية غربية لنظام الأسد، فإن

“الأكثر مرارةً أن يتاجر الغرب الذي لا يراعي حرمة لحقوقنا، باعتبارنا بشرا، بحقوق بعض منا فقط، وفي أحيان متقطعة، وضمن سياقاتٍ تخدم أجندتهم”

مردّه يتمحور حول حقيقة أن القاصِفَ إذا قَصَفَ فلن يَقْصِفَ من أجل السوريين، ولكن خدمة لمصالحه ولحسابات تخصه. هذه هي الحقيقة للأسف. وأعيد التذكير هنا بالنقطة السابقة، أن الولايات المتحدة، ومعها دول غربية كثيرة، لم تَتَمَعَّر وجوههم يوما غضبا لقتل السوريين بوسائل “بدائية” ولكن فتاكة، كالبراميل المتفجرة والكلور. كلنا يذكر أن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، عندما حدّد “خطاً أحمر” للنظام السوري عام 2012، لم يكن مرتكزا إلى قتل السوريين وسفك دمائهم بالجملة، وإنما قتلهم وسفك دمائهم بالأسلحة الكيميائية. وعندما تجاوز الأسد ذلك “الخط الأحمر” في أغسطس/ آب 2013، ويا للمفارقة، في الغوطة الشرقية أيضا، لحس أوباما “خطه الأحمر”، وامتنع عن توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد في مقابل تسليم ترسانته الكيميائية التي يبدو أنه أخفى بعضها. واليوم، نجد ترامب يسير على خطى أوباما نفسها، على الأقل إلى الآن. وقد سبق أن انتقد ترامب أوباما لعدم تفعيل وعيده بـ”الخط الأحمر”، في حين أنه هو نفسه، على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور، اختزل “خطوطه الحمراء” في استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي.

باختصار، انتهينا، نحن العرب، إلى ملعب للآخرين، إقليميا ودوليا، بل إننا أيضا الكرة التي تتقاذفها أرجلهم، كما أننا أصبحنا حقل تجارب لأسلحتهم وصواريخهم وخططهم العسكرية. حتى أنظمتنا التي يظن بعضها أنه لاعب، هي ليست أكثر من أدواتٍ تستخدم حتى انتهاء صلاحيتها، وبعدها يتم التخلص منها. الأكثر مرارةً أن يتاجر الغرب الذي لا يراعي حرمة لحقوقنا، باعتبارنا بشرا، بحقوق بعض منا فقط، وفي أحيان متقطعة، وضمن سياقاتٍ تخدم أجندتهم. تُرى هل حَمِيَّةُ ترامب المفاجئة، وتصعيده اللفظي مع روسيا، ورئيسها، فلاديمير بوتين، شخصيا، في سورية، يأتي في سياق إثبات أنه ليس لعبة في يد الأخير، وخصوصا أن التحقيقات في هذا الصدد يضيق خناقها عليه، وعلى بعض من حوله؟ ليس عندنا دليل على ذلك، ولكن مجرد وجود هذه الفرضية يكشف الثمن البخس لدمائنا، بفعل أنظمةٍ تحكمنا بالنار والحديد والتخلف.

العربي الجديد

 

 

 

عن الضربة الأميركية على سورية/ معين الطاهر

خلال ساعات أو أيام، ربما قبل نشر هذه المقالة أو بعدها بوقت قصير، ثمّة ضربة عسكرية أميركية، قد تشارك بها فرنسا وبريطانيا، ضدّ مواقع للنظام السوري. وقد تمتد لتشمل الوجود العسكري الإيراني وحلفائه، ومواقع القيادة والسيطرة، والقواعد الجوية، والتجمعات العسكرية، ومستودعات الأسلحة، وربما مقرّات كبار المسؤولين، وما هو في حكم ذلك من أماكن.

ليس هذا كلاما من فراغ، فالعالم بأسره يضج به، واحتمالاته تقترب من أن تصبح واقعًا ملموسًا، فالمحللون والمتابعون للشأن الأميركي الروسي السوري يتفقون على أنّ ثمّة ضربة، ويختلفون في مداها وأسلوبها وحجمها ونتائجها وجدواها ومدى تأثيرها في ميزان القوى الحالي في سورية، وفي ما إذا كانت ستجرّ العالم إلى مواجهة روسية أميركية شاملة، أو تصعيدٍ غير مسبوق مع إيران، وحول كيفية احتواء الضربة والحدّ من نتائجها، وتأثير ذلك كله في الوضع السوري واحتمالات الحل السياسي وتوازناته، وعلى الوجود الإيراني، وفي ما إذا كان ذلك سيشكّل بدايةً لسياسة أميركية، مختلفة عن سابقتها في عهد الرئيس باراك أوباما، أو حتى عن العام الأول لإدارة الرئيس دونالد ترامب، وانعكاس ذلك كله على دول الإقليم، وهل تكون تلك الضربة تلويحًا مُعلنًا لشكل السياسة الأميركية المستقبلي باتجاه تنفيذ ما عُرفت بصفقة القرن، وإدخال إسرائيل طرفًا في معادلات المنطقة.

سابقًا، كان ثمّة دلائل على استخدام النظام السوري أسلحة كيميائية. يومها اكتفى العالم بموقف المتفرّج، وجرت صفقة داخل أروقة مجلس الأمن تضمنت تجنب القيام بعمل عسكري مقابل

“لن تكون الضربة الأميركية، على الأرجح، خاطفة، ستستمر أيامًا وربما أكثر قليلًا”

إنهاء مخزون النظام السوري من الأسلحة الكيميائية، وأُلّفت لجان من أجل التحقق من ذلك، وأُسدلت الستارة على ذلك المشهد، ليبدأ الفصل الثاني منه اليوم. لم يكن الرئيس أوباما راغبًا في التدخل العسكري المباشر في سورية، فما الذي جدّ ليُظهر الرئيس ترامب كل هذه الحماسة لمثل تلك الضربة الآن.

ليس العام الثاني لولاية الرئيس ترامب مثل عامه الأول، فهو يبدو ممسكًا أكثر فأكثر بمقاليد السلطة بعد إطاحته أهم رموز إدارته. يريد ترامب أن يؤكد أنّ ثمّة رئيسا واحدا في الولايات المتحدة الأميركية، وأنّ على الدولة العميقة أن تخضع لسلطته، وهو أمر ليس سهلًا على أي حال. ويريد ترامب أيضًا، عبر ضربة ما على سورية، أن يثبت عدم صحة الاتهامات المتداولة عنه، والمتعلقة بشبهات تربط نجاحه في الانتخابات بتدخل ودعم روسيين. وفي الوقت نفسه، فإنّه سيسعى إلى الحدّ من احتمال مواجهة روسية أميركية واسعة، كما أنّه يريد أن يُظهر حزمًا أمام حلفائه العرب، لإقناعهم بجدية موقفه في مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة والحدّ منه. وقد يعمل بتأثير من اللوبي الصهيوني المتغلغل في إدارته على تهيئة الواقع للقبول بدور إسرائيلي متعاظم في الإقليم، وقد يكفل لها منطقة نفوذ أكبر في الجنوب السوري.

ثمّة محاولة أوروبية لجعل الضربة محدودة بقصف المواقع التي يُشتبه في أنّها مواقع كيميائية، وتجنّب المواجهة مع حلفاء النظام السوري، أي تحويل الضربة إلى فرقعةٍ إعلامية لن تتعدى قصفًا محدودًا لفترة وجيزة. لكن يبدو أنّ إدارة ترامب تريد تحقيق أهداف أكبر من الهدف الأوروبي، ولعلّه هنا يكمن سرّ تأخير الضربة.

لن يصل التحرك العسكري الأميركي المرتقب إلى حدّ المواجهة مع روسيا أو القوات الروسية المنتشرة في سورية، وسيسعى إلى تطويق أي حادث عرضي قد يقع خلال العملية. وثمّة نموذج راهن يمكن الاقتداء به يتمثّل في الضربات الجوية الإسرائيلية التي تحدث من دون أي تدخل أو سعي روسي لوقفها أو التصدّي لها. ومع أنّ الاحتمال الأكبر هو أن تعتمد الولايات المتحدة وحلفاؤها على قصف المواقع المستهدفة بصواريخ باليستية عابرة للقارات، مثل صواريخ توما هوك والتي يمكنها الانطلاق من سفن وقواعد أميركية، وحتى لو أُسقط بعضها عبر منظومات S400 وS600 الروسيتين، فإنّ هذا العمل لن يجرّ إلى مواجهة أميركية روسية.

ستتدخل الطائرات الأميركية في المناطق البعيدة عن وجود بطاريات الصواريخ والمواقع

“هدف العملية الأميركية هو حسم المعركة في الجنوب السوري، وتأمين الحدود مع إسرائيل، وتوسيع نطاق نفوذها”

الروسية في المنطقة المحاذية للوجود الكردي أو بالقرب من المنطقة الجنوبية، وقد يشمل ذلك التدخل عمليات برية محدودة لتوسيع السيطرة الأميركية بالقرب من قاعدة التنف، حيث سيكون الهدف لهذه العملية الأميركية هو حسم المعركة في الجنوب السوري، وتأمين الحدود مع إسرائيل، وتوسيع نطاق نفوذها، ومنع النظام وحلفائه من التمدّد باتجاه هذه المنطقة في ضربة استباقية لمحاولات النظام السوري التقدّم بهذا الاتجاه، بعد انتهاء معارك الغوطة وتأمين دمشق. ولن تكون الضربة الأميركية، على الأرجح، خاطفة، ستستمر أيامًا وربما أكثر قليلًا، إلى حين تهيئة الظرف وميزان القوى للدخول في اتفاق جديد، وهي حتمًا ليست مرتبطة باستخدام النظام السوري غازات سامة في دوما، فلو لم توجد هذه الحجة لوُجّهت الضربة بذرائع أخرى.

تبدأ الحرب دائمًا من طرفٍ يشعلها، وفي سورية ثمّة حرب مستعرة ومستمرة، تداخلت فيها جميع الألوان، وثبت فشل التوقعات المختلفة حول نتائجها، ففي نهاية كل فصل ثمّة بداية لفصل جديد، يختلف أبطاله وتتنوع حوادثه. يمكن لنا وللأميركان والروس محاولة وضع الاحتمالات المختلفة، فهذا ما يعكف عليه دومًا الخبراء وصنّاع القرار، لكن دائمًا ثمّة حقيقة غائبة، فالخروج من الحرب ليس مثل الدخول فيها.

العربي الجديد

 

 

 

ضربة تعني الكثير.. وقد لا تعني شيئا/ خيرالله خيرالله

يصعب على إدارة دونالد ترامب التراجع عن توجيه ضربة إلى النظام السوري بحجّة استخدامه السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية خصوصا في بلدة دوما. هذا عائد إلى أسباب عدّة. في مقدّمة هذه الأسباب الوضع الداخلي للرئيس الأميركي الذي يواجه تحقيقا في العمق في شأن تمويل حملته الانتخابية ومسائل أخرى ذات طابع شخصي.

استدعى ذلك تفتيش رجال مكتب التحقيق الفيدرالي (إف.بي.آي) مكتب محاميه الخاص مايكل كوهين في نيويورك، مع ما يعنيه ذلك من رغبة وإصرار لدى السلطات القضائية الأميركية في الذهاب بعيدا في تحقيقاتها. تشمل هذه التحقيقات قضايا تراوح بين السلوك الشخصي لترامب وطريقة تعاطيه مع ممثلة إباحية أراد إسكاتها بالمال، وطبيعة العلاقة مع روسيا أو أوكرانيا في مرحلة معيّنة والاتهامات بتمويل جهات خارجية لحملته الانتخابية في العام 2016.

أيّا تكن نتائج هذه التحقيقات، التي يقودها المحقّق الخاص روبرت مولر، يواجه الرئيس الأميركي ضغوطا كبيرة لم يسبق لأي مقيم في البيت الأبيض أن تعرّض لمثيل لها في النصف الأوّل من عهده. سيجد الرئيس الأميركي نفسه مضطرا للهرب إلى الخارج، إلى سوريا تحديدا، بعدما تصرّف منذ دخوله البيت الأبيض على طريقة باراك أوباما.

حسنا، لدى دونالد ترامب همّ تأكيد أنّه ليس باراك أوباما. حرص على إيضاح ذلك في تغريدات له قبل أيّام وصف فيها بشّار الأسد بـ“الحيوان”. وهذا تصرّف جديد من نوعه لم تتعوّد عليه مدينة مثل واشنطن دي. سي. كانت تلك التغريدات، التي تطرّق فيها ترامب إلى سلفه وإلى تراجعه عن ضرب النظام السوري صيف العام 2013، بمثابة الإشارة الأولى إلى أنه سيفعل شيئا على الأرض السورية، على الرغم من كلامه المفاجئ قبل أسبوعين، أو أقل، عن “انسحاب عسكري سريع” منها.

يبدو أنّ الكلام عن الانسحاب “السريع” كان من أجل تغطية المزيد من التورط في سوريا في وقت بات معروفا أن إيران تحاول تثبيت أقدامها فيها. زاد الوجود الإيراني في سوريا عمقا واتساعا بعدما فشل الروسي في كبحه تلبية للوعود التي سبق له أن قطعها لكثيرين، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة وجهات عربية معنية مباشرة بسوريا. ما يهمّ هذه الجهات عدم قيام الهلال الفارسي، أي خط طهران – بيروت، مرورا ببغداد ودمشق.

في ظلّ الضغوط الداخلية من جهة، والإصرار على أن يكون مختلفا كلّيا عن باراك أوباما من جهة أخرى، لم يعد من خيار آخر أمام ترامب غير الإقدام على عمل في سوريا. تقوم كل فلسفة إدارة ترامب على ضربة لنظام بشار الأسد تصبّ في إضعاف إيران وإفهام روسيا، في الوقت ذاته، أن ليس في استطاعتها متابعة لعبة تخدم المشروع التوسّعي لطهران على حساب الشعب السوري ومدنه وتركيبته الاجتماعية.

الأكيد أن إدارة ترامب غير مهتمّة، وسط كلّ ذلك، بمصير الشعب السوري وبالحرب التي يتعرّض لها على يد نظام أقلّوي أصبح رهينة إيرانية أكثر من أيّ وقت منذ خلف بشّار والده في العام 2000 وحتّى قبل ذلك. أي مذ صار بشّار الحاكم الفعلي لسوريا ابتداء من العام 1998 عندما بدأت الحال الصحّية لحافظ الأسد تسوء تدريجيا، فيما السلطة تنتقل إلى خليفته.

لو كان الشعب السوري همّا أميركيا، لما كانت الحاجة إلى عذر اسمه استخدام السلاح الكيميائي. البراميل المتفجّرة ليست أسوأ بكثير من السلاح الكيميائي الذي يلجأ إليه بشار، بين حين وآخر، لتهجير القسم الأكبر من السوريين من بلدهم أو من المناطق التي يقيمون فيها خدمة للمشروع الإيراني الذي يستهدف بين ما يستهدف تغيير الطبيعة الديموغرافية لدمشق والمناطق المحيطة بها، مثل الغوطة الشرقية والزبداني على سبيل المثال وليس الحصر.

المهمّ الآن أن تكون الضربة، في حال حصولها، ذات فائدة للشعب السوري المظلوم، وليس من أجل إراحة ترامب وتمكينه من تجاوز أزمته الداخلية وإظهار أنّه ليس باراك أوباما. المهمّ أيضا، وربّما الأهمّ، أن تندرج هذه الضربة في سياق رؤية استراتيجية متكاملة للشرق الأوسط والخليج في وقت تعاني فيه المنطقة كلها من السياسة الإيرانية القائمة على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية، فضلا عن دعم قيام ميليشيات طائفية تدمّر مؤسسات الدولة أو ما بقي منها، كما الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

لا شك أن اللاعب الهامشي على صعيد ما يدور في سوريا حاليا هو النظام نفسه. لم يعد من دور لهذا النظام سوى تنفيذ ما تطلبه إيران. الدليل على ذلك ما جرى ويجري في الغوطة الشرقية. ترافقت مأساة تدمير القرى والبلدات وتهجير أهلها في تلك المنطقة مع صدور قانون يجبر كل مواطن على تأكيد ملكيته لأرضه في غضون شهر. إذا لم يفعل ذلك، تصادر الأرض وتعرض للبيع في مزاد علني. ستكون إيران جاهزة، عبر واجهات لها لشراء الأرض المعروضة. من لا يصدّق ذلك يستطيع العودة إلى هذا القانون الذي أصدره بشّار الأسد قبل أيام وحمل الرقم 10 للسنة 2018. تأمل إيران من هذا القانون استيفاء ديونها لدى سوريا عن طريق أراض ومزارع وممتلكات تحصل عليها في دمشق ومحيط دمشق ومناطق أخرى.

لم يعد سرّا أن إيران تدرك جيّدا ما تفعله في سوريا. تدرك جيّدا ما الذي يعنيه، بالنسبة إليها، تدمير كلّ مدينة عربية، من البصرة إلى بغداد إلى الموصل في العراق، إلى حمص وحماة وحلب في سوريا… وصولا إلى تغيير تركيبة دمشق. لكنّ السؤال المؤسف الذي يطرح نفسه بحدّة كيف يمكن لدولة مثل روسيا، يفترض فيها أن تعرف سوريا في العمق وأدق التفاصيل، العمل في خدمة المشروع الإيراني؟ لا يعود ذلك مستغربا عندما يعتمد الروسي في سوريا على “شرعية” النظام القائم. عن أيّ “شرعية” يتحدّث المسؤولون الروس؟ لو كانت لأيّ نظام دعمته روسيا منذ أيّام الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية شرعية ما، لما كان ذلك الانهيار الكبير الذي بدأ بسقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989 وتُوجَ بتفكّك الاتحاد السوفييتي مطلع 1992.

ستعني الضربة الأميركية في سوريا الكثير، كما قد لا تعني شيئا. ستعني الكثير بالنسبة إلى سوريا نفسها والعراق ولبنان، وحتّى الأردن واليمن والبحرين، في حال حصول الانكفاء الإيراني، وهو انكفاء ستكون له انعكاساته في الداخل الإيراني. كذلك، ستعني الكثير لأيّ دولة من دول الخليج العربي التي تعاني منذ سنوات طويلة من العدوانية الإيرانية، ومن نظام مفلس ليس لديه سوى تصدير أزماته إلى خارج أراضيه.

لن تعني الضربة شيئا في غياب الرؤية الاستراتيجية، بمعنى أن يكون همّ دونالد ترامب محصورا في إنقاذ رئاسة دونالد ترامب لا أكثر…

إعلامي لبناني

العرب

 

 

 

دوما: خيانة هذا الغرب/ محمد قواص

تنكرُ موسكو الهجوم بالأسلحة الكيمياوية على دوما. أنكرت قبل عام هجوما مماثلا على خان شيخون، كما هجمات متعددة  سابقة ولاحقة على أهداف أخرى. لم يحدث أمر دوما في عرف روسيا، لا ضحايا ولا اختناقات، والحكاية مختلقة ذات أبعاد هوليوودية متخيّلة، وإذا ما أقرّت بغازات محظورة استخدمت في موقع ما، فتلك مؤامرة يستخدمها الخصوم فينفثون غازاتهم على قومهم لعلّ في ذلك استدراجا لقوى عظمى تقلب موازين القوى ضد النظام في دمشق.

ووفق الرواية الروسية لم يحدث هجوم الغوطة الكيمياوي عام 2013. الغربيون وثّقوا الأمر وهددوا وتوعدوا وشحذوا السيوف إلى أن وجد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مخرجا قدمته موسكو “نحن نتكفّل بسحب كامل الأسلحة الكيمياوية لدى النظام السوري”. لكن لماذا ترضى موسكو بمهمة “ظالمة” تقضي بتجريد دمشق “المظلومة” من ترسانتها الكيمياوية بسبب جريمة “لم تقترفها” وجرم “لم يحصل”.

وللإنكار المملّ حجج الصغار. من أسئلة موسكو البريئة: ما مصلحة روسيا في قتل سيرجي سكريبال، عميلها السابق، عشية الانتخابات الرئاسية؟ ومن حجج علماء روسيا أنه لو كان الغاز المستخدم في محاولة الاغتيال فوق الأراضي البريطانية روسيّا لكان الهدف قد قتل هو وابنته والشرطي الذي وجدهما في حالة الإغماء إضافة لعشرات آخرين من سكان المنطقة. الأمر فبركة بريطانية تارة، ومحاولة قتل ارتكبتها أجهزة لندن وواشنطن تارة أخرى، ناهيك عن أن لائحة الروس المعادين لسلطة الرئيس فلاديمير بوتين الذين يتساقطون في ظروف ملتبسة داخل بريطانيا، إنما هي رجس من عمل الغرف المجهولة.

تنفجر الجريمة الفضيحة في دوما. جثث تنقل الصور تكدسها ومأساة حالها. المعارضة السورية والمنظمات الإغاثية تتهم النظام السوري فورا، قبل أن تستفيق أجهزة المخابرات الدولية فتقدم روايتها مؤكدة رواية أهل دوما المنكوبة. بالمقابل تهرع موسكو وقبل أن تستفيق أجهزتها على أي رواية إلى نفي الحدث “جنرالاتنا لم يجدوا شيئا والنظام السوري بريء من ذلك العمل”. فإذا ما كانت روسيا تطالب المجتمع الدولي بتحقيقات تستغرق أشهرا وربما سنين حتى تجد الجاني والرأس المدبر، فكيف لها أن تجزم في أمر براءة المتهم بعد دقائق من الجريمة مستغنية عن نتائج أي تحقيق.

بدا أن الانحدار الروسي صار صبيانيا يشبه سوقيّة صغار المنحرفين. تنبّهت الصين إلى خواء أخلاقي مربك في الدفاع عن نظام بشار الأسد. بيان بكين جاء في إخراج جديد لافت. لم تنكر الصين الحدث الجريمة، ولم تتورط في الدفاع عن طرف أو اتهام طرف آخر. طالبت بكين بتحقيق لكشف الحقيقة. تنبّهت موسكو إلى خيبتها ودفعت نحو مجلس الأمن بمشروع قرار لتشكيل آلية تحقيق وفق المعايير الروسية. وعلى الأقل موسكو هذه المرة تعترف بأن هناك جريمة ارتكبت تستحق تحقيقا يهتدي إلى الفاعلين.

الإنكار الروسي يأتي متكاملا مع، وربما متناسلا من، الإنكار الذي أدمن نظام دمشق على إنتاجه منذ انفجار الصراع في ساعاته الأولى. لا ثورة ولا ثوار. لا معارضة ولا محتجون. هم مندسون، إرهابيون، داعشيون قاعديون، عملاء إسرائيل والغرب القذر. حتى حين يذهب بشار الجعفري رئيس وفد النظام إلى أي مفاوضات، فلا يجد وفدا معارضا للتفاوض معه، بل قتلة مجرمين يشتمهم متوعدا إياهم ببئس المصير. وبئس المصير براميل متفجرة وغارات مدمرة وأسلحة دمار شامل لا تصدر عن دمشق ولا تراها موسكو.

حين اغتيل رفيق الحريري عام 2005 خرج الأسد نافيا أي مسؤولية لنظامه في ارتكاب الجريمة. في حجج الإنكار أن ما مصلحة النظام السوري في تأليب العالم ضده جراء استهداف شخصية بحجم الحريري في لبنان؟ وفي حجج الإنكار حول دوما أن ما مصلحة نظام دمشق في ارتكاب حماقة من هذا النوع في وقت تبدو فيه الغوطة الشرقية ساقطة عسكريا لصالحه؟

ارتكب النظام السوري بقيادة الأسد الأب، ثم الابن، سلسلة لا تحصى من الاغتيالات ضد خصومه السوريين والعرب والدوليين على مر العقود الماضية. ومن السهل تذكّر اغتيال المعارضين السوريين في عواصم العالم، كما اغتيال الشخصيات التي كانت قريبة من نظام صدام حسين، كما تلك القريبة من زعامة ياسر عرفات، كما اغتيال السفير الفرنسي في لبنان، كما اغتيال شخصيات لبنانية لم تبدأ بمفتي الجمهورية اللبنانية وكمال جنبلاط، ولم تنته بالحريري.

وما جرى أن العالم سكت بشكل منهجي على هذه الجرائم، ولم يحرك ساكنا ضد سلوك بات من كلاسيكيات حكم الاستبداد في سوريا كما في أي بلد آخر. وما حصل إثر اغتيال الحريري أن المجتمع الدولي “خان” عهوده مع دمشق، ووقف مزمجرا ضد نظامها على نحو دفع برئيسها لتقديم حجة البراءة: كيف نرتكب خطيئة تقلب ضدنا العالم؟

هي الخيانة نفسها يرتكبها العالم الغربي هذه الأيام. لم يحرك هذا الغرب ساكنا منذ أن اندفع سفراء واشنطن وباريس ولندن لنصرة المتظاهرين في حمص في بدايات الحراك الشعبي ضد النظام عام 2011. اعتقد السوريون حينها أن لاحتجاجاتهم رعاية أممية، ففوجئوا بعد ذلك بأن “العالم الحر” بقيادة الولايات المتحدة انسحب من الشأن السوري، تاركا مصير السوريين للعبث والفوضى وللميليشيات والجماعات التي تحج إلى بلادهم من كل حدب وصوب.

ارتكب النظام معاصيه الكيمياوية دون رادع أو عقاب، فيما تولت روسيا دائما تدبير الأمر داخل قاعة مجلس الأمن تمطره بالفيتو تلو الآخر، أو داخل الغرف المغلقة تعد العواصم بترتيب الوضع في سوريا من خلال ارتكاب ما لا تقوى تلك العواصم على ارتكابه. فإذا ما كانت جريمة دوما من عاديات الأمور، كما هي جريمة اغتيال الحريري، فـ”خيانة” الغرب الرافض لجريمة بيروت التي ارتكبت في 14 فبراير 2005، هي نفس “الخيانة” حيال جريمة اكتشف العالم دناءتها في 7 أبريل 2018.

قد لا يتغيّر الشيء الكثير في تلك الاستفاقة المفاجئة لهذا العالم على المأساة في سوريا. بيد أن شيئا ما تغير في قواعد العمل الدولية في مقاربتها للشأن السوري، وربما أن شيئا ما تغيّر في قواعد “لعبة الأمم” التي بدت دون قواعد في السنوات الأخيرة.

يستعيد العالم الغربي كينونته كحلف تجمعه قيم ومصالح وإيقاعات مشتركة. تصدّع الغرب كمفهوم سياسي منذ ظهور تباين في وجهات واشنطن ووجهات أوروبا. تصاعد الجدل الجاري حول مستقبل الاتحاد الأوروبي ومستقبل بريطانيا خارجه. باتت روسيا جزءا من المشهد الداخلي لدى بلدان هذا الغرب، تتدخل أذرعها في انتخابات رئاسية أميركية ساقت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وفي استفتاء بريطاني أنتج البريكست الشهير، وتقتل غازاتها عملاءها السابقين في هذا البلد.

تبدو اللحظة السورية مناسبة دولية لإعادة ترتيب شؤون العالم وفق قواعد ومعايير جديدة. تتصادف تلك اللحظة في وقت يميل فيه الغرب بقيادة واشنطن للتفاوض مع كوريا الشمالية بالشراكة مع الصين، ويميل نفس هذا الغرب للتشدّد مع إيران ربما بالشراكة مع روسيا. لا تملك تلك الأخيرة إلا الإمعان في إنكار الجرائم التي ترتكبها دمشق وطهران في سوريا، لعل في غضب الغرب على العاصمتيْن ما يحسّن من شروط شراكة موسكو الصعبة مع ذلك العالم الغربي الذي استفاق غاضبا.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

العرب

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى