صفحات سوريةورد كاسوحة

قضيّة أحمد الجيزاوي: تقويض الثورة المضادّة من تحت


ورد كاسوحة

إلى سلامة كيلة

تكاد قضية المحامي والحقوقي المصري الشاب أحمد الجيزاوي تشكل استثناءً في تغطية الميديا المهيمنة لما يحدث في مستعمرة آل سعود. هي ليست استثناء أبداً إذا ما نظر إليها بمعيارية معينة، هي معيارية الحراك الذي يعصف بالنظم «المماثلة» لنظام آل سعود، ويقوّض شرعيتها الواحدة تلو الأخرى. لكن عندما تقارب من زاوية تفلّتها «بحدود معينة» من ضوابط هيمنة رأس المال السعودي (وكذا القطري) على الإعلام العربي، لا تعود ملازمتها لحال الاستثناء مستغربة كثيراً. فنحن هنا إزاء حالة «فريدة» لا تتكرر كثيراً. حالة يرفع فيها أحد أبناء الحراك المصري الراديكالي (لا الصوري) إصبعه في وجه العائلة الحاكمة في «السعودية»، ليقول لها كلمة واحدة فحسب: كفى. في مقالة له على موقع «البديل» المصري (زاوية صحافة المواطن) كتب المواطن عاطف إسماعيل يقول: «… كلّ ذلك كان مدعاة إلى أن تعرض دول الخليج، أو على الأقل البلطجي الكبير فيها مليارات الدولارات لإنقاذ حليف الماضي والحاضر المخلوع… تأمل الصورة جيداً وضعها إلى جانب سحب الاستثمارات السعودية من مصر، وصولاً إلى قرارات تعسّفية تمسّ ملايين المصريين العاملين في المملكة والتي تهددهم بفقد إقاماتهم الشرعية بالبلاد، ومن ثم أعمالهم، علاوة على التعسّف والمعاملة السيئة التي تلقّاها المصريون في موسم الحج الماضي…». طبعاً هذا مجرد عرض لوقائع يقول الكاتب إنّها حصلت مع مصريين مهاجرين إلى السعودية وعاملين فيها غداة سقوط نظام مبارك. يكتفي المواطن المصري عاطف إسماعيل هنا بتسجيل الوقائع من دون إجراء مساجلة نقدية مع سلالة آل سعود (عاد وأجراها في مكان آخر من المقالة). والحال أنّ مجرد العرض هنا يكفي بذاته. لا داعي أصلاً للتعريض «بالذات الملكية»! لقد تعرّض لها المصريون بما فيه الكفاية، غداة اعتقال الجيزاوي وصنعوا لها سردية تهكّمية بديعة كعادتهم. لكن الموضوع ليس تماماً هنا. فالتهكّم والسخرية كانا نتاجاً لسياسات أوصلت قطاعاً لا بأس به من المصريين إلى ما هم عليه اليوم من سخط وغضب على آل سعود وبطانتهم المصرية. الأمر إذاً ليس مفتعلاً ولا خارجاً عن سياق الصراع المستمر بين الكتل الشعبية الناهضة ومافيات الحكم في الخليج وفي غيره. وما فعله الجيزاوي ليس بالشيء البطولي تماماً. كلّ ما في الأمر أنّه أعاد التذكير بقضية طوتها الأيام وتواطأ الإعلام المأجور والمملوك لرأس المال السعودي (وكذا القطري) القذر على دفنها. حتى الآن، لا تزال الميديا التي يفترض أنّها نتاج تحرير الحراك للحيّز العام، تتحرّج من ذكر قضية الجيزاوي ومواطنيه المعتقلين في السجون السعودية (صحيفة «الشروق» المصرية مثلاً وهي نيوليبرالية بامتياز). ولولا الحيز الاستثنائي والعريض الذي أفردته «البديل» اليسارية للأمر، لكنا ظننّا أننا ما نزال تحت سطوة «إعلام مبارك» ومافياته. وهذه بالتحديد هي مشكلتنا اليوم مع ما يحدث في مصر. فالتغيير الحاصل يبدو صورياً، فيما هو خلاف ذلك حقيقة. والمسؤول عن وصول تلك الصورة المعقّمة إلينا هو الإعلام ذاته الذي يحابي مستعمرات الخليج، ولا يسمح بتحويل قضية أحمد الجيزاوي إلى قضية رأي عام. فسماح رأس المال المافيوي الذي يملك الميديا المأجورة بحصول ذلك يعني أن يسمح أيضاً بوصول صور الإضرابات والاعتصامات التي تعمّ مصر من أقصاها إلى أقصاها إلينا. وهو أمر متعذّر اليوم لأنّ تمريره يعني الاعتراف بأنّ أفق الثورة الممكن لم يتبلور بعد، وبأن تبلوره مشروط بتحرير الطبقات الشعبية مما يعوق حراكها. وما يعوق حراكها بالتحديد هو التحالف القذر بين العسكريتاريا الفاشية والإسلام السياسي النيوليبرالي ورأس المال التابع. وهذا المثلث يجد امتداداً واضحاً له في السعودية وقطر وباقي مستعمرات الخليج. لنقل إنّه مثلث مافيوي عابر للحدود والطبقات والتمايزات الفئوية (بين الإسلامويين والعسكر مثلاً، أو بين الاثنين ورأس المال الوظيفي أحياناً). ولأنّه كذلك وجب على قوى الثورة الحقيقية (لا الصورية) أن تلاقيه بالمثل. والملاقاة هنا تعني ألا يكون النضال من أجل تحرر الطبقات الشعبية نهائياً (اقرأ: بناء مشروعها الطبقي المضاد لمشروع المثلث السلطوي المافيوي) منفصلاً عن نضال ذراع هذه الطبقة في الخارج ضد امتدادات المشروع السلطوي هناك. الأرجح أنّ المواطن أحمد الجيزاوي لم يضع كلّ ذلك في اعتباره عندما رفع دعوى قضائية ضد الملك السعودي أمام القضاء المصري، إلا أنّ الخلفية التي رفع على أساسها الدعوى متهماً نظام آل سعود بمصادرة حرية المصريين في الحجاز كانت واضحة، و«متبلورة أيديولوجياً» أكثر مما نعتقد. ليس مهماً في هذا السياق أن تكون الهوية الأيديولوجية التي «صدر عنها» هذا النسق الجديد من النضال متبلورة تماماً، فتبلورها من عدمه لا يعني شيئاً إذا لم يؤت فعل الاحتجاج أكله. والحال أنّه فعل ذلك، وبأفضل مما «كنا نتوقع». ولأنّ الحصيلة كانت مدهشة، فإنّ التدقيق فيها وفي دلالاتها بات أمراً ضرورياً. ثمة ما هو أهم هنا من الهوية الأيديولوجية للاحتجاج ضد «السعودية»: جذر الاحتجاج. منذ اعتقال الجيزاوي والتظاهرات أمام السفارة السعودية في القاهرة وقنصليتيها في الإسكندرية والسويس لم تنقطع. وما ميّز هذا النسق الاحتجاجي عن غيره هو حيويته الفائضة وجذريته وقدرته على صوغ شعارات تتلاعب بالرموز وتدرجها في سياق معركة يراد لها أن تكون حقاً معركة رأي عام. حصل شيء من هذا القبيل في الأيام الثمانية عشر للانتفاضة المصرية، لكنّه اليوم وفي حضرة رمز الثورات المضادة يبدو أجرأ وأنصع و«أكثر وقاحة». فعندما تصوغ النواة الصلبة للاحتجاج شعاراً يقول: «طب طز في جلالتك وابقى اعتقلنا يا روح خالتك» نكون حتماً أمام معطى جديد في سياق الاحتجاجات العربية. لم يجرؤ أحد حتى الآن على صوغ شعارات مماثلة ضد حكام الخليج. حتى في البحرين التي ذاق شعبها مرارة البطش السلالي «الخليفي» المسنود بميليشيات درع الجزيرة المتسعودة لم يحصل ذلك. يبدو أنّنا لم نقدّر حراك القاعدة المصرية جيداً، ولم نلمس تماماً ديناميتها المتصاعدة والقادرة على إزالة قشور المرحلة الانتقالية وقناعها الثوروي الملوّن. كان كافياً أن يعتقل الأمن السعودي مواطناً مصرياً يريد أن يؤدي فروض العمرة، حتى ينفجر الغضب المصري المتراكم دفعة واحدة في وجه سلالة آل سعود. وكعادة كل الانفجارات الجماهيرية العارمة، خرجت من القاع أصوات نشاز تتعرض لمواطني «السعودية» على نحو عنصري وتعيّرهم «ببداوتهم» و«تخلفهم» و… الخ. طبعاً بقيت هذه النزعة «في إطار الهامش» حتى الآن، وساهمت جهود الناشطين المصريين على وسائط التواصل الاجتماعي في ضبطها ومنعها من النفاذ إلى متن الحملة الاحتجاجية ضد «السعودية». ورغم تفاهة ما قيل فيها عن أهلنا في نجد والحجاز، فإنّها تبقى في المحصلة «نتاجاً طبيعياً» لحراك القاع المصري المنفلت من عقاله. وهذه هي الخصوصية الفعلية لهذا النسق من الاحتجاج. إذ عندما يتحرك القاع ويصدر عنه ما يصدر، سواء كان سلبياً أو إيجابياً، نكون فعلاً إزاء حالة جديدة من الحراك، لم يسبق أن شهدت مصر والمنطقة مثيلاً لها. أما مهمة ضبط الحراك القاعدي وتنظيم ديناميته وتجذيرها فتأتي لاحقاً، وتكون غالباً على شاكلة ما رأيناه من تظاهرات أمام قنصليات «السعودية» في مصر. من شاهد مثلاً الناشطة الشجاعة سميرة إبراهيم وهي تقف أمام السفارة السعودية في القاهرة رافعة صورة مشطوبة للملك السعودي، وواضعة عليها حذاءها، يدرك أنّ هؤلاء الشباب (والشابات) قادرون فعلاً على تنظيم الاحتجاج وبلورة شعاراته على نحو لا يجعل منهم مجرّد صدى لأصوات نافرة تحتقر «السعوديين» (اقرأ: أبناء نجد والحجاز) لمجرد أنّهم كذلك. هنالك أيضاً معطى إضافي أسهمت قضية أحمد الجيزاوي في تظهيره: عجز رأس المال الكومبرادوري عن ضبط الكتل الفتية التي اعتقد بداية أنّه ابتاعها إما لأنها تعمل في مؤسساته، أو لأنّ التمويل الآتي إليها من الخارج أوحى له بإمكان تقييد نشاطها وحصره في الإطار النيوليبرالي الصرف. كان علينا أن ننتظر لحظة وصول الجيزاوي إلى مطار جدة حتى نكتشف عجزنا المستمر «كنخب» عن مواكبة حراك الطبقات الشعبية، وعن اللحاق بقدرتها على تقويض ما لا يمكن تقويضه (منطقياً) بسهولة: سطوة رأس المال. ذلك أن القدرة على قطع رأس النظام وهزّ هيبته الأمنية والعسكرية لا يعنيان في حال من الأحوال أننا نستطيع أن نفعل الشيء نفسه مع رأس المال. فهذا الأخير «حوّيط» كما يقال في الثقافة الشعبية المصرية، وقادر بسهولة على إقناعك بأنّه «ثوري مثلك»، وراغب أكثر منك في «إسقاط النظام». وبالفعل استطاعت كتلة لا بأس بها من الرأسماليين المصريين اللحاق بركب الحراك (نجيب ساويرس مثلاً) حتى تحفظ مكاناً لها في دورة النهب الجديدة. لكنّها اليوم تجد نفسها في مأزق حقيقي إزاء التصويب الشعبي على نظام آل سعود. كانوا قادرين مثلاً على احتواء أي تصويب على المجلس العسكري أو على تحالفاته الضمنية مع الإخوان المسلمين والسلفيين (لا بل كان ذراعهم الليبرالي المتمثل في ساويرس راغباً في ذلك ومموّلاً له)، لأنّه ببساطة تصويب يأتي من فوق لا من تحت، ولأنّ الحمولة الأيديولوجية التي فيه تكاد تكون صفراً. وما فعلته حملة التضامن مع أحمد الجيزاوي هو أنّها غيّرت المعادلة قليلاً. لا يزال ناشطوها مستمرين في تصويب على المجلس وحلفائه يحتمله رأس المال، لكنهم وسعوا بيكارهم ليتّسع لتصويب آخر لا قدرة لأحد اليوم لا في مصر ولا في غيرها (باستثناء تونس) على احتماله. «مرة واحد راح يعمل عمرة … جلدوه»، «يسقط يسقط كل طاغوت… دي بشرية مش لاهوت»، «طز في ذاتك الملكية»، «طال عمرك… الكعبة مش بتاعت أمك»، «بكرة الثورة يا آل سعود… تمحي اسمك من الوجود»، «آه لو كان أمريكاني… كان ياخد إفراج في ثواني»، «يا سفير السعودية… بدل الجلدة حتاخد مية». كثير من هذه الشعارات خطّها ناشطو مصر الشجعان على جدران السفارة السعودية في القاهرة. ولهذا الانزياح المكاني دلالة فارقة لا يمكن تفويتها: ما عاد بالإمكان احتواء هذا الكمّ من الغضب بعد خروجه من «الهامش» الافتراضي

(فايسبوك وتويتر) إلى المتن الواقعي (جدران سفارة السعودية وقنصليتيها). يبدو أنّ رأس المال المتحالف مع العسكر والإسلامويين ما يزال يستخف بقدرة الكتل الجديدة على تفكيك عملية الاحتواء التي يمارسها معهم. عليه من الآن وصاعداً أن يأخذ احتياطاته، وأن يدرك أن المعادلة قد تغيرت، وأن كائنات الهامش قد عبرت إلى المتن وبدأت بعملية تقويض الثورة الملونة، وإن تدريجياً. إنّه حراك القاع يا غبي.

* كاتب سوري

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى