صفحات الثقافة

قطعة ناقصة من سماء دمشق

رائد وحش

يتناقص زيــت القنديـل كل لحـظة بينـما أراقب الانطــفاء ليلة رأس السّنة.

أنتظر نفاد الزيت لأنام رغم قابليتي النفسية للسهر، فما الذي سأفعله في العتمة المقبلة بعد دقائق؟

شيء غامض يبقي القنديل مشتعلاً رغم انتهاء زيته، ويبقي اللهب أصفر مائلاً إلى البرتقالي في المنتصف، أزرق قليلاً في حوافه السفلى. شيء غامض لا يجعل الوقت يمر، ولا يترك الظلمة تأتي..!

أبقى معلقاً في لحظة العبور بين سنتين، بين اليقظة والمنام، بين الإعتام والإضاءة.

في الحقيقة ما من غموض، فالوقت يمضي فعلاً، ودليلي إيقاع المدفعية التي جعلت نفسها بندولاً لساعة الكون، ساعة الموت.

في الحقيقة أنا في الظلام منذ ساعات، فالقنديل انطفأ والسنة الجديدة أعلنت دخولها في أماكن أخرى من العالم، لكن الظلام الكوني الذي يحيطني مُعْدماً شعوري بما حولي يفاقم، من حيث لا أدري، شعوري بي، فأقاوم العدم الأسود بتخيّل لهب من قنديل لا ينتهي زيته، كي لا أسلّم بأنني عالق في شراك هذا الليل.

انقطاع الكهرباء يقذفني إلى سؤال قاتل: هل ذهب العالم وتركني، أم أنني ذهبتُ وتركت العالم…؟

لا تعرف هذه العاطفة البدائية إلا في الحرب. فمع الظلام وتوقف الحركة البشرية تدريجياً، حتى وصول الكون إلى سكون كلّي، تعاودك هواجس الإنسان القديم. بل كأنك هو رغم هذه القرون كلها. أو كأنه اصطفاك لتنقل بالكتابة حيرته حيال نهار واضح يعطيه نفسه بالكامل، وليلٍ يكاد يسلبه حتى نفسه. نهارٍ سيحلّ مشكلته بالأبجدية، وليل سيظن أنه حلّ إشكاله باكتشاف النار، ليكتشف في لحظات الاحتدام أنه لا يزال كما كان قبل وجود الله.

على ضوء القنديل المشتعل جواتك تبحث عن خارجك فلا تعرف شيئاً. غياب الخارج غيابك. ضوء الخارج وضوحك.

هذا الظلام ليس مجازاً، هو الحقيقة.

نحن أحطناه بمجازات الأنوار والثورة، ومجازات النيران، ومجازات الأقمار والشموس، كي نخفّف بعضاً من وطأة الحقيقة. ألسنا نحن البشر أكثر من تؤذينا الحقيقة؟

لو كنتُ الذئب الذي يعوي في الخارج لما كانت هذه أسئلتي. ربما لدى الذئب أسئلة نهارية بحتة…!

ليلي نهار الذئب، ونهار الذئب ليلي.

يا لها من لحظة لتفاهم الإنسان والحيوان…! يا لها من لحظة للّغة الكونية…!

سأعوي، سأعوي حقيقةً لأوقف مجاز القنديل المشتعل، وعلى الذئب نهاراً أن يجد الكلام كنوع من الحل…!

في زمن مضى كان انقطاع الكهرباء يشعل تباشير هذا الخوف. في ذلك الانقطاع الجزئي كانت المخاوف جزيئة، لكن المشهد يكتمل الآن.

كنتُ أشعر الجنّ يعرّسون في حديقة البيت حدَّ سماعي طبولاً وزغاريد. فأشعلُ مزيداً من الشُّموع الوطنيّة سريعة الذوبان، وتخطر على بالي، حيث لا بال لي، فكرةُ الحرب… أقول: حتماً، بعد قليلٍ، ستلعلع صفارات الإنذار، وستبدأ الطّلعات الجويّة… فلأهربْ إذاً. هل في الشوارع ضمانٌ؟ فلأنمْ بسرعةٍ، ليس في مستطاع إنسان انتظارٌ عاديٌّ، فكيف بانتظاره لقذيفةٍ ستحيل البيت غباراً. فلأنمْ. هذا سبيلي. علّني إذا متُّ أموت نائماً. وحده النّوم ينجي من الآلام. (في زمن الحرب عرفت أن النوم أصعب ما يكون). إذاً… هيهات هيهات مثلكَ يا أبا العلاءِ هرب النّومُ عن جفوني هرب الجبناء…

أفتح كتاباً للتّسلي فتزوغ العينان من رفرفةِ لهب الشموع. كيف كان الأسلاف يقرؤون على ضوء سراجٍ؟ أستدعي صورة امرأةٍ من فيديو موبايل خلاعيّ. أمس أحبَبْتُها، بالكرش والثديين العملاقين وطيات اللّحم في الخصر… أمس ثقبتني صراخاتُ لذّتها على شاشة هاتفٍ، وكأنّني من يضاجعُها. ولا تنصاع لأمر خيالي الصور، وأبقى على حافة الحافة، ومن حولي سريعةً تموت الشموع.

أسمعُ تلقيم مسدّسات، صليلَ سيوفٍ، حوافر خيلٍ… وظلّي يغادرُ المكان الّذي يجب أن يكون فيه على الجدار. حتّى الظلال غدّارةٌ، فساعة الغفلة وقتها الذهبيّ للانتقام!

كلما انقطعتِ الكهرباء يعود لتعذيبي خوفٌ نسيته ورائي، في مخابئ الطّفولة، فأبلّلُ السّروال.

عاجزاً كنتُ أتوّحد بالسّكون القاتم، ولا قوة لدي في استخدام تلك التّميمة: «ألاّ أيّها اللّيل الطّويل ألاّ انجلِ»، ولا في الغناء: «يا ليل…». عاجزاً… عاجزاً وكأنّ الكهرباء هي وحداتُ دمٍ مُنِعَتْ عن جسدٍ لا يتوّقف نزيفه. وحين تأتي الكهرباء أنسى كل ذلك.

اختلف الأمر الآن، القصف نقل الأمر إلى فضاء أبعد من الرعب العادي. صار الليل لئيماً. ثم إن المؤذن تأخر عن إعلان الفجر. في مثل هذا الوقت يشعل مكبرات الصوت ويترك لتجويد عبد الباسط عبد الصمد مهمة ترويض هذا العماء، وحين يطفئ المسجّل ويبدأ بالتكبير يخف كل شيء.

أينه؟

عليه أن يفعل هذا كالعادة، علّه يُفهم المدفعية الحقودة أن اسم الله أكبر.

للمرة الأولى يفوت موعد الأذان، كل المساجد فوتته معاً، وللمرة الأولى أطلبه بكل هذا الرجاء أنا الذي كنت أبدي الاستياء منه. أنا الذي كنتُ أعلّي صوت الأغاني كنوع من الرفض لمثل هذا التطفل على هدأة الليل. وأنا الذي أطلب الأذان الآن لن أسامح المؤذنين الجبناء، وفي الغد، إن جاء الغد، سأوغر قلوب الناس عليهم.

المدفعية كفر ولا بدّ من دينٍ يواجه هذا التجديف على الحياة، على نوم الناس، على مناماتهم.

حتى الذئب توقف عن العواء.

أصعد سطح المنزل، وبكل كفري وخوفي وإيماني المفاجئ، أطلق الأذان، أطلقه قوياً كعواء قطيع من الذئاب، أطلقه تحدياً للمدفعية بالذات، ولأن الفجر لا بد أن يأتي: «الله أكبر… الله أكبر…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى