صفحات الناس

قلب داريا.. هي هجرة أخرى/ عبيدة عامر

 

 

بغصّة مكتومة، يستذكر المقاتل موسى أبو الفاروق قلوبًا حزينة وعيونًا باكية لحظة الوداع، لحظة خلّدها حاملًا بندقيته أمام ركام مدينته في الـ٢٥ من (أغسطس/آب) ٢٠١٦، في الذكرى الرابعة لمجزرة داريا التي كتبت مرحلة فارقة في تاريخ المدينة، تلك الأم التي كانت تروي قبر ابنها بآخر دمعة لها، قبل أن تودعه مع آخر ٨٣٠٠ مدني وعسكري غادروا المدينة، قائلة له “هذه آخر قطرة ماء أسقيك إياها، ولا أعلم إن كان هناك من سيأتي ليسقيكم وليرعى قبوركم”. يستحضر موسى اللحظة ولحظات وداع قبور أصدقائه، مودعًا إياهم واحدًا واحدًا، يومًا وراء يوم، على مدى قرابة الألف ونصف يوم من الصواريخ والقذائف والقتال والقتل، أيامٌ خسرت فيها المدينة أكثر من ٢٥٦٥ قتيلا، وتلقت أكثر من ٩٠١٧ برميلًا متفجرًا خلال الحملة العسكرية لاستعادتها وإخضاعها، صارخًا بكل ما حفرته خنادق الأيام في عمره الغض “هي هجرة أخرى، وسنرجع فاتحين عائدين”.

أربعة أعوام كاملة بين “المجزرة” و”الهجرة”، تبدل بها وجه المدينة، حرفيًا لا مجازًا، بأسلحة حملة عسكرية نظامية مكثفة واجهها أبناء داريا بصمود وقدرة عسكرية نادرة، جعل داريا تحمل عدة أسماء منها “أيقونة الثورة”، لاستطاعتها الحفاظ على روح الثورة، بعيدًا عن الخلافات و”الفصائلية” التي حدثت خارجها، و “مقبرة الدبابات”، إذ استطاعت رغم الحصار وقلة الذخيرة أن تكبد النظام أكثر من ١٣٠ دبابة، وما يقارب خمسين عربة “بي إم بيه”، وأكثر من ١٢ سيارة مصفحة، و٦٠٠٠ جندي من النظام السوري بين قتيل وجريح، بينهم ٦٨ ضابطًا برتب مختلفة، وأربعة قادة للحملة العسكرية، حملت دروسها للثورة والتاريخ.

يقظة المجزرة

مثلت مجزرة داريا، التي وقعت في ٢٥ (أغسطس/آب) ٢٠١٢، بكل ما حملته من شهداء وخوف ودم ورعب، لحظة تاريخية فارقة في تاريخ المدينة، حيث شعر الدارانيون بحجم “الفوضى الثورية” المتفشية حينها، سواء في العمل المدني أو العسكري، فوضى دفعت أبناء المدينة لإعادة ترتيب أوراقهم خشية حدوث مجزرة أخرى شبيهة، كما تسببت ذكرياتها القريبة حينها بخروج معظم سكان المدينة، البالغ عددهم ربع مليون داريّ، مع أول محاولة اقتحام جديدة للنظام للمدينة بعد المجزرة، محاولة أتت بعد شهرين ونصف منها.

منذ لحظة تشكيل المجلس المحلي ثم ضرب الحواجز النظامية التي رويناها في الجزء الماضي، من هذه اللحظة الفارقة يروي موسى تفاصيل المعارك الطويلة، حيث عاود الجيش محاولات دخوله من الجهة الشرقية، واستطاع في البدايات، مع قلة الخبرات العسكرية للشباب المقاتلين، اختراق المدينة بشكل طولي دافعًا إياهم إلى القطاع الغربي، ومن ثم السيطرة على بقية القطاعات، لتبدأ من هناك التجارب والخبرات العسكرية، بحفر فتحات إطلاق النيران في جدران المنازل، والانتقال من داخل البيوت نفسها، وصولًا إلى (فبراير/شباط) ٢٠١٣، حيث استطاعوا تثبيت أنفسهم وخطوط دفاعهم في القطاع المتبقي لديهم.

في مطلع (مارس/آذار) ٢٠١٣، أعلن عن تشكيل “لواء شهداء الإسلام” من اندماج الفصائل المشاركة في داريا، تحت قيادة موحدة، وضمن المكتب العسكري لـ”المجلس المحلي لمدينة داريا”، والذي كان من أبناء المدينة بشكل رئيس، بالتنسيق مع لوائي “المقداد” و”سعد بن أبي وقاص” المقاتلين في المدينة، محافظًا على استقلاليته بشكل كامل، رغم انضوائه شكليًا ضمن “الجبهة الجنوبية” التي يشرف عليها مركز إدارة العمليات المعروف بـ”الموك”، دون تلقيه أي دعم مادي أو عسكري منها.

بدأ اللواء أولى عملياته تنفيذًا لفكرة  تابعها وشاهدها، بأحد الوثائقيات، القيادي مهند أبو أسامة، الذي قتل ضمن عشرات القيادات والعناصر من اللواء على طول المعركة، فكرة بدأت بحفر نفق إلى نقطة للجيش، وحصار قطاع كبير واغتنام مكاسب كبيرة، قبل أن تبدأ معركة الأخذ والرد الطويلة بين النظام وميليشياته، مدعومة بالقصف الكثيف للطيران من جهة، واللواء من جهة أخرى، الذي لا زال يملك طريق “معمل القطة” لإدخال الذخيرة والغذاء إلى المدينة من جهة مدينة “المعضمية”، حتى وقوع مجزرة “الكيماوي” التي تضررت بها المعضمية بشكل كبير، وقُطع طريق القطة ليبدأ مسلسل الحصار وقطع الغذاء والذخيرة المتسبب بتوقف التقدم في بعض العمليات، مثل عملية “المجمع”، وعدم التمكن من فتح مزيد من الطرق، حصار استمر حتى شهر (ديسمبر/كانون الأول) ٢٠١٣، مع بدء تنفيذ هدنة المعضمية مع النظام، بينما تمت أثناء ذلك عملية “وبشر الصابرين”، إحدى أكبر عمليات اللواء، واستطاع بها المقاتلون كسب مساحات كبيرة.

بداية عام ٢٠١٤ تمت هدنة المعضمية، وأصبح إدخال المواد والذخيرة يتم بالشراء منها، وشهدت تلك الفترة هدوءً نسبيًا حتى دخول رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى داريا، حيث تمت عملية “الرد على الزيارة”، وخلالها تمت السيطرة على مبانٍ وتفجير أخرى للنظام، لتبدأ منذ ذلك الحين “معركة الأنفاق” بين الجانبين، إذ كان النظام يسيطر على قبو “مقام السيدة سكينة”، ويسعى من خلاله للسيطرة على المبنى، لكنه فشل بذلك، فبدأ بالحفر إلى قطاع ثان، مما دفع المقاتلين للاستباق وبدء معركة “خلاصنا بجهادنا”، ثم خوض المعركة الشهيرة بـ “السلم”، مانعين بها النظام من أخذ مبنيين استراتيجيين وإتمام السيطرة على “مقام سكينة”، وكبدوا فيها النظام خسائر كبيرة خاصة من الميليشيات الشيعية، وحاول استعادتها بصعوبة، ولم يستطع إلا بمبادلتها بجثث من المقاتلين، مبادلة كانت تمثل نهاية معركة الأنفاق.

شهدت الجبهات هدوءً نسبيًا مرة أخرى، مع استمرار فتح طريق المعضمية، حتى (أغسطس/آب) ٢٠١٥، حيث أطلق الثوار معركة “لهيب داريا”1، وهي أكبر معاركهم مكبدين النظام فيها أكثر من ١٥٠ قتيلا، وسيطروا فيها على “المجمعات” و”المشفى الوطني”، وعدة مبان تطل على مطار المزة العسكرية، عبر نفق تم حفره بسرية تامة، معركة دفعت النظام إلى تصعيد حملته العسكرية بتكثيف القصف بالبراميل المتفجرة، وكسر الهدنة مع المعضمية في (نوفمبر/تشرين الثاني) ٢٠١٥.

وقد قطع الطريق بينها وبين داريا، مستميتًا في محاولات السيطرة على المدينة، حيث كان “مستعدًا أن يفقد مئات القتلى مقابل استعادة شبر واحد” بحسب تعبير موسى، ومستخدمًا كلا من سياسة الأرض المحروقة، و”دق الإسفين”، حيث يتفرع مترًا ثم يدخل يمينًا ويسارًا، في مرحلة من أصعب المراحل عسكريًا خسرت بها داريا عشرات القتلى والقياديين العسكريين والميدانيين2، أبرزهم “محمد أبو سلمو” قائد الكتيبة الموحدة في لواء شهداء الإسلام3، و”أبو عامر كفرسوسة” قائد لواء المقداد، صعوبة ترافقت مع تشديد الحصار واستنزافٍ لذخيرة الثوار، ثم استطاع النظام كسر خط دفاع “صحنايا” مستردًا مبنيين كان الثوار قد استعادوهما في معركة “السلم”، وساعيًا للوصول إلى الأراضي الزراعية لتشديد الحصار، حتى ليلة وقف “الأعمال العدائية”، ليقصف آخر برميلين لديه بتمام الساعة ١١:٥٩ مساء ٢٦ (فبراير/شباط) ٢٠١٦، قبل سريان الاتفاق.

استمر وقف إطلاق النار حتى ١٤ (مايو/أيار) ٢٠١٦؛ ثم بدأ النظام حملة أخرى كثيفة لاستعادة السيطرة على المدينة من عدة محاور، عمل خلالها على حرق الأراضي التي استطاع الوصول إليها، مع انتهاء الذخيرة لدى مقاتلي المدينة، واستنزاف لمزيد منهم ومن القياديين الذين كبدوا النظام خلال هذه الفترة وحدها، وصولًا إلى منتصف (أغسطس/آب) ٢٠١٦،  أكثر من ١٥٠ قتيل، لتبدأ المفاوضات بعد هذه المعارك بأيام، ويُقر اتفاق على إخلاء تام لسكان داريا، باتجاه إدلب، خرج بموجبه المقاتلون بسلاحهم، بعد أن حرقوا كل ما يملكونه من منازل وسيارات، تاركين أرضهم وذكرياتهم وقبور أصدقائهم، بعد أربع سنوات من القتال والعمليات الدفاعية، تخللتها عشر عمليات ومعارك هجومية، ومتمسكين بالعودة.

“الأيقونة”

حاملًا بندقيته وحقيبة صغيرة جمع بها كل ما سيأخذه، وبعيون لامعة لم تكسرها قسوة المعارك، أمام ركام أحد المباني الكثيرة في داريا، “قطعة القلب وجرح الزمان”، ومبنى آخر لا يزال شاهدًا على المعركة؛ يقف تمام أبو الخير، مدير المكتب الإعلامي لشهداء الإسلام، مودعًا مدينته، وواعدًا إياها بالعودة، قائلًا “إذا أردت أن تسأل عن الخذلان فاسأل داريا، وإذا أردت أن تسأل عن الصبر فاسأل عن داريا، وإذا أردت أن تسأل عن الصمود فاسأل داريا، وإذا أردت أن تسأل عن داريا، سيجيبك الشهداء بعطرهم ودمائهم وزكاء أرواحهم، نخرج مكرهين ولكن عائدون بإذن الله”.

يستذكر تمام قصة داريا من البداية حتى الختام، بحسب ما رواها لنا في الجزأين الماضيين، ويختم لنا رواية التجربة منذ تشكيل المجلس المحلي، الذي كان مشاركًا به، ثم تشكيل اللواء، الذي استلم إدارة مكتبه الإعلامي، والعلاقة بينهما، وبعض التفاصيل الأخرى الكاشفة لتجربة داريا، والتي جعلتها بمثابة “أيقونة” ثورية لا تنفد.

لعل الأصل يرجع إلى التكوين المجتمعي، المتماسك والواعي، بـ”داريا”، والذي كان حاضرًا قبل اندلاع الثورة، ثم تحمل أهلها لمسؤوليتهم كمدينة واحدة، استطاعت أن تتعلم من أخطائها الدموية القاسية، ومنعت تكرارها مدنيًا وعسكريًا، بتنسيق العمل وتنظيمه ثوريًا وتسليمه إلى أهله.

فمنذ تشكيل المجلس المحلي، تم تحويل العمل الميداني والإغاثي والإعلامي إليه، وأيضًا الإشراف على العمل العسكري، الذي تم تنظيمه في لواء شهداء الإسلام ولواء المقداد فقط دون أي فصائل أخرى، وتنسيقه والعمل المتسق معه؛ واستطاعت المدينة أن تضبط الحياة اليومية لبضعة آلاف هم كل المتبقين فيها من المدنيين، والذين مثل خروج معظمهم في بداية المعركة مكسبًا عسكريًا ونقطة قوة منحت المقاتلين مساحة أكبر للتحرك والصمود والتكتيك، تكتيك كان يتطور يومًا تلو الآخر، من الخبرات العسكرية البسيطة والمتواضعة للمقاتلين والقياديين، والاعتماد على تكتيكات حروب العصابات والمدن بنجاعة كبيرة، أثبتت فعاليتها بالصمود على المدى الطويل، بإدارة ذاتية وثورية خالصة للمعركة من داخلها، دون مناهج ولا أيديولوجيات أو انتماءات متشرذمة لأي شيء خارج داريا أو خارج الثورة، إدارة منحت المقاتلين كلا من الإرادة الكاملة على إدارة معاركهم، بعكس جبهات أخرى في سوريا، وقدرة متطورة يومية على هذه الإدارة، على يد أبناء المدينة الذين يعرفونها جيدًا، دون أن تتلقى داريا من خارجها سوى “البيانات ودعوات الصبر”، بحسب ما يروي مقاتلوها، محملين القريب الذي خذلها، والبعيد الذي أنهكها مسؤولية ما وصلت إليه “أيقونة الثورة السورية”.

وخلال التجربة الطويلة نسبيًا لم يعكر صفو المدينة، التي كانت مشغولة لآخرها بالمعارك فلا وقت لأبنائها “أن يحكوا رأسهم” بحسب تعبير تمّام، سوى ما يسمى بـ”الحادثة الأمنية”، التي داهم بها “المركز الأمني” المشكل بالتنسيق بين العسكري والمدني، وبأمر من “الهيئة القضائية” المشكلة من مختصين وشرعيين، وبالاعتماد على قانون عقوبات وضعته الهيئة من الشريعة وبما يتناسب مع داريا، لواءً من الجنائيين سمي بـ”لواء الأحرار”، وفككه المركز خلال ساعتين، وأوقف عناصره البالغ عددهم 60 إلى 70 عنصرًا منشقين عن لواء المقداد، ثم بدأت بالتحقيق معهم ومحاكمتهم، في إحدى التجارب النادرة الناجحة للعمل القضائي في سوريا، مبرزة أهمية التشريعي التنظيمي على الشرعي النظري الذي أغرقت به فصائل الشمال، خصوصا “الإسلامية” و”الجهادية” منها، على يد “شرعييها” لا قضاتها، بعضهم بالمزايدات والخلافات، وتسببت بصراعات نظرية دينية شرعية أيديولوجية، على حساب الأسئلة العملية والعسكرية والمدنية المباشرة.

في خاطرة “جعفورية”، لم تعلن قبل وفاة صاحبها غرقًا في ١٣ (أكتوبر/تشرين الأول) ٢٠١٦، من “الخواطر الجعفورية” الشهيرة لقائد العمليات في لواء شهداء الإسلام “أبو جعفر الحمصي”، يقول بها لـ “تمّام” بعد وصولهم إلى إدلب “كل الحصار والجوع والخوف الذي رأيناه في داريا لم يكن جهادًا، فالآن قد بدأ الجهاد”، في إشارة إلى ما وصفه كل من موسى والناشط السوري أحمد أبازيد بـ”الغابة” في إدلب، غابة يأكل بها الفصيل الكبير الصغير”.

منذ وصولهم إلى إدلب صُدم كل من تمام وموسى وبقية القادمين من داريا بالأجواء السائدة، المدينة التي تسيطر عليها عدة فصائل “إسلامية” و”جهادية”، وصدموا أيضًا باختلاف البيئة وصعوبتها، فمنذ أن نزل تمام من الحافلة منهارًا وحاملًا ثقل الهجرة والخروج، ورغم الاحتفاء والرمزية الكبيرة التي أحيط بها شباب داريا، بدأ القادمون يصورونه مباشرة، في حين فوجئ موسى بقدوم أحد القياديين للترحيب بهم بمرافقة موكب من أربع أو خمس سيارات، وهو ما لم يعتادوا عليه في الخنادق التي يقاتل بها القيادي بجانب العنصر، وطلبهم أن يرفعوا علم اللواء بدلًا من علم الثورة “الغائب عن الشمال”، بحسب ما وصفه بشير.

الآن، في إدلب، يحاول شباب داريا أن يحافظوا على أنفسهم وتماسكهم وعدم الانخراط ضمن أي فصيل أو تشكيل كبير، تمسكًا برمزية داريا التي يمكن لهم البناء عليها، ونأيًا بأنفسهم عن الشمال الذي تحول إلى ساحة صراع داخلية خارجية بين الفصائل ذاتها، والتي تحتاج أشد ما تحتاج هذه الأيام إلى روح داريا، مدينة كان خروجها من الصراع كسرًا رمزيًا وفعليًا كبيرًا، في وقت يبدو جسدها اليوم أبعد ما يكون.

ميدان

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى