صفحات الناس

قناع حريّة الإنترنت للدفاع عن “داعش”/ أحمد مغربي

 

 

الأرجح أن اللجوء إلى التعميم والإطلاقيّة هو خطاب رائج لدى أنواع المدافعين عن أنظمة القمع و”داعش”. ووفق خطابهم، يكفي أي قمع لتبرير القمع كله، ويكفي أي قتل لتبرير القتل كله. أليس ذلك ما يقوله المدافعون عربيّاً عن نُظُم القمع وإرهاب “داعش”؟ وإذا قيل لهم “حرية وديموقراطية وحقوق إنسان”، قالوا إنّ المجتمعات التي توصف بالديموقراطيّة غرباً، فيها قمع وتجاوز على الحرية وحقوق الإنسان، إذاً فلينفلت “قمعنا” و”تسلّطنا”. (الإعلام المصري حاضراً هو نموذج فاقع عن ذلك).

الأرجح أنّ ذلك خطاب ركيك أصلاً، لشدّة كونه جزئيّاً ولا يهتم بالأوضاع المحددة للمجتمعات، ولا بمعطيات التاريخ والاجتماع والثقافة وعلاقات البنى الاجتماعية بالسلطة والدساتير وتوازناتها وغيرها.

إذا كان الإنترنت ينشر خطاب الكراهيّة عالميّاً، وفق دراسة ظهرت قبل أيام قليلة، ويساعد في تجنيد انتحاريي “داعش”، هل الحلّ هو فرض رقابة عاتية وشاملة على الإنترنت، أم استخدام الإنترنت من قِبَل المؤسّسات الأمنيّة لمتابعة أفراد قريبين من خيوط الإرهاب، وضمن ضوابط تتصل بالقانون والحريّات العامة والفردية؟

ألمانيا ومقدّمي السوشال ميديا

هناك نقاش ضخم مندلع هذه الأيام في ألمانيا التي ضربها الإرهاب تكراراً في الأيام الأخيرة، وهو أيضاً جزء من نقاش مماثل في الغرب عموماً، لكن جُلّ مثقفي العرب لا يهتمون بتفاصيله، فتتشوّش الصورة في أذهانهم.

في سياق ذلك النقاش، يشدّد نشطاء الحريّات العامة والشخصية على الإنترنت في الغرب، على فكرة أن الرقابة العامة على الإنترنت، سواء من الدول (رقابة “وكالة الأمن القومي” الأميركيّة نموذجاً) تهّدد الديموقراطية وتبعث أشباح الدولة الشموليّة ونظام “الأخ الأكبر” الذي رسمه جورج أورويل في رواية “1984” الشهيرة. ويقدّم هؤلاء حلولاً متنوّعة يربط بينها خيطٌ يفكّر استناداً إلى الحريّة وسياقاتها الاجتماعيّة والتاريخيّة، ويشدّد على أن الرقابة الموجّهة التي تنحصر في أشخاص توجد لدى الجهات القانونيّة أسباباً موجِبَة لمتابعتهم، مع التقيّد بالأصول القانونيّة التي تحمي الحريّات وحقوق الأفراد؛ يمكن لتلك الرقابة الموجّهة أن تكون جزءاً من أدوات الحرب على الإرهاب.

وفي الآونة الأخيرة، ظهر نموذج عن ذلك النقاش والمسارات المرتبطة به، في النزاع بين شركة “آبل” وجهاز “أف بي آي” حول تشفير هاتف “آي فون 6” لأحد المتهمين في مقتلة مركز “سان برناردينو” بولاية كاليفورنيا. (أنظر “إنهيار الشراكة بين السلطات الأمنيّة وشركات الاتصالات”).

وفي ظلال ذلك التمييز المرهف بين رقابة عامة وشاملة تستدرج تعميم القمع وتآكل مساحات الحريّة، وبين رقابة تقييدها الحقوق العامة والشخصيّة ويقودها القانون؛ يدور النقاش في ألمانيا الآن بعد الدعوة لوضع سلطات رقابيّة واسعة في أيدي “مقدّمي خدمة الإنترنت” Internet Service Providers، وكذلك في يد المؤسّسات الأمنية التي تريد أيضاً أن تلاحقهم في حال “تقصيرهم” في تعميم الرقابة على الإنترنت!

ما بعد السكين… ما بعد الفأس

بعد الهجوم الذي نفّذه طالب لجوء أفغاني (من “الباشتون”) بفأس وسكين على قطار في مقاطعة “بافاريا”، وتبيّن علاقته بـ”داعش”، دعا وزير الداخليّة الألماني توماس دي مايتزيير منصات السوشال ميديا إلى تسريع وتيرة حذفها للمحتوى المخالف للقانون، معتبراً أنّ ذلك يساهم في مكافحة ظاهرة التجذّر في الإرهاب عبر الإنترنت. وأشار الوزير تحديداً إلى رسائل التحريض على الحقد، وتوجيهات صناعة القنابل، وإرشادات تنفيذ الهجمات وما يشبهها، باعتبارها نماذج عن المحتوى المطلوب حذفه من قبل شركات تقديم خدمات الانترنت.

وبعد طلب الوزير الألماني، تصاعدت أصوات حرصت على تجديد النقاش بشأن مسألة الرقابة على الانترنت. وظهر مثلٌ على ذلك في تحذير أطلقه ماركوس بيكيداهل، مدير تحرير المُدوّنة الإلكترونيّة الألمانيّة “نتزبوليتيك” Netzpolitik التي تعنى الحقوق الرقميّة.

إذ اعتبر أنّ طلب الوزير دي مايتزيير يصبّ في مسار نقل القرار بشأن الحريّات على الإنترنت إلى أيدي شركات المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة، ما يحمل تهديداً باغراق البلاد في رقابة الإنترنت وحجبها أيضاً. ووصف بيكيداهل مسـألة توسيع صلاحية مقدّمي خدمات الإنترنت، بأنه “خصخصة للمؤسسة القانونيّة… وما يجب أن يحصل [بصورة غير معمّمة] على يد الدولة والقُضاة، ينتقل تدريجيّاً إلى أيدي منصات [كمواقع شركات الـ”سوشال ميديا”] على شبكة الإنترنت”. وفي تصريح إلى شبكة “دويتش فيلله” الإعلاميّة الألمانيّة، أوضح أنه حتى قبل خطوة الوزير الألماني الأخيرة، أُعطيت المؤسّسات الأمنيّة، كالاستخبارت والشرطة، الحقّ في إجبار مواقع مثل “فايسبوك” و”تويتر” التي تعتبر من كبار مقدّمي خدمات الإنترنت عالميّاً، على حذف محتويات معيّنة، في حال ارتأت المؤسسات الأمنيّة ضرورة لذلك.

وذكّر أيضاً بأنه في أيار/مايو 2015، حصلت “المفوضيّة الأوروبيّة” على تواقيع الشركات الكبرى للإنترنت، خصوصاً تلك التي تدير مواقع السوشال ميديا، ما عُرّف بـ”قانون السلوك الطوعي” الذي يتضمّن تعهد تلك الشركات والمواقع بمكافحة نشر خطاب الكراهية على الإنترنت، وإزالته خلال 24 ساعة من التعرّف عليه. ولفت بيكيداهل إلى ضرورة فتح نقاش عام ومؤسّساتي للتوصل إلى تعريف أشياء من نوع “خطاب الكراهيّة” و”رسائل الحقد” و”التحريض على المجازر” وغيرها.

وخلص بيكيداهل إلى دعوة المجتمع الألماني بمكوّناته كافة للانخراط في النقاش عن رقابة الانترنت، والحسم بشأن الاستمرار في المسار القائم راهناً، أو استبداله بوسائل أكثر انسجاماً مع الدستور والحريّات في حل إشكاليّة العلاقة بين استخدام الإرهاب لشبكة الانترنت ومواقع الـ”سوشال ميديا” من جهة، والحفاظ على الحريّات العامة والفرديّة والخصوصيّة الشخصيّة من جهة ثانية.

المجتمع والبشر، لا البرامج المؤتمتة

في سياق متّصل، لفت المحامي كريستيان سولمكه، وهو من الحقوقيّين المدافعين عن الحقوق الرقميّة، إلى تحفظّ حتى شركات الانترنت نفسها، على التوسّع في ممارسة سلطة الرقابة والحذف. وفي تصريح إلى “دويتشه فيلله” أيضاً، أضاف سولمكه أن طلب وزير الداخلية الألماني، ربما لا تنفّذه الشركات لأنها تفتقد إلى ما يكفي من الموظّفين لتنفيذه!

ولم يقتصر اعتراض سولمكه على مسألة نقص أيدٍ عاملة، بل دخل إلى ما هو أعمق من ذلك. وأشار إلى أنّه في حزيران/يونيو 2016، أوردت وكالة “رويترز” أن “فايسبوك” و”يوتيوب” طوّرتا برامج مؤتمتة تعمل على التعرّف بصورة أوتوماتيكيّة على المحتوى العنيف، على شاكلة أشرطة الفيديو التي تبثّها “داعش” عبر الانترنت. وطرح سولمكه سؤالاً عن قدرة البرامج المؤتمتة، التي تعمل وفق معادلات صارمة في الرياضيّات، على التمييز فعليّاً بين المحتوى العنيف غير المحرّض على الإرهاب، وبين المحتوى المتّصل بالإرهاب.

واستطراداً، طرح سؤالاً عمن يحق له اتّخاذ القرار بشأن تلك البرامج وحدود قدراتها.

في السياق عينه، اتّخذ بيكيداهل موقفاً أشد معارضة، مشيراً إلى شكّه العميق في تلك البرامج المؤتمتة، مشيراً إلى أن خبرته كصحافي تشير إلى استحالة التفريق بالبرامج والمعادلات، بين مقالات تصف أفعال الإرهاب وتنظيماته وتحركاته وشخوصه ووسائله وغيرها، وبين مقالات تصدر عن جهات إرهابيّة. واستنتج بيكيداهل إلى أن استبدال النقاش الاجتماعي عن مسألة كالرقابة على المحتوى في مواقع التواصل الاجتماعي، بالوسائل التقنيّة المؤتمتة، يحمل تهديداً لجمهور الانترنت بأسره، خصوصاً حرية التعبير وحقوق الأفراد والجماعات على الانترنت.

الأرجح أن نقاشاً واقعيّاً (وتفصيليّاً بالضرورة) هو ما يحتاجه العرب ومثقّفوهم، بدلاً من الاستغراق في السهولة القاتلة، ونوم الدموع على وسادة مخادعة، حريرها هو الفصل بالأبيض والأسود بين “شياطين” و”ملائكة” هما على الأرجح شديدي البعد من واقع عيش البشر.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى