رزان زيتونةصفحات مميزة

قنّاص أصاب الثورة بقتل أحمد كوسى

 

رزان زيتونـة

رحل أحمد كوسى فعلاً. هكذا يؤكد أصدقاؤه، عبارات الرثاء بحقه، كلماته المشاغبة التي غابت عن صفحته، حساب “سكايب” الذي لم يعد يضيء صباح كل يوم بكلمات “خيتا كيفك اليوم”.

يؤكدون جمعيهم أنه في الجنّة. وأنا كطفل صغير أحاول إعادة رسم ملامح الجنة لأتأكد أنه لا يزال في مكان ما. فإذا كان قد رحل فعلاً، فلماذا كل هذا الهدوء برحيله. أحمد كان “شجرة ليمون”، على وصف أصدقائه.

كان يزهّر ويفوح ويرقص مع كل نسمة حرية. حضوره يشغل المكان كله أكثر بكثير مما يحتله جسده الضئيل من مساحة. كان يترك شيئًا من أحمد في كل مكان بحيث لا يغيب أبدًا. لماذا كل هذا الهدوء برحيله. لماذا لم يتح لنا وداعه في آخر لحظاته، لماذا لم يتح لنا التعرف على الرصاصة التي أحدثت فجوة في قلبه، لماذا رحل بصمت، بغير طقوس تشييع تليق بحضوره الذي كان، من غير أن يبكيه أحد على قبره. من سمح لأحمد بأن يرحل وكأنه غير مرئي.

أحمد كان جميلاً وغريبًا ولا يقوى على الرحيل. من تظاهرة الحميدية إلى درعا المحاصرة إلى مخيم اليرموك والحجر الأسود. حين تتنازعه فلسطين وسوريا، كان يختار استمرار البحث عن وطن. هكذا حين ناله التعب في يوم ما، فكر بالرحيل، إلى ادلب! لعل الثورة هناك أكثر قربًا من وطنه المتخيّل.

لكنّه كعادته، لم يقو على الرحيل. بقي في المخيم الذي غادره الآخرون. انتقد الجيش الحر بقسوة وانتقد الحراك الفلسطيني، وتعب مجددا من تراكم الأخطاء، وتعب من البقاء، واستمر واقفًا كشجرة ليمون. دائمًا هناك على الحدود بين فلسطين وسوريا، لا يدرك إحداهما ولا يقوى على الرحيل.

الطريق إلى الجنّة سالك، وليس مثله الطريق إلى وطن. هكذا وددت إخباره مرات ومرات. وأن البعض حين يرحل، يترك فجوة في القلب شبيهة بتلك التي تتركها رصاصة القناص. ويترك فجوة في أساسات الوطن المتخيل. ليتك تغادر، علك تعود يوما لتبني، لا لترحل مغدورًا.

قبل يومين من رحيله، كنت أتذمّر من تذمّره. “حاج تنق يا أحمد” “ما عم نق، سألتيني وجاوبت”.. كان قلقًا على المخيّم، حزينًا وغاضبًا، وكنت قلقة عليه فقط ولم أخبره، وأردته أن يتركني لتعبي وفعل. لماذا لم تعلمني سنتان من الموت أن لا أتعب. أن لا أتوقف عن إخبار من أحب كم أحبهم. أن لا أتوقف عن إغضابهم وهم في طريقهم لتلقي رصاصة قناص.

عاقبني أحمد برحيل هادئ لا يشبه صخبه الذي كان. ولا تزال كل يوم تستيقظ داخلي جدَة من زمن غابر، يفزعني عويلها، تنزع غطاء رأسها وتمرغ شعرها بالتراب وهي تنوح.. أنا الثكلى بأحمد ومثل أحمد، لا وطن لي. وما زلت، عاجزة عن الحديث عن أحمد. يومًا ما.. سأحدثكم عن أحمد.

موقع لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى