صفحات الناس

“قوارب الموت” –مقالات مختارة-

هكذا هربت إلى أوروبا بقوارب الموت.. ولهذا استحق الأمر هذه المعاناة/ معتصم يزبك

(CNN) — كنت سأقوم بأي شيء حتى أتمكن من الوصول إلى أوروبا، وكانت تجربة تستحق ما جازفته لأجلها، المعاملة السيئة والخوف، قد تبدو كلها قاسية لمن يمكن أن يواجهها، ولكن وبكل بساطة إنني الآن أعيش حياة أفضل من ذي قبل.

لكن رحلتي التي قطعت بها البحر الأبيض المتوسط، مثل الألوف الذين سبقوني لم تكن سهلة إطلاقاً، إليكم قصتي:

بدأ الأمر كله العام الماضي عندما فقدت وظيفتي في إحدى دول الخليج، بعد انتهاء تأشيرة العمل لم يكن لدي مكان آخر أتوجه إليه، فأنا سوري، لكن العودة إلى سوريا لم تكن خياراً في الأصل، فالعودة ستعني إما القتل أو التعرض للقتل.

لكن السوريين لا يحتاجون تأشيرة للسفر إلى تركيا، لذا فتركيا كانت هي الوجهة، بلغت تركيا في ديسمبر مع حلم قديم شغل بالي: الوصول إلى أوروبا.

وخلال إقامتي في إسطنبول وجدت العديد من الصفحات في فيسبوك مختصة بالتهريب غير الشرعي من تركيا إلى إيطاليا بحراً، وجميعها ذكرت “مرسين”، وهي مدينة ساحلية تقع على الحدود الجنوبية، التي تعتبر الوجهة الأولى لأوروبا، لذا أخذتها بعين الاعتبار.

بعدها قابلت رجلاً سورياً في فندق بمدينة “مرسين”، الذي قام أيضاً بدفع أموال لأحد المهربين، وكان يخطط للمغادرة خلال أيام معدودة، وأخبرني بأن مهربه كان رجلاً شريفاً وبسمعة محترمة.

السمعة: كان من الطريف أن أسمع هذه الكلمة للمرة الأولى في هذا الوقت، خاصة عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الأشخاص، الذين كنت أعتبرهم أقرب للمجرمين، وكيف يأبهون لما قد يراه الناس فيهم، ولم لا؟ فهذا مشروع طويل الأمد، ولا يبدو بأن النزاع السوري سينتهي عما قريب، لذا قررت أن أتعرف على الرجل.

تحدثنا عن طرق الدفع، واتفقنا على مبلغ يساوي 6500 دولار، جزء من هذا المبلغ سيودع لحساب شركة تأمين، مع الطرق المعتادة لتحويل الأموال، وعندما أصل إلى إيطاليا ستحول الأموال إلى المهرب أو، في حال غيرت رأيي، سأتمكن من استعادة جزء من تلك النقود.

“كن مستعداً كل يوم خلال الأيام القليلة القادمة لأنك قد تتلقى اتصالاً لتنطلق”، هذا ما قاله المهرب لي، وفي مساء أحد الأيام تلقبت الاتصال لتبدأ بذلك رحلتي.

تجمع 100 رجل وامرأة في خمس حافلات، واصطحبونا إلى نقطة التهريب، التي كانت بعيدة عن “مرسين”. مشينا لحوالي 30 دقيقة، في حقول وعرة ومزارع للبرتقال بالقرب من الشاطئ، وكل ذلك في الظلام لتجنب اكتشاف الشرطة لنا.

تمثلت الفكرة بأن نتوجه لثلاثة قوارب من أجل بلوغ سفينة كبيرة لا زلت أتذكر تلك المرأة العجوز التي لم تكن قادرة على المشي، كانت برفقة ابنيها وهي تعدو بأسرع ما تملكه من طاقة حتى تدرك القوارب، إذ أخبروا بأنهم إن لم يسيروا بالسرعة الكافية فإنهم القوارب ستغادر من دونهم.

سألت نفسي ولمرات عديدة، ما الدافع الذي يمكن أن يبلغ درجة يمكنك فيها للشخص العادي أن يفكر بتعريض حياته وحياة عائلته في مثل هذا النوع من الخطر؟ ووصلت للجواب، بأنه يمكن لمن يملك ماض دون أي مستقبل أن يتصرف بهذا الجنون.

وأخيراً وصلنا إلى القارب، الذي كان بالضبط وفق وصف المهرب له، وانتظرنا في القارب لثلاثة أيام حتى تصل دفعة مائوية أخرى قبل مغادرتنا، كنا وسط البحر المتوسط، بعيداً عن البلاد المجاورة نطفو في المياه الدولية.

وفي اليوم الرابع بدأت رحلتنا، مزيج بين الحماس والخوف، الخوف بأن ينتهي هذا الجنون بمأساة، أن ينتهي بنا المطاف كأعداد متراكمة فوق أرقام أخرى بائسة ومجهولة الهوية، أرقام لم تتمكن إطلاقاً من الوصول إلى الضفة الأخرى، لكن لم يكن هنالك سبيل للعودة، هذه تذكرة بوجهة واحدة.

أبحرنا لثماني ساعات قبل أن يتعطل محرك القارب، كان مجموعنا على القارب حوالي 300 شخص، وعندما بدأت الامواج بدفعنا نحو شواطئ قبرص، قام الطاقم بإرسال إشارات نجدة، آملين باحتمال تنبه قارب تابع للأمم المتحدة أو الصليب الأحمر لها، أو أي شخص يمكنه مساعدتنا.

وأخيراً اصطدم قاربنا بجرف صخري، وعلق قاربنا، لكن لحسن الحظ، ودون مرور وقت طويل أتى قارب تابع لخفر السواحل القبرصي لينقذنا ويعيدنا مجدداً إلى تركيا، حيث قامت السلطات التركية بأخذ بصماتنا وإطلاق سراحنا في غضون ساعات.

بعض الأشخاص الذين كانوا برفقتي قالوا إنهم لن يحاولوا القيام بتلك الرحلة مجدداً، وعندما سألوني عن خطوتي التالية، أجبت بأنني مستعد للمرور بالتجربة ذاتها، حتى ولو باليوم التالي إن استطعت، رحلة أخرى في البحر، حيث لا ينفع الدعاء، وحيث الجميع يقع تحت رحمة الطبيعة، في مكان يمكنك أن تشعر فيه بحجمك الصغير، مهما كبرت أحلامك.

لقد كنت في فترة من حياتي خسرت فيها كل شيء، لم تكن عائلتي على علم بما كنت أفعله، لكنني حلمت بأن أكون بشراً وأن أعامل على هذا الأساس، ولم يكن هنالك أي شيء ليوقفني، لذا اتصلت بالمهرب في الليلة التي أطلق فيها سراحي، وأخبرته بأنني أرغب بأن أذهب بالسفينة المبحرة تالياً.

وبعد يومين، تلقيت اتصالاً، وتوجهت مجدداً لنقطة تهريب، وفي هذه المرة كان لديهم قارب أكبر، بل كان أقرب لسفينة شحن، قد يبلغ طولها 85 متراً أو أكثر.

انتظرنا خمسة أيام حتى امتلأت السفينة بالركاب، كنا 391 لاجئاً من مختلف المدن السورية، لأول مرة في حياتي بدأت أشعر وكأني محتجز بسجن، لأواجه ظروفاً لا يفترض بأي إنسان عيشها.

احتجزنا في غرفة الشحن بالسفينة، لم نكن نملك أي سرائر أو ما نفترش به أرض السفينة المعدني، لكننا عثرنا على قطع خشبية وضعنا عليها بعضاً من أغراضنا حتى لا تتعرض للبلل، ولمدة خمسة أيام بقينا دون طعام وتمكنا من الحصول على القليل من المياه، لكن على الأقل كان ذلك يعني جولات أقل إلى “المرحاض”، أو ما يشبهه، إذ كان عبارة عن إطار سيارة مغطى بقطعة قماشية.

الأمواج ضربت القارب الكبير من كل الجهات، والمياه بدأت بالتسرب من سقف الغرفة بينما نامت أجسادنا على الأرضية المعدنية للسفينة، مع رائحة البول التي انبعثت من الزاوية.

وبعد مرور سبعة أيام على هذا الحال، وبالرغم من هذه الظروف السيئة، كان كل شيء يسير على ما يرام، حتى بلغنا البحار المرقطة بالجزر قرب اليونان، وفي اليوم الحادي عشر، على مسافة تزيد عن 300 كيلومتر من الشواطئ الجنوبية لإيطاليا، بدأ طاقم سفينتنا بإبلاغ حرس السواحل بقدومنا نحوهم. كنا تائهين في البحر، أو هذا ما قالوه للسلطات، دون قبطان أو طاقم، وهذا كان صحيحاً بعض الشيء، إذ لم يكن على متن السفينة قبطان مسجل، بل كان من يوجهها رجل كان يعمل سابقاً على متنها.

وقامت سفينة آيسلندية بإنقاذنا، طاقمها عمل بالتعاون مع “Frontex”، أي حرس الحدود الأوروبي المشترك، بالتعاون مع سفينة للأبحاث العلمية من نيوزيلندا.

تمكنت سفينة الإنقاذ من الاقتراب منا، لكنها لم تتمكن من الوصول إلينا بسبب الأمواج العالية، علمنا بأنه سيتوجب علينا أن ننتظر قليلاً حتى نغادر القارب دون رجعة، اللاجئون الآخرون كانوا يلوحون بأيديهم لخفر السواحل مثل الأطفال، ويخبرون بعضهم بأنهم رأونا وأنه لا داع للتلويح، كنت من بين آخر الأشخاص الذين أنقذوا من على متن السفينة، لا زلت أذكر شعوري عندما أنقذوني، كما لو أن الموضوع برمته حصل البارحة، كانت ولادة لحياة جديدة.

أخذونا إلى كاتانيا في صقلية، حيث وصلنا إلى اليابسة أخيراً، وعند وصولنا كان أول ما قامت به السلطات الإيطالية هو الاعتناء بالحالات الطارئة، فقد أصيب رجل بالتسمم من مياه الشرب التي كانت على القارب، وكان هنالك نساء حوامل وعجائز بحاجة لرعاية طبية.

اصطحبونا لمخيم للاجئين، حيث تحدث الجميع عن القلق من نية السلطات أخذ بصمات أصابعنا وتحويلنا إلى لاجئين وقال الجميع: “لم نخاطر بكل ما نملكه لنصبح لاجئين، لن نعطيهم بصماتنا، حتى ولو عذبونا.”

وفي وقت لاحق أخبرنا رجل بأنهم لن يقوموا بأخذ بصماتنا، بل كانوا سيصطحبوننا إلى مخيم آخر، وانتهت بذلك رحلتنا للذهاب إلى أوروبا بعد 12 يوم على بدئها. أمضيت يومين في صقلية قبل بلوغي لميلان أولاً برفة شابين أصبحا صديقي، وتوجهنا معاً إلى ألمانيا ومن ثم إلى باريس، وانتهى بنا المطاف في مدينة اسمها “ساربروكين.”

لا أعلم بما حل ببقية من سافروا معي، لكنني موقن بأمر واحد فقط: حلمي ببلوغ أوروبا استحق كل المخاطر التي أنجزت والتي ذابت مع مياه البحر.

كاتب المقال: معتصم يزبك، لاجئ سوري هرب بقارب من تركيا إلى إيطاليا في ديسمبر/كانون أول عام 2014، يعيش حالياً في ألمانيا، حيث يساعد القادمين الجدد من سوريا إلى البلاد. (الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر CNN

سي ان ان

 

سوري يكتب رسالة وداعية “مؤثرة” قبل غرقه في المتوسط

دمشق ـ  الأناضول ـ تداول ناشطون سوريون على شبكات التواصل الاجتماعي، نص رسالة قالوا إنها وجدت في جيب أحد اللاجئين السوريين الذين انتشلت جثثهم بعد غرق مركبهم الذي كان يحوي المئات من المهاجرين غير الشرعيين في البحر الأبيض المتوسط خلال رحلتهم للوصول إلى الشواطئ الأوروبية مطلع الأسبوع الجاري.

وفيما لم يبيّن الناشطون معلومات عن هوية صاحب الرسالة الوداعية الأخيرة التي كتبها فيما يبدو لدى استشعاره بقرب غرق المركب الذي كان يحمله، فإنهم أرفقوا مع النص الذي نشروه على صفحاتهم الشخصية عبارات مؤثرة من قبيل “هدية إلى العالم المتحضر.. هرب من الموت فاحتضنه البحر.. أنصحكم بالقراءة لكن لا تبكوا لأن الدموع جفت على أبناء سوريا”.

 

وهذا نص الرسالة الذي تنشره وكالة “الأناضول” بحسب ما تداوله الناشطون:

 

“أنا آسف يا أمي لأن السفينة غرقت بنا ولم أستطع الوصول إلى هناك (يقصد أوروبا)، كما لن أتمكن من إرسال المبالغ التي استدنتها لكي أدفع أجر الرحلة (يتراوح أجر الرحلة البحرية للوصول إلى أوروبا بطريقة غير شرعية ما بين ألف إلى 5 آلاف يورو بحسب دولة الانطلاق وعوامل أخرى مثل صلاحية المركب وعدد الوسطاء وغيرها).

لاتحزني يا أمي إن لم يجدوا جثتي، فماذا ستفيدك الآن إلا تكاليف نقل وشحن ودفن وعزاء.

أنا آسف يا أمي لأن الحرب حلّت، وكان لا بد لي أن أسافر كغيري من البشر، مع العلم أن أحلامي لم تكن كبيرة كالآخرين، كما تعلمين كل أحلامي كانت بحجم علبة دواء للكولون لك، وثمن تصليح أسنانك.

بالمناسبة لون أسناني الآن أخضر بسبب الطحالب العالقة فيه، ومع ذلك هي أجمل من أسنان الديكتاتور (في إشارة إلى بشار الأسد).

أنا آسف يا حبيبتي لأنني بنيت لك بيتاً من الوهم، كوخاً خشبياً جميلاً كما كنا نشاهده في الأفلام، كوخاً فقيراً بعيداً عن البراميل المتفجرة وبعيداً عن الطائفية والانتماءات العرقية وشائعات الجيران عنا.

أنا آسف يا أخي لأنني لن أستطيع إرسال الخمسين يورو التي وعدتك بإرسالها لك شهرياً لترفه عن نفسك قبل التخرج.

أنا آسف يا أختي لأنني لن أرسل لك الهاتف الحديث الذي يحوي “الواي فاي”(خدمة الانترنت اللاسلكي) أسوة بصديقتك ميسورة الحال.

أنا آسف يا منزلي الجميل لأنني لن أعلق معطفي خلف الباب.

أنا آسف أيها الغواصون والباحثون عن المفقودين، فأنا لا أعرف اسم البحر الذي غرقت فيه..

اطمئني يا دائرة اللجوء فأنا لن أكون حملاً ثقيلاً عليك.

شكراً لك أيها البحر الذي استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكراً للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي.

شكراً لقنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موتنا لمدة خمس دقائق كل ساعة لمدة يومين..

شكراً لكم لأنكم ستحزنون علينا عندما ستسمعون الخبر.

أنا آسف لأني غرقت..”.

 

ويأتي نشر نص الرسالة، قبيل ساعات من عقد القادة الأوروبيين قمة استثنائية في بروكسل لمواجهة أزمة المهاجرين غير الشرعيين عبر محاربة المهربين المسؤولين عن أسوأ كارثة مهاجرين في البحر المتوسط.

ومن المرتقب أن يلتقي قادة دول الاتحاد الأوروبي الـ28، في قمتهم الاستثنائية في وقت لاحق من اليوم الخميس، بعد تضاعف الضغوط على حكوماتهم لمعالجة أزمة المهاجرين عبر البحر المتوسط، وخاصة بعد حادثة الغرق التي وقعت الأحد الماضي وأودت بحياة أكثر من 800 شخص معظمهم من السوريين والفلسطينيين وبينهم نساء وأطفال، كانوا متوجهين بقارب من السواحل الليبية إلى الشواطئ الإيطالية طمعاً في الحصول على اللجوء في أوروبا.

وبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن خفر السواحل الإيطالي، فإنه تم التمكن من انتشال العشرات فقط من ركاب المركب الغارق، في حين أن المئات من الجثث ما تزال عالقة في المركب أو أنه لم يتم الوصول إليها أو انتشالها بعد.

وخلال العامين الماضيين، تزايد بشكل مضطرد تدفق الآلاف من طالبي اللجوء إلى أوروبا عبر ما تسمى بـ”مراكب الموت” التي تشق عرض البحر المتوسط لعدة أيام انطلاقاً من سواحل الدول الأفريقية المطلة على الساحل الجنوبي للمتوسط وخاصة ليبيا، ومعظم تلك القوارب لا تحمل أدنى مقومات السلامة ويتم حشر المئات من الأشخاص فيها، فيما شهدت الفترة الماضية قيام المهربين المسؤولين عن تسيير تلك الرحلات بترك القوارب بعرض البحر والهروب على قوارب صغيرة بعد أخذ أجورهم من الركاب.. وترك المهاجرين غير الشرعيين يواجهون مصيرهم.

وشهد البحر المتوسط خلال الأشهر الماضية، غرق عدد من المراكب التي تحمل مهاجرين غير شرعيين، وقدرت بعض الإحصائيات الصادرة عن منظمات أممية أعداد الذين غرقوا في رحلات “الموت” بين ضفتي المتوسط بأكثر من 1600 شخص منذ مطلع العام الجاري وحتى اليوم.

ويطمع قاصدي اللجوء إلى أوروبا، الذين يشكل السوريون والفلسطينيون غالبية أعدادهم خلال الأعوام الثلاثة الماضية، في الحصول على الأمان والحقوق التي يفتقدونها في بلدانهم، بالإضافة إلى مزايا مثل الحصول على منزل ومرتب شهري وتأمين صحي تقدمه الدولة التي تقبل طلب اللجوء، إضافة إلى طمعهم في الحصول على جنسية تلك الدول بعد إقامتعهم لعدة سنوات ما يجعلهم يتمتعون بحقوق مواطني تلك الدول.

ولم يتسنّ لمراسل “الأناضول” التأكد من صحة الرسالة من مصدر مستقل، وفيما إذا كانت حقيقية أم أنها محاولة لجذب الأنظار حول المأساة التي يعاني منها اللاجئون السوريون الفارون من الصراع المستمر في بلادهم منذ أكثر من 4 سنوات وأدى لمقتل أكثر من 220 ألف شخص ونزوح ولجوء أكثر من 10 ملايين سوري داخل وخارج بلادهم.

 

قتلى..لكن من أيّة جهة من المتوسّط؟/ هدى بركات

حين قضى 366 مهاجر غرقا في قوارب الموت أطلقت الصحافة وجمعيّات حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني، أطلقوا على حادثة الغرق هذه “مأساة المتوسّط الكبرى للقرن الحادي والعشرين”. وقفت أوروبا تصرخ لجهتين. الأولى تنعي القتلى بتفجّع أكيد، وتطلق الحملات الإعلاميّة كلّما انتشلت مراكب الأمن والإنقاذ مجموعات من الجثث فيها النساء والأطفال… وأوردت بالتفصيل أعداد الموتى الذين لم يتمّ العثورعلى جثثهم وأكلهم البحر… أمّا الصراخ الموجّه للجهة الأخرى فكان من لمبدوزا يقصد آذان أوروبا وتحديدا الإتحاد الأوروبي بقصد إيجاد حلّ ما، حلول ما لموجات تراجيديا الهجرات المتعاقبة والحدّ بشكل ما من خسائرها، ابتداء من مدّ يد العون إلى بلدان الشاطىء الجنوبي للمتوسّط – أو ما يصل إليه من البشر – أو بتدبّر مرافقة أمنية – إنقاذية في البحر، أو إعادة توزيع المهاجرين على دول أوروبا بحسب كوتا معيّنة…

منذ أيّام غرق أكثر من 400 مهاجر. وليل السبت/الأحد تجاوز العدد الـ 700. الرقم يتعدّى ما أطلق عليه مأساة المتوسّط الكبرى مرّتين. ورغم ذلك مرّت فجيعة الـ400 كأن بصمت. ولن يكون لضحايا الغرق الـ700 سوى إشارة ارتفاع الأرقام وتواترها. لن يصرخ أحد. لا إيطاليا ولا… عرفت لمبدوزا أو غيرها من شواطىء الشمال، وتأكّدت تماما أن لا حياة لمن… وأنّ الإتحاد الأوروبي ما “زال يدرس” المسألة، وأن العدد مسألة.. نسبيّة.

العدد مسألة نسبيّة. ولها علاقة عضوية بالزمن الأوروبي. أقصد أنّ المخيّلة الأوروبيّة الأكثر إنسانيّة وبراءة تلتفت لا بدّ إلى “نوعيّة” هؤلاء المهاجرين. لم أجد كلمة أدقّ من “تلتفت”. ولا من “نوعيّة”.

من شواطىء تونس أو من شواطىء ليبيا. مهاجرو قوارب الموت هم إمّا عرب أو أفارقة. هاربون من الحروب في أكثريّتهم الساحقة، وأقليّة لا تُذكر نسبة الهاربين من الفقر بما أنّ دراسات كثيرة تؤكّد أن كلفة الرحلة مرتفعة جدا، حتّى للطبقة المتوسّطة. هؤلاء الهاربون من الحروب إذن هم، غرقى، وجثث ممدّدة على الشواطىء، لا يشكّل عددهم في النهاية – أكانوا 400 أو أكثر- ما يجعل أوروبا أمام تراجيديا إستثنائية لجهة.. الأخلاق. إذ إزاء ما يجري “عندهم” من قتل وتقتيل ربّما كانوا قضوا هناك، في بلدانهم تلك، وعدد الضحايا في حروبهم يصل إلى ما يتعدّى أحيانا احتسابه بالمئات، أو حتّى احتسابه أصلا. وإن كانت أوروبا اقتنعت بأنّها لا تستطيع شيئا لوقف هذه الحروب، هناك، فماذا باستطاعتها إزاء الهاربين منها؟

بتعبير آخر: إنّ غرقى القوارب هم ضحايا حروب في بلدانهم. هكذا يستقيم المنطق. ولو قليلا، لكي تستطيع أوروبا، ومن بعدها الغرب والعالم، أن يُريح ضميره. ولو قليلا…

المتوسّط! للمتوسّط الأوروبي مهمّات وأدوار و.. أسواق.

في الأفلام التاريخيّة والوثائقيّة يروي الأوروبيّون عن هذا البحر أساطير تفوق الخيال. يروون عن “الضفّة الأخرى” حكايات ساحرة تختلط فيها الحضارات والأديان والإنجازات الثقافيّة اختلاط العسل باللبن. مراكب وخوابٍ وبهارات وكتب ومخطوطات وأقمشة. تجّار أتقياء ومترجمون مخلصون، وشعراء وجواهرجيّة ومغنيّات… ومياه تتهادى بين الضفتين لا يعكّر سلامتها موجٌ أو رياح…

وتمويل… لا أحد يستطيع أن يتكهّن بعدد الجمعيّات والمؤسّسات والمعاهد والهيئات والأبنية والـ”بيوت”… التي موّلتها أوروبا من أجل ترويض الضفّة الأخرى. من أجل إبعاد شياطينها الكثيرة. درء أخطارها القادمة لا محالة. و في ما عدا مشاريع “الشراكة” السياسية الرسميّة، كلّ يوم كانت تصلك دعوة، دعوات، موجّهة من الجهات الكثيرة والمتكاثرة كالفطر العجيب، للكلام عن “أفضال التواصل بين ضفّتي المتوسّط” بشكل عام. حتى الأورتيكاريا. صرت، شخصيا، كلّما وردت كلمة “المتوسّط” في دعوة ما، أبدأ بالحكاك. كذلك الذي يصيبني عند قراءة “شيء” يتناول الأدب العربي من زاوية ألف ليلة وليلة…

بروفيسيريّة وأساتذة وباحثون وكتّاب وفنّانون. مهرجانات ولقاءات وندوات ومؤتمرات. أوراق وأبحاث ونصوص ودراسات ومشاريييييع… العمى! كيف اختفى كلّ ذلك. كأن فجأة فشل المشروع. أعني كأن بظرف ساعات قليلة. صار المتوسّط بحر الظلمات. راح الأمل وراح الحماس. باتت “الضفّة الأخرى” جهنّم حروب، وشياطين إرهاب، وغرقى لا يريد أحد أن يلمّهم…

ما دخل أوروبا؟! فعلا، ما دخل أوروبا؟ والعالم؟ ما دخل العالم؟!

المدن

 

 

تحت سماء جائرة/ حسن داوود

كان من الأولى أن يتنازع أولئك المهاجرون على أمكنة الجلوس في القارب المطّاطي المزدحم بهم. كانوا مئة وخمسة أنفار في تلك المساحة القليلة التي لا تتيح لأيّ منهم أن يقوم من مكانه مثلا. سبق لنا جميعا أن شاهدنا صورا لذلك الإزدحام، سواء أخذت قبل غرق القوارب أو بعدها. وهي تؤخذ عادة من الجو، من طوّافة مثلا كانت تنذر المهاجرين بالرجوع إلى نقطة انطلاقهم قبل أن يصيروا هناك في الوسط، في تلك المنطقة التي تبعد مسافة متساوية بين انطلاقهم ووصولهم، بين إفريقيا وأوروبا. لسبب آخر حدث التنازع بين الرجال الذين جاؤوا من دولهم الإفريقية الكثيرة، من مالي وساحل العاج والسنغال ونيجيريا وغانا، ومن دول أخرى، لم يسمّها التقرير الصحافي، بينها ليبيا مثلا التي أبحر القارب من أحد شواطئها.

هناك في ذلك الوسط الذي لا يهم أن يكون أقرب إلى هنا مما إلى هناك. فعندما لا تعود تظهر الأرض من أيّ من الجهات، يصير البحر لجّة واحدة لا يحسب فيها القرب والبعد. لا نسمّي ذلك مكاناً، فالمكان هو حيث يطأ الناس، أو حيث يلتقون، أو يتوادّون أو يتوعّدون. المكان هو حيث يقول بعضهم هذه الأرض التي نقف عليها الآن هي لنا، ليردّ بعضهم الآخر بل إنها لنا. هناك، في ما ليس بمكان، حيث لا شيء يمكن التقاتل من أجله، لا على ظهر القارب ولا على أيّ شيء يقع في خارجه القريب، أو في خارجه الأبعد، لم يكترث هؤلاء وأولئك بأن يعرّضوا أنفسهم لخطر البحر، فأشعلوها حربا بينهم.

وكما يحدث عادة، إنتصر الكثيرون على القليلين. وهناك، حيث لا سلاح في أيديهم، ألقى هؤلاء بأولئك في البحر. لم يردعهم عن ذلك مصيرهم الواحد، ولا لون البشرة الواحد أيضا، ولا المجهول الذي ينتظرهم إن أمكن لهم الوصول إلى اليابسة المقابلة. فهناك حيث لا شيء يتحرّك تحت السماء يحتاج من يهمّ بالحرب، أو بالقتل، إلى أسباب تأتي من السماء.

مهاجرو أفريقيا الذين طردهم الفقر من بلدانهم، الذين ينبغي لهم أن يكونوا الأكثر مسالمة بين البشر طالما أن واحدهم لا يملك شيئا يطمع به الآخرون ، بقيت في نفوسهم تلك الشعلة، المستعدّون للموت من أجلها، ألمستعدّون للقتل، ولأن يدفعوا مَن معهم إلى المصير الذي هو أكثر ما يخيفهم، هم أيضا.

القارب المطاطي ذاك سفينة نوح صغيرة لزمن ما بعد الطوفان، سفينة لزمن الأديان التي لا تستكين شعلتها.

المدن

 

 

 

أوروبا تملك حل أزمة المهاجرين

قال رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رنزي، خلال زيارة هذه الصحيفة قبل أيام أن السبيل إلى وقف تدفق المهاجرين الأفارقة الذين يطلبون اللجوء إلى أوروبا هو «السلام بين قبائل ليبيا». ولا تجانب ملاحظته الصواب، ولكنها تستخف بواجبات بلاده وغيره من البلدان الأوروبية في الحؤول دون وقوع هذه الكارثة الإنسانية. وبرزت الحاجة إلى دور أوروبي رائد في تذليل الأزمة مع غرق مركب على متنه حوالى 700 شخص في نهاية الأسبوع وإبحار موجة جديدة من المهاجرين انطلاقاً من السواحل الليبية. ونهار الإثنين لم تفلح عمليات النجاة سوى بإنقاذ 28 شخصاً. والكارثة الإنسانية في البحر المتوسط، هي اليوم، الأفدح منذ الحرب الثانية.

وماتيو رنزي مصيب في تشخيصه جذور الأزمة التي كانت وراء بلوغ 170 ألف مهاجر إيطاليا بحراً في العام الماضي، وعشرات الآلاف في العام الحالي. وشطر كبير من المهاجرين يتحدر من الصحراء الجنوبية الأفريقية والصومال وسورية. ولكن معظم المهاجرين ينطلقون من ليبيا نزولاً على تعليمات شبكات تهريب. وبعضهم لجأ في الماضي إلى ليبيا حين كانت دولة نفطية غنية، ولكنه اضطر إلى مغادرتها إثر الحرب الأهلية وبروز مجموعات إرهابية وثيقة الصلة بـ «الدولة الإسلامية».

ولا شك في أن طي الفوضى في ليبيا يقتضي إرساء حل سياسي بين الأطراف المتقاتلة، وبينها حكومتان متنافستان تتلقى كل منها دعم قوى أجنبية. وأعلن مبعوث الأمم المتحدة قبل أيام أن 80 في المئة من مسودة السلام حازت إجماع الليبيين. لكن إعلانه يشوبه التفاؤل في وقت لا تسيطر أي من الحكومتين على القوات المسلحة التي يفترض أنها تقاتل نيابة عنهما.

وفي الأثناء، آلاف من البؤساء والمحبطين يتكدسون في مراكب مع قدوم فصل الربيع. وأعلنت منظمة الهجرة الدولية أن حرس السواحل الإيطالي أنقذ 10 آلف شخص وعدداً من المراكب في ستة أيام مطلع الشهر الجاري، وقالت أن 950 شخصاً قضوا هذا العام قبل كارثة نهاية الأسبوع. وقال مدير الرقابة على حدود الاتحاد الأوروبي أن ما بين نصف مليون شخص ومليون شخص يستعدون لمغادرة ليبيا إلى أوروبا. ووحده الاتحاد الأوروبي في وسعه مساعدة هؤلاء المهاجرين، خصوصاً حين ينزلون إلى البحر. ومدعاة شعور بالعار هو تراجع حكومات عن خطط إنقاذ المهاجرين نزولاً على ضغوط أحزاب متطرفة معادية للمهاجرين.

ويبدو أن الكارثة الإنسانية الأخيرة ستحمل الحكومات الأوروبية على التحرك. فهذه الحكومات ستجتمع الخميس المقبل للبحث في الحلول. ونقطة انطلاق هذه الحلول هي استئناف عمليات البحث والإنقاذ التي عدلت عنها إيطاليا. وعلى القادة الأوروبيين توفير سبل قانونية يسع اللاجئين الأفارقة سلكها لحيازة اللجوء في الدول الأوروبية من دون الاضطرار إلى ركوب زوارق المهربين. وحري بهم كذلك مكافحة المهربين والمساهمة في إرساء النظام في ليبيا.

* افتتاحية الصحيفة، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 20/4/2015، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

 

 

تجارة الموت في مقبرة المتوسط/ عبدالإله الصالحي

“البحر المتوسط تحوّل إلى مقبرة جماعية مفتوحة”، يقول النائب الإيطالي من أصل مغربي ومنسّق مجموعة الهجرة في مجلس النواب الإيطالي خالد شوقي لـ”العربي الجديد”، واصفاً حادثة غرق أكثر من 800 مهاجر غير شرعي في البحر المتوسط، هوى مركبهم المتقادم إلى قاع البحر على بعد حوالي 110 كيلومترات عن السواحل الإيطالية صباح الأحد الماضي، بـ”الفاجعة الإنسانية المخزية”، متمنياً “أن تستيقظ أوروبا من سباتها لأن إيطاليا لن تستطيع أبداً مواجهة هذه الموجات البشرية على سواحلها بمفردها، وإذا استمر الأمر على هذا المنوال فستغرق إيطاليا وأوروبا أيضاً في المتوسط”. هذه الفاجعة اكتست بسرعة بُعداً تراجيدياً مهولاً في إيطاليا وكل بلدان الاتحاد الأوروبي، وجاءت بعد أيام قليلة من اختفاء حوالي 400 مهاجر في المتوسط رجّحت البحرية الإيطالية غرقهم أيضاً.

غضب إيطالي

وباتت السواحل الإيطالية في السنوات الأخيرة هدف الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين الأفارقة والعرب الذين ينطلقون من السواحل الليبية بوتيرة شبه يومية عبر مراكب يتكدس فيها المئات، بعضها يغرق لكن غالبيتها تنجح في الوصول إلى السواحل الإيطالية بعد تدخّل البحرية الإيطالية والبواخر الدولية التي تمخر عباب المتوسط ليل نهار.

أرقام الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط وضحاياها وصلت إلى حد مخيف في الآونة الأخيرة، فحسب “المنظمة الدولية للهجرة” قضى 1650 شخصاً غرقاً منذ بداية العام الحالي مقابل 3419 العام الماضي، وهناك حوالي 23 ألف مهاجر وصلوا بأمان إلى السواحل الإيطالية. وهذه الأرقام ستتصاعد من دون أدنى شك في الأسابيع المقبلة بسبب أحوال الطقس الملائمة والأعداد الهائلة للمرشحين للهجرة في السواحل الجنوبية للبحر المتوسط. ويقول مسؤول فرع “منظمة العفو الدولية” في باريس جون فرانسوا ديبوست، إن “كل الظروف مجتمعة بشكل استثنائي لكي يهلك المزيد من المهاجرين في البحر المتوسط، أحوال الطقس، جشع عصابات المهربين والفوضى الأمنية والسياسية في ليبيا والاضطرابات في منطقتي الساحل الأفريقي والقرن الأفريقي والحرب في سورية والعراق”، مضيفاً “يجب أن نعرف أن هؤلاء المهاجرين يدركون جيداً مخاطر الإبحار باتجاه أوروبا لكنهم يائسون ويستحيل عليهم العودة إلى الوراء”.

رسالة “أوروبية” من تحت الماء

الغضب الإيطالي تجاه الاتحاد الأوروبي يعود بشكل أساسي إلى رفض هذا الأخير وضع خطة ناجعة بميزانية مناسبة لتأمين البحر المتوسط، ليس فقط عبر مراقبة السواحل الأوروبية وتكثيف المراقبة في عرض البحر، بل بالتحرك في ليبيا ودول الساحل الأفريقي لإنشاء مراكز إيواء تحتوي المهاجرين وتقنعهم بعدم ركوب البحر. غير أن الرفض الأوروبي له مبرراته، بسبب خطورة الأوضاع في ليبيا ونشاط الجماعات الجهادية في منطقة الساحل، الأمر الذي  يجعل أي حضور أوروبي مخاطرة كبيرة.

وكانت إيطاليا قد أطلقت برنامجاً بلغت ميزانيته 122 مليون يورو (نحو 130 مليون دولار) تحت اسم “مار نوستروم” للقيام بعمليات الإغاثة في البحر المتوسط بواسطة 32 قطعة بحرية، لكن الكلفة العالية لهذه العملية والمساهمة الأوروبية المتواضعة فيها، أقل من الثلث، جعلت إيطاليا تضع حداً لها، ليتم استبدالها بخطة “تريتون” بتمويل أوروبي متواضع أثبتت بسرعة عدم فاعليتها.

والواقع أن الاتحاد الأوروبي له نظرة مغايرة للأمور، كما يقول المحلل السياسي الفرنسي ورئيس تحرير القسم السياسي في قناة “إيتيلي” أوليفييه رافانيلو” لـ”العربي الجديد”، موضحاً أن “هناك رأياً في المفوضية الأوروبية يعتبر أن تكثيف عمليات الإغاثة في البحر المتوسط له نتائج عكسية، لأنه سيجذب أكثر فأكثر المهاجرين الذين يدركون بأنه في كل الأحوال سيكون هناك من ينقذهم في عرض البحر ويقودهم إلى مراكز الإيواء في السواحل الإيطالية، ليبقى العبور عبر المتوسط خطيراً ومهلكاً لكي يحجم المهاجرون عن المخاطرة”، لافتاً إلى أنه “لا يوجد أحد مستعد للجهر بهذه الفكرة بشكل رسمي في المفوضية الأوروبية، لكن سياسة الاتحاد الأوروبي حتى الآن تدفع ضمنياً في اتجاه تحويل المتوسط إلى مقبرة جماعية لثني المهاجرين المتجمعين في ليبيا عن ركوب البحر”.

ليبيا كابوس الهجرة الأوروبي

رأي المحلل الفرنسي يشاطره إياه المتحدث باسم البحرية الليبية الضابط عمر أيوب قاسم في طرابلس، الذي يؤكد في تصريح لـ”العربي الجديد” أن “في ليبيا الآلاف من الأفارقة الوافدين بشكل خاص من الصومال وإريتريا وجيبوتي ونيجيريا، وهم ينتظرون الفرصة للإبحار في اتجاه إيطاليا، وما دام المجتمع الدولي لا يساعد في حل هذه المشكل فسيستمر مسلسل الموت”.

والواقع أن ليبيا بسبب الأوضاع المتردية أمنياً وسياسياً وانهيار مؤسسات الدولة، صارت المعبر الرئيسي لآلاف المهاجرين الهاربين من بلدانهم في اتجاه أوروبا. وأمام هذا الوضع الكارثي لا يستطيع ما تبقى من خفر السواحل الليبي أن يحد من هذه الظاهرة.

ويقول قاسم “إمكاناتنا متواضعة جداً، وقواربنا الصغيرة لا تسمح لنا بالبقاء طويلاً في عرض المياه الإقليمية الدولية لرصد مراكب المهربين، فما بالك بالإبحار في المياه الدولية. وعلى الرغم من كل هذا فنحن ننسّق قدر المستطاع مع خفر السواحل الإيطالي ونزوّدهم بما لدينا من معلومات حول المراكب المبحرة في اتجاه الجزر الإيطالية”.

وفي ليبيا تعيش الأعداد الهائلة من المهاجرين الأفارقة في أوضاع مزرية. أما مراكز الإيواء التي لا يتجاوز عددها العشرة، فهي موزعة بالأساس على الشريط الساحلي بين طرابلس والحدود التونسية، وتعاني من الاكتظاظ الشديد.

ويدقّ المتحدث باسم الهلال الأحمر الليبي مالك مسروطي ناقوس الخطر في تصريح لـ”العربي الجديد”، قائلاً إن “قدراتنا الاستيعابية في مراكز الإيواء محدودة ومخزوننا من الأدوية والمواد الغذائية تناقص بشكل كبير وصرنا نعجز عن تلبية الاحتياجات البسيطة لهؤلاء المهاجرين، كما أن التنسيق صار صعباً مع المنظمات الإنسانية الدولية بسبب الأوضاع الأمنية وإغلاق هذه المنظمات لفروعها في ليبيا”.

منجم ذهب للمافيات

لم يعِ الأوروبيون جيداً أن التدخل الغربي في ليبيا عام 2011 وانهيار نظام العقيد معمر القذافي سيجعلان من ليبيا كابوساً يقضّ مضجع الأوروبيين مع ظهور الجماعات الجهادية وازدهار عصابات التهريب، التي انتبهت إلى الأرباح الكبيرة التي يمكن جنيها من عمليات نقل المهاجرين. ومنذ حوالي عامين تحوّلت هذه العصابات إلى شبكات منظمة لها ترتيب هرمي ووسائل لوجستية للقيام بعمليات تهريب البشر.

ويقول المحلل السياسي الليبي كامل مرعاش، الذي يعرف جيداً منطقة الساحل الغربي، في تصريح لـ”العربي الجديد”، إنه “بسبب انهيار الدولة الليبية ومؤسساتها واستقواء المليشيات المسلحة، بات هناك تواطؤ وتبادل مصلحة بين عصابات التهريب والمليشيات التي تسيطر على الشواطئ الممتدة من صرمان إلى زوارة مروراً بصبراتة والعجيلات، وهي الشواطئ الأقرب للجزر الإيطالية، لأن مداخيل التهريب تساعد على شراء المزيد من السلاح ودفع رواتب المقاتلين”.

ويؤكد المحلل السياسي الليبي أن “مدينة زوارة صارت بؤرة تصدير المهاجرين باتجاه أوروبا، فهي معروفة بامتهان أبنائها للصيد البحري، وبسبب الأزمة تحوّل هؤلاء إلى مهنة تهريب المهاجرين وعرضوا خدماتهم ومراكبهم المهترئة على مافيات المهربين”.

والواقع أن تهريب المهاجرين الأفارقة من الساحل الليبي إلى الضفة الأوروبية ليس وليد السنوات الأخيرة، فالقذافي بنفسه استعمل ورقة المهاجرين الأفارقة ضد الغرب وضد إيطاليا بشكل خاص، كما يذكّر مرعاش، لافتاً إلى أن “القذافي كان يبتز إيطاليا بورقة المهاجرين لكنه كان يتحكّم فيها ويستعملها متى شاء، وظهر هذا جلياً عامي 2009 و2010 عندما توقفت بشكل شبه نهائي مراكب المهاجرين عن الإبحار انطلاقاً من الأراضي الليبية، لأن إيطاليا وقتها قدّمت له مساعدات مالية مهمة”.

وللسوريين أيضاً نصيب

وإذا كان عدد كبير من المهاجرين صوب إيطاليا هم من الأفارقة، فهناك أيضاً مجموعات كبيرة سورية وسودانية ومصرية وفلسطينية تلجأ إلى الساحل الليبي، انطلاقاً من الأراضي المصرية أو السودانية لتجرّب حظها في الانتقال إلى أوروبا عبر المتوسط على الرغم من المخاطر.

المهاجر السوري الذي طلب تعريفه بخليل أبو حمد، تمكّن من الوصول إلى إيطاليا عبر السواحل الليبية، يروي قصته لـ”العربي الجديد”، قائلاً: “قطعنا الصحراء السودانية الليبية خلال 6 أيام ووصلنا إلى مدينة أجدابيا. نمنا ليلة في مستوع يحرسه مسلحون ليبيون، وفي النهار التالي نقلونا إلى مزرعة في بنغازي”. ويضيف: “بعدها جاء جماعة البحر ونقلونا في المساء بشاحنة إلى البحر توقفت عند منطقة اسمها البيضاء. دفعنا ثمن الرحلة عن للفرد الواحد 1250 دولاراً. فتحوا الباب الخلفي فوجدنا المركب يرسو على الشاطئ، كان القبطان مصرياً وكانت معاملته جيدة مع الناس، أما الذين أصعدونا إلى السفينة فكانوا يضربون الناس لتقعد وكانوا قاسين مع السود (ذوي البشراء السوداء) الذين أرغموهم على الجلوس في عنبر السفينة. ثم أبحرت السفينة لمدة 21 ساعة ووجدنا بارجة يونانية أنقذتنا، وعاد المركب إلى الساحل الليبي”.

ازدهار تجارة مراكب الموت

شهادة خليل تعكس الكثير من حقيقة ما يقع في السواحل الليبية. فالمهربون مسلّحون ومنظّمون بشكل جيد، ويملكون شاحنات وعربات رباعية الدفع ويسلكون طرقاً آمنة لا يزعجهم فيها أحد. كما أنهم لا يتورعون عن استعمال القوة ضد المهاجرين، خصوصاً الأفارقة من ذوي البشرة السوداء من أجل تحصيل ثمن الرحلة أو إرغامهم على الصعود إلى المراكب في حال عبّروا عن تخوفهم من حالة المركب وقدرته على إيصالهم إلى السواحل الإيطالية. وهذا ما يؤكده العقيد عمر أيوب قاسم، قائلاً: “للأسف هؤلاء المتاجرون بالبشر لا ضمير لهم وكل ما يهمهم هو أموال المهاجرين المساكين، فهم يشحنونهم كالحيوانات في مراكب مهترئة ولا يراعون طبعاً معايير السلامة والطاقة الاستيعابية المحدودة لهذه المراكب، كما أن المهاجرين أنفسهم لا تجربة لهم مع البحر، وعادة ما يتسببون بأنفسهم في غرق المركب عندما يتحركون إلى جهة ما فيميلون به ويفقدونه التوازن”.

مافيا تهريب المهاجرين صارت تنشط بشكل مكشوف وفي وضح النهار، خصوصاً في المناطق التي تسيطر عليها المليشيات، بل إنها تشتغل بحرية كأنها وكالات سفر عادية، وخصوصاً أن المهربين صاروا ينقلون المهاجرين وكأنهم في نزهة. فحسب عدة شهادات متطابقة لكثير من الناجين، بمجرد وصول المهربين إلى المياه الدولية يهاتفون البحرية الإيطالية لكي تأتي لانتشال المهاجرين، ثمّ يعودون أدراجهم إلى البر الليبي عبر زوارق سريعة.

ووفق دراسة نشرتها أخيراً “وكالة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الحدود الخارجية”، فإن مردود مركب يحمل 450 شخصاً يصل إلى حوالي مليون يورو. وهذا ما دفع بالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى اعتبار المهاجرين إرهابيين، في تصريح عكس الوعي المتزايد بالخطر الذي صار يشكله تجار الرقيق الجدد.

تحوّل البحر المتوسط إلى مقبرة مفتوحة بين الضفتين الأوروبية والأفريقية صار حقيقة وليس مجازاً شعرياً. الفاجعة الأخيرة جعلت من ظاهرة الهجرة غير الشرعية في اتجاه السواحل الإيطالية أكبر خطر يهدد أوروبا وينذر بعواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية معقدة. بل إن هذه الظاهرة تعادل في درجة خطورتها التهديدات الإرهابية التي تمثّلها التنظيمات الجهادية، مع وجود فارق جوهري. فالأمر لا يتعلق بجماعات مسلحة في حرب ضد أوروبا بل بمأساة إنسانية تجعل مئات الآلاف من الاشخاص يعبرون في موجات ضخمة إلى الضفة الأخرى بأي ثمن، هرباً من جحيم الحروب والفقر والأمراض، ويهلكون في اتجاه قارة لم تعد تتحمل وزر استقبالهم. ولا شك في أن القمة الأوروبية الاستثنائية التي تُعقد غداً الخميس في بروكسيل للتباحث حول سبل الحد من هذه الظاهرة أو على الأقل احتوائها، مُطالَبة أكثر من أي وقت مضى بوضع سياسة فعالة وواضحة المعالم في هذا الملف تنظّم هذه الهجرة لأن سياسة إغلاق الباب وتحصينه لا تمنع التسلل من النافذة.

العربي الجديد

 

 

 

قضايا اللاجئين والقصور الأوروبي/ مالك ونوس

لم تعد معاناة أوروبا الخاصة بقضايا اللاجئين الذين اتخذوا منها موطناً بديلاً لهم عن أوطانهم، فاستقروا فيها، هي ذاتها هذه الأيام، فقد تبدلت الهموم المرافقة لهذه القضايا، من قبيل الاندماج وموضوع الهوية وغيرها، التي طالماً شغلت أوروبا نتيجة تدفق اللاجئين إليها، بعد نيل الدول العربية وغيرها من الدول التي رزحت تحت نير الاستعمار الأوروبي، قبل الحرب العالمية الثانية، استقلالها، وظهرت هموم جديدة تراكمت فوق القديمة. فمع موجات الهجرة غير الشرعية، عبر البحر المتوسط التي تُغرق أوروبا، وتزداد وتيرتها يومياً وتضاعفت مع انضمام السوريين والفلسطينيين للأفارقة، وأبناء المغرب العربي الذين درجوا منذ زمن طويل على اللجوء إلى أوروبا، عبر مراكب صغيرة، سميت مراكب الموت، لكثرة حوادث الغرق التي تتعرض لها في عرض البحر. وبدأت أوروبا تبحث عن حلول لهذه المشكلة-المأساة، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها قاصرة، ولا تقارب الحل الجذري المفترض بها إيجاده.

على الرغم من أن العالم قد اعتاد على غرق مراكب المهاجرين في عرض البحر المتوسط، فإن مأساة غرق المركب الذي كان يقل ما بين 700 و900 مهاجر، يوم 19 من إبريل/نيسان الجاري، قبالة ليبيا وغرقهم معه، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر إنسانية أوروبا بسبب عدد الضحايا الكبير، ما جعل وزراء خارجية الدول الأوروبية وداخليتها يجتمعون في لوكسمبورغ في اليوم التالي للحادثة، حيث خرجوا بخطة من عشر نقاط لمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية. لكن،

لأوروبا يد في المآسي التي تعيشها البلدان المصدرة موجات الهجرة. فهي، وبسبب تاريخها الاستعماري الطويل الذي سيطرت خلاله على دول كثيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حرمت تلك الدول من ثرواتها، وأوقفت تطورها”

فلا شك أن لأوروبا، من قريب أو من بعيد، يداً في المآسي التي تعيشها البلدان المصدرة موجات الهجرة. فهي، وبسبب تاريخها الاستعماري الطويل الذي سيطرت خلاله على دول كثيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حرمت تلك الدول من ثرواتها، وأوقفت تطورها. وحين نالت تلك الدول استقلالها، وجدت أن اقتصادها ملحق بنيوياً بالاقتصاد الأوروبي الذي يتحكم به عن بعد، ويمنع تقدمه، سوى لخدمة المصالح الأوروبية. علاوة على تنصيبها أنظمة استبدادية كثيرة، ورعايتها ودعمها، في كبح رغبات شعوبها في الحرية والتنمية. كما أن جريمة خلق الكيان الصهيوني في فلسطين في العام 1948، وما سببه من تشتيت لأبناء الشعب الفلسطيني، ومن نزاعات وعدم استقرار للمنطقة العربية برمتها، ما تزال مستمرة. ولا يبدو أن حلاً مرتقباً للنزاع العربي الصهيوني يلوح في الأفق، ما يعني أن المشكلات التي أوجدها الكيان ستبقى ماثلة للعقود المقبلة، وسيترتب عليها موجات من الهجرة، ستكون وجهتها بالطبع أوروبا.

ولا شك أيضاً في أن الدور الذي لعبته أوروبا الغربية عبر انخراطها مع الولايات المتحدة، في محاربة الكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، والذي كان أحد عوامل انهيار تلك الكتلة، بداية تسعينيات القرن الماضي، وتفكك دولها، ثم انهيارها اقتصادياً.. لا شك في أن ذلك الدور انعكس سلباً على دول أوروبا الغربية التي أخذت تتحمل تكاليف إعادة هيكلة اقتصاديات تلك الدول على شاكلة اقتصاداتها، أي اقتصاد السوق الرأسمالي الحر، الأمرالذي نجم عنه وجود جيوش من العاطلين، لم تجد من سبيل إلى لقمة العيش سوى في الهجرة إلى الدول الأوروبية الغربية، سهّل لها ذلك انضمام دولها إلى الاتحاد الأوروبي، ما أدى إلى تحمّل الدول الغربية عبئاً اقتصادياً كبيراً، كانت في غنى عنه. ويكفي أن نعلم أن دولة مثل إيطاليا، يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة، تستضيف حالياً على أراضيها جالية رومانية، يقدر عدد أفرادها بأكثر من 5 ملايين، تتمتع بكل ما يتمتع به المواطنون الإيطاليون من امتيازات في التعليم والطبابة والعمل، لنعرف حجم ما تعانيه الدول الغربية من دفع أكلاف إضافية، نتجت من ضلوعها في تقويض الكتلة الاشتراكية الواقعة على حدودها الشرقية.

يتبين من خطة العشر نقاط الخاصة بمواجهة الهجرة غير الشرعية أن الحكومات الغربية تدفع الكثير لمعالجة المشكلات التي تواجهها في العالم، بدلاً من دفعها القليل لمعالجة مسبباتها. فالخطة الحالية التي تتطلب تكاليف خيالية، وليس بناء أسوار على الشواطئ الأوروبية، لمنع المهاجرين من الدخول إلى البر الأوروبي سوى دليل على حجم تلك التكاليف. وهو ما يتطلب منها البحث عن طرق أخرى لمعالجة هذه المشكلة. طرق تتطلب تفعيل دور أوروبا في مكافحة الفقر في دول العالم الثالث، وزيادة مخصصات التعليم والطبابة، وحض الحكومات على إجراء إصلاحات تخفف من الفساد الذي يوصل جميع تلك البلدان إلى حد الفقر، وينقلها، في مراحل لاحقة، إلى حواف حروب أهلية. كذلك تتطلب اضطلاع أوروبا بدور جديد ومختلف، لحل النزاعات من جهة. ومن جهة ثانية، المساهمة في زيادة الحريات والتنمية والاستثمار في الدول التي تعتبر مصدراً لهذه الهجرات، خصوصاً أنه لم يعد الهدف من الوصول إلى أوروبا هو تأمين حياة أفضل، كما كان سابقاً، بل لضمان الهاربين من الحروب والصراعات، وبقائهم على قيد الحياة.

من المؤكد أنه لا توجد رغبة لدى أوروبا في إيجاد الحلول لهذه الكارثة الإنسانية، وفق الرؤية السابقة، إلا أنه، وعلى الرغم من خطة النقاط العشر، وتوجه أوروبا إلى منع وصول المهاجرين إلى أراضيها بأي طريقة، فإن الكوارث المتلاحقة في البحر المتوسط، ووصول أوروبا، في مراحل لاحقة، إلى حد التخمة من عدد المهاجرين واحتمال وصولها حد العجز عن تلبية متطلباتهم الحياتية، وتبعات اندماجهم الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من المتطلبات، قد تجبر الأوروبيين على إعادة التفكير بطرق أخرى للحد من الهجرة، انطلاقاً من بلدان المصدر.

العربي الجديد

 

 

 

معضلة الموت في “المتوسط”/ جيفري كمب

في العشرين من أغسطس اجتمع وزراء خارجية بلدان الاتحاد الأوروبي في لوكسمبرج من أجل مباحثات تمهيدية حول نوعية الخطوات التي ينبغي اتخاذها بشأن أزمة غرق المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي يحاولون الوصول إلى أوروبا على متن قوارب غير آمنة. والأسبوع الماضي شهدت مياه البحر الأبيض المتوسط مأساة إنسانية جنوب إيطاليا مات فيها أكثر من 700 مهاجر.

منذ الانتفاضات العربية في 2011، أدت الاضطرابات والقلاقل التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط إلى موجات كبيرة من المهاجرين السياسيين والاقتصاديين الساعين لطلب اللجوء في أوروبا. الكثير من هؤلاء يسافرون إلى دول مجاورة مثل تركيا ولبنان والأردن والعراق؛ ولكن آخرين، ومن بينهم مهاجرون لم يعلقوا في الحروب الأهلية العربية بشكل مباشرة، يمموا وجوههم صوب أوروبا باعتبارها أملهم الأخير في حياة آمنة ومزدهرة. وبعضهم يسعى إلى دخول أوروبا براً عبر تركيا إلى اليونان وبلغاريا. ولذلك، شرعت اليونان في 2012 في بناء سياج كهربائي منعاً لدخول المهاجرين غير الشرعيين إلى أراضيهم. وحذت بلغاريا حذوها حيث بدأت في بناء سياجها الخاص في 2014. وخلال هذه الفترة، أتممت إسرائيل بناء سياج جديد على حدودها مع سيناء لمنع المهاجرين الأفارقة من دخول أراضيها. وبدورها، بنت السعودية ومازالت تبني سياجات على طول حدودها مع العراق واليمن.

ومؤخراً، وفرت الفوضى الموجودة في اليمن فرصة للعصابات الإجرامية التي تجلب مهاجرين من شرق أفريقيا وشمالها ثم تضعهم على متن قوارب متجهة إلى إيطاليا، التي تُعتبر أقرب بلد أوروبي إلى ليبيا. غير أن الكثير من المهاجرين ماتوا غرقاً في المياه الباردة للأبيض المتوسط خلال الأشهر القليلة الماضية بسبب قوارب غير آمنة ومكتظة تفتقر لشروط السلامة ولوسائل الاتصال – التي تصبح ضرورية في حالات الطوارئ قصد طلب الإغاثة – ويُحتجزون في الغالب داخل المخازن التي تُستعمل عادة لتخزين السمك المجمد.

وقبل وقوع هذه الأزمة الإنسانية الأخيرة، كانت أوروبا ترفض القيام بمهمات إنقاذ كبيرة مخافة أن يؤدي ذلك إلى تشجيع مزيد من الأشخاص على القيام بالرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى أوروبا. هذا علماً بأنه لا توجد اتفاقية مشتركة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي بخصوص التعاطي مع مسألة اللاجئين بشكل عام. ولذلك، تحاجج دول جنوب المتوسط، وخاصة إيطاليا واليونان وإسبانيا، بأنها تتحمل وزر الأزمة على الرغم من أن معظم المهاجرين يرغبون في التوجه شمالاً صوب هولندا والبلدان الاسكندنافية وبريطانيا حيث يعتقدون أنهم سيتلقون معاملة أفضل ولديهم فرصة أكبر للحصول على اللجوء والعمل.

في نوفمبر 2013، وضمن جهود تروم الحد من عدد المهاجرين الذين يموتون غرقاً أثناء العبور إلى إيطاليا، أنشأت الحكومة الإيطالية برنامجاً يدعى «ماري نوستروم» أعطى البحرية وقوات خفر السواحل الإيطالية مسؤوليةَ القيام بدوريات في عرض البحر وإنقاذ المهاجرين الذين يواجهون خطر الغرق. وفي ظرف سنة واحدة فقط، تقول البحرية الإيطالية إنها أنقذت أكثر من 100 ألف شخص. ولكن ونظراً لغياب أي مساهمة أوروبية في هذا الجهد، سرعان ما تخلت إيطاليا عن هذا البرنامج في أكتوبر 2014. ورداً على ذلك، أنشأ الاتحاد الأوروبي «عملية ترايتون» تحت إشراف منظمته المعنية بمراقبة الحدود «فرونتِكس». ولكن هذه الأخيرة تمتلك أقل من ثلث الموارد التي كانت مرصودة لـ«ماري نوستروم»، وهذا ما يفسر الزيادة في عدد حالات الغرق.

إنها أزمة أوروبية تتجاوز الأخطار في البحر. وعلى سبيل المثال، فإن إحدى أكثر المناطق استقطابا للمهاجرين غير الشرعيين في شمال أوروبا هي مدينة كالي الفرنسية الساحلية التي يقصدها المهاجرون على أمل أن يتمكنوا من العبور منها إلى انجلترا سواء على متن القطار أو الشاحنات والسيارات. فالحكومة البريطانية تريد أن تجعل من الصعب أكثر على المهاجرين عبور القناة، ولكن منعهم من العبور يشكّل عبئا ماليا ثقيلا على المدينة الفرنسية. وتشير الانتخابات الأخيرة التي جرت في بعض البلدان الأوروبية المهمة مثل فرنسا إلى الشعور الشعبي المناهض للهجرة غير القانونية؛ ولا شك أن الانتخابات البريطانية المقررة في السابع من مايو ستُظهر حجم الدعم الذي يحظى بها حزب «الاستقلال» البريطاني المناوئ للمهاجرين.

ومما لا شك فيه أنه سيتعين على بلدان الاتحاد الأوروبي خلال الأيام المقبلة أن تجترح مخططاً أكثر شمولية للتعاطي مع ما قد يكون كارثة إنسانية واقتصادية وسياسية. غير أنه ليس ثمة ما يؤشر على أن أعداد المهاجرين ستتقلص. وطالما أن الفوضى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مستمرة، فإن الضغط على مزيد من الناس من أجل الهجرة إلى أوروبا سيزداد، ومعه ستزداد التحديات السياسية.

الاتحاد

 

 

 

المتوسط كمقبرة جماعية/ هشام ملحم

المتوسط بحر صغير لكنه تاريخيا وثقافيا ينافس اكبر المحيطات. على شواطئه نمت امهات المدن: صيدا وصور، وقرطاج واثينا والاسكندرية والقسطنطينية. عبر التاريخ كانت الجيوش تبحر فيه من الشرق الى الغرب وبالعكس، لكن الاهم كانت حركة التجارة وسفر الافكار والثقافات والحضارات. في مياهه ابحرت سفن اليونان والفراعنة والرومان والعرب والفرنسيين وسفن القراصنة والمهربين، وقرأنا الاساطير والقصص الحقيقية للسفن التي التهمتها اعماقه او حطمتها صخور شواطئه.

المتوسط اليوم هو حدود مائية خطيرة يحاول آلاف اللاجئين، ومعظمهم من العرب والمسلمين، عبورها الى الشواطئ الجنوبية لاوروبا هربا من حروبهم ونزاعاتهم وطغيان انظمتهم السياسية. في السنة الماضية عبره اكثر من 219 الفا، غرق منهم اكثر من ثلاثة آلاف. هذه السنة العدد اكبر بكثير اذ من المتوقع ان يرتفع عدد الغرقى، وهو حتى الان 1776، الى نحو 30 الفاً. قبل ايام التهم المتوسط 800 لاجئ في أسوأ مأساة من نوعها وفقا لاحصاءات المفوضية السامية للامم المتحدة لشؤون اللاجئين.

اللاجئون والضحايا الذين يلتهمهم المتوسط يأتون من العراق وسوريا، وليبيا والسودان ودول اخرى. يدفعون مدخراتهم للمهربين وقراصنة العصر الذين يهربونهم كما كان تجار العبيد يفعلون قبل قرون ويعبرون بهم في مياه لا تغفر وعلى زوارق وسفن قديمة لا تصلح للابحار. الحلول الاوروبية الموقتة، مثل زيادة اعمال المراقبة والدوريات البحرية ومعاقبة المهربين لن تحل المشكلة ما لم تعالج مصادر المآسي التي تدفع الناس الى اللجوء والمجازفة بارواحهم. رئيس وزراء ايطاليا ماتيو رينزي عبر عن المأزق بقوله: “اذا لم نحل المشكلة في ليبيا، فاننا لن ننجح ابدا في حل هذه المشكلة الرهيبة”.

واذا لم تعالج حروب العراق وسوريا وغيرهما، سوف تبقى اجراءات اوروبا هامشية وغير فعالة. اليوم تبدو فداحة اخفاق الرئيس اوباما – الذي شاركت حكومته في الثورة التي ادت الى اطاحة نظام القذافي – في متابعة التطورات الليبية سياسيا ومساعدة النظام الجديد على عبور المرحلة الانتقالية الصعبة. اوباما انسحب ولم يستثمر سياسيا في ليبيا، وارتكب خطأ مماثلا لخطأ الجمهوريين الذين أداروا ظهورهم لافغانستان بعد طرد المحتل السوفياتي وتركوها فريسة لاستخبارات باكستان و”رأفة” الطالبان.

طبعا العرب مسؤولون في الدرجة الاولى عن اوضاعهم الشنيعة والمحرجة، ولكن هناك مسؤولية اميركية اخلاقية وسياسية عن مأساة العراق الذي ساهم الغزو الاميركي في زجه في اتون الاقتتال المذهبي. واوباما مسؤول، ولو جزئيا، عن مأساة سوريا لان تخلفه عن تنفيذ وعوده او تهديداته ساهم في ايصال سوريا الى اعماق اليأس. اوباما شريك العرب في تحويل المتوسط مقبرة جماعية.

النهار

 

 

 

 

في المسؤولية عن قوارب الموت/ عبد النور بن عنتر

واضح أنه كلما شددت الدول قبضتها على الهجرة الشرعية زادت الهجرة غير الشرعية، أو السرية، والتي لم تعد سرية، لأنها أصبحت على مرأى العالم ومسمعه. وطرفا هذه المعادلة البائسة هما الدول العربية والإفريقية المصدرة للمهاجرين غير الشرعيين من جهة وأوروبا (اتحاداً ودولاً أعضاء) من جهة ثانية. نركز هنا على مسؤولية الطرف الأول.

توظف الأنظمة التسلطية الإفريقية والشرق أوسطية، التي فشلت سياسياً واقتصادياً، الهجرة بنوعيها، المشروعة وغير المشروعة، متنفساً لتخفيف الضغط عليها. فالشباب المقصي من الدورة الإنتاجية، ومن دورة توزيع الثروات في هذه البلدان، ناقم على الوضع القائم (اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً)، وغير مؤطر، فهو يرفض الأحزاب السياسية، معتبراً أنها جزء من الأنظمة القائمة. وبالتالي، يصعب على هذه الأخيرة التلاعب به، ناهيك عن محاولة تأطيره واحتوائه. وعليه، في ظل انسداد الأفق الاقتصادي والسياسي، الشباب الناقم على الوضع القائم أمام خيارين: أن يصب جام غضبه على السلطة السياسية، في انتفاضات شبابية، كما حدث في بعض المدن العربية في السابق، أو من خلال انتفاضات عارمة، كما حدث مع الربيع العربي، أو أن يغادر أوطانه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وبما أن أمن النظام القائم أولوية قصوى، فلا بأس من أن يُقدف بالشباب خارج حدود الوطن، أي إفراغ البلاد من جزء من شبابها. ومن هذه الزاوية، يكاد رحيل الشباب يكون ترحيلاً. ويمكن القول إن شباب الربيع العربي ليس هو أول من رفع شعار “إرحل”، بل الأنظمة العربية والإفريقية أيضاً رفعته لدفع الشباب على الرحيل أو الإذعان، إلى درجة أنهم استعجلوا الرحيل، فكانت الفاجعة، بل الفواجع المتكررة، ومواسم الهجرة إلى الشمال.

بمعنى أن هناك تواطؤاً محلياً مع تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا. فكيف بأنظمة تسلطية جاثمة على صدور شعوبها منذ عقود، بنت آلة قمعية قوية، وأعدت لها ما استطاعت من عدة وعتاد، لا تتمكن من الحد من الهجرة السرية، وخصوصاً شبكات التهريب؟ لا يمكن لأي جهاز أمني، قمعي أو غير قمعي، أن يعمل جيداً في بيئة فاسدة. فالفساد هو الذي جعل شبكات التهريب تستفحل أيضاً: فهي تتغذى من الفساد العام في هذه البلدان وتغذيه. ذلك أنه من غير المعقول أن تستفحل شبكات تهريب المهاجرين في دول قمعية، لولا التواطؤ. صحيح أن حدود بعض الدول طويلة جداً، وإمكاناتها محدودة. لكن، يبقى أن الخلل موجود أيضاً على مستوى أداء أجهزتها. ثم يمكن أن نقلب المعادلة تماماً: عوض بناء أجهزة قمعية تستحوذ على جزء كبير من الموارد المالية المتاحة، لمحاربة الهجرة، أليس الأجدر ضخ هذه الأموال في التنمية الاقتصادية، لتحسين ظروف المعيشة في هذه البلدان، وضمان العيش الكريم لكل المواطنين، فالمشكلة، إذن، سياسية، قبل أن تكون اقتصادية.

شدّدت الأنظمة التسلطية تشريعاتها في مجال الهجرة بتجريم الهجرة غير المشروعة، الوافدة والمغادرة، وفتحت مراكز إيواء للمهاجرين السريين على أراضيها، رضوخاً لإرادة دول الاتحاد الأوروبي، في إطار مناولة أمنية لحساب الأخير. وبالتالي، حتى لما تتحرك لمحاربة الهجرة، فإنما تفعل وفق مصالح الغير في غالب الأحيان، وليس على أساس مصالح بلدانها. ومادام البقاء في الحكم الهم الوحيد للنخب الحاكمة، فإنها لا ترى حرجاً في إفراغ بلدانها من شبابها، من يد عاملة واعدة. وشتان بين من يخطط للمستقبل لبنائه، ومن يخطط للمستقبل لتدميره.

“الظروف المعيشية الجيدة لا تقود حتماً إلى حرية سياسية”

وغريب أمر هذه الأنظمة العربية والإفريقية التي لا ترى حرجاً في ظاهرةٍ لم تكن منتظرة: كيف وصل الحال بشباب إلى درجة تفضيل الموت على المكوث في بلدانهم! الرحيل، ولو نهائياً، على البقاء في أوطانهم. القاعدة هي أن يموت المواطن من أجل وطنه، لا بسبب وطنه (هارباً منه). الشعب قوام الدولة (من شروط قيام الدولة)، لكن تفريط أنظمة بجزء من الشعب ضرب لكيان الدولة، فالدول باقية ببقاء شعوبها، وليس ببقاء أنظمتها. فيمكن تغيير الأخيرة سلمياً أو بالعنف. لكن، لا يمكن تغيير الشعب، إلا بإبادته أو بالتخلص من جزئه غير المرغوب فيه شيئاً فشيئاً. ومن ثم، لا عجب من أن تتحرك الدول الأوروبية، بعد الفواجع المتكررة، فيما لا تحرك الدول المعنية ساكناً، وهذا تحصيل حاصل، فهي لا تعير أدنى اهتمام لحالهم وهم في أوطانهم، فكيف بها أن تتأثر بمصيرهم في عرض مياه المتوسط.

الحل لمشكلة الهجرة في تنمية اقتصادية وسياسية. فالإنسان المعزز المكرم في بلده وتتوفر شروط العيش الكريم لا يجنح إلى الهجرة. ويجب التشديد، هنا، على التنمية السياسية، لأن الإنسان، بطبعه، يميل إلى الحرية. لذا، حتى ولو تحسنت الظروف الاقتصادية، في ظل نظام سياسي تسلطي، فإنه سيختار الدول التي تضمن الحريات الفردية، لأن العدالة الاجتماعية، وهي مرهونة بنظام عادل وديمقراطي، يمكنها أن تخفف من حالة شظف العيش، وتحسن من ظروف المعيشة، حتى الخروج من دائرة البؤس، وولوج دائرة العيش الكريم وربما الرفاه، بيد أن الظروف المعيشية الجيدة لا تقود حتماً إلى حرية سياسية.

العربي الجديد

 

 

 

تعميم منطق الحرب على مسألة المهاجرين/ نهلة الشهال

إليكم: المطلوب جواب «قوي». ينبغي العمل على تجنب ترك المهاجرين الشواطئَ الأفريقية. ينبغي القيام بعمليات عسكرية لرصد قوارب المهربين وتدميرها، ومتابعة ذلك بصورة منهجية قبل استخدامها من جانبهم. لا أحد يتكلم عن إرسال قوات برية! لن تكون حرباً، بل عمليات محدَّدة الأهداف. التحضير لمخططات عملية، ثم تحريك قدرات عسكرية. ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني يريد منع المهاجرين من ركوب البحار «لوضع حد لقوارب الموت». رئيس المفوضية الأوروبية يريد أن تتفق الفصائل الليبية بسرعة وتبني دولة «وهي المرحلة الأولى لاحتواء موجات المهاجرين»، وهكذا دواليك!

وتلك بعض نتائج اجتماع بروكسيل لقادة أوروبا، المنعقد يوم 23 الشهر الجاري بناء على طلب رئيس الوزراء الإيطالي، وبعد اجتماع تمهيدي غداة غرق «حوالى» 800 مهاجر دفعة واحدة في ليل 19 نيسان (أبريل) الجاري بالقرب من الشواطئ الليبية. مركب لا يتجاوز طوله 20 متراً، احتجز في قعره النساء والأطفال، ما يذكّر بما تصفه الروايات وتظهره الأفلام عن مراكب النخاسة التي كانت مزدهرة قبل قرنين بالكاد.

وقبل ذلك بأسبوع، في 12 من الجاري، غرق كذلك «حوالى» 450 مهاجراً دفعة واحدة، هذا ما عدا الغرق كل يوم بأعداد مألوفة مما لم يتوقف. الحصيلة أن الضحايا في هذه الأشهر الأولى من 2015 بلغوا 1750 مهاجراً، بينهم الكثير من النساء والأطفال، والكثير من السوريين، علاوة على الجمهور الأفريقي المعتاد، وهم يمثلون ثلاثين ضعف ما كان عليه الرقم في الفترة نفسها من العام الفائت («حوالى» 90 ضحيــة). ويعني ذلك أن هناك مـا مـعدله غـريق كل ساعتين في المتوسط!

منظمة العفو الدولية (أمنستي) وصفت نتائج اجتماع بروكسيل بـ «المخجلة». وأما مقرر حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فقال أن الإجراءات المتخذة تُعاقب الفئات الأضعف (نسيتُ أن أذكر من جملة قرارات الاجتماع السابق، أن يتم فرز الواصلين – الناجين لتحديد من منهم يُمنح إذناً بالإقامة). كما قال المقرر، وهو موظف كبير في الأمم المتحدة وليس ناطقاً بلسان جمعية «مشاغبة»، أنه بالنظر للأوضاع في بلدانهم الأصلية، فإن تضاعف أعداد المهاجرين وتعاظم كوارث الغرق كانا متوقعين تماماً (بمعنى أنه لا داعي لاصطناع المفاجأة)، ثم أردف أن أوروبا في حاجة إلى يد عاملة غير كفوءة، ويمكنها استيعاب هؤلاء. ودان مخطط «تريتون» (عاد وتمسك به اجتماع بروكسيل)، وطالب أخيراً بتحقيق دولي محايد في كارثة الغرق الأخيرة (هل يعني ذلك أن فيها شبهة العمد؟).

«تريتون» ذاك الذي يجري بإشراف وكالة مراقبة الحدود الأوروبية («فرونتيكس»)، حلَّ بدلاً من برنامج «مار نوستروم» (ومعنى الكلمة «بحرنا») الذي ألغي في مطلع العام الحالي. الأول هو لحماية الشواطئ الأوروبية، وتقتصر مهمته على المياه الإقليمية بما لا يتجاوز 30 ميلاً عن شواطئ إيطاليا ومالطا (حيث لا يكاد يغرق أحد، فالحوادث كلها تجري إما في المياه الإقليمية لبلدان «ركوب» البحر، أو في المياه الدولية)، بينما الثاني الذي أنشئ إثر غرق 356 مهاجراً أمام جزيرة لامبيدوزا الإيطالية في خريف 2013، كان معنياً بإنقاذ المهاجرين، وكانت مهامه تشمل كل مياه المتوسط. «تريتون» ذو الموازنة المحدودة (3 ملايين يورو بالشهر) والإمكانات التجهيزية الضعيفة، هو إذاً المقدمة للاتجاه الصريح نحو الحرب، بينما «بحرنا» كان لا يزال يحمل بعض ملامح القيم الإنسانية كما هي معلنة على الأقل، وهو تمكَّن في عام واحد من وجوده من إنقاذ 150 ألف شخص. لكن اليمين الإيطالي اعتبره مشجعاً للهجرة، وهذه بلغت في العام الماضي 219 ألف مهاجر ويُتوقع لها أن تصل هذا العام إلى أكثر من ضعف هذا الرقم… إلى نصف مليون مهاجر.

ما العبرة؟ أولاً تأمل القدر المرعب من غباء قادة أوروبا (زبدة نخبة العالم!) الذي يذكرني بميكانيكي مسكين في مدينتي لجأتُ إليه يوماً أشكو ارتفاع مؤشر الحرارة في سيارتي، وأطلب منه تبيّن العطل. وبعد ساعات، ردها إلي قائلاً «تمام». وبالفعل ظل المؤشر في مكانه إلى أن اشتعل المحرك أثناء سيري بها. ولما عدتُ إليه أسأله عما فعل، قال لي فرحاً أنه عطل الإبرة في لوحة التحكم. وهي قصة أقسم بالله أنها واقعية حرفياً، والرجل حي يرزق، ولكنه لن يقرأ هذه الكلمات لأن الجرائد لا تهمه. القادة الأوروبيون يريدون إغراق مراكب المهربين بقصفها (في «عمليات محدودة» لا يسمونها حرباً)، ويريدون من فصائل ليبيا أن تتصالح كرمى لعيونهم وتخليصاً لهم من هَمّ المهاجرين (فيما تلك الفصائل تتذابح وتقضي على أهلها)، ويريدون من دول الهجرة، ثم من دول «ركوب» البحر أن تحتجز المهاجرين و «تصطفل» بهم، وقد عقدوا اتفاقات مع بعضها… ويرسلون فرقاً أمنية واستخباراتية لدراسة حركة هؤلاء اللئام ووضع خطط مكافحتها. طيب، أُقر بأنهم يفعلون أكثر من ذاك الميكانيكي، ولكن المنطق هو نفسه! هل يعقل أنهم لم يدركوا بعد فشل الحلول الأمنية الاستباقية، ثم المقاربات الأمنية للمشكلات الاجتماعية، فشلها بالأصل في بلدانهم نفسها، حيث لا تكف تلك المشكلات عن التفاقم كلما وُوجهت بالقمع والزجر والإقصاء. فكيف بما يخص العالم المحيط بهم الذي يجهلونه فعلياً، ويلتقطونه بتعالٍ وازدراء، ولا يملكون التدخل والتحكم إلا بمقدار قليل جداً من أحواله، فيما بلدانه تتفجر بسبب الحروب عليها، والحروب الأهلية داخلها، والنهب المنظم (منهم) الذي تعرضت وما زالت تتعرض له، وتحالفهم مع الفساد فيها، وما يؤدي إليه كل ذلك من بؤس مريع ومن فقدان لأي بصيص أمل.

ثانياً، تأمل هذا الافتتان بالقوة وبالحرب، والجنوح لتوسيع منطقهما وتسييدها وأدواتهما ولغتهما، لتشمل كل شيء، على الرغم من أن القوة والحرب جُرِّبتا خلال السنوات الماضية في شكل مكثف، ولم تتمكنا من حل أيٍّ من أهدافهما المعلنة، بل أنتجتا فقط كوارث ستبقى تداعياتها تتفاعل لسنوات.

ثالثاً، وبالتتابع، تأمل العجز عن إدراك أن العالم واحد (أليس «قرية كونية واحدة» بنظر النيوليبرالية كما بنظر انتشار التكنولوجيا الاستهلاكية المنتصِرة؟). وأنه لا يعقل أن يكون هذا العالم خرِباً في ثلاثة أرباع أركانه ويتمكن الربع الباقي من حماية نفسه من عدوى الخراب، أو من بعض آثاره. أفيقوا يا قوم!

 

 

 

 

 

عن «الحرّاقة» الذين يبتلعهم البحر/ حسن شامي

في بعض بلدان أفريقيا الشمالية، خصوصاً في الجزائر وتونس، شاعت تسمية يطلقها الناس على المتنقلين تسللاً من بلد إلى بلد آخر. إنهم «الحرّاقة» أي حارقو الحدود. يستحسن أن نضع ثلاث نقاط فوق حرف القاف كي يلفظ باللهجة البدوية القريبة من لفظ الجيم بالمصرية، وفق اجتهاد لغوي وكتابي ما زال ينتظر سريان مفعوله. رطانة الكلمة، أي «الحرّاقة» تذكّر بتسمية مشابهة صوتياً ذاع صيتها في أيام حرب التحرير الجزائرية وهي كلمة «فلاّقة» بالقاف البدوية أيضاً.

هناك بالطبع تسمية محايدة ولائقة لما بات، منذ أكثر من عقد من السنين في أقل تقدير، ظاهرة حقيقية تربك بلدان الوجهة والمقصد، أي أوروبا، وهي الهجرة غير الشرعية. جاءت الكارثة البحرية، بالأحرى المجزرة البحرية الناجمة عن غرق مركب يعجّ بمئات المهاجرين «الحرّاقة» قبالة السواحل الليبية والإيطالية لتسلط الضوء على الظاهرة. مات غرقاً أكثر من ألف إنسان من مختلف الأعمار. مراقبو الظاهرة لم ينتظروا كارثة بهذا الحجم كي يعلموا أن البحر المتوسط، والأبيض حتى إشعار آخر، تحول منذ سنوات، وإن بطريقة متقطعة، إلى مقبرة بحرية. حصول مثل هذه المقتلة دورياً يكاد ينمّ بطريقة لا شعورية عن طقوسية بدائية في تقديم قرابين بشرية لآلهة البحر وكائناته. لكنها ليست طقوسية مختارة ومندرجة في ثقافة اجتماعية، بل هي من نوازل القدر القاسي وفقدان الخيارات واللهفة إلى الخلاص من أوضاع وظروف حياتية خانقة.

حرق الحدود يذكّر، من جهة أخرى، بعبارة «حرق المراحل» التي ذاع صيتها هي الأخرى في أدبيات الخمسينات والستينات من القرن الفائت للتدليل على إمكانية الانتقال الإرادوي من زمن تاريخي، اجتماعي وثقافي، إلى زمن آخر أكثر حداثة ومعاصرة، من دون الاستسلام لوصفات التدرّج والتروّي وتأهيل المجتمع تربوياً وأخلاقياً لقبول فكرة الانتقال والتقدّم. قد يكون مفهوماً أن يطغى البعد الأمني، في المعنى العريض للكلمة، في مقاربة معظم الدول الأوروبية لظاهرة «الحراقة». حتى أن بعض المسؤولين الأوروبيين أخذوا يدعون لتدخل عسكري في بلدان تعمّها الفوضى بحيث تحولت إلى أرض سائبة تزدهر فيها شبكات ذات طابع مافيوي لتهريب الراغبين في الهجرة بأي ثمن مقابل مبالغ مالية لا يستهان بها وبطريقة فظيعة تذكّر بفيلم عربي رائع حول مأساة فلسطينيين متنقلين في صهريج شاحنة تلهب الشمس غلافه المعدني عبر الحدود العربية، وهو فيلم «المخدوعون» المقتبس من رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس». وبالفعل خرج الاجتماع الاستثنائي لدول الاتحاد الأوروبي الذي عقد قبل بضعة أيام في بروكسيل، والمخصص لمعالجة المسألة، بقرار ينص على زيادة موازنة عمليات الإنقاذ والمراقبة في عرض البحر ثلاثة أضعاف. بل حتى أن معظم القرارات الصادرة عن المؤتمر الأوروبي جاءت ذات طابع أمني.

من الواضح أن هذه القرارات المثيرة للجدل تعكس حال الارتباك والتخبط حيال ظاهرة تطاول، بدرجات متفاوتة جداً، دول الاتحاد الأوروبي. وغني عن القول إن المشكلة تضع على محك الاختبار منظومة القيم والحقوق الإنسانية المعترف بها أوروبـــياً ودولــياً ومنها حق اللجوء والتنقل. ويأتي هذا في ظل أوضاع اقتصادية صعبة بسبب سياسات التقشف وارتفاع نسبة البطالة وازدياد المخاوف من تراجع الأمن المهني والاجتماعي مما يولد ظروفاً مواتية لصعود التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة ذات التوجه القومي والشوفيني.

في هذا السياق ينبغي أن نضع دعوة الحكومة الإيطالية إلى ضرورة القيام بتحرك أوروبي موحد لمواجهة الهجرة غير الشرعية. وقد توقع وزير الداخلية الإيطالي قدوم أكثر من مئتي ألف مهاجر هذا العام إلى سواحل أوروبا. ويمكن أن يتحول عدد منهم إلى قرابين بحرية في حال جرت عمليات الانتقال وفق الترسيمة المعهودة لدى مهرّبين قساة لا يميزون بين تهريب الأسلحة والمخدرات وتهريب البشر في قوارب بدائية أو قوارب شحن ذات حمولة معينة بحيث ينبغي ألا تحمل أعداداً كبيرة من المهاجرين كما هي الحال في هذه الأيام. وتحسن الطقس يزيد من أخطار الإقدام على ركوب البحر. فقد تحدثت تقارير إعلامية عن تقديرات واقعية لمعدل للهجرة انطلاقاً من ليبيا يبلغ في هذه الأيام ما بين ثلاثمئة وسبعمئة يومياً. وغني عن القول إن معالجة الهجرة غير الشرعية بطريقة أمنية ستكون ضعيفة النتائج. والاقتراح الفرنسي بتدمير قوارب المهربين أو ضبطها واحتجازها بواسطة عمليات بوليسية تحتاج إلى قرار من مجلس الأمن هو أقرب إلى التهديد وعرض العضلات منه إلى حل المشكلة.

والحال أن ظاهرة «الحراقة»، أو الهجرة غير الشرعية، باتت بؤرة تتكثف فيها وتتقاطع دلالات مختلفة لا تقع بالضرورة على مستوى واحد من الدلالة. هناك بالطبع ظروف البؤس والفقر والبطالة والحروب والنزاعات الأهلية والاضطهاد، واستبداد النخب الحاكمة في بعض الحالات، مما يدفع بشبان كثيرين إلى الهجرة إلى أوروبا. ومن مفارقات الأمور ربما أن يكون معظم المهاجرين قادمين من بلدان ومناطق ليست في عداد مناطق النزاع المعهودة في الشرق الأوسط. فهناك نسبة كبيرة من بلدان ما بعد الصحراء والقرن الأقريقي ومن إريتريا وأثيوبيا والسنغال. هناك بالطبع أعداد من السوريين الهاربين من عسف النظام ومن سطوة التنظيمات الجهادية مثل داعش والنصرة وأشباههما. على أن ارتسام أوروبا كوجهة للخلاص يظل وثيق الصلة بتاريخ معقد من العلاقات بين المجتمعات الأفريقية وأوروبا وهو تاريخ يرقى في بعض وجوهه إلى الحقبة الكولونيالية. والأهم من ذلك هو أن حرق الحدود وفق الترسيمة الجارية على نحو مأسوي إنما هو من مفاعيل عولمة تستعرضها يومياً تنقلات رؤوس الأموال وتقنيات التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت واتصالاتها التي جعلت بعضهم يتفاءل بتحول العالم إلى قرية كونية. لنقل إنها عولمة من تحت. وليس مصادفة أن تنصب الأنظار على ليبيا كمحطة أساسية للهجرة غير الشرعية بالنظر إلى الفوضى العارمة فيها فيما يتزايد وزن التنظيمات الجهادية ذات الطابع العولمي ومنها داعش. أصبحت ليبيا ما بعد القذافي منصة لإطلاق صواريخ أو قذائف بشرية على أوروبا. وهنا تتخذ المسألة بعداً أمنياً في المعنى الضيق والحصري. وهذا ما يخشاه غير مسؤول اوروبي خصوصاً بعد تصريحات لداعش عن إرسال نصف مليون مهاجر إلى أوروبا.

 

 

 

مهاجرون غارقون في بحر المأساة… وساسة غارقون في وحل الخلافات/ محمد واموسي

باريس – روما- «القدس العربي»: حين اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي في قمة طارئة في بروكسل لمناقشة الإجراءات الواجب اتخاذها لمكافحة الهجرة غير النظامية، بعد هلاك مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين في سواحل المتوسط، فإن الأوروبيين أرادوا إظهار منهجيتهم الأكثر صرامة وراديكالية للحد من الهجرة السرية، بينما تتوقع المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة أن يحاول نصف مليون مهاجر غير شرعي عبور المتوسط نحو القارة العجوز العام الجاري.

ومن القرارات المثيرة للجدل التي اتخذها قادة أوروبا العمل على منع المهاجرين من الإنطلاق، خاصة من المرافئ الليبية، وذلك باستخدام القوة العسكرية لتدمير القوارب المستخدمة في تهريب المهاجرين غير النظاميين الموجودة بالقرب من السواحل، في ظل تحذيرات من المختصين من الصعوبات التي قد تعترض تطبيق القرار بالنظر لطبيعته العسكرية واستهدافه لدول تتمتع بسيادة وفق القانون الدولي ما يفرض على الأوروبيين البحث عن حلول عاجلة وحاسمة لهذه المشكلة.

وجد قادة أوروبا أنفسهم تحت ضغط كبير من الرأي العام الأوروبي، يعمل اليمين المتطرف في جل البلدان الأوروبية على استغلاله بشكل جيد من خلال تخويف المواطنين من أن قارتهم تحولت إلى معقل للمهاجرين غير الشرعيين وللأجانب الآتين إليها من بلدان فقيرة خصيصا لـ «قرصنة» وظائفهم ومساكنهم ووسائل عيشهم بهدف تحقيق فوائد ومكتسبات انتخابية بحتة.

وفي هذا الإطار يقول الكاتب الصحافي حسن الحسيني المتخصص في الشؤون الأوروبية لـ «القدس العربي» إن «النقاط العشر التي تبناها قادة أوروبا كانت أصلا موجودة في قمة سابقة للاتحاد عقدت قبل 28 شهرا، وهي حرفيا ذات التدابير التي نوقشت في بروكسل الخميس مع فارق وحيد يتمثل في زيادة الإمكانيات الممنوحة للقوة الأوروبية لمراقبة الحدود ومضاعفتها، ما يعني أن القادة الأوروبيين هدفهم الرئيسي هو طمأنة الرأي العام الأوروبي ومحاولة الظهور بمظهر المتصدي لهذه المأساة الإنسانية».

وبخصوص اقتراح مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي تشكيل قوة أمنية دفاعية تساعد في محاربة الهجرة غير الشرعية رأى الحسيني أن «هذه الفكرة تعترضها عقبات كبيرة حيث أنها تتطلب أولا موافقة مجلس الأمن الدولي، وبعدها موافقة مماثلة من الدول المعنية» متسائلا في الوقت ذاته «في الحالة الليبية مع من ستتفاوض الدول الأوروبية؟ هناك حكومتان وهناك برلمانان وحرب ضروس تدور رحاها على الأرض، إذن هناك عقبات كبيرة تحول دون تطبيق هذه الخطة».

محاربة القرصنة

وشبه حسن الحسيني الخطة الأمنية الجديدة التي تسعى أوروبا لتطبيقها بخطة محاربة القرصنة نفسها التي كانت أوروبا قد تبنتها عام 2008 ولم تدخل حيز التنفيذ إلا في العام 2011، ولم تظهر أولى ثمارها إلا في العام الموالي أي 2012 من خلال التمكن من الوصول إلى سفن القراصنة واستهدافها ومصادرتها داخل المرافئ وهذا طبعا في ظل وجود موافقة من الحكومة الصومالية».

وأشار إلى مشكلة أخرى قانونية تعترض تنفيذ الخطة الأمنية الأوروبية تتعلق هذه المرة بالدول الأوروبية نفسها، وقال «حين كانت إيطاليا تسير بنفسها ولوحدها دوريات لحماية المهاجرين ومراقبة الحدود كانت البحرية الإيطالية تذهب حتى حدود 130 ميلا بحريا، أي تقريبا إلى حدود المياه الإقليمية الليبية، ولكن حين جاءت القوة الأوروبية لمراقبة حدود أوروبا وحلت محل نظيرتها الإيطالية ارتفع عدد المهاجرين وزاد بشكل كبير عدد القتلى غرقا في عرض البحر منهم، دون أن ننسى أن الإمكانيات المرصودة للقوتين سواء في إيطاليا أو في اليونان تظل ضئيلة».

وأضاف «إيطاليا هنا تدافع عن مياهها الإقليمية ولديها كل الحق في تسيير دوريات، لكن في الحالة الإسكندنافية في أوروبا الشمالية سواء تعلق الأمر بألمانيا أو السويد أو النرويج والدانمارك فإن هذه الدول لا يحق لها المساهمة في توجيه ضربات عسكرية لمراكب عصابات الهجرة السرية، ما يعني أنه يجب على الأوروبيين أولا معالجة هذه المشاكل القانونية».

ووضع الاتحاد الأوروبي خطة لمضاعفة حجم مهمة البحث التي يقوم بها في البحر المتوسط إلى ثلاثة أمثالها دون توضيح إجراءاته بخصوص خطط إنقاذ حياة المهاجرين وحصول الفارين من الحرب على فرصة لمنحهم اللجوء الإنساني أو السياسي.

ورأت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تطمينات الاتحاد زيادة في قدرة وموارد ونطاق العملية البحرية الإيطالية «ماري نوستروم» التي انتهت قبل ستة أشهر، معتبرة ذلك مجرد «خطوة أولى مهمة باتجاه عمل أوروبي موحد وهو النهج الوحيد الذي يمكن أن يجدي نفعا لحل مشكلة ذات طبيعة كبيرة وتشمل دولا كثيرة بهذا الشكل».

ووافق زعماء الاتحاد الأوروبي خلال قمتهم الطارئة التي عقدوها الخميس في بروكسل على إعادة تمويل مهمات البحث البحري إلى ما كان عليه، بعد أربعة أيام من غرق أكثر من 900 شخص أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا بحرا قادمين من ليبيا، نصفهم كانوا فارين من الحرب أو الاضطهاد في أفريقيا والشرق الأوسط ويستحقون الاستفادة من صفة «لاجئ» من وجهة نظر المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

صدمة الأرقام

وتباينت مواقف قادة الاتحاد الأوروبي بخصوص مسألة التراجع عن قرار سابق كان قد اتخذ من قبل بلدان أوروبا بهدف تقليص عمليات الانقاذ في البحر المتوسط بسبب تكاليفها المالية المرتفعة وتبعاتها، خاصة بعد أن صدم العالم بالأرقام القياسية لمن يغرقون في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي أثناء محاولتهم الهرب من الحرب والفقر في الشرق الأوسط وأفريقيا.

ولم يسفر الاجتماع الأوروبي عن أكثر من طرح اختيارات تتضمن مهاجمة المهربين وإقامة مخيمات للمهاجرين وهي خيارات تنقسم بشأنها دول الاتحاد البالغ عددها 28 رغم ضغط الرأي العام الأوروبي ودخول اليمين المتطرف في البلدان الأوروبية على خط الأزمة بهدف استثمار المأساة الإنسانية في أجندته السياسية والإنتخابية.

وبحسب المنظمة الأممية فإنه «في ضوء خبرة المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإننا نعلم أنه بدون قنوات واقعية وبديلة يصل من خلالها الناس إلى بر الأمان فمن غير المرجح أن تكون الزيادة اللازمة بشدة في الجهود الدولية لمكافحة المهربين فعالة» مثنية في الوقت ذاته «على ما خلص إليه الاتحاد الأوروبي وهو أن إنقاذ الناس يجب أن يكون أولوية».

وفيما أعلن الاتحاد الأوروبي أن طاقات بلدانه الاستيعابية تسمح باستقبال نحو عشرة آلاف مهاجر غير شرعي سنويا، تتوقع وزارة الداخلية الإيطالية وصول نحو خمسة آلاف منهم أسبوعيا حتى شهر ايلول/سبتمبر المقبل إلى سواحلها ما يعني وصول نحو مئتي ألف منهم إلى ايطاليا وحدها خلال العام الجاري وهو رقم أكبر بكثير من طاقة الاتحاد الأوروبي المعلنة لمساعدة اللاجئين القادمين سرا عبر البحر واستقبالهم وتقديم ما يلزم لهم إنسانيا وقانونيا واجتماعيا.

وانتقدت الأمم المتحدة رد الفعل الأوروبي حتى الآن ودعت الاتحاد لبذل المزيد من الجهود قائلة «ينبغي أن يتجاوز رد فعل الاتحاد النهج الحالي الذي يقوم على الحد الأدنى.. والذي يركز بشكل أساسي على الحد من وصول المهاجرين واللاجئين إلى شواطئه».

وحتى أثناء اجتماع الزعماء الاوروبيين انتشل خفر السواحل الإيطالي 84 مهاجرا غير شرعي جميعهم فيما يبدو من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء من زورق مطاطي يوشك على الغرق على بعد نحو 56 كيلومترا قبالة ساحل ليبيا بعد أن تلقى إشارة استغاثة.

13 ألف قاصر بلا مرافقين

وتتحمل إيطاليا حاليا عبء استقبال نحو 81 ألف مهاجر غير شرعي، بينهم 13 ألف قاصر بدون مرافقين لا تزال السلطات الإيطالية حتى الآن عاجزة عن توزيعهم على مختلف المناطق.

ومعلوم أن إيطاليا كانت قد أوقفت العام الماضي مهمة انقاذ بحري أنقذت أرواح أكثر من مئة ألف مهاجر بحجة أن الدول الأخرى في الاتحاد الاوروبي رفضت تمويلها، وحلت مكان المهمة بعثة أوروبية أصغر ركزت على أعمال الدورية على حدود دول الاتحاد بعد أن قالت دول ان انقاذ المهاجرين يشجع المزيد على القيام بالرحلة.

وفي تراجع مثير للجدل التزم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي يخوض انتخابات ضد مناهضين للهجرة بتخصيص حاملة طائرات هليكوبتر تتبع البحرية البريطانية وسفينتين لعملية سبق أن رفض دعمها سابقا خوفا من أن تغري مزيدا من الناس بمحاولة عبور البحر، لكنه شدد على أن من يتم انتشالهم لن يمنحوا اللجوء بشكل تلقائي في بريطانيا وسيتم على الأغلب تسليمهم لإيطاليا التي قال رئيس وزرائها ماتيو رينتسي إنه متفائل بأن حلفاءه الأوروبيين لن يتركوا روما تعاني وحدها.

ويصف المختصون شهر نيسان/أبريل الجاري بالشهر الأكثر دموية على الإطلاق في مجال الهجرة السرية، حينـــما لقــــي أكثر من 1300 مهاجـــر غير شرعـــي حتفه غرقاً فـــي عرض البحـــر الأبيض المتوسّط، وبعدما سجّلت أوروبا الأسبوع الماضي أسوأ حادثة غرق راح ضحيتها نحو 800 شخص بعد غرق مركب صيد قبالة سواحل ليبيا، ما رفع عدد قتـــلى جحيم المتوسط إلى أكثر من 1750 منذ بداية العام 2015، وهو رقم أكبر 30 مرة من الرقـــم المســـجل العام الماضي.

وتقدر منظـــمة الهجرة الدوليـــة ومقرها جنيف حصيـــلة قتـــلى العام 2015 غرقا حتــى الآن بأنها أكـــثر 30 مرة ممّا كانت عليــه في العام الماضي في الفترة نفسها حيث قُتل آنذاك 56 شـــخصاً فقـــط في المتوســـط، معبرة عن خشيتها أن يتمّ تجاوز حصيلة قتلى 2014 الإجمـــالية في المتوســـط البالغة 3279 مهاجراً «في غضون أسابيع هذا العـــام، أو تفوق الحصـــيلة 30 ألف قتيل مع نهايته استناداً إلى الحصيلة المسجلة حاليا والمرشحة للإرتفـــاع على نطاق واسع».

وحددت المفوضية العليا للأمم المتحدة لللاجئين لاحقا الحصيلة النهائية لحادث الأحد الماضي «الأكثر دموية الذي سُجّل في المتوسط على الإطلاق» بعد أن لامس الرقم 800 قتيل، في ظل توقعات أن يرتفع الرقم إلى أكثر من عشرة آلاف قتيل قبل نهاية العام.

وبحسب إفادات الناجين، فإن مركب الصيد الذي كان يقل المهاجرين الحالمين بالوصول إلى «الفردوس» الأوروبي غرق بسبب فقدان التوازن نتيجة تحرّك جموع المهاجرين الذين كانوا على متنه لدى اقتراب سفينة شحن برتغالية أتت لنجدته.

ووصف ناجون من الحادث الأرقام المعلنة للغرقى بغير الدقيق، مبررين ذلك بالقول أن السلطات تعتمد في عملية العد فقط على الجثث التي تطفوا على السطح أو يلفظها البحر، في حين تؤكد شهادات الناجين أن أعداد الغرقى أكبر بكثير مما تعلنه السلطات.

ونجا 28 شخصا فقط من الكارثة التي يعتقد أنها أسفرت عن أكبر خسارة في الأرواح في البحر المتوسط منذ عقود وسلطت الضوء على حجم أزمة المهاجرين التي تواجهها أوروبا.

وخلصت مقابلات مع الناجين إلى أن من المحتمل أن يكون هناك أكثر من 750 شخصا على متن قارب الصيد البالغ طوله 20 مترا، حيث لم يتم انتشال سوى 24 جثة فقط.

وحسب إحصائيات رسمية فقد غرق ما لا يقل عن 1500 مهاجر غير شرعي وهم يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط حتى الآن هذا العام، بينهم عدد كبير من الأطفال، مقارنة بـ100 فقط غرقوا قبل ايار/مايو من العام الماضي، وهو مؤشر سيئ إلى أن عدد غرقى عام 2015 في طريقه لتجاوز عدد الذين توفوا في 2014 والذي بلغ 3200 شخص، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة.

وفي خطوة تهدف إلى جدية الإجراءات العقابية المتخذة من قبل أوروبا لمحاربة شبكات تهريب البشر، سارعت إيطاليا إلى تقديم تونسي تقول إنه كان يقود سفينة صيد محملة بالمهاجرين قبل غرقها قبالة سواحل ليبيا ما أسفر عن غرق أكثر من 800 شخص أمام قاض إيطالي يوم الجمعة بعد أن طلب المدعون توجيه اتهامات له بالقتل وتهريب البشر.

اعتقال قبطان السفينة

ونفى محمد علي مالك الذي يبلغ من العمر نحو 27 عاما أن يكون المسؤول عن سفينة الصيد التي انقلبت منتصف الليل، وعلى متنها مئات المهاجرين من أفريقيا وبنغلادش كانوا متكدسين في طوابقها السفلية.

ويستشهد ممثلو الادعاء بأقوال ناجين أكدوا أن التونسي المعتقل هو قبطان السفينة لكن محاميه ماسيمو فيرانتي نفى ذلك معلنا أن موكله سيبلغ القضاة بأنه كان مجرد راكب فيها كما باقي الركاب.

وفيما بدأت الجلسة الإجرائية في محكمة في مدينة كاتانيا في صقلية حيث يرجح أن يلتقي محمد علي مالك وجها لوجه مع عدد من الناجين الذين سيدلون بشهاداتهم، لم يبد هذا الأخير أي مشاعر تأثر أو ندم على ما جرى وفق ملاحظات الشرطة.

وطلب المدعون أن توجه إلى محمد علي مالك تهم بالخطف بالإضافة إلى القتل المتعدد والتسبب في تدمير سفينة وتسهيل الهجرة السرية رغم أن الجلسة الإجرائية لا تزال تمهيدية الهدف منها فقط السماح للقضاة بإرساء الحقائق الأساسية للقضية قبل اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان ينبغي توجيه اتهامات للمتهم أم إطلاق سراحه.

ولم تقتصر المحاكمة السريعة على القبطان التونسي المزعوم بل تعدتها إلى مساعد مفترض له من جنسية سورية يبلغ من العمر 25 عاما و يدعى محمود بخيت، حيث يعتقد المدعون أنه أحد أفراد الطاقم المسؤول عن المركب عندما اصطدم بسفينة تجارية جاءت لتقديم المساعدة وانقلب في البحر، غير أن هذا الأخير ينفي ذلك بشدة.

ومع وصول المزيد من المهاجرين خــــلال الأيام القليلة الماضية إلى موانئ إيطالية على متن سفن عسكرية قالت الشرطة في مدينة سرقـــوسة بصقلـــية إن ثمانية مصريين اعتقلوا للاشتباه بأنـــهم من مهربي البشر، مؤكدة أن الثمانية كانوا أفراد طاقم قارب صيد مسجل في مصر وتم إيقافه وعلى متنه قرابة 450 مهاجرا.

ووصلت سفينة تابعة للبحرية الإيطالية صباح يوم الخميس إلى ميناء قطانية في صقلية وتحمل 220 مهاجرا تم إنقاذهم وبينهم أربع نساء حوامل.

ورغم مصـــادقة أوروبا على خطــــة تتضــــمن 13 مقــترحا للتعـــامل مع الضغط الناجم عــن محاولة مـــئات الآلاف الوصــول إلى الفردوس الأوروبي الذي يتصاعـــد على أراضـــيه نجم الأحزاب السياسية المعـــادية للمهاجرين، فإن المشـــكلات العملية والقانونية والســـياسية الناجــمة عن القيام بعمل عسكري في ليبيا أو حتى إقامــــة «مراكز استقبال» في الخارج أو حتى إعادة توزيع اللاجئين في دول الاتحاد الأوروبي مازالت بعيدة عن الحل وغير قابلة للتطبيق بسبب تلكؤ كل دولة أوروبية على حدة ورمي الكرة في ملعب الدولة الأخرى.

 

 

 

 

قوارب الموت والقانون الدولي/ عبد الحميد صيام

نيويورك – «القدس العربي»: قد تكون المرة الأولى التي يلتقي فيها كبار القوم في أوروبا وبعض الممثلين الدوليين في بروكسل الخميس الماضي لبحث مأساة المهاجرين الذين يبتلعهم البحر. المأساة أكبر من أن يدفن الناس رؤوسهم في الرمل ويدعون أن البحر رفيق لنا وأن المتوسط مهد الحضارات فحسب. المتوسط أصبح مقبرة الفقراء الجديدة، فكلما بلع حفنة منهم صاح «هل من مزيد؟». الأحد الماضي أقلعت سفينة صدئة من شواطئ ليبيا التي لا يبسط أحد عليها أي نوع من السيادة. المهربون وأقطاب الجريمة المنظمة حشوا جيوبهم بملاليم الفقراء الحالمين بحياة بسيطة تؤمن لهم الخبز والماء النظيف وسقفا يقي الأطفال بعد الوصول إلى شواطئ أوروبا الجميلة التي لا ترتاح لمناظر هؤلاء الأفارقة والعرب الذين يفرضون أنفسهم عليها بالقوة. «إبقوا في بلادكم أيها الفقراء وسنرسل لكم أكياسا من طحين ولا تعكروا علينا صفاء الجو وزرقة البحر وجمال الأجسام الممدة على الشواطئ عارية أو شبه عارية». دخلت السفينة عباب البحرمحملة بأكثر من ثمانمئة مهاجر حالم. الوالد يحدث إبنه عن جمال أوروبا والزوجة تتمنى على زوجها أن يؤمن لها بيتا صغيرا تربي فيه العيال والشاب أكد لخطيبته قبل الرحيل أن المستقبل سيكون مشرقا في إيطاليا بعد الوصول الآمن. لم تمخر السفينة بعيدا في البحر. تحمل ضعف طاقتها. بدأت تترنح. حركتها أصبحت بطيئة. دب الذعر في القوم. كانوا محبوسين داخل كابيناتهم الصغيرة. دقوا على الأبواب. صرخوا لكن أحدا لم يسمع الصراخ الذي وصل السموات السبع. الموت آت يا رفيق. لماذا لم نمت في بلادنا؟ على الأقل نجد من يدفننا. السمك سيحتفل الليلة بنهش لحمنا عن عظمنا. إطلبوا من يسوع أن يظهر ويحملنا على كفه إلى بر الأمان. سفينة بعيدة تبدو في الأفق. تتجه نحونا لعلها تنقذ من تستطيع. لكنها وصلت متأخرة. إنقلب القارب واستقر في الأعماق وفي بطنه 722 مسكينا ويتميا وابن سبيل ومشرد. سفينة الإنقاذ إستطاعت بعد لأيٍ أن تنقذ 28 شخصا فقط من مالي وغامبيا وساحل العاج وسيراليون وارتريا والسنغال وتونس وبنغلاديش. من بينهم القبطان التونسي محمد علي مالك (27 سنة) ومساعده السوري محمود البخيت (25 سنة) اللذان إعتقلا بعد إنقاذهما وتحويلهما إلى صقلية وتوجيه تهمة القتل لهما. قال أحد طاقم الإنقاذ «كان سطح البحر عبارة عن مقبرة عائمة». وأكد آخر أن قسما من المهاجرين كان خلف أبواب موصدة. وأكد أحد الناجين أن نحو 1,200 شخص كانوا محشورين في مزرعة قرب طرابلس يحرسهم رجال مسلحون ويهينونهم ويضربونهم. كان المهربون يرشون الضباط والشرطة الليبية إلى أن جاءت ساعة الرحيل ليلا حيث نقلوا في قوارب مطاطية إلى سفينة الموت البعيدة قليلا عن شاطئ البحر.

أصبح الفقراء الهاربون من وطن ظالم وليمة لأعشاب البحر(على رأي حيدر حيدر). البحر يبلع الفقراء. قبل أيام خمسة فقط بلع البحر 400 جنوب مالطا وقبل الحادث بيومين أضاف خمسين آخرين. ليصل العدد منذ بداية العام إلى 1727. منظمة الهجرة الدولية تعتقد أن عام 2015 سيتفوق على 2014 الذي شهد غرق 3279 مهاجرا.

الفقراء لا مكان لهم في الدنيا، لا أحد يبكي عليهم. هم أرقام فقط. يرتفع العدد أو لا يرتفع لا يهم. تصدر بيانات باردة من مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان والمنظمات الدولية الأخرى تقدم العزاء لذويهم وكأن أحدا يعرف إن كان لهم أقارب يستقبلون العزاء. البابا فرنسيس صاح في صلاته يوم الأحد أن «أوقفوا هذه المآسي أيها المجتمع الدولي».

إلتقى كبار القوم في بروكسل يوم الخميس الماضي وناقشوا المشكلة من كافة جوانبها ووضعوا خطة على الورق كي لا تتكرر المأساة ثانية. وللننتظر يوما أو أسبوعا لنسمع عن مأساة جديدة للفارين من جحيم بلادهم إلى الحلم البعيد فيعترضهم الموت بطريقة فجة لا تعطيهم فرصة للبكاء. وسيعود الأغنياء للاجتماع ويتعهدون بعمل شيء ما كي لا تتكرر المأساة لكنها تعود لتطل من جديد دون أن تظهر «عنقاء الرماد من الدمار».

الخطة تتكون من عشر نقاط. من بينها تعزيز أمن الشواطئ وتدمير سفن التهريب الراسية في الموانئ المهجورة ومراقبة أوسع للعابرين وتخصيص طائرتي إستطلاع ومروحيتين وستة قوارب خفر سواحل و 65 ضابط بحرية ورفع الميزانية المخصصة لعمليات الحماية من 3 مليون يورو إلى نحو 10 ملايين وتخصيص 5,000 مكان في ملاجئ إستقبال المهاجرين. بالله عليكم هل هذه خطة جادة؟ ولنسمع رد منظمة العفو الدولية: «إن هذه الاستجابة غير كافية ومخجلة وتستحق الرثاء». السيدة الحديدية أنغيلا ميركل قالت لدى وصولها أمام عدسات الكاميرا «الأولية الآن لإنقاذ الأرواح واتخاذ الخطوات السليمة للقيام بذلك». لنرَ كيف سيتم إنقاذ الأرواح.

كم صغير هذا البحر

البحر المتوسط من منظور التكنولوجيا الحديثة بؤرة صغيرة، لا يزيد عن مساحة الجزائر إلا قليلا. تستطيع الأقمار الصناعية مراقبة كل شاطئ وجزيرة وسفينة صيد وناقلات بترول وسفن شراعية وحتى سمك الدولفين وهو يلاحق السفن السياحية. وتستطيع الدول الصناعية الكبرى أن تلتقط الإشارات السلكية والمخابرات الهاتفية والرسائل النصية ونداءات الاستغاثة اليائسة. وتستطيع الأساطيل البحرية وقوات الناتو والسفن العسكرية والغواصات وطائرات الأواكس وطائرات التجسس والدرونز المخصصة للقتل أن تراقب هذا البحر الصغير وتلتقط كل حركة غير طبيعية وأن تكون جاهزة للإنقاذ على وجه السرعة خاصة وأن معظم السفن تنطلق من السواحل الجنوبية في جزئها الشرقي بين ليبيا ومصر وبنسة أقل من المغرب وبعض الدول الأفريقية. لا أحد يقنعنا أن هذه الدول لا تستطيع إنتشال الضحايا أو منع تلك السفن التالفة من عبور البحر.

قام نحو 200 شخصية أوروبية ودولية رفيعة المستوى من بينهم رؤساء وزراء سابقون ونشطاء حقوقيون بالتوقيع على وثيقة مهمة وضعوها برسم إجتماع بروكسل للضغط على ضمائر المسؤولين الحكوميين. قالوا لهم إن هؤلاء الضحايا وصمة عار على ضمائرنا جميعا وطالبوا بسياسة شاملة وجادة تعتمد على توسيع نطاق المراقبة والتفتيش وتجفيف مصادر التهريب وملاحقة المهربين وتوسيع منظومات إستقبال المهاجرين وإعتماد نظام المحاصصة بين الدول في إستقبالهم وإشراك مفوضية اللاجئين في الحلول وتضخيم الميزانيات المخصصة لمسألة الهجرة وغير ذلك من الإجراءات الإستثنائية.

القانون الدولي الغامض

المشكلة أن القانون الدولي في مسألة الهجرة غير الشرعية غامض. كل ما لدينا هو «المعاهدة الدولية لحماية جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم» والتي تم اعتمادها في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 18 كانون الاول/ديسمبر 1990 ولم تدخل حيز التنفيذ إلا في تموز/يوليو 2003 بعد أن وصل عدد التصديقات عليها 20 دولة لأن الاتفاقية لا تتمتع بالتأييد وخاصة في أوروبا، ولم يصل عدد الدول المصدقة عليها لغاية 2014 إلا 47 دولة فقط. ولا يستغربن أحد إذا علم أن أيا من الدول الأوروبية المهمة المتشدقة دوما بحقوق الإنسان لم يصدق على الاتفاقية بما فيها إيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا، وللعلم أيضا فإن كثيرا من الدول المصدقة على المعاهدة هي من الدول المصدرة (وتسمى الطاردة أيضا) للمهاجرين مثل المكسيك والمغرب وليبيا ومصر وسوريا والجزائر والعديد من الدول الأفريقية والآسيوية واللاتينية. كذلك لم توقع على الاتفاقية أو تصدق عليها أي من دول مجلس التعاون الخليجي لما يفتح ذلك من شهية المنظمات الإنسانية لمراقبة أوضاع العمال المنتشرين بمئات الألوف في هذه الدول. الحجة التي ترددها الدول الأوروبية أن قوانينها المحلية تعالج مسألة المهاجرين دون حاجة لاتفاقيات دولية. وهذه حجة مردودة لأنها لا تثار في معاهدات أخرى كمعاهدة حقوق الطفل والسكان الأصليين وعدم التمييز وحقوق المرأة وغيرها الكثير. بل إن السبب الحقيقي هو أن هذه المعاهدة تفرض مجموعة من المسؤوليات الخلقية والإنسانية والمالية والاقتصادية في التعامل مع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم. وهناك سبب آخر وهو أن تحسين قوانين الهجرة وتأمين حقوق العمال المهاجرين في بلد ما سيثير شهية أعداد أكبر من المهاجرين وسيصبح ذلك البلد الجهة المفضلة للمهربين والمهاجرين غير الشرعيين.

لقد بلغ عدد العمال المهاجرين عام 2005 نحو 190 مليونا بما يعادل عدد سكان البرازيل. ولا تكاد دولة في العالم تكون خارج شمولية المعاهدة إستقبالا أو تصديرا للمهاجرين. والهدف الأسمى للمعاهدة هو حماية حقوق العمال المهاجرين وإحترام حقوق الإنسان لهم ولعائلاتهم ومعاملتهم بطريقة إنسانية تحفظ حقوقهم وكرامتهم. وتحدد المعاهدة مجموعة معايير أخلاقية وإنسانية يجب إتباعها في معاملة العمال المهاجرين كما تعتبر دليلا إرشاديا للدول حتى غير المنضمة لها يمكن إتباعه في معاملة المهاجرين وأسرهم بطريقة تحفظ حقوقهم وتفتح لهم المجال واسعا للإنتاج والإبداع.

تهريب المهاجرين مسألة ممنوعة في القانون الدولي لكن الإشكالية أن الكثير من هذه الجرائم ترتكب في المياه الدولية وبالتالي تضيع الأمور في تحديد الجهة المسؤولة عن محاكمة المهربين خاصة إذا كانوا خارج بلادهم. وكي تتم محاكمتهم لا بد من إعتقالهم أولا ثم توجيه تهمة محددة بحقهم كما فعلت إيطاليا مع القبطان التونسي ومساعده السوري. وفي العديد من الحالات يتملص المهربون من المسؤولية لأنهم يتمكنون من الهرب في قوارب النجاة قبل الغرق أو لا يكونون أصلا في المراكب المثقلة بحمولتها بعد تأمين الإقلاع. وهؤلاء المهربون عادة يعملون مع أفراد من الأمن والمخابرات في بلادهم لتأمين الحماية من أي مساءلة قانونية مقابل تقاسم الغنائم معهم أو مع العصابات الإجرامية المنظمة التي تؤمن لهم الحماية.

حتى مسؤولية التحقيق في المراكب الغارقة غير محددة. من يقوم بها؟ دول الإستقبال أو دول المصدر أو المنظمات الدولية العديدة كالمنظمة الدولية للهجرة أو مفوضية حقوق الإنسان أو مفوضة اللاجئين؟ لا أحد يعرف وتضيع الأمور وتسجل هذه الجرائم فقط في سجلات المهاجرين الغرقى دون متابعة أو مساءلة أو محاكمة.

وأخيرا، إن هذه المشكلة الحقيقية التي تفاقمت في السنوات العشر الأخيرة بعدما أقفلت أوروبا حدودها وانهارت إقتصاديات عدد من الدول الأفريقية والعربية والآسيوية تحتاج إلى وقفة دولية جدية تعالج أسباب المشكلة وذيولها عن طريق المزاوجة بين قوانين تتعلق بالمصدر وتجفيف المنابع كما تتعلق بالمصب وأنسنة القوانين، وفي الوقت نفسه ملاحقة العصابات المنظمة التي تغرر سنويا بآلاف الشباب اليائس والذي إذا عجز عن تأمين عمل شريف في بلده يختار أحد طريقين: عبور البحر في مغامرة غير مضمونة أو الإنضمام إلى التنظيمات التكفيرية التي تؤمن له الخبز والجنس والبندقية ووعدا بدخول الجنة حيث تنتظره الحور العين.

نقول هذا بحرقة وألم لعل أحدا من العرب يتحرك بهذا الاتجاه وينضم إلى جهود المجتمع المدني في أوروبا الضاغط باتجاه العمل الجاد لعل مركبا محملا بالحالمين من الشباب يوقف قبل أن يمخر عباب البحر نحو موت شبه مؤكد كما يقول المغني الجزائري الكبير رابح درياسة في بكائية على الشباب المهاجر: «بابور يطلع ويهوّد يتعلم بالعوم – ودى شبان بلادي للوعد المحتوم».

 

 

 

 

سواحل تركيا.. مقبرة المهاجرين الفارين من الموت إلى الموت بحثاً عن الحياة/ إسماعيل جمال

اسطنبول – «القدس العربي»: باتت السواحل التركية بمثابة مقبرة تبتلع سنوياً المئات من الشباب والنساء والأطفال الفارين من الموت والفقر في بلادهم، في مسعى للوصول إلى أوروبا للبحث عن الحياة المنشودة التي تنتهي غالباً بالغرق أو الاعتقال أو الذل في مخيمات اللجوء في اليونان والدول الأخرى.

موجات الهجرة «غير الشرعية» تضاعفت بشكل كبير في السنوات الأخيرة بسبب تصاعد حدة الحروب والنزاعات في الدول العربية، لا سيما في سوريا والعراق، وبات السوريون وفلسطينيو سوريا يمثلون نسبة كبيرة من راكبي البحر الذين يحاولون الوصول إلى الضفة الأخرى.

أعداد ضخمة

تعد تركيا المعبر الرئيسي الأول للعديد من الفارين من ويلات الحروب في المنطقة العربية، ومحطتهم الأولى في طريق اللجوء للدول الأوروبية باتجاه اليونان، ولهذا تشهد سنوياً محاولات عديدة للهجرة غير الشرعية، ومن هذه الحالات ما يتم إلقاء القبض عليه من قبل قوات خفر السواحل التركية، ومنها من ينجح ويصل الضفة الأخرى، وآخرين تقبض عليهم قوات خفر السواحل أما أثناء محاولة عبور البحر، أو حين تتعرض مراكبهم للغرق، فتنقذهم القوات ذاتها.  وقد بلغ عدد المهاجرين غير الشرعيين – الذين ألقي القبض عليهم خلال محاولتهم العبور من بحر «إيجه» باتجاه اليونان خلال العام الماضي- «7540» شخصاً، و»44» شخصاً متورطين في الاتجار بالبشر. ويقدر عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى الدول الأوروبية من تركيا وليبيا ومناطق أخرى خلال العام الماضي، بحوالي 278 ألف شخص، منهم 170 ألف شخص استخدموا الأراضي الإيطالية، بينهم 142 ألف شخص اجتازوا الجزيرة قادمين من الأراضي الليبية.

كوارث متتالية

لا يكاد يمر أسبوع دون أنباء عن غرق قارب مهاجرين أو انتشال جثث لغرقى، أو انقاذ قارب مهاجرين وسط البحر أو اعتقال عشرات المهاجرين داخل الأراضي التركية أثناء تحضيرهم لركوب البحر أو تجاوز الحدود براً لليونان أو بلغاريا.

والأحد الماضي، أنقذت فرق خفر السواحل التركية قرابة 35 مهاجر، بينهم أطفال، بعدما غرق مركب كانوا يستقلونه في طريقهم إلى جزيرة «كوس» اليونانية.

ومنتصف الشهر الماضي، أوقفت شرطة خفر السواحل التركية باخرة، قبالة سواحل ولاية جنق قلعة شمال غربي البلاد، كانت تحمل على متنها نحو 400 مهاجر غير شرعي، يعتقد أنهم سوريون.

وأوضح والي المحافظة أحمد تشينار، أن الباخرة انطلقت من سواحل اسطنبول، عبر بحر مرمرة، وكانت تحمل مهاجرين غير شرعيين، وأن الشرطة قامت بإطلاق النار على الباخرة، لرفض قائدها إيقافها رغم التحذيرات التي وجهتها الشرطة.

وبداية العام الجاري، أوقفت قوات خفر السواحل التركية 333 مهاجراً غير شرعي، كانوا يحاولون الوصول إلى السواحل الأوروبية عبر المتوسط، على متن سفينة تجارية تحمل علم جمهورية «توغو» قبالة سواحل مرسين، جنوب تركيا.

وأفادت ولاية مرسين في بيان لها أن قوات خفر السواحل رصدت في الآونة الأخيرة – في منطقة شرق البحر المتوسط – عمليات نقل لمهاجرين غير شرعيين إلى إيطاليا بواسطة سفن النقل التجارية، وأنها لاحظت نقل كميات كبيرة من الأغطية والمواد التموينية إلى سفينة «بورتشن» تفوق حاجة طاقم السفينة، كما لاحظت نقل عدد كبير من المهاجرين غير الشرعيين من الساحل إلى السفينة بواسطة قوارب الصيد.

وأوضحت الولاية أن معظم المهاجرين كانوا من السوريين، فيما تم خلال العملية اعتقال 15 من المهربين، بينهم 4 أتراك، مشيرةً إلى أن خفر السواحل التركية أوقفت العام الماضي ألفاً و 754 مهاجراً غير شرعي، قبالة سواحل مرسين فقط.

ونهاية العام الماضي، قتل 28 مهاجرا في حادثة غرق القارب الذي كان يحمل على متنه مهاجرين غير شرعيين في مضيق البوسفور في تركيا، كما انتشلت جثث 18 مهاجراً في حادث غرق مركب آخر في المياه الدولية في بحر إيجه، غرب تركيا.

لكن الفاجعة الأكبر كانت نهاية عام 2012 عندما غرق مركب مهاجــرين قرب سواحل مدينة إزمير التركية وتوفي قرابة 61 شخصا بينهم 3 أطفال رضع و28 طفلا صغيرا، و18 أمرأة، معظمهم فلسطينيون وسوريون وعراقيون.

طرق الهجرة

وبحسب شهادات لأشخاص خاضوا التجربة أوضحوا لـ»القدس العربي» أن الساعين للهجرة من الأراضي التركية إلى أوروبا يتبعون العديد من الطرق في معظمها تكون نقطة الانطلاق الأولى هي سواحل تركيا الغربية المطلة على البحر المتوسط، للوصول إلى إحدى الجزر اليونانية القريبة ومن ثم بدء رحلة جديدة لدولة أوروبية أخرى.

وفي إحدى الطرق يتم استخدام قوارب مطاطية صغيرة للانطلاق من سواحل مدن إزمير ومرسين على الأغلب باتجاه إحدى الجزر اليونانية في مقابل مادي يتراوح بين 1000 و1500 يورو. ويتم دفع المبلغ المقرر من خلال مكاتب تأمين منتشرة في إسطنبول التركية والمدن اليونانية، وفي حال نجاح عملية التهريب يحصل المُهرب على المبلغ من مكتب التأمين.

وبعد وصول المهاجرين إلى اليونان، تتحفظ عليهم السلطات اليونانية، حيث يُوضعون في «كامب» (مخيم خاص للمهاجرين)، ويتم «تبصيمهم» ومن ثم يُمنحون «خارطية» (وهي ورقة طرد من اليونان)، ويُطلق سراحهم لتبدأ رحلة البحث عن مُهرّبين ينقلونهم إلى الدولة الأوروبية المنشودة.

وعن طرق الانتقال من اليونان إلى الدول الأوروبية الأخرى، أوضحت مصادر لـ»القدس العربي» أن ذلك يتم من خلال هوية أو جواز سفر مزوّر تُوضع عليه الصورة الشخصية للمُهاجر. وتُكلف بين 2500 ـ 3000 يورو للمُهاجر الواحد.

لكن هذه الطريقة كثيراً ما تفشل. خاصةً إذا كان الأمن في المطارات اليونانية مُشددا، حيث يقضي بعض المهاجرين من 7 ـ 8 أشهر في اليونان وهم يحاولون الدخول إلى إحدى دول أوروبا الغربية.

الموت أيضاً بـ«الأنهار»

التدابير الأمنية المشددة التي اتخذتها اليونان في الآونة الأخيرة على حدودها مع تركيا دفعت المهاجرين غير الشرعيين المتوجهين إلى أوروبا إلى تحويل وجهتهم إلى بلغاريا، عبر ولاية «قرقلر إيلي» الحدودية، شمال غربي تركيا.

ومن جملة التدابير التي أقدمت عليها اليونان بناء سياج شائك على طول حدودها مع تركيا، كما قام الإتحاد الأوروبي من خلال وكالته لأمن الحدود الخارجية بزيادة عمليات المراقبة الحدودية.

ويقطع المهاجرون غير الشرعيين نهر مريج في ولاية «أدرنة» والذي يشكل حداً طبيعياً بين تركيا واليونان من المناطق التي ينخفض فيها منسوب المياه، إلا أن الحركة تضاءلت في هذه المنطقة عقب حالات غرق لبعض المهاجرين، الذين استعاضوا عن ذلك بالعبور من بعض القرى الحدودية باتجاه اليونان.

وتزايدت في الآونة الأخيرة حركة عبور المهاجرين غير الشرعيين من المناطق الحرجية المجاورة لمعبر «دره كوي» الحدودي مع بلغاريا، حيث يتخفى المهاجرون في هذه المناطق، ريثما يحل الظلام، ليتابعوا طريقهم نحو الأراضي البلغارية.

وتشير تقارير تركية رسمية أن عدد الموقوفين في ولاية «أدرنة» ـ خلال محاولات تجاوز الحدود بطريقة غير شرعية ـ بلغ 16 ألفا و383 شخصاً، وتظهر التقارير أن السوريين يشكلون غالبية المهاجرين غير الشرعيين الذين حاولوا العبور إلى اليونان، منذ عام 2012، فضلاً عن مواطني إيران وأفغانستان وميانمار وباكستان.

 

 

 

 

قوارب الموت وصدام الحضارات/ صبحي حديدي

أيسر المقاربات، ولكن أشدّها قصوراً، وأكثرها أذىً على المدى القريب والبعيد معاً؛ هي تلك التي ترى أنّ الحلّ الأفضل لمواجهة «أزمة الهجرة الأوروبية»، هو وضع المزيد من العراقيل أمام تدفق المهاجرين، واتخاذ تدابير ردع أكثر صرامة، وتشديد العقوبات ضدّ المهرّبين، وصياغة سياسة أمنية مشتركة في مراقبة البحار…

والحال أنّ أوجه القصور تبدأ من تفضيل هذه التسمية، «أزمة الهجرة الأوروبية»، تلطيفاً للاسم الحقيقي الذي يصف الواقع على نحو أصدق: بشر من بقاع مختلفة في الأرض، نساءً وأطفالاً ورجالاً، شيباً وشباباً، يفرّون من جحيم العنف، حيث أنظمة الاستبداد والفساد والفاشية، لكي يقعوا فريسة هيّنة في يد شبكات التهريب وعماء البحار، حيث القارب بمثابة قشة يتمسك بها الغريق، الذي لا خوف تبقى عنده من البلل!

يصغي المرء إلى كبار الساسة من قادة الديمقراطيات الغربية، الذين اجتمعوا في بروكسل لتدارس «أزمة الهجرة الأوروبية»؛ فيعثر على اقتراح عبقري أوّل، من رئيس الوزراء الإيطالي، يقضي بتدمير القوارب التي يستخدمها المهربون (الأمر الذي سوف يعني، عملياً، استبدالها بقوارب أدنى أماناً وأشدّ خطراً!)؛ أو اقتراح ثانٍ، لا يقلّ عبقرية، يرى تولية ملفّ الردع والرقابة إلى «أنظمة صديقة» في المنطقة (هي ليست سوى أنظمة الاستبداد والفساد والفاشية، ذاتها، التي يفرّ منها اليائسون…(!

لا أحد اكترث بالذهاب إلى جذور الظاهرة التي تدفع البشر إلى اختيار مغامرة مثل هذه، باهظة الثمن وكارثية العواقب، تبدأ من تأمين كلفة التهريب (التي لا تقلّ عن عشرة آلاف يورو)، وتمرّ برحلة المخاطر نحو المجهول، حيث لا ضمانة البتة أنّ الرحلة لن تنتهي في قيعان البحار. لا أحد تساءل عن سياسات التهجير القسري، وليس الهجرة الاضطرارية وحدها، على سبيل المثال؛ حيث تلجأ الأنظمة إلى تفريغ مناطق معينة من سكانها، لأسباب شتى، عسكرية أو أمنية أو طائفية، فتنهب الممتلكات وتحرق البيوت وتنتهك الأعراض وتجبر البشر على مغادرة المكان. ولا أحد استذكر مصطلح «التطهير العرقي»، ومشتقاته العديدة، التي تشمل أيضاً سياسات «التنظيف» المناطقي والإثني والمذهبي؛ سواء أتى من أنظمة العنف، أو من أمراء الحرب.

ورغم أنّ بلداناً مثل تركيا ولبنان والأردن والسودان وجنوب أفريقيا وليبيا، تتحمل من ضغوطات الهجرة أضعاف ما تتحمله الدول الاوروبية مجتمعة؛ فإنّ هاجس المقاربة الأوروبية المبسطة، والتبسيطية في الواقع، يحصر الأزمة في القارّة العجوز أساساً، من ناحية أولى؛ كما يفرغها من مضمونها الإنساني، الذي يخصّ حقوق الإنسان الأولى في الحياة والنجاة، لتصبح مسألة أمنية تخصّ الإرهاب والجهاديين، من ناحية ثانية. وأمّا الأدهى في الموضوع، ولعله الأخطر في العمق والنتائج البعيدة، فإنه تحويل الهجرة إلى صراع ثقافات وصدام حضارات، بين «القِيَم» الغربية و»العقائد» الشرقية؛ أو، على وجه التحديد، بين التراث اليهودي ـ المسيحي الغربي، والتراث الإسلامي!.

وذات يوم غير بعيد أثار برنارد لويس، المستشرق البريطاني ـ الأمريكي الشهير، ضجة واسعة حين صرّح لصحيفة ألمانية بأنّ أوروبا، بسبب من احتمال ضمّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في المقام الأوّل، وموجات الهجرة من آسيا المسلمة وشمال أفريقيا، في المقام الثاني؛ سوف تصبح إسلامية عند نهاية القرن الحالي.

فإذا أُضيفت إلى المعادلة تلك الفوارق الماراثونية بين جوع الكثرة وتخمة القلة، الأمر الذي اعتادت تقارير التنمية السنوية تفصيل القول فيه؛ فإنّ نظام المحاصصة الشائه، في الاقتصاد الكوني، يصبح بمثابة قارب آخر يقود بؤساء الأرض من جحيم العنف والحروب، إلى جحيم الفاقة والمرض والجوع. وثمة، هنا، حلف ضمني بين أكثر من جلاد، ضدّ الضحية الواحدة إياها.

 

 

 

 

اللجوء غرقاً/ فواز حداد

رسالة مؤثرة، تداولها ناشطون سوريون على شبكات التواصل الاجتماعي، قيل إنها وجدت في جيب سوري مهاجر، انتشلت جثته بعد غرق مركب يحمل مئات المهاجرين غير الشرعيين. الرسالة موجهة إلى أمه وحبيبته وأخيه وأخته يطلب منهم ألا يحزنوا عليه، ويتأسف لأن موته سيمنعه من تلبية ما وعدهم به، يختم رسالته على الشكل التالي:

” شكراً لك أيها البحر الذي استقبلنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكرا للأسماك التي ستتقاسم لحمي، ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي.

شكرا لقنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موتنا لمدة خمس دقائق، كل ساعة لمدة يومين.

شكرا لكم لأنكم ستحزنون علينا عندما ستسمعون الخبر”.

قد تكون هذه الرسالة الوداعية ليست من كتابة شاب غريق، لكن صاحبها على التأكيد يعاني من ويلات النزوح خارج سورية، ويصف واقع الحال، وقد يكون مصيره مماثلاً. ففي وقت مضى، شارك في الاحتجاجات الأولى، واعتقل أكثر من مرة، وأصبح على قائمة المطلوبين الدائمين، كان سيموت تحت التعذيب، أو بسبب الظروف السيئة في المعتقل، هاجر لأنه مهدد أيضاً في دينه من “داعش” وأشباهها. يبحث الآن كما حال الكثيرين عن وسيلة للجوء إلى أحد البلدان الأوربية، حيث سيجد عملاً، ويتمتع بحد من الأمان، يشجعه على أن ينسى انتماءه السياسي ودينه، أو يمارسهما في بلد لا تعنيه سياسة ودين هذا اللاجئ.

على الأغلب، كتبت الرسالة تحت تأثير حوادث غرق السفن التي تتردد أخبارها يومياً، تتميز السفن بأنها غير آمنة ومكتظة بأعداد المهاجرين، وتفتقر لمقومات شروط السلامة ولوسائل الاتصال الضرورية جداً في حالات الطوارئ لطلب الإغاثة، يحشر فيها اللاجئون في البرادات التي كانت تستعمل لتخزين السمك المجمد، ومخازن البضائع.

تصاعدت حوادث الغرق المتكرر في البحر الأبيض المتوسط، خلال السنوات الأربع الماضية، هرباً من الحروب المندلعة في بلدان الانتفاضات العربية، إضافة إلى المهاجرين من البلدان الأفريقية بسبب الفقر. مؤخراً بلغت ذروتها بعدما ضرب الموت رقماً قياسياً بغرق نحو 800 مهاجر، اجتمع على الأثر قادة الاتحاد الأوروبي، سعياً لإيجاد حل لمسألة الهجرة إلى بلدانهم.

قبل وقوع الحادثة الأخيرة، كانت أوروبا ترفض القيام بمهمات إنقاذ كبيرة مخافة أن يؤدي ذلك إلى تشجيع مزيد من الأشخاص على الهجرة، أبواب اوروبا ليست مفتوحة للهاربين من الموت ولا للشعوب الفقيرة. أصلاً لم يكن اضطرار الحكومات الأوربية التي اعتادت على هذه الحوادث إلى مناقشة مسألة الهجرة غير الشرعية بين فترة وأخرى، سوى تحصين القارة البيضاء من القارة السوداء.

في لفتة شاءها الاتحاد الأوربي إنسانية، ضاعف تمويل مهمة البحث والإنقاذ في المتوسط على أمل تقليص حوادث الغرق. لكن خيارات الحل لم تتجاوز مهاجمة المهربين وإقامة مخيمات للمهاجرين وهي خيارات تتطلب التفاهم مع ليبيا الرازحة في الفوضى، وتوافق دول الاتحاد، وفي هذا مشوار طويل.

لا تترك أوروبا أمورها دائماً للظروف، فهي تستفيد من الهجرة الشرعية واللا شرعية، لكنها تحت الخطر الداهم تبادر إلى اتخاذ تدابير لمعالجتها. تتوقع التقديرات أن 200 ألف شخص قد يصلون إلى شواطئها بحلول نهاية هذا العام.  كما أعلنت المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة أن نصف مليون مهاجر قد يحاولون عبور المتوسط مما يهدد بمقتل الآلاف إن لم يتم التحرك لوقف منظمي الاتجار بالبشر.

حظ السوريين من المآسي هو الأكثر، بعد تكاثر القتلة في الوطن، فإضافة الى النظام بات هناك “داعش” وغيرهم من الميليشيات الإسلامية التي باتت تفرض قوانينها بحد السيف وقطع الرؤوس. الحرية التي طالب بها السوريون انعكست عليهم وبالاً وتفرقوا في مقابر جماعية تحت الأرض، وتشردوا فوقها في مختلف ارجاء العالم، رحلاتهم خارج سورية سواء كانت على اليابسة أو في البحر، معرضة للأخطار على الحدود والاحتجاز في السجون والضرب والاهانة والجوع، بينما قوارب الصيد أصبحت قوارب الموت في بحر كان على مر العصور بحر الحضارات الكبرى، قبل أن يصبح مدفنا للاجئين الفارين من الظلم والاضطهاد والحاجة إلى الأمان.

بالنظر الى القوانين الأوربية الحازمة، لا يرجى انصافٌ، إذ أن الانصاف يبدأ بمساعدة المهاجرين على العودة إلى بلدانهم، ما يكف حركة اللجوء الذي كان الغرب أحد أسبابها، بمباركتها وجود حكومات دكتاتورية سهلت استنزاف موارد بلدانها للمصالح الغربية، في سبيل الإبقاء عليهم. وتبدو دعوة الأسقف ماريو جريش موجهة إلى الحكومات الأوربية كي تتعامل مع قضية اللاجئين بدافع الحب، وليس القانون فحسب، قائلاً: “يمكننا أن نستمر في قراءة القوانين مثل المحامين لكن هذا لا يكفي”. إذ لا يكفي التنصل من الواجب الإنساني في التخلي عن البشر في محنتهم حين لا يجدون مأوى في بلدهم الأصلي، سوى الغرق في البحر

 

 

 

 

سوريون في مصر مصممون على المجازفة بالهجرة

أ. ف. ب.

القاهرة: يعلم اللاجىء السوري فارس الباشاوات ان ابنتيه الاثنتين يمكن ان تغرقا اثناء عبورهما البحر المتوسط في الطريق الى اوروبا، لكنه يقول ان بقاءهما في مصر سيتركهما فريسة لمصير ربما اسوأ.

ووصلت زوجة الباشاوات مع ابنتين لها اخريين الى ايطاليا بالمركب عبر المتوسط، بعد ايام عدة على مقتل مئات المهاجرين اثر غرق مركبهم المكتظ في عرض المتوسط. وبعد ان وصلت زوجته وابنتاه الى ايطاليا، يخطط الباشاوات حاليا لارسال ابنتيه الباقيتين معه الى اوروبا من ساحل الاسكندرية على البحر المتوسط.

ويؤكد اللاجىء السوري انه تعرض للتعذيب في سوريا ولاطلاق النار قبل هروبه الى مصر. ويقول الباشاوات والأسى يرتسم على ملامح وجهه لوكالة فرانس برس في مدينة الاسكندرية “افضل ان تموت بنتاي في عرض البحر على أن اتركهما هنا خلفي”.

ويعرض الباشاوات (55 عاما) على ابنه الصغير نمر صورة فوتوغرافية لامه وشقيقتيه وهم يتناولون الطعام في مطعم في ايطاليا. ونجا اعضاء اسرة الباشاوات هؤلاء من رحلة تنتهي احيانا في قعر البحر. فقد غرق الاحد الماضي700  شخص على الاقل قرابة سواحل ليبيا في واحدة من اسوأ كوارث الهجرة غير الشرعية في المتوسط.

واوضح الباشاوات الذي يقول انه كان يمتلك سلسلة مطاعم ومنتجعا في سوريا “في البداية كنت ضد هذا النوع من الرحلات، لكن لا يوجد خيار اخر”. مأساة الاسبوع الفائت دفعت الى عقد قمة اوروبية الخميس في العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث قرر القادة الاوروبيون زيادة الموارد المخصصة لانقاذ المهاجرين غير الشرعيين في المتوسط ثلاثة اضعاف .

لكن المأساة المتواصلة لغرق المهاجرين لم تردع باشاوات ومئات اللاجئين عن المغامرة بحياتهم في المتوسط من اجل حلم تأمين ظروف معيشة افضل في اوروبا. ويأمل الباشاوات ان يستفيد ابنه نمر من برنامج لم الشمل لدى المفوضية العليا للاجئين ليتمكن من السفر الى اوروبا، في حين ان ابناءه ال15 مشتتون حاليا بين مصر وسوريا والمانيا وايطاليا وبلجيكا وتركيا.

ويقول الباشاوات ان اسرته الكبيرة كانت ميسورة الحال وتعيش في فيلا من طابقين في ريف دمشق، لكنه الآن غير قادر “حتى على شراء الدواء” لابنائه. ويظهر الباشاوات علامات على بطنه حيث يقول انه اصيب برصاص “ميليشيا شيعية” في سوريا.

المفارقة ان اصل اسم باشاوات نفسه يشير الى علو المكانة والثراء. لكن اسرته التي اعتادت على بحبوحة العيش اصطدمت بضيق الحال وندرة فرص العمل في مصر التي تعاني اصلا وضعا اقتصاديا مترديا منذ اكثر من اربع سنوات.

ويقول نشطاء حقوق الانسان ان لاجئين مثل السوري باشاوات يستخدمون وسطاء للتواصل مع المهربين الذين يقومون بنقلهم على مراكب متهالكة نحو اوروبا.

ويقول احد هؤلاء الوسطاء ويدعى ابو براء انه وفر اربعة اماكن مجانية لزوجته وابنائه الاربعة على مركب متجه لايطاليا العام الفائت نظير استقدام عشرة لاجئين سافروا على نفس المركب مقابل 2000 دولار لكل منهم.

ويسترجع ابو براء في لقاء مع صحافيي فرانس برس على شاطئ المتوسط محاولته الهرب عبر المتوسط قائلا “حاولت ان اغادر مع اسرتي 11 مرة وفشلت حيث جرى ايضا اعتقالي مرتين”. وقابل ابو براء متعهدا يعمل مع مهرب وعده بتوفير اماكن مجانية لزوجته وابنائه لو جلب له عشرة لاجئين يريدون السفر بشكل غير شرعي الى اوروبا.

واضاف ابو براء (41 سنة) “احضرت لهم عشرة اشخاص واخذوا هم اسرتي معهم مجانا”، موضحا ان المجموعة اُخذت اولا من الاسكندرية في قارب صغير الى مركب اكبر واخيرا استقلوا سفينة اكبر القتهم قرب الساحل الايطالي.

واضاف ابو براء “نقطة الانزال الاخيرة تتم عبر اولئك الذين يصطادون في المياه الدولية. ياخذون مجموعات من 300 شخص في رحلات تتم مرة كل اسبوعين”. ويقول النشطاء المعنيون بقضية الهجرة غير الشرعية ان ابو براء نفسه يتحول احيانا الى متعهد هجرة غير شرعية، وهو الامر الذي ينفيه ابو براء، مشددا انه يريد فقط ان يجمع المال ليلتئم شمل عائلته.

ويستخدم المهربون متعهدين يمكن الوصول اليهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي على فيسبوك عبر اسماء مستعارة منها “القبطان” و”الدكتور”. ويقول الناشط احمد الشاذلي من “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” ومقرها القاهرة انه مع قدوم الصيف من المتوقع ان يزداد عدد الراغبين بالتسلل بحرا الى اوروبا من مصر.

وتقول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين ان 219 الف شخص عبروا المتوسط وان 3500 شخص لقوا حتفهم في العام 2014، وحتى الان وصل 35 الفا من طالبي اللجوء والمهاجرين الى شواطئ جنوب اوروبا في العام 2015.

وبحسب الناشط الشاذلي فان الباحثين عن حلم الوصول الى اوروبا يعملون بشكل متزايد مع المتعهدين السوريين الذين يثقون فيهم بسبب “خبرتهم، وشبكات معارفهم الافضل وقدرتهم على الوصول لمقاصدهم”.

ويرى السوري الباشاوات المتوسط كطريق خطر لكنه وحيد للم شمل عائلته الكبيرة.

ويقول الرجل الذي حولته الحرب من مليونير ثري الى مستأجر شقة بائس الحال فيما كان ابنه نمر ينظر لصورة امه وشقيقتيه في حياتهم الجديدة “حلمنا ان نجتمع مجددا تحت سقف واحد”.

 

 

 

منع الغرق في مياه المتوسط/ عادل درويش

من المسؤول عن مأساة ما وصفتهم الصحافة ومنظمات مساعدة المهاجرين بـ«لاجئين في حالة يأس هربا من الموت»، مات آلاف منهم غرقا في مياه المتوسط؟

أكثر من طرف يتحمل المسؤولية.

مقابلات صحافية مع عشرات ممن انتشلوا، يلقون الرعاية في مراكز إيطالية، بينت أنهم من بلدان في حالة سلم، كبنغلاديش وأفريقيا جنوب الصحراء.

مسؤولية المهاجرين أنفسهم بطموحهم الاقتصادي.

«اي تي إن» البريطانية بثت، الخميس 23 أبريل (نيسان)، لقاء مع أحد مهربي البشر (لبناني من لهجته) قال إنه يتقاضى ما بين ألف وستة آلاف دولار من كل مهاجر إلى أوروبا عبر قوارب تبدأ رحلة الإبحار من تركيا، عبر موانئ جنوب المتوسط، وتتجمع في ليبيا، نقطة الانطلاق لأوروبا.

إذا كان الغرض الهرب من أذى، لماذا يدفع «اللاجئ» للمهرب خمسة أضعاف ثمن تذكرة الطائرة إلى بلدان أوروبية تمنح حق اللجوء فور الهبوط في المطار؟ بجانب المهاجر هربًا من خطر يحط رحاله في أقرب مكان آمن.

المهاجرون أنفسهم يفضلون بريطانيا، ثم البلدان الإسكندنافية، فألمانيا. بلدان يسهل الالتفاف حول قوانين ولوائح مؤسسات الرعاية الاجتماعية السخية فيها.

ومسؤولية عصابات تهريب البشر. بقرتهم الحلوب أحلام شباب العالم الثالث بأوروبا، أو مأزق أفارقة عملوا في ليبيا في مشاريع العقيد القذافي من نوع «الفيل الأبيض» لخيلاء القذافي بنفسه، فضاعت فرص العمل بانهيار النظام.

أضف إلى الحرب الأهلية، حط في ليبيا إرهابيو «داعش» بكامل عرباتهم وعتادهم، فهل نصدق أن الأقمار الصناعية الأميركية التي تصور كل شبر من الكرة الأرضية على مدى 24 ساعة لم تلحظهم؟

ولذا أميل إلى ضم أميركا لقائمة المسؤولين عن المأساة.

وباستثناء قبطان تونسي ومساعده اعتقلا لقيادتهما سفينة غرق فيها 700، فلم يقبض على أحد من شبكات تهريب البشر، مما يثير التساؤلات عن وجود فساد في الأجهزة المسؤولة.

فمن قاد مئات القوارب التي جاء عليها قرابة 150 ألفا انتشلوا في المتوسط في الشهور العشرة الماضية؟

وكيف تعمل عصابات تنظم تهريب البشر (مقابل 2000 – 3000 يورو للشخص) إلى بريطانيا عبر الشاحنات، بحرية في مراكز اللاجئين الإيطالية؟ (مقابلة القناة الرابعة 21 أبريل).

استثمار المهاجر ما دفعه للمهرب يعود بدخل جيد بالمستوى الاقتصادي في بلدان جنوب الساحل، فمن المسؤول عن تضليل المهاجرين فيجازفون بحياتهم في قوارب قابلة للغرق؟

الصحافة المتلفزة (الإقليمية والعالمية) تتجنب الحقائق الجافة، وتركز على صور تثير العواطف، وتلتقي مسؤولين ومعلقين (من منظمات رعاية اللاجئين) للضغط على الحكومات الأوروبية لاستيعاب مزيد من اللاجئين. الصور تبين مستوى رعاية صحيا واجتماعيا مرتفعا، فتضلل المهاجرين بعوامل الجذب.

جمعيات مساعدة المهاجرين التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تعطيها الصحافة المتلفزة دورا رومانسيا بطوليا.

ولا أقلل أبدا من جهود ونبل مقاصد العاملين (خاصة المتطوعين)، لكن الجمعيات تتلقى دعما يرتفع بزيادة اللاجئين، ومن دونهم يفقد مديرو المنظمات بدلاتهم المرتفعة، وربما مرتباتهم.

شبكات التلفزيون تلتقي مديري وكالات اللاجئين ونائبات البرلمان الأوروبي وقوميسرات يساريات في المفوضية الأوروبية، فلا يقدمون حلولا، بل يقصفون الحكومات بتهمة التخلي عن الإنسانية، ويبتزونهم عاطفيا لاستيعاب «اللاجئين». الحل غير عملي وغير مقبول للناخبين الأوروبيين.

فحسب إحصائيات منظمة الهجرة العالمية، تجمع ما بين مليون ونصف المليون ومليونين من مختلف الجنسيات على ساحل شمال أفريقيا ينتظرون الشحن كالماشية في سفن قابلة للغرق تتجه لأوروبا، ما يقل عن خمسة مليارات دولار في جيوب عصابات التهريب، وبالتالي ستجذب المزيد من موانئ تركيا إلى ليبيا، حتى لو افترضنا استيعاب المليونين في أوروبا.

لماذا لا توجه إمكانيات منظمات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجزء من الميزانية لدراسة المسؤول عن نشر الصحافة الإقليمية والعالمية خرافات تجعل أوروبا عامل جذب، وقصدا أو مصادفة، فهي ركلام يروج لنشاط عصابات التهريب.

كما لا توجد ميزانية كافية للمخابرات لرصد واختراق شبكات المهربين وإرسال قوات خاصة للقبض عليهم (أو تصفيتهم في حالة مقاومتهم المسلحة)، أو لتمويل برنامج علاقات عامة لإقناع الصحافة بالتركيز على الحقائق بدلا من الابتزاز العاطفي للرأي العام والساسة.

المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الحكومات والمفوضية الأوروبية التي تهدر إمكانيات هائلة في إنقاذ القوارب، ثم استفزاز ومضايقة المجتمعات المحلية بإغراقها بالآلاف من المهاجرين بلا عمل، بعد انتشالهم من القوارب.

لو كانت الحكومات الأوروبية، كإيطاليا ومالطا واليونان، قدمت للناجين العلاج والطعام وملابس جديدة، ثم رحّلتهم إلى حيث أتوا أو بلدانهم الأصلية ونشر الخبر بكل اللغات في جميع تلفزيونات العالم، عند وصول أول القوارب قبل عامين، لكن غالبية من لقوا حتفهم عرفوا مبكرا أن المحاولة ضرب من العبث، وأنقذت آلاف الأرواح.

فمثلا إذا ازدادت حوادث الانتحار أو السقوط الخطأ من منتجع على قمة جبل إلى هاوية تحته؛ فهل نضع الإمكانيات في سيارات إسعاف وفرق إنقاذ في سفح الجبل، أم نبني سياجا يمنع الناس من السقوط من الحافة أصلا؟

السياج المطلوب إقامته لإنقاذ أرواح الناس هو عمل عسكري وسياسي. أولا النشاط المخابراتي للتعرف على المهربين واعتقالهم أو تصفيتهم.

ثانيا غارات لتدمير قوارب عصابات التهريب قبل وضع الناس فيها في موانئ ليبيا. ومن الضرورة فرض حصار بحري وتفتيش السفن على حافة المياه الإقليمية الليبية.. وأيضا من موانئ تركيا متجهة جنوبا، واعتراض أي سفينة مبحرة من ليبيا أو غيرها بلاجئين، واعتقال ملاحيها ومحاكمتهم، ومصادرة السفينة أو إغراقها، وإعادة اللاجئين من حيث أتوا، وتبث العملية تلفزيونيا على الهواء عالميا، خاصة في بلدان يأتي منها المهاجرون.

أما الملايين التي تنفق على جمعيات اللاجئين وعمليات الإنقاذ يعاد توجيهها وفقا للمثل الصيني «أعطِ رجلا سمكة تطعمه عشاء، علمه الصيد تطعمه مدى الحياة» بتأسيس بنك للقرض الحسن يتبع الاتحاد الأوروبي لتمويل مشاريع يدوية وصناعات ريفية محلية يعمل بها هؤلاء المهاجرون، ويصبحون رجال أعمال في بلدانهم الأصلية.

وبحسبة بسيطة؛ إذا كانت تكاليف إنقاذ وعلاج ورعاية وإسكان مهاجر واحد تقدر بما بين ثمانية إلى 12 ألف يورو في ثلاثة أشهر (ناهيك بالرعاية الاجتماعية وإعانة البطالة)، فإن نصف هذا المبلغ يوازي ثمانية أضعاف دخل موظف متوسط في رواندا، وأربعة أضعاف دخل طبيب في بنغلاديش.

ولنتصور قيمة مشروع الاستثمار إذن في بلدان هؤلاء المهاجرين، التي ستوفر لهم حياة كريمة، وعلى الأغلب إمكانية توظيف عدد من العاملين، ونموا اقتصاديا، ناهيك بإنقاذ أرواح إنسانية، وهو ما لا يُقدر بثمن.

 

 

 

الهجرة والمتوسط والبؤس في العالم/ ابراهيم عوض

يوم الأحد 19 آبريل صدم العالم غرق مركب في عرض البحر المتوسط لقى مصرعهم من جرائه 900 شخصا ولم ينج إلا ما يناهز العشرين ممن حاولوا الهجرة من البؤس، تطلعا إلى حياة كريمة في القارة الأوروبية. المجتمعات المدنية والسلطات والجانب الأكبر من السياسيين ووسائط الاتصال في الاتحاد الأوروبي شعروا بوقع الصدمة هائلا. الاتهامات وُجهت شديدة إلى الاتحاد الأوروبي وتعلقت بسياسته للهجرة التي اعتبرت قاصرة لا تخصص الموارد الكافية لبرنامج عمليات البحث والانقاذ في البحر المتوسط. من وجهوا الاتهام أشاروا إلى أن مخصصات البرنامج الحالي أقل من مخصصات سلفه الذي موّلته إيطاليا وحدها والذي تذهب التقديرات إلى أنه أنقذ 150,000 شخصا خلال عام واحد تقريبا حتى انتهى سريانه في شهر أكتوبر الماضي.

وامتدت الانتقادات إلى ما وراء ذلك، فتناولت نفس الوظائف الأساسية للوكالة الأوروبية لمراقبة السواحل الأوروبية “فرونتكس” التي تجوب قواربها المتوسط لحماية أقاليم الدول الأعضاء من تسلل الغرباء إليها، فتشكل تكلفة على الاتحاد دون أن تنجح في مسعاها، ومعرضة حياة عشرات الألوف للخطر. ونحى آخرون بالمسئولية على سياسات بخيلة للجوء ولإعادة توطين اللاجئين ودعوا الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى أن تكون أكثر سخاء، خاصة مع اللاجئين السوريين الذين اكتظت بهم الدول المجاورة وضاقت سبل حياتهم فيها. أما معلقون آخرون فاختاروا التنبيه إلى ضرورة تشديد التضييق على عصابات الإتجار في البشر التي تقذف بالطموحين إلى حياة أفضل إلى التهلكة وتحقق من ورائهم الأرباح الطائلة. ولأن المركب الغارقة يوم الأحد الماضي وأغلب تلك التي حاولت عبور المتوسط في العام الماضي أبحرت من ليبيا، فلقد شدد كثير من المعلقين على ضرورة علاج الصراع في ليبيا وإعادة بناء السلطة المركزية فيها.

في ذهابها إلى ضرورة تحرك الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بالأشكال المذكورة، حدّدت المجتمعات المدنية ووسائط الاتصال الأوروبية إذن ما اعتبرته أسبابا للمأساة الإنسانية في المتوسط وذكّرت بالقيم الأساسية لأوروبا المتمثلة في حماية حقوق الإنسان، والكرامة الإنسانية، وفي المسئولية والتضامن البشري، وهي القيم التي تعتبر أسس الوضع الأخلاقي المميز الذي يحرص الاتحاد الأوروبي على أن يرى فيه نفسه وعلى أن يعترف به الآخرون. ولأنه يمكن تقدير أن التهاون في احترام هذه القيم الأساسية فيه انتقاص من إنسانية الأوروبيين أنفسهم وأنه يعرِض نفس شرعية الاتحاد الأوروبي داخليا وأمام العالم الخارجي للخطر، فلقد سارع قادة دول الاتحاد إلى عقد قمة مخصصة لمأساة المتوسط يوم 24 إبريل، أي بعد أربعة أيام من وقوع الكارثة الأخيرة، وأعلنوا أنهم سيدرسون وضع برنامج من عشر نقاط لمواجهة المأساة من بينها إتاحة خمسة آلاف فرصة لإعادة توطين اللاجئين السوريين توزع على الدول الأعضاء حسب قدرة كل واحدة منها.

***

التحرك الأوروبي قد يكون متأخرا ولكنه إيجابي ومشكور. والمراقب يلاحظ أيضا تطورا إيجابيا آخر ألا وهو أن الغرقى وصفوا بالمهاجرين وعملية عبورهم البحر المتوسط بالهجرة وأنه غاب عن كل ردِ فعل سياسي أو تغطية صحفية وصف هؤلاء المهاجرين “بغير الشرعيين” أو هجرتهم “بغير الشرعية”، وهو وصف يبدو وكأن كل ما يعني القائلين به خروج عملية الهجرة عن القوانين وتجريم المقدمين عليها، بدون اعتبار لما إذا كانت هذه القوانين في بلدان المنشأ أو الاستقبال منصفة وواقعية أم لا، ولا للعوامل السياسية والاقتصادية الطاردة أو الجاذبة لهؤلاء المهاجرين، سواء كانوا مهاجرين من أجل العمل أو لاجئين يفرّون من النزاعات المسلحة وآثارها. ولا يملك نفس المراقب إلا أن يتمنّى أن تكفّ الدوائر السياسية ووسائط الاتصال في بلادنا عن تكرار نغمة “غير الشرعيين”، أولا لأنها نغمة تصرف النظر عن أسباب الظاهرة وتكتفي بالتركيز على شكلها، وثانيا لأنه وفي نهاية الأمر إن كان ثمة متضرر من “غير الشرعية” فهو بلدان الاستقبال، وثالثا، وهو أضعف الإيمان، لأن الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين، ومصر أول دولة في العالم صدّقت عليها، أطلقت على شكل الهجرة هذا مصطلح “الهجرة غير المنظمة”، مبتعدة عن الحكم عليها بالشرعية أو غير الشرعية.

إلا أنه وعلى الرغم من إيجابية رد الفعل الأوروبي فإن المرء يعتريه الشك فيما إذا كانت مرتكزاته يمكن أن تؤدي إلى حلول فعّالة لمأساة محاولات عبور البحر المتوسط، بل إن التشكك يصل إلى ما إذا كان الاتحاد الأوروبي وحده يستطيع إيجاد هذه الحلول أو ابتكارها، سواء كان ذلك عبر سياسات الهجرة واللجوء أو السياسات المتوسطية الموجهة لبلدان البحر العتيق بالذات. صحيح أن ميزانية البحث والانقاذ شحيحة الموارد ولكن زيادة إمكانيات “فرونتكس” ستعزز فرص الإنقاذ غير أنها لن تحول دون أن يعرِض البشر أنفسهم لاستغلال عصابات تهريبهم والإتجار فيهم والمقامرة بحياتهم. وليس من شك في أن انهيار السلطة في ليبيا قد جعلها قاعدة سهلة لنشاط عصابات الإتجار بالبشر ولانطلاق المراكب المتحدية لسياسات الهجرة الأوروبية. ولكن هل تعدم هذه العصابات قواعد بديلة إلى الغرب من ليبيا أو على المحيط الأطلسي حتى وإن ارتفعت تكاليف نشاطها فيها؟ وبالتأكيد لا بدَ أن يعبرّ الاتحاد الأوروبي عن تضامنه الفعلي والفعّال مع اللاجئين السوريين ومع الدول المضيفة لهم بمنحهم مزيدا من فرص إعادة التوطين. ولا جدال ممكن في أن الدول الأعضاء في الاتحاد يجب أن تكفّ عن خداع نفسها وأن تعترف بحاجة اقتصاداتها الحديثة وغير المنظمة معا إلى اليد العاملة الأجنبية. ولكن اللاجئين السوريين قليلون بالنسبة إلى من يعبرون المتوسط وإلى من يهلكون فيه. تقدِر المنظمة البحرية الدولية أن عدد من سيحاولون عبور المتوسط في العام الحالي يمكن أن يصل إلى نصف المليون، وهو عدد يستحيل تصور أن تسمح أي تعديلات في قوانين الهجرة باستيعابه في دول الاتحاد الأوروبي.

***

حقيقة الأمر أن مأساة المتوسط تبدو نتيجة لآفة أكبر هي البؤس في العالم. بؤس سياسي تتفوق منطقتنا، بلا فخر، على مناطق العالم الأخرى خبرة به. وبؤس اقتصادي ترتب على نظام اقتصادي دولي أنتج  فجوات متزايدة الاتساع في الدخول والثروات بين الدول وفي داخل كل واحدة منها، وتولّد عنه الفقر والبطالة في جنوب العالم وفي شماله أيضا. أليس جديرا بالانتباه إلي أن نسبة كبيرة من ضحايا المتوسط ليست من مواطني دوله بل من الدول الواقعة إلى جنوبها في إفريقيا، ومن إريتريا في القرن الإفريقي، بل ومن آسيا، من بنجلاديش خصوصا ومن غيرها؟ ألا يمكن اعتبار هجرة هؤلاء بداية غير واعية لإعادة توزيع السكان في العالم، ولجمع عنصر العمل الذي يمثلونه برأس المال المتوفر في بلدان المقصد الأوروبية، وهي نفسها بلدان يعاني الكثير منها معاناة  شديدة؟

الهجرة ليست إلا عرضا لمشكلات عميقة ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية وسياسية. لعل قادة الاتحاد الأوروبي ومعهم المسئولين في بلداننا يتنبهون إلى ضرورة علاج هذه المشكلات وان يقنعوا دول العالم الأخرى بما تنبهوا إليه صونا لقيم الإنسانية وللتضامن والسلام بين البشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى