صفحات سوريةمصطفى كركوتي

قواعد المواجهة في دمشق تقررها موسكو/ مصطفى كركوتي

 

 

التصعيد الهادر بين إسرائيل وإيران في سورية، كلاماً وفعلاً، قد ينتهي بأن يكون وفق القول المأثور، مجرد «جعجعة بلا طحن». ولكنه ينم في آن عن مخاطر جمة وحقيقية تهدد باشتعال المشرق، إن لم يكن الإقليم برمته، لا سيما في ضوء ما هو معروف عن نهم سياسيي لدى كل من البلدين المتنافسين، ولكن المختلفين، من أجل تثبيت نفوذهما فيه. كلاهما يلتقيان عند نقطة تتماثل فيها الأهداف التي يمكن تلخيصها بقلب ميزان القوى وإضعاف العرب.

الأخطار المحتملة تتضاعف نتيجة وجود قيادة في كلا البلدين تنتعش باضطراد كلما اقتربت من بوابة الحرب. فقرار الحرب في إسرائيل بات بيد قيادة قلصت نفسها وفق تشريع برلماني من الكنيست، قبل أيام، إلى شخصين هما الأكثر تطرفاً والأكثر كراهية للفلسطينيين، رئيس الوزراء نتانياهو ووزير دفاعه ليبرمان. أما قرار إيران فهو بيد قيادة «الحرس الثوري» راعية الرئيس بشار الأسد وشريكته في جرائم القتل والدمار في سورية ونشر الفوضى وعدم الاستقرار في الإقليم، إن كان من خلال إبقاء الخط الواصل بين طهران وبيروت، مروراً ببغداد ودمشق (ممر الجنرال قاسم سليماني)، تحت سيطرتها، أو من خلال تهديدها للخليج عبر خاصرته الأمنية في اليمن.

نتانياهو أول العارفين بنيات إيران الراهنة والتي ليس من بينها «تدمير» إسرائيل كما يدعي بين فينة وأخرى كبار ضباط القيادة الإيرانية، كما يدرك أن مهمة طهران في الإقليم لا تلامس لا من قريب أو بعيد الأمن الإسرائيلي. فانتشار النفوذ الإيراني المسلح في المنطقة (يقدر بين 70 و100 ألف في سورية وحدها)، فضلاً عن تمويل ميليشيات تابعة لـ «الحرس الثوري» وتسليحها في العراق وسورية ولبنان واليمن، ليس موجهاً ضد الاحتلال الإسرائيلي، بل مهمته الرئيسة تنحصر في تثبيت هذا النفوذ في الإقليم.

إذا كان هناك قلق حقيقي لدى نتانياهو من تمدد إيران في الإقليم، لا سيما وجود قواعد عسكرية عدة لها في الأراضي السورية، فهو يناقش ذلك دوريا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فقد التقى الرجلان نحو ست مرات منذ دخول القوات الروسية إلى سورية في 2015، وكان آخر لقاء بينهما في كانون الثاني (يناير) 2018. فنتانياهو يعلم جيداً أن موسكو هي العنوان الذي ينبغي التوجه إليه لمراجعة آخر تطورات الوجود الإيراني في سورية.

فإذا كان نتانياهو يطالب بانسحاب إيران من سورية، فإن روسيا هي الممسكة في شكل رئيسي بقواعد لعبة الأمم، إذا صح التعبير، في تلك الدولة المنكوبة. الوجود الإيراني بالنسبة إلى موسكو «وجود شرعي» وفق وزير خارجية روسيا لافروف في تموز (يوليو) الفائت، لأن طهران قدمت إلى دمشق «بدعوة من الرئيس الأسد». هذا الأخير منح بدوره الشرعية للوجود الروسي بتجديده الاتفاق بشأن قاعدتي روسيا الجوية والبحرية في حميميم وطرطوس على طول الشريط الساحلي في 2015.

ولأن لا أحد من اللاعبين في الساحة الدولية، بما في ذلك تركيا أردوغان، يحترم القرارات الدولية ولا حتى الاتفاقيات الإقليمية، فإن الساحة السورية تبدو متاحة لمن يرغب كي يلعب فيها على هواه. فعلى رغم توقيع روسيا، مثلاً، اتفاقية «خفض التصعيد» ووقف إطلاق النار وسحب القوات الأجنبية من جنوب غربي سورية (درعا والسويداء والقنيطرة) في تموز الفائت، فإن موسكو لم تحترم هذا التوقيع عند اعترافها بـ «شرعية» وجود إيران في سورية. وليس غريباً أن تفعل موسكو ذلك ما دامت عمليا هي الآمر الناهي في البلاد إذ تغض الطرف، وفق ما يتناسب مع مصالحها، عن عمليات القتل المتوحشة التي يقوم بها نظام الأسد ضد السوريين منذ سبعة أعوام وأكثر.

على رغم تعدد منصات الحوار حول الأزمة في سورية من جنيف إلى استانة إلى سوتشي وقيام تحالف ثلاثي يجمع القوى اللاعبة في سورية، روسيا وإيران وتركيا، فإن الرسالة التي توجهها موسكو إلى الجميع، بما في ذلك مجلس الأمن، أنها هي التي تقرر ما يجري في سورية، مستفيدة طبعاً من الغياب شبه التام للولايات المتحدة عن المشهد. ولأن هناك علاقات متينة وتعاونا مشتركا روسياً- إسرائيلياً عموماً، فالتوضيح الذي تقدمه موسكو إلى تل أبيب عن دعمها لإيران في سورية واضح وبسيط جداً: قوات «الحرس الثوري» وميليشيات «حزب الله» تقدم لنا وللأسد مساعدة جمة في بقاء النظام على قيد الحياة، وبقاء هذا النظام أمر حيوي لاستراتيجية موسكو في الإقليم ولهيبتها أمام العالم كلاعب دولي.

فإبقاء هذا النظام في السلطة هو إذاً المهمة الأولى لموسكو لأن هذا الأمر يمنح روسيا ميزات عدة بينها التمتع بموقع استراتيجي يطل على الأبيض المتوسط والتأكد من حصولها على حصتها الموعودة من الكعكة السورية في أي تسوية في المستقبل، والتأكيد مرة أخرى أنها هي الطرف الأهم في صوغ ذلك المستقبل. وعندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فالملاحظ أن موسكو لا تحتج أو تتدخل كثيراً عندما تقوم إسرائيل بقصف أهداف تابعة لإيران أو «حزب الله»، ما دام ذاك القصف يتجنب أهدافاً روسية. في الوقت ذاته لا تجد موسكو نفسها مضطرة إلى الاستجابة لمطالب إسرائيل المتعلقة بإيران، ما دام الوجود الإيراني في سورية لا يشكل في حد ذاته تهديداً لتل أبيب، على رغم حديث إيران و «حزب الله» عن عملية تحول تاريخي تحصل راهناً لبزوغ «محور المقاومة» المكون من تحالف يجمع بين قوات سورية والعراق واليمن وإيران وميليشيات «حزب الله».

في الواقع، «المحور» الذي يواصل الإيرانيون الحديث عنه هو تشكيل عسكري ميليشياوي الطابع تسعى طهران إلى تأسيسه يتكون من «قوات الدفاع الوطني» في سورية و «قوات الحشد الشعبي» في العراق وحوثيي اليمن و «الحرس الثوري»، إضافة إلى «حزب الله»، وهي قوى حديثة التكوين يعتمد شريان حياتها على دعم إيران المباشر. الغرض الأول لهذا التشكيل كما تبيّن في الأعوام الثلاثة الماضية حماية «ممر سليماني» وقلب ميزان القوى في المنطقة ضد ما تبقى من منظومة الدول العربية. ولكن موسكو تستطيع أن تحد من هذا الجموح الإيراني إذا شاءت لأنها لا تزال تقرر قواعد المواجهة في سورية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى