صفحات العالم

قوة الرقم السوري


حازم الأمين

لأرقام القتلى السوريين التي تذيعها تنسيقيات الثورة وتبثها الفضائيات منطق رياضي تصاعدي، فالرقم يبدأ بالإنجلاء في الساعة الثامنة مساء، أو هكذا نعتقد، بعد أن نكون قد تداولنا الرقم الأدنى في ساعات المساء الأولى، ولكن نشرة أخبار الساعة التاسعة غالباً ما تُجدد الرقم على نحو مأسوي. يظهر الشريط الأحمر في أسفل الشاشة ناقلاً هذه العبارة: تنسيقيات الثورة السورية تقول إن حصيلة اليوم من الشهداء ثلاثون قتيلاً.

غالباً ما ننام على ثلاثين قتيلاً. هذا ما جرى في الأسابيع الأخيرة. أي أسابيع المهل العربية، بحيث صار لليوم الممنوح للنظام قيمة أخلاقية، فهو يساوي ثلاثين قتيلاً.

ثم أن للرقم السوري قوة تفوق القوة الحقيقية للرقم المجرد، وما أن تذيعه التنسيقيات حتى يصبح حقيقة غير قابلة للنفي. ثلاثون قتيلاً يعني ثلاثين قتيلاً، لا قوة لأحد على دحضه. النظام لم يُبادر يوماً الى نفي رقم. هو ينفي الظاهرة، يقول إن هناك مبالغة، أو إن القتلى لم يسقطوا برصاص جنوده، أما أن ينفي رقماً محدداً فلا يبدو أن له قوة على ذلك.

الرقم غير الموثق أقوى من الرصاص الذي يُطلقه الجنود. جميعنا نصدقه، وننام على وسائدنا بصفته الحقيقة التي لم يتم تدويرها. النظام نفسه يُصدقه، وعندما يتكلم ممثلوه على شاشات التلفزيون لا يجرأون على مناقشته. كيف يناقشون رقماً، فهل من شيء أقوى من الرقم وأكثر وضوحاً. الرقم هو الرقم، ولا شيء آخر. ثم أن الرقم حين تبثه وسائل إعلام، ويحمله متظاهرون على لافتاتهم، ويصرح به ممثلو منظمات دولية وتبنى على أساسه مواقف وتوجهات، يصير من المستحيل دحضه. لنتخيل مثلاً أن التنسيقيات بالغت وقالت إن القتلى أربعون في حين كان عددهم الحقيقي عشرين، وأن داود أوغلو وبعد أن سمع بهذا الرقم المبالغ فيه اتهم النظام بأنه نظام قتل وإجرام، فهل تصحيح الرقم سيكفل تراجع وزير خارجية تركيا عن موقفه. من قتل 20 يمكنه بسهولة أن يقتل 40، وتضخيم الرقم أدى الى استعجال في موقف أوغلو، لكنه لم يتسبب به.

الأرجح أن الأرقام هي أحد مآزق النظام في تعامله مع المحتجين، وهو حين اعتقد أن بامكانه استعمال أرقام موازية عن ضحايا من الجيش والأمن، ما لبث أن شعر أن أرقامه ارتدت عليه. فأن يقول إن مئات من عناصر الجيش قتلوا في المواجهات فهذا يعني أنه عاجز عن المواجهة، والقول هذا قد يُفسر على أن انشقاقات كبرى بدأت تصدع الجيش. ولهذا فإن منطق الكشف عن قتلى الجيش من قبل النظام يبدو متفاوتاً وقليل الانسجام. في جسر الشغور سقط الكثير من القتلى الجنود، وبينما قال النظام إنه تمكن من الإمساك بالوضع والقضاء على “الارهابيين”، جاءت رواية من تركيا تفيد بأن أكثر من 250 قتيلاً من الجيش السوري. هذا الرقم كان من المفترض أن يكون سلاحاً في يد النظام، لكن الأخير ارتبك فيه، فتردد في إشهاره وفي الوقت نفسه تحدث عن مقابر جماعية في جسر الشغور، مقابر دفن فيها من لم يُعِرف النظام بهم.

المعارضة أقوى من النظام في مجال الأرقام، في حين أن الأخير أقوى منها بما يملكه من رصاص. ثمة مبارزة واضحة بين الأرقام وبين الرصاص في سورية. ونحن بدورنا لا نميل الى التدقيق بأرقام المعارضة ولا الى مقارنتها ومطابقتها، وهذا وإن احتسب علينا بصفته انحيازاً للمحتجين، لكنه أيضاً من ثمرات انتصار الرقم على الرصاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى