صفحات الرأيعزيز تبسي

قول علي الشهابي ومقاله في مقاربة الإصلاح: خفة الكلام وثقل المهمة

 

عزيز تبسي *

لكم تمنيت قول “لا فتى إلا علي” وهو في محنته الراهنة، حيث وقع بين أيدٍ وقلوب لا ترحم. واذ أستعيد هنا كتابه، ولو بنقدية لا تُجامِل، فلكي يحضر الرجل الغائب في اقبية الاعتقال.

تواضعتْ برامج النضال الوطني – الديموقراطي للحركة الشيوعية العربية على رؤية مرحلية في جوهرها لاستكمال المهام التاريخية للحقبة الرأسمالية، التي افترض موضوعياً وتاريخياً، أن تنجزها الطبقة البورجوازية، تدعيماً لمصالحها السياسية – الطبقية. تأسس هذا البرنامج على حزمة افتراضية من المقومات، أساسها أن البورجوازية التابعة طبقة ثورية، كما كانت البورجوازية الأوروبية قبل قرنين، وتتمتع بإمكانات واعدة تاريخياً، لكنها ضيقة الأفق، مترددة، ضعيفة الإرادة…تميل أحياناً للمساومات السياسية مع الإمبريالية ومرتكزاتها في المنطقة العربية. إذاً، لا بد من إسناد العناصر الأكثر جذرية فيها بتحالف شعبي واسع قوامه الشغيلة والفلاحين الفقراء والبورجوازية الصغيرة، لتمكينها من إكمال مسيرتها وتحقيق دورها التاريخي.

الشيوعية الغافلة عن… الواقع

على هذه القواعد الثابتة، انتظمت برامج الحركة الشيوعية العربية المرحلية الوطنية – الديموقراطية في أفقها الاشتراكي، وتأسست كذلك انقساماتها. تيار راهن على/واستنخى (من النخوة) بورجوازية ثورية “افتراضية” يحمّلها مهام تاريخية، وهو التيار المسيطر، وتيار أخذ بالتجربة التاريخية، ليصل بعدها إلى إيقاف هذه المراهنة، معتبراً أن استكمال مهام المرحلة الرأسمالية بات يقع تنفيذه على الطبقة العاملة وحلفائها الذين يتوجب عليهم تشكيل التحالف الثوري البديل، وتيار ثالث، جذري، أبقى برامجه ونضاله على نقيض من الأطروحة الأولى، لكنه بقي هامشياً في الحركة الشيوعية.

تبين التجارب التاريخية للرأسمالية ومقارباتها النظرية، وهي غنية ومتعددة، بأن الأولوية هي لمشروعها الاقتصادي وتثبيت مواقع مصالحها الطبقية سياسياً وحقوقياً، سواء في إطارها التبعي أو الإمبريالي، وغير ذلك يمكن إدارة الظهر له والمناورة عليه والتراجع عنه وحتى خيانته.

وتبقى مهمة استكمال مهام المرحلة الرأسمالية العامل الحاسم في كل برامج الكفاح الوطني – الديموقراطي،ومنها نتبين كم هي شاقة مهمة الإصلاح، وكم ستكون مستحيلة بعد استنفاد فرصها الكثيرة، لتثبت التجربة بعد سنوات دامية، لا ما يناقض طرح الشيوعيين السوريين وسواهم فحسب، بل وليقوضه من أساسه. فهذه البورجوازية ليست عاجزة عن اجتراح خطط لتنفيذ مهام تاريخية ثورية فحسب، بل عاجزة عن الأخذ بمهام إصلاحية ضرورية، تبقي على سلطة طبقتها الاجتماعية، وعاجزة حتى عن أن تقيد نشاطها الاقتصادي والسياسي بسلطة ديموقراطية محدودة.

شيوعية مناضلة؟

تأتي أهمية قراءة كتاب علي الشهابي، “سوريا إلى أين؟” (الصادر عن دار المبتدأ، بيروت 2005) والحوار معه، لتبيان مدى الاضطراب في صفوف الحركة الشيوعية السورية، الذي بدأ ينكشف هزالها للعلن بعد وصول التجربة السوفياتية إلى مآلها التاريخي، بتحوّل بيروقراطيتها المدنية – العسكرية الامتيازية، المحجبة ببراقع أيديولوجييها، إلى رأسمالية سافرة سعت سريعاً لتغليف مصالحها بلصائق أيديولوجية، من وطنية ودينية وشعبوية وسلافية وسواها، حملت في عمقها العديد من سمات الرأسماليات التابعة، على المستويين السياسي – الحقوقي، والاقتصادي، الذي تثبّتَ على فعالية الرأسمال الريعي المعتمد على العوائد النقدية من تصدير النفط والغاز والخامات المعدنية، لتصل بدورها التاريخي الافتراضي وخياراتها الجديدة إلى أقصى سرعة في انفجار أزمتها وإفلاسها المهول العام 1998.

تتراكم هذه الحقائق التاريخية لتضع الشيوعية المحلية في حالة افتقاد للمرجعية، وافتقادها قبلاً لأي خيار كفاحي في الموقع الشعبي. التصقت تجربتها محلياً بالحكم الطويل لسلطة ديكتاتورية رأسمالية تبعية، واختار حزبها والجماعات الخارجة عنه لاحقاً، بقناعة ثابتة، التحالف مع تلك السلطة إلى الأبد. برغم ذلك، لم تخلُ الحركة السياسية في سوريا من بزوغ جماعات يسارية متنوعة أسست مرجعيتها وبرامجها الكفاحية خارج هذا النسق السياسي برمته. لكن الذي غلب في الحركة الشيوعية السورية، (إن كان بها غالب)، هو أطروحات وسياسات هذا الحزب والجماعات الخارجة عنه…الذين لم يكفوا عن الخروج على بعضهم من حين لآخر، خروج يحمل علامات الموت والتفسخ أكثر من علامات الحياة بحيويتها واندفاعها. ليس في فم الشيوعيين السوريين كلام لنسمعه ونعاينه، إنهم يرددون بلا توقف كلاماً هو عينه كلام البورجوازية، أو جناحها الأكثر رجعية وفاشية وتبعية. أنتجوا على مدى نصف قرن فكراً سياسياً متلاصقاً معها، أياً كانت الاشتقاقات العملية الناتجة عنه:

1) الاندفاع الترويجي للسياسات الإمبريالية، لتقويض سلطة ديكتاتورية هي التعبير السياسي – الحقوقي عن سلطة الرأسمالية التبعية.

2)التحالف مع السلطة السياسية للرأسمالية التبعية لمواجهة السياسات الإمبريالية.

إنهما وجهٌ وقفا لعملة زائفة واحدة، يؤسسان لفكر وممارسة لا نجد فيهما قط أي أثر لمشروع ثوري، يكون بوضوح حاسم التعبير عن مصالح الطبقات الشعبية، في توقها للحرية والعدالة.

الاصلاح، ولو بالتكيف مع الامبريالية واسرائيل

الإصلاح هو الموضوعة المركزية عند علي الشهابي، يقاربه بالتفلت من حقله المحدَّد واقعياً، السلطة السياسية ودولتها، والممكنات الاجتماعية المتوقعة أو المحتملة، والشروط الدولية التي تعيق إصلاحات لصالح الطبقات الشعبية، وتدعم إصلاحات التكيف مع الشروط الإمبريالية ومرتكزاتها. يهرول الشهابي إلى فضاء افتراضي للوصول إلى فكرته، عابراً على الأصولية الإسلامية والعولمة وإفلاس الحركتين القومية والشيوعية، ويعلق عليهم كطفل ثرثار ينظر من عربة قطار مسرعة، ليصل أخيراً بلا مقدمات إلى ضرورة توفير مستلزمات الانضمام للاتحاد الأوروبي!

الإصلاح الذي يتلمسه علي، لا يكون سوى بالتكيف مع الوقائع الإمبريالية الجديدة، ومرتكزها في المنطقة الكيان الصهيوني، حيث”ما عاد هناك عاقل يطالب بإزالة إسرائيل، بل بضرورة عدم التنازل لها أكثر من الاعتراف بحقها في الوجود ضمن حدود الرابع من حزيران، بحسب ما باتت عليه أعراف الشرعية الدولية، مما يستلزم ضرورة مباشرة التخطيط لكيفية تعايشنا معها” (ص33). ويعمل على الترويج للمشروع الرأسمالي، متجاهلاً عن عمد سلسلة الأزمات التي ضربته في أطرافه (آسيا 1996، الاتحاد البرازيلي 1997، الاتحاد الروسي 1998…) قبل أن تصل إلى مركزه الأميركي العام 2008 بعد ثلاث سنوات من إصدار الكتاب. ويقترح لذلك حزمة من الوصفات تقف على يمين شروط قروض صندوق النقد الدولي. يتفلت من المشاريع الإمبريالية السياسية -الاقتصادية التي تفرضها بقوة السلاح والهجوم الحربي على الهدف، ولا يعاين الثقافات الفاشية الجديدة والعنصرية والطائفية…الخ، التي تلازم هذه الهجومات الحربية. ليتبين كل يوم أن المشروع الرأسمالي لا يتمتع بأي جدارة تاريخية حتى تأخذ به الشعوب المضطهدة وشغيلتها.

الاستبداد / الديموقراطية

ساهم حكم الاستبداد الطويل في إعطاء الأولوية الكفاحية للمسألة الديموقراطية، مما تسبب في عمى عن مهام أخرى لا تقل جدارة عنها، وجعل تحقيق الديموقراطية بلا حامل شعبي ثوري، مما دفع العديد من الجماعات السياسية إلى توسل حلول إمبريالية على الطريقة العراقية. وهذا أوقع موضوعة الديموقراطية في مأزق آخر، أساسه جهل بالإمبريالية ومصالحها ومشروعها، وهي التي دخلت طورها الجديد في العولمة التي تتأسس فعاليتها على تصدير أزماتها مما يفرض موضوعياً العداء المطلق لحرية الشعوب.

رغم أن الديموقراطية لم تكن يوماً أداة معرفية لتحليل الوقائع وسبر خلاصاتها، وإنها ليست أكثر من أحد أشكال الحكم السياسي للبورجوازية، وما تزال تعيش في داخلها وعلى أطرافها أنماط صلبة من الفاشيات المحدثة.

لا يضبط علي نصه بشواهد تشير إلى من يناقشهم ويحاورهم ويسخر منهم. كأنه يؤسس نقده على سلسلة من السرديات الشفهية، محكوماً بحالة من التهور الفكري المخمور. لم يقارب تعقد شروط الحركة الثورية في سوريا، ولها أسبابهاالعميقة. كان ينبغي الوقوف عليها ومعاينتها والكفاح الصبور لتجاوزها. ويمكن التعويض عن غياب ضعفها الحركي بمقاربة نظرية – سياسية متماسكة، لا بهذه الثرثرة الطويلة،التي تشبه مطالعات “الفارس ذي الطلعة الحزينة” في سهول إقليم المانتشا ووديانه. يلوب مثل مريض بالإصلاح، أعيَت حركة التاريخ والقوى الفاعلة فيه علاجه، متخيلاً أن المهمة التاريخية هي مهمة شخصية. ولاينسى دوماً السخرية من الثورة، وفق ممكناتها التاريخية وشروطها، وتراه يعظ عن ضرورة الإقلاع عنها كمن ينادي بالإقلاع عن التدخين.

إقحام مهدي عامل

ولم أجد مسوغاً لاستشهاداته بمهدي عامل، وهي استشهادات تأتي من خارج منظومته ذات الصلابة النظرية والأفق المعرفي المنفتح على مقاربات عيانية كأزمة البديل الثوري، ونمط الإنتاج الكولونيالي والدولة الطائفية وحركة التحرر الوطني… كان يقول “ومعلوم أن التقليد سعدنة” كما يقول مهدي عامل (ص59)، وكان يستمتع بتسمية مهدي عامل “البداهة بلاهة” (ص89).

أما حديثه المسهب عن مفهوم التخلف الاجتماعي، حين يضعه في مواجهة الارتداد الأصولي، فيتبين أنه يعني به تلك الأنماط السلوكية التي تعبر عن بعض المزاج الشخصي، كاللباس والطعام والشراب والاحتفال بعيد الحب والاستجمام على شاطئ البحر…

الخلط بين التجربة وبين وعيها

يخلط علي بين التجربة وبين وعيها، وكأن ما ترسب على مهبط وعيه هو الحقائق عينها. تغدره تلك الذاتوية المتهورة التي تنسب نفسها عنوة إلى ماض ماركسي لا نكاد نرى أثراً له في كل الكتاب. لكن ما الذي يدفع علي الشهابي، وهو سليل اتجاه شيوعي نقدي، إلى هذه المقاربات المتهافتة، وكأن أزمة التجربة السوفياتية ووصولها إلى سقفها التاريخي، والتحولات التكيفية مع المشروع الرأسمالي – الإمبريالي في صيغتيه السياسية – الحقوقية والاقتصادية في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، قد بقيت خارج الوعي النقدي لمقارباته.

ومن حقنا السؤال عن وظيفة هذا النمط من الكتابة الذي يظهر بلا مرجعية وبلا إطار تصنيفي، كأنما هو دردشة طويلة تكاد لا تنتهي، لا رابط يجمعها سوى كاتبها، الذي يظهر ارتباكه من الصفحة الأولى، ربما لتفلّت الموضوع الذي يعمل على مناقشته من قدرته على ضبطه…

* كاتب من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى