صفحات المستقبل

كأس متة في حضرة الجيش

 


وحيد حموي

مررت في دمشق من زمن.. ووددت أن أكتب على سور في إحدى الشوارع اسمي وبعده عبارة “مر من هنا”.. ولكن دمشق ظلت تمر بي كنهر دائم.. تجذبني إليها رغبة    ورهبة..

الرغبة أنني كنت أود أن أكون شيئا فيها حجرا في تكية ما.. شجرة كينا عند ناصية شارع.. أو يكون لي فيها متكأ وملجأ.. ورهبة في أن الوجوه التي كان علي أن أقابلها لأكون شيئا كانت كالحة.. وقاسية ويشع من عيونها شرار الإقصاء والترهيب والتخوين.. كانت آخر محاولة لي.. لأنال شيئا منها.. حين توسط لي رجل يعمل في الدولة.. عند رئيسه في دمشق.. حضرنا سويا كنت ألبس أقصى ما ادخرته من ثياب لم تكن رسمية وهي أفضل ما لدي.. دخلنا على الرجل قبل نهاية الدوام وقام مرافقي بتزكيتي عنده بأنني نشيط ومخلص في العمل.. وأحتاج فقط “سندة ظهر” لأبدأ الحياة منتجا في هذا الوطن.. فضحك الرجل ثم تحدث مصرا على لهجة أصبحت عنوانا لكل مسئول كبير في الدولة وتملأها أحرف القاف.. قال لي: انظر إلي.. أستطيع أن أعطيك وظيفة الآن.. فأنا صاحب صلاحية كبيرة في هذه المؤسسة.. ولكني لن أوظفك.. أجبته مستغربا هادئا.. لماذا؟؟

قال: هكذا بكل بساطة الحقيقة أنا لا أوظف إلا جماعتي.. وبكل صراحة أنت غير محسوب علي.. وأنتم دخلتم عندي لأن مدير عام المؤسسة غير موجود.. قال له مرافقي نعم ولكن نطمع في كرمك.. قال: موجها كلامه إلي.. ومعيدا لي الملف الذي أحمله أقسم بالله أستطيع أن أوظفك ولكني لن أفعل:

قلت له تعجبني صراحتك وخرجنا

حين دخلت فرع المؤسسة في حماة في الأسبوع التالي: وجدت ثلاثة من زملائي في الجامعة ممن يحسبون على الرجل الذي قابلناه في دمشق على رأس عملهم ورغم أني تخرجت قبلهم بدورتين امتحانيتين وكنت أفضل منهم في الدرجة لكنهم كانوا جالسين على مكاتبهم وجلست عند أحدهم كضيف سألني:

“ماحسنت تدبر حالك”؟؟

قلت له لدي فرصة في الخارج.. ثم ودعته على أساس أني لن أعود ثانية بسبب سفري.. وتم السفر..

وغاب حلم دمشق عني طويلا.. ولكنها بقيت في خاطري.. ومازلت أحلم أن أدخلها فاتحا.. وغصبا عن الذين اضطهدوني أريد أن أشرب فنجان قهوة في مقهى شعبي هناك وأنا أضع رجلا على رجل.. وكل من يراني في الشارع يقول هنيئا لهذا الرجل.. “واضح أنه يتنعم بالحرية ولا يخاف من رجال الأمن والاضطهاد”

أحب دمشق.. التي كنت أراها كقصيدة لنزار.. وبي لهفة لها لدرجة الرغبة في عناق كيان ما بها.. ربما أن أتمدد على بسطة عشب أو أن أحتضن شجيرة ورد.. ولكنا كنا غرباء في سنين المرور بها.. الجامعة ثم الجيش.. في الجامعة شاب يافع وراغب في كل تفاصيل حياتها.. وفي الجيش جندي تافه لا معنى له سوى أنه يمضي الوقت بملل ليتخلص من هذا الارتباط عديم المعنى سوى أنه مفروض عليه ليعاني من الفرق بينه وبين سواه.. “الجيش لحماية الوطن والكرامة والوقوف بوجه هذا العدو الذي يقبع هناك خلف الهضبة الثلجية لجبل الشيخ.. ثم تنحسر عيناه إلى كأس المتة التي أصبحت تقليدا لكل الجنود الذين يعانون من الفراغ فيملؤونه بلعب الورق وشرب المتة.. المشروب الذي أدمنته عن غير رغبة ولم أعد قادراً على التخلص منه.. إنه المشروب الذي يأخذ وقتا طويلا ونحن نفسر معنى صمودنا كل هذا الوقت في وجه العدو الذي يحاربنا ولا نحاربه.. نحن السوريين نحب الأشياء التي تأخذ وقتا أطول ولهذا كان زميل لي يخترع كل يوم طريقة تجعل كأس المتة لا تفرط سريعا ويمكن المحافظة عليها تحت ضغط الماء الحار أطول مدة ممكنة دون أن تغرق حبيباتها أسفل الكأس.. لكن جميع محاولاته كانت فاشلة.

وبعد مدة من الزمن قاربت العشرين عاما.. وقبل أن أشعر بحنين لأيام الخدمة الإلزامية، أنقذني من هذا الشعور مشاهد الدبابات التي تخط طريقها بثقة نحو الجنوب والجنود الذين صار مظهرهم أكثر أناقة بلباسهم المموه.. ثم بعد ذلك وهم يمشطون الأرض برفقة دباباتهم ويدخلون محاور درعا فوق حقول خضراء من الحنطة.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى