صفحات الناس

كأننا محكومون بانعدام الأمل/ يوسف بزي

 

 

سيظل صواباً ما قاله الراحل سعدالله ونوس: «نحن محكومون بالأمل». حين قالها عام 1996، لم يكن قد شهد ما سيحدث تالياً في بلادنا والعالم، وخصوصاً في بلده سوريا. مع ذلك، تبقى تلك العبارة عين الصواب، انسجاماً مع المسؤولية الأخلاقية، أو تأكيداً على سنن الحياة. هي رهان على قوة الخير الإنساني، وعلى مفاجآت المستقبل.

 

مع ذلك، إذا تمعنّا في نبرة ونوس، في تلك الكلمة: «محكومون»، فلن نجد في عبارته أي تفاؤل. ويبدو «الأمل» هنا انتظاراً قدرياً، أو هو مجرد «صواب أخلاقي» لا يجوز نفيه. هي أقرب إلى صرخة درامية في لحظة ظلمة. فلا أحد يدعو إلى الأمل حين يكون الأمل ساطعاً.

 

الجملة كلها تبدو، في الأَصل، نابعة من يأس، وطالعة، أولاً، من واقع لا يطاق، من انسداد تام في الأفق. ولنتذكر أيضاً أن هذا «البيان»، كتبه ونوس حين كان يصارع مرض السرطان ويقاوم الموت، مدركاً تماماً أن لا «أمل» حقاً. وأبعد من مصيره الشخصي، كان بيانه عن أحوالنا، هو ابن جيل هزيمة عام 1967 المتصل بوعي النكبة، وبإخفاق وعود «عصر النهضة»، وهو الشاهد على خيبة «الحداثة» (وخياناتها) وفشل التنمية والإصلاح، بل هو الشاهد الكئيب على صعود الديكتاتورية وتبدد الحرية وسيادة القمع وتوحش السلطة. وأخيراً، كان الشاهد الغاضب على انزلاق مجتمعاتنا إلى حروبها الأهلية المتناسلة والعبثية، وعلى المصير البائس للمشرق بعد ذاك الدمار الذي جلبه طاغية العراق إلى كل الشرق الأوسط، مراكماً فداحة الهزائم والخراب طوال قرن كامل.

 

دعوة سعدالله ونوس، التي تلقفناها بزهو طفولي، كانت في حقيقتها بمثابة إعلان هزيمة بكبرياء، انكسار موفور الكرامة، تشاؤم عميق لا يخلو من مكابرة، إدانة تامة وجارحة لماضينا وحاضرنا.. وإعلان صريح بهيمنة اليأس.

 

وكان ذاك كله، في منتصف التسعينات ولم تكن الكوارث الأشد هولاً قد حلت بنا.

 

الأمل الغامض، المرجو، الذي كنا ننتظره منذ عقود، ظننا أنه تجلى أخيراً في آذار عام 2011. ظننا أن «الربيع»، بشمولية معانيه، قد حلّ أخيراً في ربوعنا. كانت تباشيره التي لا تخطئها عين، بدأت تتراءى لنا منذ العام 2005 في بيروت، رغم شراسة الإجرام والتحريض والتهديد بالحرب، وكانت سوريا كلها منذ «ربيع دمشق» الأول، المجهض، تتقدم نحو انتفاضتها الحتمية، نحو بداهة طلب الحرية والعدالة، ونحو صوابية الطموح الديموقراطي. وكانت تعانق الأمل فعلاً.

 

بدا قول «محكومون بالأمل» لأول مرة، يحقق معناه، فكانت الثورة السورية تجسيداً عنيداً ضد قوة اليأس. لكنها أيضاً باتت الآن المثال المرعب على خدعة التفاؤل. فمن زخم ذاك التفاؤل وإغرائه، ومن شدة الظلم والاستبداد أيضاً، انتفض الشعب السوري من أجل ذاك المستقبل، من أجل زمن لا يبدو فيه الأمل سراباً، ولا تبدو فيه الحياة لعنة دائمة وإذلالاً يومياً وخوفاً أبدياً.

 

خمس سنوات تقريباً من الصراع ضد نظام الوحشية، المتوغل في الدم والقتل والفظاعات، ضد الفتك الكيماوي والقصف العشوائي والتدمير المنهجي والبراميل العمياء والإبادة المنظمة والتطهير الطائفي والتهجير الجماعي… خمس سنوات من عذابات لا مثيل لها، ولم يصل الشعب السوري إلى نهاية ذاك النفق الشديد الظلمة والوحشة، كأنه وقع في ثقب أسود لا مفر منه ولا مهرب. وقع في نكبة نهائية. يا لتفاؤل 2011 الخادع والمميت.

 

خمس سنوات مرت، وفصول الحروب المتناسلة تتعاقب على الأرض السورية (والعراقية)، وليس في الأفق سوى المزيد من التعاسات والعذابات والفظاعات والموت العمومي. كل التضحيات العظيمة، كل الآلام الهائلة، كل البطولات الأسطورية، تبدو وكأنها تبددت هباء، ولم تخلف سوى أرض يباب وشعب منفي، هائماً في البرية وغريقاً في البحار.

 

كأننا اليوم نعيد عبارة سعدالله ونوس إلى معناها الأصلي: «إننا محكومون بانعدام الأمل».

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى