صفحات الناسمنذر مصري

كأننا موتى نطلّ من فتحة في الجدار على عالم الأحياء/ منذر مصري

 

مضت تلك الأيّام، أيّام حطّين الزرقاء، الأيّام التي كنت أصطحب بها ابنَيّ، أو قل كانا يصطحباني، إلى استاد «الباسل«، المكان الذي شهد أروع انتصاراتنا وأروع انتصارات الآخرين علينا، لنحضر مباريات حطّين، بفئاته الثلاث، الناشئين، والشباب، والرجال، يلعبون، بالتتالي، مستغرقين يوم الجمعة بكامله. الصغير، ولم يكن قد تجاوز السادسة، عيناه عالقتان بأقدام اللاعبين، يتقاذفون ويمرّرون الكرة. والكبير، الذي يزيده بست سنوات، همّه متابعة ما يحدث على المدرّجات، حيث جمهور حطّين يصدح بأهازيجه، ويقوم باحتفالاته، ويخوض معاركه، مهما كانت النتائج. تغير الزمن، لا شيء بقي على ما كان عليه، إبنَيّ كلاهما صارا شابين، يعملان في الخليج، ومنذ ما يقارب الأربع سنوات، لم يعودا للبلد، ولم أر أحدهما.

مضت أيّام حطّين، أيّام عمار عوض، الروح الحطّينية الزرقاء، أفضل لاعب في العالم، ليس مبالغة، أليس هو من سجل هدفين في مرمى المنتخب الإنكليزي خلال بطولة العالم للشباب، ولا تسألوني أيّ سنة! فقط اسمعوا هتاف جمهور حطّين الزاحف إلى بيته في حي الأمريكان: (ما بدنا الدوري ولا الكاس.. بدنا يرجع أبو الياس). الجمهور الذي شيّعوا عنه أنّه طائفي، بسبب أنّ أغلبه من أهالي الصليبة والسكنتوري وبستان السمكة، مع أنّي رأيت بأم عيني أعلامه تخفق على شرفات وأسطحة كل حي وقرية في الساحل السوري، وسمعته يصيح كلما رسم عمار عوض إشارة الصليب على صدره عند دخوله الملعب، أو صناعته وتسجيله للأهداف: «يسلملي صليبك أنا«. أيّام الهدّف، مهدار الفرص السهلة، قناص الفرص المستحيلة، سامر حج عمر، الذي رفع جيرانه أمام بيته لافتة، كتب عليها: «حارتنا تتهنّا.. سامر حج عمر من عنّا«. أيّام جمال كاظم، أفضل جناح يمين شاهدته عيناي، وأنا أعرف عمّا أتكلم، الذي عوقب مرتين بمنعه من اللعب طوال الحياة!؟ لمحته مؤخّراً، يقود سيارة أحد المخلّصين الجمركيين من معارفي، فما كان مني إلاّ أن صحت: «صديقي، أنتبه لي على جمال، لطالما تعلقت قلوبنا بقدميه«. أين أنت يا فنّان؟ يا سليم جبلاوي، يا صانع ألعاب حطّين، بأيّ مهنة اليوم تعيل عائلتك، الذي قال لي يوماً: «والله لا أعرف عملاً سوى كرة القدم«. وأنت يا عارف آغا، يا آغا الهدافين، يا هدّاف الدقائق الأخيرة، يا من أبعدوك عن المنتخب، بتلك الحجّة الواهية بأنك لاعب فريق، وليس لاعب منتخب! أوّل مرّة رأيتك، كانت في تعزية أمّ المخرج السينمائي أسامة محمد، وآخر مرّة في تعزية زوجة خالي، أمّ لاعب وسط تشرين، مروان نحلوس، ففوجئت بزيادة وزنك، للحدّ الذي يصحّ به ما يلقبك به محبّوك «الخروف«، أتراك عدت للعمل مع أبيك كنجار باطون، أم أنك كهشام عابدين ومروان منى تبحث عن عمل؟ لا أحد أعرفه يعرف أين أنت يا سيد بيازيد، يا بلدوزر حطّين والمنتخب السوري، أتراك عدت لليونان حيث كنت تلعب مع (برودفتيكي) أحد أندية الصف الأول، فأشاع التشرينيون أنّك تتاجر بالبندورة، أم ماذا؟ نعم حطّين مدرسة، فن ولعب وهندسة، مفرخة نجوم سوريا، من أيّام المدافعين خالد نحلوس ومحي الدين قدور في الخمسينات، والمهاجم محمد غزال في الستينات، إلى المهاجم كيفورك مردكيان وحارس المرمى مالك شكوحي في السبعينات، إلى عمار عوض وعمر كنفاني… عمر كنفاني!؟ كلّ شيء، ولا عمر كنفاني، اسأل عن الجميع، ولا تسأل عن عمر كنفاني، لأنك بكل بساطة تستطيع أن تأتي إلى مشروع الصليبة، الشارع المقابل لجامع الحسين – نعم جامع الحسين في مشروع الصليبة! أكبر تجمّع سكني سنّي في اللاذقية، والذي ما عاد يسكن فيه، للأسف للأسف للأسف، عائلة علويّة واحدة. بعد أن غادرته، بعد أحداث الثمانينيات، عائلات عديدة معروفة، مثل خير بك، وسعود، وحكيم، وسواهم، ممن كانوا جيراننا، وأهلنا، وأخوتنا، إلى الأحياء الجديدة التي قامت حول المدينة – وتجده، بالعودة لعمر كنفاني، رغم الصعوبة البالغة في أن تصدّق أنّ هذا المتشرّد النحيل الأقرب للسواد بأسماله، هو عمر كنفاني، الشاب الأشقر ذو البنية القوية المعتدّ بنفسه الذي أتذكره، جالساً على حافّة الرصيف، يدخّن سيكارة حمراء طويلة، وبيده كازوزة بنكهة البرتقال، كما يفضّلها، أو ربّما يكون قد ملّ الجلوس الطويل، وراح يدور هائماً على وجهه حول الصالة الرياضيّة المغلقة، عند عمود «سانت أليكسي« الذي يسميه اللوادقة «سنكلكس«، أو على شاطئ الكورنيش الجنوبي «فشيفش«، وحيداً دائماً، يتكلم بصوت مرتفع مع لا أحد، عن إمرأة، «ليدي«، أعدت له مكيدة، وأبلغت عنه الجهات الأمنية، مرطّناً ببعض الكلمات الإنكليزية، التي عاد بها من سفره للندن برفقة سومر الأسد، الذي تكفّل في أواسط عقد التسعينات من القرن الماضي، برعاية نادي حطّين، بمواجهة ابن عمه فواز الأسد راعي نادي تشرين. وقد تسبّب رفع جمهور حطّين للافتة: «سومر وحطّين للأبد«، والدوران بها في مضمار الملعب، في إحدى المباريات المنقولة تلفزيونياً، باعتقال الشباب الأربعة الذين كانوا يحملون اللافتة، رغم تدخل سومر الأسد للحؤول دون ذلك، وبالطلب منه، عندما وصلت أخبار الواقعة للقصر، ما أدى الى خروج سومر من سوريا، فكان أن التحق بأبيه رفعت الأسد المقيم في أوروبا، بعد فشل محاولته الاستيلاء على السلطة، أثناء مرض أخيه الكبير، أواسط الثمانينات، حيث، وبالعودة مرة ثانية لعمر كنفاني، عاش هناك عدّة سنوات، تابع الحطّينيون خلالها ظهوراته المتقطعة كمذيع رياضي في القناة التلفزيونية، التي أنشأها رفعت الأسد. ولما عاد، لا أحد يدري ماذا حصل معه، ليتحوّل إلى هذا الرجل الذي وصفته لكم. نعم، ديوني لهؤلاء ليست قليلة، وإذا كنت أصدق أنّ كرة القدم إحدى الصور الجميلة لعالمنا، وأنّها قادرة على توحّيد هذا العالم، وإنقاذه، ولو لأيّام أو لساعات، فذلك بفضلهم.

بقيت أتابع مباريات حطّين، رغم سفر ابني خالد، الذي بلغ به تعلّقه بحطّين، إلى أن يغدو أصغر أعضاء مجلس إدارة حطّين في تاريخه، وأن ينشئ أوّل موقع رياضي سوري على الأنترنت، بلغ عدد أعضائه الآلاف، ليس من اللاذقيّة وحسب بل من كافّة أرجاء سوريا، وكلّ مكان في العالم يتواجد به الحطّينيون، فقد كانوا يدخلونه ويتابعونه من روسيا وأوكرانيا والسويد وأميركا الشمالية والجنوبية، وحتى الصين. ولكن ما أن بدأ الربيع العربي في سوريا، حتى بادرت السلطات الأمنية، بمنع المبارايات بأنواعها، وأيقاف الدوري إلى أن تستقر الأحوال. الأمر الذي لا يحتاج تفسيراً، فلو قامت المباريات في مثل هذه الأجواء، لما كانت الجوامع المكان الوحيد لخروج التظاهرات، ذلك أنّ الهتافات التي كانت تطلق خلالها، كانت تدل على أنّ جماهير هذه الأندية، هي نفسها التي تتظاهر في الشوارع، الهتافات ليست المتطابقة حرفياً وحسب كأن يصرخ الشاب المحمول على الأكتاف: «سوريا« فيردّ الجمهور: «منحبِّك«، و«واحد تنين تلاتي.. سوريا يا حياتي«، بل باللهجة والأسلوب.. والروح أيضاً. ذلك العطش للتعبير، للانطلاق، للحرية، لأثبات الذات، للقول إننا موجودون، وإننا شعب كغيرنا من الشعوب لديه مطالب ورغبات وآمال. لهذا عندما حصل اللقاء بين محافظ اللاذقية رياض حجاب والمتظاهرين المتجمّعين عند مدخل الصليبة، أشيع أنّه كان من المطالب الأساسية، فوز حطّين بالدوري!؟ وربّما إذا كان ذلك صحيحاً، فإنه لا أكثر من مزاح ساخر، شعرت به يسود الموقف، قبل مغادرتنا أنا وأخي المكان ما أن بدأ المحافظ خطابه. إلاّ إن شعوراً حقيقياً مثبتاً بالقصص المتناقلة شفاهياً، والوقائع التي لا تحتاج لأدلّة، عند الحطّينيين، لاعبين وجمهوراً، بأنّه يوجد من لا يسمح لحطّين بالفوز بلقب الدوري، مهما بلغ علو كعبه.

ومنذ فترة، رغم الأوضاع غير الملائمة على الإطلاق، في حمص: (الوثبة والكرامة)، وحلب: (الحرية والاتحاد)، والقامشلي: (الجهاد- بعبع الشمال)، ودير الزور: (الفتوة)، والحسكة: (الجزيرة)، ودرعا: (الشعلة)، أعاد الإتحاد الرياضي، مباريات الدوري بتوزيع الفرق إلى مجموعات، تجري مبارياتها، غالباً، من دون جمهور، وفي المناطق الآمنة، تحت سيطرة النظام، وضمن قبضته الأمنية، مئة بالمئة، كملعبي الجلاء وتشرين في دمشق، ومدينة الأسد الرياضية التي تقع شمال اللاذقية بعدّة كيلومترات، والتي باتت بأبنيتها وحدائقها مركزاً للنازحين السورين من المناطق السوريّة الساخنة، وبخاصّة من حلب. وأحسب أنّه منذ أسابيع، جرت مبارة في اللاذقيّة، أحد طرفيها فريق الكرامة الحمصي، بطل الدوري السوري لمواسم عديدة، فقد رأيت اللاعبين يهبطون من حافلة علقت عليها لافتة باسم النادي، وشاب يحييهم من الرصيف الثاني، ويسألهم بصوت مرتفع: «معكم عبد الباسط ساروت؟« حارس مرمى الكرامة ومنتخب شباب سوريا، فضحكوا معتبرين سؤاله مزاحاً لاذقانياً لا أكثر.

نعم أنا يا يوسف (بزي) ويا يحيى (جابر) ويا بسام (حجار) ويا حسن (داوود)، هكذا، إذا خدمتني الذاكرة، بدأت مقالي عن كأس العالم /2006/، بعنوان (كن طبيعياً كن حطّينياً). مات بسام، دون أن أسمع منه جواباً، وفي آخر أيّامه وآخر أشعاره بات متصوّفا، نعم أنا شاعر أعتبر كرة القدم شعراً يتضمّن كل مباهج الشعر ومرارته، وهذا ليس كلاماً غريباً أتقوّله بهذه المناسبة، لأنّ من يعرفني ولو بالحدّ الأدنى، أو من قرأ ما كتبته منذ زمن وأعدت كتابته مراراً، يعرف أنّي الشاعر الذي يبدأ صباحاته بكرع زجاجة مياه غازيّة، ويعتبر ضجّة الشارع في الصباح والظهر والمساء، سوناتا موسيقيّة بثلاث حركات.

ولكنّي أنا أيضاً، مضيت، مضيت مع الأيام، التي كعادتها ظلّت تأتي وتذهب، مضيت مع الناس الذين مضوا والذين بقوا، مضيت مع المكان الذي لم أبارحه، لا أحد يدري إلى أين! لا أحد يدري إلى أين يمضي السوريون بضمائرهم المعذبة، وقلوبهم المطعونة، وأرواحهم الضائعة. ومهما حاولوا أن يتسلوا، أن يتلهّو، بشيء ما، ليتزودوا بما يساعدهم على المتابعة، ما يؤمن لهم بعضاً من القدرة على البقاء أحياء، لا يستطيعون أن ينسوا، كيف لهم!؟

أعلم أنّ تاريخ السوريين مع بطولة كأس العالم، مثلهم مثل أغلب الشعوب العربية، التي لم تحظ منتخباتها بالمشاركة بها، وحتى من أتيح لهم مرّة أو مرتين المشاركة وتحقيق شيء ما، لا يعدو عن كرع هذه الكأس مليئة لآخرها بالمرارة والأسى. ذلك أنّه، في غفلة عن القدر، كادت سوريا، أن تنال فرصتها وتشارك لأوّل مرّة، في بطولة العالم في المكسيك (1986)، لولا هزيمتها (1-3) أمام العراق، محطّم آمال الكرة السورية، كان ولا يزال، في مباراة الإياب التي أقيمت في مدينة الطائف في السعودية، بسبب الحرب العراقية الإيرانية. ما أوقع في ظنّ السوريين أنّ الحكم الكويتي أعطى العراقيين الفوز، عقاباً على موقف النظام السوري من الحرب!؟ غير أنّ السوريين كانوا من التواضع بحيث قبلوا أن تقتصر مشاركتهم في كأس العالم بحكمهم الدولي جمال الشريف، الذي بدوره اقتصرت مشاركته في التحكيم الدولي على بطولة العالم (1994)، نتيجة سلسلة من القرارت التحكيميّة العجيبة التي اتّخذها الرجل الصارم كنظام بلاده، البطاقات الصفراء التي رشرشها بكرم بالغ على من يستحقّ ولا يستحق، وطرده للمكسيكي لويس غارسيا والبلغاري إميل كرمنلييف. مما أدّى بالبلغاريين للبحث عن السوريين المتواجدين في بلغاريا، للانتقام منهم. ولولا علاقات الصداقة التاريخية بين الدولتين لما انتهت الأمور على خير.

والآن وبعد كل هذا الهذر، ماذا عن بطولة العالم في البرازيل هذه السنة. البرازيل التي لا أدري كيف وجدت نفسي من أعدائها، مبرراً موقفي المخزي هذا، بافتعالها الهزيمة أمام النرويج، ما أدّى لخروج المغرب من البطولة (1998)، أو، بتفكير استراتيجي أعمق، بكونها كروياً تعادل الولايات المتّحدة سياسياً، أي أنّها الدولة الإمبرياليّة في عالم كرة القدم، أو بكون اللاعبين البرازيليين المنتشرين في كل أندية العالم، أشبه بمرتزقة، وهذا كلّه، أصدق، ليس صحيحاً، ويعارضني به كلّ أصدقائي، وبخاصّة المتيمين بالبرازيل كأسامة محمد ونجيب عوض وزياد عبد الله وآخرين كثيرين. ولكن في كرة القدم كما في سواها من القضايا العاطفية، تجد نفسك، لأسباب أنت بالذات لا تستطيع تفسيرها، من أنصار هذا الفريق، وكارهي ذلك الفريق، كما يحصل عندما أدافع عن كوني من أنصار ريال مدريد، ذي التاريخ الفرانكوي، يقولون، ضد برشلونة الكاتالوني!؟ إلاّ إنّي، ككلّ مرّة، سأكون من مشجعي المنتخبات العربيّة التي تحطّم قلوبنا وهي تسقط منذ الدور الأولى، ولحسن الحظ، لم ينج من التصفيات سوى منتخب عربي واحد، هو المنتخب الجزائري كما تعرفون، رغم أنّه كان من المحتمل حتى التصفيات الأخيرة، أن تصعد معه، منتخبات المغرب وتونس ومصر!؟ (أيّ حلم هذا يا تمام هنداوي!؟)، وأعتقد أنّ مجرد وصول الجزائريين للدور ال «16« سيعتبر إنجازاً مشرّفاً.

وهكذا لليوم لم أقرر أيّ منتخب سأناصر، وأظنّني كالعادة، في البداية سأكون مع منتخبات عديدة أفضلها، إلى أن يأتي وقت تتبارى فيه هذه المنتخبات مع بعضها، فيصير محتماً علي أن أختار. وبما أنّي ريالي، فسيكون المنتخب البرتغالي بقيادة كريستانو رونالدو، المنتخب الأوفر حظّاً بتشجيعي، ولكني أيضاً أحبّ منتخب الديوك، للتواجد الدائم للاعبين من أصول مغاربية، زين الدين زيدان سابقاً، وسمير نصري وكريم بنزيما وعادل رامي حالياً. كما أنّي سأكون من مشجعي الأسود الثلاثة، كما وعدت صديقة لي، أهدتني بمناسبة عيد ميلادي، وسادة صغيرة طبع عليها درع المنتخب الإنكليزي، وذلك إذا حالفهم الحظ، على غير العادة، مع أني لا أثق بقدرات مدربهم الفنلندي روي هدجسون، ولا بعقليته المحافظة، ولا أدري أيّ قصور نظر يعاني منه اتحاد كرة القدم الانكليزي ليقوم بتعيينه، خصوصاً بعد تجربته الفاشلة في تدريب ليفربول. كما أنّه لن يكون لديّ مانع من أن يؤتي الحظ، لأنه بالتأكيد بأمس الحاجة إليه، المنتخب اللازوردي، لكونه منتخب إبني خالد منذ أن ولد! والذي تؤدّي كل خسارة له لانهيار نفسي، كنّا أنا وأمّه نخشى عليه منه دائماً. ولكن في الحقيقة، ليس هذا كلّه هو المشكلة الحقيقية، التي تتمثل لي في أمرين، الأول: مع من سأكون أمام شاشة التلفزيون، أصيح، وأراهن، وأصفق، وأسبّ، وأركل بقدمي الهواء كما كان يفعل أبي، وأرقص، وأنا أشاهد المباريات؟ ليس فقط أنّ كلا إبني ليسا معي، بل أيضاً أصدقائي الكرويون الذين ذكرت بعضهم، وما عاد حولي إلاّ القلّة الباقية منهم، أين نجيب عوض، يستغرب لماذا أشجع تركيّا ضد البرازيل! أين ماهر أبو ميالة يقرّعني على تشجيعي المنتخب الأميركي بقيادة مهاجم فولهام كلينت ديمسي ضد منتخب غانا!؟ فأصيح: «أنظروا كيف الغانيون يرتدون ألوان نادي تشرين الصفراء والحمراء!؟«. أمّا الثاني، النصف الثاني من المشكلة، وأظنّه في الحقيقة، أكثر من نصفها بكثير، وربّما أصلها ومنبعها، هو ما حدث ويحدث في وطننا، ما حدث ويحدث لأهلنا وشعبنا، المأساة الكبرى التي نحياها ونعاني منها، ذلك الموت والخراب والنزوح والتشرد، كيف لأناس من أمثالنا أن يجلسوا وكأنّ شيئاً لم يحدث، أو كأنّ ما حدث يمكن تحييده ولو لساعات، مهما كانت التفسيرات، ومهما استطعنا من إيجاد المبررات، بأنّ الحياة دائماً أقوى، وبأنّه علينا أن نعيش ونستمر مهما بلغت قسوة الظروف، وبأنّه، كما حصل لشعوب أخرى كثيرة، أصابتها النكب والمآسي، ولكنها بعد ذلك خرجت منتصرة على نكبها ومآسيها، وعادت للحياة، ولا أجد من الضرورة أن أضيف أيّ صفة عليها، أقول، مهما كانت المبررات، فإنه يبقى طاغياً هذا الشعور، الذي ربّما، لا يعادله قسوة أيّ شعور آخر، بأننا موتى نطلّ من تلك الفتحة في الجدار على عالم الأحياء، وأنّ ما نراه يحدث في عالم ليس عالمنا، فهي بطولة كرة قدم رائعة تجري في العالم الآخر..

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى