صفحات الناس

كاتيوشا/ غسان زقطان

 

 

عشية الحرب العالمية الثانية ظهرت أغنية “كاتيوشا” إلى روسيا السوفيتية، ( لحنها ماتفي بلانتر، وكتبها ميخائيل ايزاكوفسكي، وغنتها لأول مرة المغنية الشعبية الروسية ليديا روسلانوفا)، كان الجيش الأحمر يتأهب للحرب وهو ينظر بحذر وتوجس نحو ألمانيا التي بدأت بالتهام أوروبا، الأغنية البسيطة عن “إيكاترينا” البنت الفلاحة الروسية التي تنتظر حبيبها الجندي في الجيش الأحمر، ستتحول خلال سنوات إلى نشيد وطني شعبي بموازاة ” النشيد الأممي” الذي ترجمه الشيوعيون إلى لغاتهم ووقفوا بانضباط حزبي وهم ينشدونه بقبضات مرفوعة في احتفالاتهم واجتماعاتهم الطويلة وهم في طريقهم إلى المعتقلات حيثما وجدوا.

“كاتيوشا” كانت الاقتراح الآخر، الراقص والأرق والممتلىء بالحب والانتظار، لا ضرورة للتلويح بالقبضات المغلقة، لا ضرورة للتوتر والتجهم والغضب، ثمة قصة حب هنا، شخصية جداً وتتسع لبنت وولد على خلفية الإخلاص، هي وعد أيضاً بالانتظار وتلويحة تستدرج الطبيعة الروسية، بكلمات بسيطة تبدأ من صباح روسي نموذجي على ضفة نهر تذكر بقوة بصباحات “شولوخوف” في الدون الهادىء، ورومانسية مبنية على الانتظار.

ورغم ذلك أطلق اسمها على منصات إطلاق الصواريخ التي حملت اسمها إلى اليوم، والتي طغت على الاسم الآخر لهذه الراجمات السوفيتية التي ظهرت كسلاح مدمر عشية الهجوم المضاد للجيش الأحمر في ستالينغراد، بإيقاعات إطلاقها المتلاحقة عندما سمعت لأول مرة، حين أطلق عليها الجنود السوفييت في حينه “أورغن ستالين” ، في الزمن الذي كان كل شيء يسمى باسم الديكتاتور الشيوعي، المدن والقرى والأسلحة والأناشيد، كان بعض المتحمسين من شيوعيي العالم يطلقون على الاتحاد السوفييتي نفسه “بلاد ستالين”، في تلك الحقبة.

ستظهر كاتيوشا بفستان زهري منقط بالأبيض في أفلام الحرب العالمية الثانية، وستقف على عربة نقل عسكرية اتخذتها كخشبة مسرح، محاطة بجنود الجيش الأحمر الذين يحملون باقات صغيرة من الزهر البري الأبيض، وسيصعد الجنود إلى عربة النقل ويحيطون بها وهم يرددون اللازمة ويشيرون بزهورهم.

في الأربعينيات انتقلت كاتيوشا إلى أوروبا حيث ظهرت الأغنية باللغة الإيطالية عبر حركة مقاومة الفاشية، ووصلت إلى كل بيوت إيطاليا كان مجرد ترديدها وحفظها حتى بلغتها الايطالية يشكل عمل مقاومة يستوجب العقاب في ذلك الوقت.

ستظهر بعد الحرب كخلفية “فيديو كليب” مبكر جداً يظهر فيه ستالين بغليونه الشهير على إحدى سفن بحارة البلطيق، ثم رفقة جنرالات الجيش الأحمر مروراً حتى مشهد الجندي السوفيتي وهو يرفع العلم الأحمر على الرايخستاغ في قلب برلين، وجلوس ستالين بمعطفه العسكري المزرر حتى الذقن إلى جانب تشرتشل وروزفلت، في الصورة الشهيرة عندما قسموا العالم في يالطا، العالم الذي ينفجر الآن، بحيث يتداخل الجندي الغائب المحبوب بملامح ستالين.

ستواصل “كاتيوشا” حضورها وتجددها وتعزز نفوذها حتى تصل إلى فلادمير بوتين، الذي يحاول أن يكون مزيجاً من بطرس الأكبر قيصر روسيا الشاب، الذي حمل جذوع الأشجار الكبيرة بجسده القوي مع العمال الروس وهو يبني “سان بطرسبرغ”، أصبحت لينينغراد خلال الحقبة الشيوعية في محاولة لاستبدال لينين ببطرس قبل أن تعود إلى اسمها الأول الذي ولدت به، بوتين الذي يحاول أن يكون مزيجاً جديداً من بطرس وستالين، كان بحاجة إلى مساعدة “كاتيوشا” أيضاً، وسيظهر في شريط مصور على خلفية غناء كورالي للأغنية وهو يحتضن فهداً أو بين كلابه الأثيرة أو وهو يمسك لجام حصان بصدر عاري وجسد رياضي، وهو يطلق النار من مسدس مطعم بالفضة، يقود دراجة نارية، يقف على مدرج مطار وفي الأفق شبح لطائرة سوخوي، أو يلاطف طفلة صغيرة، وفي لقطات أخرى يجلس مع زعماء العالم بملامح جادة وعيني صقر وإصبع مرفوعة، في الخلفية تواصل كاتيوشا السوفيتية نداءها على حبيبها الجندي الذي يحرس البلاد والذي سيشبه فلادمير بوتين في النهاية، بينما هي تحرس الحب.

ثمة نسخ لا حصر لها لـ “كاتيوشا”، نسخ بأصوات متعددة قوية ومعبرة وتوزيع موسيقي مؤثر، ولكن أكثرها رداءة هي تلك التي استعارها إعلام النظام السوري بنسختها الروسية وبدأ بثها على فضائيته، استعراض بائس لمغنية شقراء بزي الجيش الأحمر، رغم أن فكرة الأغنية برمتها مبنية على بساطة الفتاة وريفيتها وغياب الجندي، بحيث تم استبعاد الجندي تماماً وتجريده من زيه العسكري واستبدال كل ذلك بمغنية رديئة وعازف أكورديون.

بموازاة وصول السلاح الروسي والخبراء والمهندسين والجنود الروس وتصريحات بوتين ووزير خارجيته المبنية على ضخ الأكسجين في نظام الأسد، يذهب الإعلام الرسمي السوري إلى تراث الجيش الأحمر ليحضر “كاتيوشا” لمساعدة الأسد، الذي لا يبدو ملائماً للفكرة، فكرة الجندي الذي يحرس البلاد.

لعل سبب الاختيار هو، إلى جانب رداءة الذائقة، زي المغنية الذي يذكر بـ “طلائع البعث”، المغنية التي تملأ شاشة المحطة السورية وتغني لجندي في الجيش الأحمر بينما يلوح لها جمهور بأعلام روسيا الاتحادية.

الرغبة اللحوحة وراء كل هذا هي، ربما، الذهاب أبعد من الحديث عن “مبادرة روسية” لإحياء الأسد وبعثه من جديد، مبادرة يبدو أنها وجدت صدى لدى التحالف الغربي وأردوغان خليفة الإخوان المسلمين، تسمح بتسلل النظام في الفترة الانتقالية المقترحة.

الإعلام السوري الرسمي يبحث عن شريك في حربه على شعبه، بحيث يمكن أن يبعث إشارة إلى الشرائح المتورطة من قاعدة النظام وبيئته الحاضنة التي أصابها الوهن واليأس وبدأت بطرح أسئلة كثيرة، إشارة توحي بوصول الدعم، والتحرك الروسي الدراماتيكي الأخير سيوفر البضاعة، ووجود كاتيوشا تشبه طلائع البعث وتغني بالروسية سيجعل من الإشارة أقرب إلى معجزة.

موقع 24

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى