صفحات الثقافة

كارلوس فوينتس.. حاور نيتشه في شرفة منزله قبل رحيله


أحد أقطاب السرد في العالم ومن أكثرهم إنتاجا.. لكنه أقلهم نصيبا في الترجمة للعربية

جريدة الشرق الاوسط

الصفحة: المنتدى الثقافي

دبي: شاكر نوري

لم يترك الروائي والكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس سيرة ذاتية قبل رحيله عن عمر ناهز الـ83 عاما عن عالمنا في الخامس عشر من هذا الشهر، كما يفعل معظم الكتاب والروائيون الآخرون، لأنه ببساطة كان يكره أن يسرد حياته بنفسه أو من ينوب عنه في ذلك لأن كتبه تتحدث عنه. إلا أن دار النشر المعروفة «ألفاغوارا» صرحت: «فوينتس ترك كتابين جاهزين للنشر، الأول بعنوان (شخصيات)، والآخر رواية بعنوان: (فيديريكو في شرفة منزله) حيث يظهر فيها الفيلسوف الألماني الكبير فريدريك نيتشه في الساعة الخامسة فجرا في شرفته ليتحاور معه الحوار الأخير قبل رحيله». وقد صرح الراحل لصحيفة «إل باييس» الإسبانية قبل رحيله بأيام بالشروع في تأليف رواية جديدة بعنوان «رقص المئوية». كان رحيله مؤثرا ومدويا في العالم أجمع. فقد نعاه الكبار: فيليبي كالديرون رئيس المكسيك، وكونسويلو سايثار رئيسة المجلس الوطني للثقافة والفنون في المكسيك، وماريو فارغاس يوسا، والشعب المكسيكي. وكذلك صديقه الكاتب البيروفي ماريا فارغاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل 2010 الذي دامت صداقتهما لأكثر من خمسين عاما، وقال عنه: «ترك الراحل وراءه أعمالا ضخمة تشكل شهادة معبرة عن كل المشكلات السياسية الكبرى والوقائع الثقافية لعصرنا هذا.. لن يفتقده أصدقاؤه فحسب؛ بل الكثير من القراء أيضا».

ولد في العام الذي ولد فيه غابرييل غارسيا ماركيز في مدينة اسمها بنما بالمكسيك في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1928. وتوزعت سنوات طفولته بين كيتو ومونفيديو وريو دي جانيرو وواشنطن وسانتياغو وبيونس آيرس، متنقلا بين هذه البلدان والمدن بسبب اشتغال أبيه في السلك الدبلوماسي، مما أكسبه معرفة واسعة باللغات والثقافات المختلفة. وربما هذا ما أطلق في نفسيته روح المغامرة والسفر، حتى إنه قبل رحيله بأيام كان عائدا من رحلة استغرقت شهرا للولايات المتحدة الأميركية والبرازيل والأرجنتين وشيلي، حيث أقامت جامعة جزر البليار الإسبانية آخر تكريم له. وبعد ذلك، توزعت حياته بين مكسيكو وباريس ولندن التي كان يفضل فيها الكتابة. وأينما كان يعيش الكاتب، كانت المكسيك مركز اهتمامه الأول ولأخير، ووصل انشغاله بها إلى حد الهوس كما يقول: «المكسيك بلد الألغاز، وهو شيء جيد لنا لأنه يجعلنا يقظين على الدوام، ونسعى إلى فك رموزه وأسراره. ولكي نفهم البلد، يجب أن نستحضر الثقافة الباروكية، بكل تعقيداتها ومفاجآتها».

درس في جامعات هارفارد وكامبريدج وبرينستون وكولومبيا، وقد حصل على شهادات دكتوراه فخرية من جامعات عدة عبر العالم. وفي عمر 16 عاما، عاد كارلوس فوينتس الشاب إلى المكسيك، لكنه التحق بثانوية فرنسية، ثم درس الحقوق في جامعة مكسيكو، ثم ذهب إلى جنيف لإكمال دراسته العليا. وهناك اشتغل في المنظمة العالمية للعمل التابعة للدولة المكسيكية.

بدأ الكتابة في عام 1954 ونشر مجموعته القصصية «أيام الكرنفال». وبعدها كتب «المنطقة الأكثر صفاء» 1958، و«موت أرتيميو كروث» 1962 التي يصفها كاتبها بأنها حوار مرايا بين جوانب شخصية أرتيميو كروث العجوز المحتضر الذي يحاول من خلال الذاكرة ترميم ما تبقى من حياته خلال اثني عشر يوما بمزيج من الواقع والفانتازيا والذاكرة. وتوالت رواياته الأخرى: «منطقة مقدسة» – «تغيير الجلد» – «أرضنا – «الغرينغو العجوز» – «كريستوبال نوناتو» – «آورا». ومجاميعه القصصية: «شجرة البرتقال» – «الأيام المقنعة» – «نشيد العميان». إضافة إلى كتبه في النقد الأدبي والتنظير للكتابة الجديدة، والدراما والسيناريوهات والمقالات الصحافية. وظهرت روايته « الغرينغو العجوز» على الشاشة، وأخرجها لويز بوينزو، وقام بتمثيلها كل من النجمين الأميركيين غريغوري بيك وجين فوندا. و«الغرينغو» تشير بشكل عام إلى كل من يتكلم لغة لا يفهمها المتكلمون بالإسبانية وبشكل خاص موجهة إلى الأميركيين. وكتب فوينتس سيناريوهات للسينما مثل «مطاردة الإنسان»، خصيصا للمخرج الإسباني لوي بونويل، لكنه لم ير النور على الشاشة أبدا، والتي اقتبسها من رواية أليخو كاربنتر. في أواخر الثلاثينات، تأثر فوينتس بفيلم هنري فوندا «عناقيد الغضب»، وما حمل من تصورات حول سنوات الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها الاجتماعية آنذاك.

تأثر فوينتس كثيرا بسرفانتس وشخصية دون كيشوت، وشكسبير وبالروائيين الأميركيين الشهيرين: دوس بابوس، وفولكنر. في منتصف الخمسينات، أسس مع أكتوفيو باث «المجلة المكسيكية للآداب» ودار نشر باسم «سيغلوا القرن الـ21». بدأ في شيلي بقراءة غابرييل ميسترال وبابلو نيرودا وأدرك حينها أنه لا يمكن فصل «الأدب عن السياسة». وفي الأرجنتين، رفض متابعة الدروس بسبب صعود الفاشية العسكرية إلى السلطة. ثم سرعان ما توجه إلى الأدب واكتشف الحب والتانغو وبورخيس. «منحني بورخيس الدرس المباشر والكبير، وتعلمت أن الشيء الأساسي في أدبي هو أن الماضي يتجدد على الدوام». لم يكتف في روايته الشهيرة «الغرينغو العجوز» بالشخصية التاريخية أمبروس بيرس، بل أضاف إليها الشخصية المتخيلة «الغرينغو العجوز»، على ضوء الثورة المكسيكية 1910 ليقول للقارئ إن ثمة حقيقة أكثر ثراء يبدعها الفن؛ هو المزج بين ما هو تاريخي وما هو متخيل. هكذا تولد الرواية الثورية حقا، كما يقول صديقه، خوليو كورتاثار، بأن الرواية لا تعبر عن الثورة بالشعارات المباشرة واللغة التقريرية، ولا تكتفي أن يكون لها مضمون ثوري، بل يجب عليها تثوير شكل الرواية. كان فوينتس لصيقا بلغته الأم التي لا يفارقها في الكتابة، مبررا ذلك بأن «هناك أشياء لا يمكن التعبير عنها إلا بالإسبانية».

لم يمنعه إنتاجه الأدبي، مثلما فعل والده، من خوض العمل الدبلوماسي، وفي فترة ما كان قريبا من فيدل كاسترو، وعضوا في الحزب، معتبرا عمله الدبلوماسي ينصب في خدمة اليسار. وشغل منصب سفير المكسيك لدى فرنسا من عام 1974 إلى 1977. وقد قلده الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران وسام «جوقة الشرف» في 1992. وكانت له علاقات مميزة مع فرنسا، معبرا عنه بقوله: «بالنسبة لنا، نحن الأميركيين اللاتينيين، تمثل فرنسا على الدوام نقطة توازن بين إسبانيا الجنوبية الرجعية صاحبة محاكم التفتيش، والشمال البارد والمادي». إلا أنه تنازل عن منصبه احتجاجا على تعيين الرئيس المكسيكي الأسبق دياث أورداث سفيرا للمكسيك لدى إسبانيا وهو المسؤول عن مذبحة الطلاب في تيلاتيلوكو. كان يؤمن بأن «الكاتب الأديب يجب عليه دائما أن يقول أشياء إضافية، وأن يذهب أبعد مما يبلغه السياسي لأنه يستطيع أن يتخيل، بينما في المقابل السياسيون ممن يملكون خيالا وتفكيرا قليلون».

تدور معظم أعماله حول الأفكار التالية: العلاقة بين أوروبا وأميركا، صلة التاريخ بين الماضي والحاضر، الأساطير الكبرى للإنسانية، التمازج الثقافي، حلقات الزمن. في روايته «ابتسامة ايراسيم» 1990، على سبيل المثال، يوضح الكاتب أن «حداثة أميركا تظهر من خلال عودتها إلى الماضي». وفي رواية «المرآة المدفونة» 1992 يركز على إشكالية التاريخ والحضارات. وفي روايته «سعادة العائلات» 2009 يمزج الكاتب بين فكرتي الزمن والعنف. وفي رواية «أرضنا» لا يمكن العثور على السعادة. الكتابة بالنسبة لفوينتس شيء خارق، كما يقول: «يجب الخوف كثيرا من الكتابة، فهي ليست بعمل يأتي بشكل طبيعي مثل الأكل أو ممارسة الحب. فهي، نوعا ما، عمل مخالف للطبيعة. كما لو أننا نقول للطبيعة إنها لا تكفي، ويجب إقامة واقع آخر هو المتخيل الأدبي». ولعل من أعظم رواياته «أرضنا» التي يستعيد فيها الكاتب أكثر من 2000 عام من تاريخ المكسيك حتى أطلق عليها «أسطورة بانورامية للإبداع الإسباني الأميركي». وبذلك، ألقى نظرة ناقدة على المجتمع المكسيكي المعاصر لأكثر من نصف قرن.

وعلى الرغم من حبه الجامح لبلده، فإن البلد خيب أمله كما صرح بمرارة لمجلة «لير (اقرأ)» الفرنسية في 2009 قائلا: «كنت أستطع الخروج إلى مقاهي المكسيك وأماكنها الأخرى حتى الساعة الثالثة صباحا وأعود بهدوء إلى بيتي سيرا على الأقدام. أما اليوم، فإنني لا أستطيع حتى المغامرة بالخروج لوحدي إلى أبعد من زاوية الشارع الذي أسكن فيه. يجب الإسراع في إيجاد حداثة مكسيكية تحتوي على القانون والعدالة. ولكن ذلك يتطلب وقتا طويلا قد لا أعيش لكي أرى نتائجه». وكان من الكتاب القلائل الذين يتحدثون عن السياسة ولكن بشكل عميق، من خلال ارتباطها بالوجود الإنساني، فقد نبه إلى الانفجار السكاني الذي تشهده المكسيك؛ إذ ازداد عدد سكانها من 20 مليونا إلى 110 ملايين نسمة، ويعاني أهلها من الظلم الاجتماعي والبؤس وانتشار المخدرات. كان يساريا، وقد أدان بقوة سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش، الذي كرس له سلسلة من المقالات جمعها تحت عنوان «ضد بوش» في 2004. ولم يسلم نظام الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز من انتقاداته؛ إذ وصف هذا الأخير بأنه «مهرج» و«أسوأ» رئيس في المنطقة. كان حاد الطباع، قاسيا في آرائه، يحب الحديث والسيطرة على جمهوره، وبالنسبة للمكسيكيين كل نقاش هو صراع حاد ومسألة حياة أو موت! ويعتبر فوينتس أحد أقطاب تيار السرد اللاتيني ومحركيه في ستينات القرن الماضي مع ماركيز ويوسا وكورتاثار ودونوسو، وهو أكثرهم إنتاجا وأقلهم نصيبا في الترجمة إلى العربية؛ إذ كتب أكثر من 60 كتابا بين الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والسيناريوهات والكتب الأخرى. وحاز اعترافا أدبيا عالميا قل نظيره. وكان المرشح الدائم لجائزة نوبل دون أن يفوز بها رغم حصوله على عدد من الجوائز التكريمية والأدبية من مختلف بلدان العالم؛ منها جائزة «سيرفانتيس» في الآداب الإسبانية (1987)، وجائزة «أمير أستورياس» في الآداب (1994)، والجائزة الوطنية المكسيكية (1984).. وسواها من الجوائز الأخرى.

لم تكن حياته الشخصية معبدة بالزهور، كما يقال؛ إذ تزوج فوينتس من الممثلة المكسيكية ريتا ماسيدو، وافترقا في السبعينات، وتزوج مجددا من الصحافية سيلفيا ليموس، وقد توفي ولداه كارلوس رافاييل وناتاشا في سن الخامسة والعشرين والثانية والثلاثين على التوالي بسبب المرض ولأسباب مجهولة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى