مراجعات كتب

كارلوس فوينتس يكتب عن نهرٍ جارٍ حيث لا نستحمّ بالمياه عينها مرتين/ رلى راشد

 

في روايته الموجزة، “هالة”، التي تعجّ بالرموز وتستدرجنا إلى قراءات عدة، يغلّفنا سرد كارلوس فوينتس بطراز من الحلم المتّقد تتقاسمه جميع شخصيّات الحكاية. في نص البدايات هذا، الجامع بين مسحات ما بعد حداثيّة وجمالية وقدرة تعبيرية لافتة، لا نعلم تماماً متى نقف فوق أرض جامدة ومتى نهيم فوق مستنقع يجرّنا إلى قعره. هناك ما نظنّه الواقع من جهة، وهناك تحليق في متاهات الوهم، من جهة ثانية. تَذَكّرنا النص التأسيسي في مسار الكاتب المكسيكي المرجعي، ونحن نتقرّب من أحدث إصداراته اللاحقة لرحيله، “شاشات فضيّة”. نصوص تختزل واقع “دخولنا صالة السينما لنحلم”، على ما يدوّن فوينتس، في تجربة لا تبخل بالعاطفة.

لا يمكن الفن السابع أن يتراءى في الهيئة التي نعرفها حين يرصده أسلوب كارلوس فوينتس. ها إن الصوت المنطفئ قبل أعوام قليلة يستدعينا مجدداً إلى عالمه، إلى رحلة يستحيل فيها الشغف البصريّ قطعاً نثريّة تشهد على تعلّقٍ بالسينما لا يعرف حداّ. لا ترتبط قيمة نصوص “شاشات فضيّة” التي نشرت بالقشتالية لدى دار “الفاغوارا” الإسبانية، للتو، بحقيقتها الأدبية البحتة، فحسب. على رغم النبرة الإقرارية لنصوص تقترض في معظمها ضمير المتكلم، ليست تمارين تأليفية تكتفي بالأقصوصة، وإنما تجعل الكتابة أداة لإعادة فهم التاريخ. يأتيه فوينتس، عبر مراحل مختلفة، شكّلت مهاد الإفتتان بهذا الفنّ.

في النصوص فقرات من يوميّات الروائي والباحث الذي تسنّت له مشاهدة مجموعة فسيحة من العناوين السينمائية، عند ضفّتي المحيط الأطلسي. توفّرت له أيضاً فرصة محاذاة ثلة من المخرجين والممثّلين، ناهيك بتجريب كتابة السيناريو ومتابعة سرديّاته، تستحيل مشاهد سينمائية.

والحال ان فوينتس نفسه يمسي جزءاً من الفيلموغرافيا حين نراه في إحدى الصور المرافقة للكتاب، في مطلعه تحديداً، في صورة شابّ بالأبيض والأسود، تجاوره إحدى السيدات. نقرأ في كلام الصورة “سيلفيا ليموس وكارلوس فوينتس. ساحة سان ماركو. البندقيّة. 1975”. يبدو الثنائي في هذه اللقطة، تحوطه طيور الحمام من كل صوب، كأنه خارج على الزمن. تصلح الهنيهة الفوتوغرافية، في مكان سياحي كمثل الساحة الأشهر في مدينة التنهّدات الأخيرة، قبالة قصر دوج، تأويلاً لكلام الكاتب عينه. كأن الزوجين يبوحان مسبقاً بما سيكتبه فوينتس لاحقاً في “أسرة بعيدة”، أن “البقاء لكل ما لا يتقدمّ، ذلك انه لا يشيخ”.

انطلقت حكاية فوينتس الأولى مع السينما في الجوار القريب جدا. يسترجع والده الضاجّ بالفانتازيا السعيدة، الذي راق له أن يستسلم على مرّ أعوام حياته، لمصدر التسلية الجديد الذي بزغ في مدينة تشالابا، وهو جهاز عرض الأفلام. نقرأ عن المدينة وعاصمة ولاية فيراكروز حيث عرضت في “صالة فيكتوريا”، أفلام دراميّة صامتة إيطالية وعالية الطموح الفني. أفلام كانت بطلاتها نساء اتّخذن وضعيات على غلوّ، تماماً مثل أسمائهن، أكانت فرنسيسكا بيرتيني، أم بينا مينيكيللي أم غيرهما. نساء احتككن بالجدران على ما يصفهنّ فوينتس، بل التصقن بها في حركة يائسة، قبل أن يفتحن أذرعهن في شكل صلبان ويسدلن جفونهم قبل الإستسلام لحبّ غير مرغوب فيه أو لتضحية موجعة. نقرأ: “استَنَدنَ إلى الجدران ووضعن أيديهن على جبينهنّ، وأغمضن عيونهن ورحن يتأرجحن ويرتجفن، حين وصلهن خبر سيئ”. نساء ارتسمت الهالات تحت عيونهن وتلوّنت وجوههن، واعتبرت مبالغتهن في الأداء وفي استخدام مساحيق التجميل، عبر العالم المتمدّن، كأنها ذروة الإنفعال الدرامي. ينتقل فوينتس لاحقاً الى تشالابا في 1920، حيث تابع ناسها تطوّراً شهدته السينما بفضل تيار طبيعي مصدره التجارب الأميركية تقطنها نساء متحررات. وفي حين بدت السينما الإيطالية في عرف فوينتس، نسقاً من الصور القديمة والجامدة، حيث ركنت كل بقايا الفن بمعناها الكبير، تبدّت السينما الآتية من أميركا الشمالية “نهراً جارياً” حيث يستحيل على المرء الاستحمام في المياه عينها مرتين. مياه غنيّة وآثمة على السواء.

تتذكّر نصوص “شاشات فضيّة”، لحظات السينما الصامتة أيضاً، مع شابلن وكيتون وتقصد كوميديا الشقيقين ماركس كذلك. في الكتاب قطع تحليلية أيضا تحاول فهم انتصار السينما السوداء وتعرج على روسيليني وفريتز لانغ وفرانك كابرا. تحضر الخصوصية المكسيكية أيضا في هويات سياسييها، فيشير فوينتس إلى رئيسين، ألفارو أوبرغون ساليدو، السياسي والجنرال المكسيكي، الذي تسلم مقاليد الحكم بين 1920 و1924، وفرنسيكسو بلوتاركو كاييس، الرئيس اللاحق وتحديداً في مرحلة 1924 -1928.

غير ان الأهم عند فوينتس يبقى سؤال الآخرين ليستدلّ إلى نفسه. نقرأ: “تجلسُ وحدَك عند النافذة في هذا الصباح من أيلول (مُشاهدٌ دمث. شبيهي. شقيقي) تتصفح جريدة لا ترغب في قراءتها، تفكِّر في معارفك وهم يَبكون رحيل أوبرغون، ويُقرّون بتبصّر كاييس، الذي استطاع أن يستر طموحه الشخصي عبر الجهاز المؤسسي. تتأمّل وهم عابر يتعلّق بقيام جمهورية من الفلاسفة والخطباء، المتقشفة والمسلية في آن واحد، وعلى رأسها كاتب شهواني جريء. تفضّل قراءة التعليقات الصغيرة الخاصة بالمدينة، التي يسميها الفرنسيون على نحو ملائم تماما، الحكاية الصغيرة”.

يغوص فوينتس أو محدّثه، لا فرق، في دهاليز المطبوعة الصحافية ويجوب في أعمدتها عاثراً على حالة فردية تظهر عادية الشرّ الإنساني. يقرأ عن حادثة متفرقة جرت في المنطقة الصناعية في محطة للوقود وانتهت على نحو فتّاك. يقرأ عن رجل يدعى خوان مارتينيز، عمد إلى إغراق قدمَي رجل آخر إسمه خوسيه رودريغيز، بالوقود، قبل أن يشعلها بسيجارة. حدث هذا كله، فيما الضحية مستغرقة في النوم. تنتقل نظرته العنيفة بعدذاك لتبحث عن أخبار أقلّ وطأة، حيث لا تردّد الحكاية الصغيرة، على ما يكتب، مغامرات الحكاية الكبيرة السيئة.

يروح فوينتس بعدذاك يتحدّث إلى شخصيته الرئيسية مباشرة بعد أن يحيد نظرته عن الصحيفة. يتوجه إليه: “أنت ابن غوتنبرغ والأخت خوانا دي لا كروث. لم ترهقك أخبار الصحيفة بعد. تدرك ما ينقصك تماماً، تعرف أيّ صفحة تفتح. تدرك في أيّ واحدة سيتعذّر عليهم جرّك إلى المطهّرات الجسديّة والسياسية (…) تفتح صفحة سعيدة، حيث تركَت غمامة الطباعة الرمادية المكان، لخطوط ذهبية وسحب إسفنجيّة. تنتظرك هذه الصفحة كأنها السماء الزرقاء التي تلحق بالعواصف. انها الصفحة السعيدة”.

يرصد فوينتس لنصوص “شاشات فضيّة” هويات مختلفة، البعض منها وثيق الصلة بالموضوع مثل “عاملو السينما” و”ملكات هوليوود”، والبعض الآخر على جانب من الإلتباس، من نسق “غرباء في الجنّة” و”أوروبا عند الحافة”. في كل حال، يجعلنا قراءً نستعيده في كليّته، كما أراد، حين كشف أنه بدأ يكتب لكي يعيش ووصل به الأمر لأن يكتب لكي لا يموت. اليوم نصدّقه أكثر من الأمس.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى