صفحات الثقافة

كارلوس فوينتيس يبحث في “رواية اميركا اللاتينية العظيمة”


حوريات وسلاحف عملاقة يتجاوز حجمها المنازل

تسلّم الصوت المكسيكي البارز كارلوس فوينتيس قبل فترة وجيزة جائزة “بارسيلو فورمينتور للآداب 2011″، في جزيرة مايوركا المتوسطية، تقديرا لمنجزه التأليفي. والحال انه قدّر لنص فوينتيس الذي انبثق من تربة اميركا اللاتينية ان يبث كل الحنق الكامن في روح الفقراء والأسلاف المضطهدين الى المحطمين ومنبوذي الحضارة والتاريخ على السواء. في اعقاب مسار أدبي مديد يسخّر ابن الثانية والثمانين تجربته، في بحث دقيق وشفاف بالقشتالية عنوانه “رواية اميركا اللاتينية العظيمة” حيث لا يحتاج الى استدعاء المتاهات التقنية.

في البحث الصادر لدى دار “الفاغوارا”، يلاحق فوينتيس المرشح الدائم الى جائزة نوبل”، تطور الرواية في اميركا اللاتينية، بدءا من اكتشاف القارة الجديدة الى الراهن. ينفذ اليها بدءا من فكرة اليوتوبيا المحورية، ليقول انها عرفت في الأعوام الأخيرة ما يعاينه “تبدل الحرارة اللافت”. جرى هذا على الرغم من ان ثمة جيلا، جيله تحديدا، تولى سرد حكاية اميركا اللاتينية “المكتومة” الى حكايات أخرى، من خلال رصد الصراعات المتأتية منها، وتلك لا تخص الماضي وانما المستقبل.

يؤكد فوينتيس ان سالفادور إيليزوندو (1932-2006) ابن جيل الستينات الادبي، كان باكورة حاملي الشعلة الروائية، ذلك انه خلّف ما يمكن تصنيفه “الرواية القديمة الجديدة” المتصلة بإلحاح تدوين تاريخ اميركا اللاتينية غير المعبّر عنه. والحال ان السواد الاعظم من الكتّاب اتبعوا النمط عينه، من مثل اليخو كاربانتييه وماريو فارغاس يوسا وغبريال غارثيا ماركيز. اراد المؤلفون الاوائل وفق فوينتيس لقاء الحوريات وسلاحف عملاقة يتجاوز حجمها المنازل وتحوي اعشاش كل منها الف بيضة. هذا ما يبرر ان تغزر المفاجآت في حكايات العالم الجديد الاولى حيث ثمة حشرات تضيء الليل ولآلىء سود. انه ليل الإيغوانا، على ما وصفها الغازي وسارد البيرو بيدرو سييزا دي ليون. انبثق ادب اميركا اللاتينية وفق فوينتيس اذاً، من الرغبة في الانبهار، من التوق الى مخاطبة اوروبا، للاعلان ان القارة الأميركية هي منبت اللامتوقع، مصدر الاحلام التي لا تُرى.

يمر البحث المتأني والمهم بأصول السرد اللاتيني ويحلل بزوغ الفورة الأدبية التي سميت “بوم” واهميتها، ويستكمل من خلال بانوراما مثيرة للاهتمام، رصد الاسماء الجديدة. يتمم الكاتب صاحب “المنطقة الاكثر شفافية”، جردة بالأعمال التي يعاينها محورية في ادب اميركا اللاتينية. يصنف التخييل الأرجنتيني “الاكثر ثراء في اميركا اللاتينية”، غير انه يشير بالكاد الى قامة بمستوى ارنستو ساباتو، صاحب “النفق”، كما لو ان موته جعله لا مرئيا على المستوى الأدبي. في حين يمكن استحضار بعض المنطق في التغاضي عن مانوييل بويغ مثلاً، يقترف فوينتيس شائبة تكاد لا تغتفر عندما يغفل التشيلياني الراحل روبرتو بولانيو ايضا. غير انه يسعنا البحث عن مسوغات هذا الموقف في حقبة منصرمة، حيث لفت فوينتيس علنا، الى ان لا نية لديه في قراءة منجز بولانيو بسبب “التكريم الجنائزي” المتمحور عليه. تعالى فوينتيس عن مطالعة نصوص اساسية لأن صاحبها تكلل بنسقين من التهليل النقدي والجماهيري على السواء. لكن كيف استطاع فوينتيس عملياً ان يتجاهله في حين أفرد مساحة وافية لأقلام أخرى لم تُصدر اي عمل على تميّز ولم تأتِ بإضافة أدبية تذكر؟ حين يتقصد اغفال التشيلياني روبرتو بولانيو في قائمة الكتّاب المحوريين في الجزء الجنوبي من القارة الاميركية في القرن الحادي والعشرين، يبدو تقويم فوينتيس الأدبي اعرج وغير كفيّ.

غير ان ما تقدم لا ينفي ان يؤتمن البحث على نمط جميل يجمع بين استعادة قراءات قديمة مركزية من توقيع فوينتيس الى اخرى تخص رسُل الأدب القشتاليين الباقين. يصلح الكتاب على المستوى التربوي ليكون بانوراما للعناوين المفاتيح. في الجزء الاول (وإن لم يحدد على نحو مباشر)، اي الى الصفحات الثلاثمئة الاولى تقريبا، يدنو الايقاع من هيكلة المحاضرات الجامعية، لتتظهر عند التوقف عندها ملياً، درسا في مفاهيم الرواية وفق نسخة اميركا اللاتينية، غير انه مكتوب بسلاسة وجاذبية ومن خلال القفز على التعقيدات البلاغية المعتادة وعلى اخرى يفرضها الانتساب الى مجموعة تأليفية دون سواها.

اما الجزء الثاني فأقرب الى التئام العلامات في شأن السرد الحديث، اي تحديدا في العقود الأربعة الأخيرة، ناهيك بثلة من المقالات. ها هنا يضيع شيء من شخصية القارئ التي يعرضها فوينتيس في قسط البحث الأول، ذلك انه يحصر اهتمامه بكاتب واحد ورواية واحدة، على نحو غير مألوف، الى إقحامات متكررة ولعوبة لعناصر من سيرته الذاتية. يستسلم على سبيل المثال الى اعتراف جسور حيث يبرر اصراره على عدم لقاء الأرجنتيني بورخيس بالرغبة في المحافظة على “احساس فطري يمكّنه من الاستمرار في قراءته كاتبا”، الى الحديث عن غبطة التعرف الى المؤلف خوان كارلوس اونيتي، فضلا عن إلماحات لا تنتهي الى الفونسو رييس.

يجد فوينتيس دوافع عدة ايضا بغية الحديث عن “الجنة”، اكثر الروايات اللاتينية صعوبة وتركيبا. انجز الشاعر والباحث الكوبي خوسيه ليساما ليما هذا العنوان في 1966، ليواصل فوينتيس اليوم مدح غنى لغته وتبدّل الأشكال فيه. يتوقف ايضا عند جسارته غير المألوفة المنوطة بالضروري بغية ابتكار عمل يعدّ حجر زاوية النصوص في نمط باروك في اميركا اللاتينية. اكتشف ليساما ليما بحسب فوينتيس، مفاتيحه الخاصة ومفاتيح جميع الكتّاب من بعده. ادرك ان الثقافة قدر، لأنها تنبعث من الأصول، وان الادب إلماح الى الحقيقة، فيما الصورة رابط الى ما هو أبعد. ينصح فوينتيس بقراءة لويس دي غونغورا اي ارغوتي كذلك وهو القائل “لا يمكن العالم ان يدوم… عالم يتراءى كالزجاج المحترق لن يلبث ان يتحطم”، وشيئا من نص فرنسيسكو دي كيفيدو (“جد المفجّرين بالديناميت” وفق سيزار فاييخو). ليعود فوينتيس ويعقب ان العالم استمر على الرغم من وجود الديناميت واحتراق الزجاج.

في كل حال، وفي وسط القلق المتعاظم ازاء وضع الانسان، لم تجلب كتابات فوينتيس يوما احساساً بالأسى والخجل فحسب. جعلت الحنان بديلاً قبالة العدائية وتنبهت الى المرء كأنه في طور تأمل “مرآة مطمورة”، وتلك ليست سوى الثقافة التي انتمى اليها ابناء هذه الناحية الجغرافية ولا تزال تتجدد، على رغم القدرية العنيدة. سبق لفوينتيس ان عاين تهاوي البنى القائمة وولادة أخرى في “شجرة الليمون، او حلقات الزمن” (1993). نقرأ في تلك الرواية: “رأيت هذا كله. سقوط مدينة ازتيك العظيمة، في وسط إشاعات الطبول … ونار المدافع… تهاوت المعابد والغنائم. سقطت الآلهة. في اليوم التالي، راحوا يشيدون الكنائس المسيحية من حجارة معابد هنود اميركا. الى متى تستمر مقار إلهنا الواحد الجديدة التي بنيت على ركام ألف إله؟ ربما تدوم بقدر ما دامت اسماء من قبيل المطر والمياه والريح والنار. في الواقع لا أدري. سأموت من جراء تورم الغدد اللمفوية في المحصلة، موت فظيع ومؤلم، ولا علاج له”.

في كل حال، ليس بحث فوينتيس الأخير من نسق الإعلانات البائسة، يريد ان يطل على الماضي والمستقبل على السواء. والحال ان بوصلة صفحات البحث المئة والخمسين الختامية تحكي الرغبة في اعادة الصلة المقطوعة بين الابتكار الحديث والتقليد من خلال فصول واجزاء من الفصول. يفرد احدها للكلام على الاعمال النسائية ويهتم في اخرى لمجموعة “كراك” الأدبية المكسيكية التي لحظت أدباء من قبيل مثل وبادييا واوروث.

بالنسبة الى كارلوس فوينتيس لم تعد مسألة الهوية في اميركا الجنوبية مطروحة، ذلك ان الأساسي اليوم صار التعامل مع التنوع. يضيف المكسيكي في مقاربة مسقطه بعين المدرك، ان كتّاب الشطر الجنوبي من القارة الأميركية سلكوا دربا شائكة لكي يتسنى لهم أخيرا ان ينتقلوا من السؤال “من نحن؟” الى الاستفهام “في أي حال نحن؟”

رلى راشد

(                     roula.rached@annahar.com.lb )

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى