صفحات الثقافة

كانت معنا السنوات/ هنري ميشو

 

 

 

رَجل تائه

 

تُهتُ، عندما خرجت.

لحظتَها كان قد فات الأوان على التّراجع.

وجدتُني وسط حقل.

وعجلات ضخمة تدورُ في كلّ مكان.

كان حجمها يفوق حجمي مئة مرّة.

وأخرى كانت أضخم بكثير.

من جهتي، حتّى دون أن أراها، وهي تقترب،

كنتُ أهمس لها بهدوء، كما لو لنفسي:

” أيّتها العَجلة، لا تسحقيني

أيّتها العَجلة، أتوسّل إليك، لا تسحقيني

أيّتها العجلة، الرّحمة، لا تسحقيني”.

لقد وصلَت، اقتلعَت ريحاً قويّة، ثمّ رحلَت.

كنتُ أتمايل.

ومنذ شهور وأنا هكذا:

” أيّتها العجلة، لا تسحقيني…

أيّتها العجلة، هذه المرّة أيضاً، لا تسحقيني”.

ولا أحد يتدخّل !

ولا شيء يستطيع إيقاف هذا !

سأبقى هنا حتّى أموت.

 

 

كانت معنا السنوات

 

كانت معنا السنوات، ولم تكن ضدّنا.

ظلالُنا كانت تتنفّس معاً.

تحتنا كانت تجري مياهُ نهرِ الأحداث

في صمتٍ تقريباً.

ظلالنا كانت تتنفّس معاً وكلّ شيءٍ كان مُغطّى.

شعرتُ بالبردِ لشعوركِ بالبرد.

شربتُ جُرعات من ألمِك.

كنّا تائهين في بحيرة مبادلاتنا.

أنا الغنيّ بحبٍّ لا يُستحقّ

الغنيّ الّذي نسيَ ذاته في لاوعي المُلّاك،

خسرتُ أن يكون المرء محبوباً.

ضاعت ثروتي في يومٍ واحد.

 

 

كما أراكُم

 

أولئك الّذين يَرونني قادماً

أنا أيضاً أرَاهُم قادمين.

يوماً ما سيتكلّم البرد،

البرد الذي سيدفع الباب

ويكشف العدم.

ثمّ ماذا بعد، يا أصحابي؟

ماذا بعد؟

ملابسٌ داخلية صغيرة

تتبختَرُ حتّى الآن،

منفوخة بأصوات الآخرين

ورِئات العصر.

القطيع كاملاً، أراهُ في غِمدٍ واحد.

هل تشتغلون؟

النخلة أيضاً تهزّ ذراعيها.

وأنتم، أيّها المحاربون

الجُنود أصحاب القلوب الطيبة

الّذين بِيعوا والمتطوّعون،

قضيتكُم العظيمةُ تافهة.

ستُصاب بالبرد

في أروقة التاريخ.

كم ستُعاني البرد!

أراكم في المآزر، أنا، وهذا غريب!

أرى المسيح أيضاً – لِمَ لا؟ –

كما كان منذ 1940 تقريباً.

جَمالُه كان قد اختفى فعلاً،

ووجهه تغمره قُبلات

مسيحيّي المستقبل.

إذاً، هل ما زالت تُباع حتّى الآن

طوابعُ البريد إلى الآخرة؟

حسناً، وداعاً* للجميع،

لديّ قَدم واحدة فقط

في المصعد.

وداعاً.

 

 

نحو السكينة

 

مملكة الرماد.

فوق الأفراح، فوق العذاب، فوق الرغبات والنّزيف، يرقد مدى هائل من الرماد.

تُشاهدون، في بلاد الرماد هذه، موكباً طويلاً لعشاق يبحثون عن عاشقات وموكباً طويلاً لعاشقات يبحثن عن عشاق، عن رغبةٍ، هذا العِلم المُسبق بالأفراح الفريدة يُقرأ في نفوسهم حين يتّضح لنا أنّهم على صواب، أنّ الأمر بديهيّ، وأننا بينهم يجب أن نعيش.

لكنّ الّذي يقيم في مملكة الرماد لن يجد أيّ طريق. إنه يرى، يسمع. ولن يجد أيّ طريق سوى طريق الندم الأبديّ.

حقلُ نهاية بَسمة.

فوق هذه المملكة العالية، لكن البئيسة، ترقد مملكةٌ مُختارة، مملكة الفَرو الناعم.

إذا ما لاحت ربوة، أو قمّة، فهذا لن يدوم، إذ بمجرّد أن تخرج للعيان ستختفي بين طيّات صغيرة، طيّات في رعشةٍ وكلّ شيء سيغدو ناعماً.

“الموجة الجارفةُ حين تلتقي بصواحبها الصغيرات، الموجاتِ العائدة، تحدث بينهما وشوشةٌ كبيرة، وشوشة أوّلاً، ثم بالتّدريج يسود الصمت حيث لن نلتقي بأيٍّ منها.”

 

 

 

أوه !

بلاد من بلاط فاتر !

حقل نهاية بَسمة !

 

 

هُموم الجميع الصغيرة

 

النملة لا تخشى النسر.

عنفُ وشراسة النّمر لا تُحدث في نفسها أيّ أثر ، عينُ النسر الضارية لا تفتنها، على الإطلاق.

في عشّ النّمل لم يكن هناك أبداً مشكلة مع النسور.

الضّوء بطفراته الصغيرة لا يُقلق حتّى الكلب. بينما الميكروب الذي يرى وصول الضوء، يرى عناصر أشعّته الأصغر منه قليلاً، لكن الكثيرة، الكثيرة والقاسية، تُحاصره بمشقّةٍ أعداد هائلة من الضربات التي تُخلخل، تَرجُّه بعنف إلى أن يموت، بل حتّى الملعون ميكروب النّيسرية**، الذي يَجهد كثيراً لتعقيد العلاقات بين الرجال والنساء، تخلّى مُكرهاً عن حياته الصعبة تحت وطأة اليأس.

إنه يكتب

إنّه يكتب…

الورقةُ لم تعد ورقة، شيئاً فشيئاً تصير مائدة طويلة، طويلة، هو يعرف ذلك، يحسّ به، يحدس أن ضحيةً مجهولة حتى الآن ستأتي، منقادةً إليها، ضحية بعيدة ستكون من نصيبه.

إنّه يكتب…

أذنه المرهفة، مُرهفة، أذنه الوحيدة تلتقط إشارةً رفيعة، رفيعة، فيما تصل الإشارة التالية من عصرٍ وفضاء بعيدين، لتقود الضحية وتأتي بها إلى حيث تسمح لهم بفعل أيّ شيء .

يدُه تتأهّب.

وهو؟

هو، ينظر إلى الفعل.

سكّينٌ من أعلى الجبين إلى قاع نفسه، يُراقب، على استعداد للتدخّل، جاهز للفصل، لقطع رأس ما ليس له وما لن يكون له، لفصل ما لن يكون “ضحيته”، في هذه العَربة التي يدفعها الكون اللّامحدود باتجاهه.

إنّه يكتب…

 

متاهة

 

 

الحياة متاهة، الموت متاهة.

متاهة بلا نهاية،

يقول المعلّم “هُو”.

كلّ شيء يتوغّل، لا شيء يُحرِّر.

المُنتحر يولد ثانيةً مع معاناة جديدة.

 

السجن يُطلّ على السجن

الرّواق يطّل على الرواق:

 

الّذي يعتقد أنه يَبسط لَفّة حياته

لا يبسط أيّ شيء.

 

لا شيءَ يُوصل إلى أيّ مكان

القُرون أيضاً تعيش تحت الأرض،

يقول المعلم “هُو”.

 

البحر

ما أعرفُه، ما هو لي، هو البحر اللّامتناهي.

في الواحدة والعشرين من عمري، هجرتُ حياة المدن

عاهدتُ نفسي أن أكون بحّاراً.

كانت هناك أشغالٌ على متن السفينة.

اندهشت.

ظننتُ أنّه على متن السفينة يمكن أن نُشاهد البحر،

نشاهد البحر بلا نهاية.

السّفن كانت منزوعة السلاح.

هكذا بدأت بِطالة البحّارة.

أدرتُ ظهري ورحلت، لم أقل شيئاً

كان البحر بداخلي،

البحر من حولي إلى الأبد.

أيّ بحر؟

هذا فعلاً ما كنتُ غير قادرٍ على تحديده.

 

*في الأصل باللّغة الإسبانية: Adios

 

** بكتيريا تسبّب مرض السيلان.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى