مراجعات كتب

كتاب احمد إنسل «تركيا أردوغان الجديدة»: أقدار الانزلاق نحو الشعبوية والهيمنة وتحدي القوى العظمى/ سمير ناصبف

 

 

تضاربت الآراء حول ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت في 7 حزيران/يونيو2015، فالبعض توقع حصول الرئيس رجب طيب أردوغان على العدد الكافي من المقاعد الذي يتيح له تعديل الدستور ويجعل النظام التركي رئاسيا أو انه على الأقل سيحظى بأكثرية تسمح له بإجراء استفتاء شعبي حول هذا الموضوع، وآخرون شككوا في ذلك.

ولكن النتيجة أظهرت انه فشل في تحقيق طموحاته، وان النظام سيبقى برلمانيا. تختلف التحليلات الصحافية حول أسباب هذا الفشل، ولكن أكثرها يعيده إلى صعود نجم «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي الذي نال نسبة 13 في المئة من الأصوات منفردًا وأصبح بإمكانه ادخال حوالي ثمانين نائبًا إلى البرلمان الجديد، كان سيذهب قسم منهم لحزب أردوغان «العدالة والتنمية».

ولكن من المفيد أيضا الادراك أن مثقفين وباحثين اتراكًا، بارزين توقعوا حدوث هذا نتيجة لتحليلات فكرية واكاديمية قاموا بها في الفترة الأخيرة.

وبين هؤلاء احمد إنسل، عميد كلية الاقتصاد السابق في جامعة «غالاتاساري» التركية، ونائب رئيس جامعة باريس الاولى (بانثيون- سوربون) والمشرف على مراكز أبحاث دولية وتركية في الشأن التركي، ومؤلف كتاب صدر بالفرنسية مؤخرا (قبل الانتخابات التركية) بعنوان: «تركيا أردوغان الجديدة: من حلم الديمقراطية إلى حلم الاتوقراطية» وصدر الكتاب عن دار «لاديكوفيرت» الفرنسية.

يؤكد احمد إنسل في مقدمة كتابه ان هدفه توضيح الأسباب التي أدّت إلى صعود «حزب العدالة والتنمية» إلى صدارة الخريطة السياسية التركية في وقت لم يتوقع المراقبون وصول حزب ذي صبغة إسلامية سياسية إلى هذا الموقع، علما ان قيادات الحزب يطلقون على حزبهم صفة الحزب الديمقراطي المحافظ.

ويتساءل إنسل إذا كان حزب أردوغان استخدم هذا المفهوم الديمقراطي ليحقق مشروعه الحقيقي، ألا وهو أسلَمَة المجتمع والدولة التركيين، وهل كان الحزب مؤمنًا فعلاً بالديمقراطية أو انه كان ومازال حزبا شعبويا يستخدم أي آلية لتحقيق النجاح شعبيا ويبدّل مواقفه حسب متطلبات الحقبات المختلفة؟ كما يطرح إنسل سؤالا حول إذا كان نجاح أردوغان مرتبطًا بمشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي خطّط ويخطّط له المحافظون الجدد في أمريكا الذين طبخوا ويطبخون مشاريع متعددة لتقسيم النفوذ في المنطقة تفيد مصالحهم.

أهم ثلاثة فصول في كتاب إنسل، بالنسبة لعلاقة تركيا بالعالم العربي، هي الفصول 6، 7 و9.

في الفصل السادس، يتحدث عن السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية خلال فترة تولي رئيس الحكومة الحالي احمد داود اوغلو وزارة الخارجية.

كان اوغلو، حسب الكاتب، ينفذ مشيئة أردوغان التي رغبت ان تعود تركيا إلى لعب دور رئيسي في شؤون العالم العربي لتصبح كما كانت خلال السلطنة العثمانية، وأن تكون احدى القوى الرئيسية في قرارات المنطقة.

وقد اعتمد رجب طيب أردوغان في سياسته الخارجية مبدأ التقارب من النظام السوري (في البداية) وخصوصا بعد طرد سوريا لزعيم «حزب العمال الكردستاني» (PKK) العدو الكردي الأساسي لتركيا عبد الله اوجلان من الأراضي السورية في عام 1998. ووُقعت اتفاقيات تعاون حدودي تركي- سوري، عام 2007، بعد تحسّن كبير في علاقات الدولتين منذ عام 2005. وفي عام 2009، لم يعد مواطنو البلدين بحاجة لتأشيرة للانتقال بينهما، وأُنشى مجلس تعاون استراتيجي تحت إدارة رئيسي الوزراء وتمّ تبادل الزيارات الودّية بين مسؤولي البلدين الكبار.

وكل ذلك بهدف توثيق الروابط الاقتصادية والسياسية وإعادة ترطيب الأجواء بعد توترها على اثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، عام 2005، الذي كان صديقا لتركيا ولديه مصالح متبادلة معها. وتمنّت تركيا الرسمية آنذاك ان تشكل علاقتها الجيّدة بسوريا نموذجا لعلاقات جيّدة مع الدول العربية الأخرى، حسب الكاتب.

كما اتخذّت تركيا موقعا شاجبا للاعتداء العسكري الإسرائيلي على غزة، عام 2008، وحاولت بالتعاون مع سوريا الضغط سياسيا على إسرائيل لوقف هذه العملية. كما انسحب أردوغان من لقاء مع شيمون بيريز في مؤتمر دافوس بسبب اعتداءات إسرائيل على غزة، وارتفعت شعبية الزعيم التركي في الشوارع العربية بسبب هذه المواقف.

ومنذ انطلاق الانتفاضات العربية في عدد من البلدان العربية في عام 2011 شعر أردوغان، ان باستطاعته تطوير دوره كزعيم اقليمي ودولي، فلم يعدّ مكترثًا للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي للدرجة التي كان يهمّه هذا الأمر تجاهه سابقًا. وصار يتنقل بين عاصمة عربية وأخرى ويلقي الخطابات المؤيّدة للثورات. وألقى خطابا في القاهرة هاجم فيه العلمانية، وأيدّ نجاح «الإخوان المسلمين» في التوصل إلى انتخاب الرئيس محمد مرسي رئيسًا للجمهورية المصرية في حزيران/يونيو2012، ودعم الأحزاب المتعاطفة مع الإخوان في تونس وليبيا، وساهم في التدخل العسكري في ليبيا الذي أطاح بالعقيد معمر القذافي ونظامه، وانفتح نحو دول العالم الثالث القوية اقتصاديا (دول البريكس). ثم اختار اتخاذ موقف يسعى لقلب النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد من دون ان يجمّد أو يقطع علاقاته العادية مع النظام الإيراني.

غير ان أردوغان، وفي زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة في ايار/مايو2013، لم ينجح في اقناع الرئيس الأمريكي باراك اوباما بدعم سياساته كليا في سوريا. وأبلغه اوباما ان الحل في سوريا يتطلب مشاركة روسية على طاولة المفاوضات. كما تحفّظ اوباما، في هذا اللقاء حول دعم تركيا الرسمية لبعض المنظمات الجهادية وعملياتها الميدانية ضدّ الأقليات الدينية والأثنية، في سوريا والعراق.

ولم يدرك أردوغان أهمية هذه التحفظات الأمريكية، ولعله دفع ثمنها في الانتخابات الاشتراعية التي جرت في 7 حزيران/يونيو إذْ قرر الأكراد المجازفة وخوض المعركة مستقلّين كمجموعة في حزب ذي طابع كردي، بدلاً من خوضها كمرشحين منفردين. كما يبدو أن مقاتليهم على الأرض واجهوا وما يزالون يواجهون المنظمات الجهادية التي تدعمها تركيا، حيث يتمتعون بغطاء جوي من الطيران العسكري الأمريكي ويحققون تقدما على الأرض.

وبعد عودة أردوغان من أمريكا بشهر واحد فقط، حصل تغيير شبه انقلابي في النظام المصري وسقط نظام الرئيس السابق محمد مرسي وحلفاؤه الإخوان المسلمون وأصبحوا يخضعون للمحاكمة. وهنا بدأت مرحلة نجاح أردوغان الاقليمي بالتبخّر تدريجيا إلى ان واجهت صدمة الانتخابات التشريعية الأخيرة اخيرا.

ومع ان أردوغان حاول إعادة ترميم علاقاته مع أكراد تركيا، حسب الكتاب، في الفترة السابقة للانتخابات لاستعادة علاقة مقبولة معهم، وقرر السماح لنواب اتراك حياديين بمقابلة عبد الله اوجلان في سجنه والتفاوض معه. كما سمح أردوغان أيضا لمسؤولي الاستخبارات التركية بالتفاوض مع اوجلان. ولكن كل ما حققه كان تخفيف حدّة العمليات العسكرية الكردية ضد النظام التركي في تركيا. بيد ان استمرار أردوغان بدعم الجهاديين (تنظيم الدولة واخواته) في سوريا والعراق وانفضاح عمليات التسليح التركي المخابراتي الرسمي لهذه المنظمات التي فضحتها أحزاب تركية معارضة لسلطة «حزب العدالة والتنمية» ساهم في دفع الأكراد في تركيا إلى الاستمرار بالترشح ككتلة مستقلة ومنفصلة، ولم تنل هذه الكتلة أصوات الأكراد الأتراك فقط، بل أيّدتها أحزاب ومجموعات أخرى رغبت بقصّ جوانح «العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان وعدم تحوّله إلى رئيس ذي سلطة مطلقة ومنع تقليصه لدور البرلمان التركي وعدم فرضه نظامًا شعبويًا يحكمه ما يشبه السلطان العثماني، حسب المؤلف.

ولعل الأمر الذي دفع أردوغان إلى تغيير سياسته، وربما أكثر من أي عامل آخر، كان خوفه من ان يمتدّ نفوذ حزب عبد الله اوجلان (PKK) الذي يطالب باقليم كردي مستقل، (على شاكلة اقليم كردستان في العراق) بين جنوبي تركيا وشمالي سورية تمهيدًا لنشؤ الدولة الكردية.

الآن، وحسب المراقبين، تُواجه تركيا بقيادة أردوغان خيارات مصيرية، فاما ان تعيد الانتخابات الاشتراعية بعد شهر ونصف، والدستور التركي يسمح لها بذلك، وإما ان ينقسم «حزب العدالة والتنمية» بين فرع مؤيد لسياسات أردوغان وفرع آخر معارض للتحول نحو النظام الرئاسي والزعيم الاوحد، وعلى الأرجح الذي ربما قد يقوده شريك أردوغان في تأسيس الحزب عبدالله غول، أو قد ينجح أردوغان، بقدراته وحنكته السياسية في تبديل المواقف (كما فعل سابقًا مرارًا) في التحالف مع أحد أحزاب المعارضة.

بيد أن مشروع الهيمنة الأردوغانية داخليًا وخارجيًا، بدأ بفقد بريقه، حسب الكتاب، بسبب عدم تقدير أردوغان لخطورة تحدّي وتحفظ الدول الكبرى ومواقفها، وعلى رأسها أمريكا وروسيا والصين لسياساته، وهذه الدول لم ولن تسمح بعودة السلطة العثمانية ولا ما يشابهها في تركيا مما يضرّ بمصالحها  في المنطقة ومما قد يهدّد الاستقرار الداخلي لهذه الدول.

وربما من الأفضل لقادة تركيا الحاليين، حسب المؤلف، العودة إلى ادراك حجمهم والانفتاح مجددًا نحو الاتحاد الاوروبي والعالم والدول القوية والفاعلة في الشرق الأوسط، من دون محاولة الهيمنة والديكتاتورية ودغدغة المشاعر الدينية للطبقات المتوسطة والفقيرة، في وقت تُرتكَب فيه المجازر باسم الإسلام والدولة الإسلامية ضد الأقليات.

كما على تركيا، حسب الكتاب، ان تنظر إلى قضية الأكراد وحقوقهم بواقعية، وألا يعتقد أردوغان وحزبه انه بامكانهما استخدام الأكراد لمصالحهما ومشاريعهما فقط، بعد الآن.

Ahmet Insel: La nouvelle Turquie d’Erdogan

Du rêve démocratique à la dérive autoritaire

La Découverte, Paris 2015

205 pages

سمير ناصبف

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى